الأب معين سابا المرسل اللبناني[1]
في عملي مع المكرّسين وبالأخص في مجال تنشئتهم على الحياة الرهبانيّة أو بتعبير أشمل على الحياة المكرّسة بالكهنوت أو بالنذور الثلاثة: الطاعة والعفّة والفقر، كان السؤال الأكثر إلحاحاً هو التالي: هل ما زالت الكنيسة بحاجة إلى مكرّسين طالما العلمانيون هم أيضاً مكرّسون بفعل عمادهم وباستطاعتهم أن يحملوا رسالة المسيح إلى الأجيال الصاعدة؟
هذا التساؤل، الذي كلّف الكنيسة تخلّي عشرات الآلاف من الكهنة والرهبان والراهبات عن دعوتهم الخاصّة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، والعودة بهم إلى الحالة العلمانيّة، قادني إلى أطرح ثلاثة أسئلة:
- ماذا يعني أنّي مكرّس، أي ما الذي يميّزني عن أي معمّد، يعيش مسيحيته في العالم بأمانة لكلمة الرب يسوع الموجودة في الإنجيل؟
- ما الذي يميزني كراهبة أو راهب في هذه الجماعة أو تلك؟
- ما هو مفهومي “للموهبة الخاصّة” وما هي أهميتها على الصعيد الفردي والجماعي؟
انطلاقاً من هذه التساؤلات وانطلاقاً ممّا ورد في نتائج مؤتمر الرؤساء العامين سنة 1993 من أنّ “في حياتنا حقيقة لاهوتيّة هامّة واحدة تبدو كافية لتوحيد مختلف الاتجاهات، هي حقيقة الموهبة”[2]، رأيت من الضروري التعمّق بمفهوم الموهبة انطلاقاً من كتابات القدّيس بولس وصولاً إلى أيامنا هذه.
أولاً: “الموهبة” بحسب القدّيس بولس
إذا كانت المواهب هي تجليات الروح القدس في تاريخ الخلاص[3]، فهذه التجليات موجودة في العهد القديم والجديد على السواء[4]. أمّا تعبير “موهبة” فنحن نعلم أنّه لم يرد في العهد القديم. أمّا في العهد الجديد فقد ورد مرّة واحدة في 1بط 4/10 وست عشرة مرّة في رسائل القدّيس بولس[5] وبالأخص في الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس. من هنا كان تركيزنا على كتابات القدّيس بولس في فهمنا لحقيقة الموهبة. القدّيس بطرس يعتبر الموهبة هي عطيّة من الله لأجل تأدية خدمة في قلب الجماعة “ولْيَخْدُمْ بَعضُكم بَعضًا، كُلُّ واحِدٍ بما نالَ مِنَ المَوهِبَة كما يَحسُنُ ِالوُكَلاءِ الصَّالِحينَ على نِعمَةِ اللهِ المُتَنَوِّعَة”. القدّيس بولس، هو أيضاً يعتبر الموهبة هي عطيّة من الله ولكنّه يكرّس لها أكثر من مناسبة ليشرحها بشكل أكثر تفصيلاً.
بالعودة إلى كتابات القدّيس بولس نستنتج الأمور التالية:
لا يمكن للإنسان أن يفهم المواهب إلا على ضوء الروح القدس، الذي يناله المؤمنون من لدن الله. إذاً، فهم حقيقة المواهب لا يرتكز في الأساس على المجهود الفكري البشري المحض. المواهب هي نِعَمٌ أنعم الله بها علينا. تولد معنا يوم ولادتنا ولكنّنا لا نعيها إلاّ في وقت لاحق، هي ليست من أصل بشري، إنمّا هي من أصلٍ إلهي. حديثنا عنها غير مرتبط بدراسات علميّة خاضعة لمقاييس أهل هذا الزمان، إنّما على الخبرة الرسوليّة (نسبة إلى الرسل) الإيمانيّة (1قو 2/12-13).
القدّيس بولس لا يسمّي المواهب بشريّة، أو إنسانيّة إنّما روحيّة. غايتها الأولى هي نقل الإنسان من الظلمة إلى النور، من علاقة الإنسان بالله المطبوعة بالطابع الوثني (آلهة لا تسمع ولا ترى ولا تشعر ولا تتكلّم ولا تتواصل)، إلى العلاقة الشخصيّة مع يسوع الاله الابن المتجسّد (1قور 12/1-3).
إنّها في أبعادها ثالوثيّة. المواهب هي متنوّعة ومتكاملة ولكن أصلها كلها هو واحد هو الروح القدس. المواهب تعطى من أجل تأدية خدمات في الجماعة (الكنيسة) ولكن الغاية هي واحدة أي خلق علاقة شخصيّة مع الرب يسوع من خلال معرفته والشهادة له كرب. للمواهب بعد اجتماعي أيضاً (الأعمال على أنواع)… مشاركة الآب والروح القدس والابن بعمليّة الخلق التي بدأت ملامحها تظهر في بدايات التاريخ البشري”وكانت الأرض خالية خاوية وروح الرب يرفرف على وجه المياه… وقال الله” (تك 1/1-3). لكل مؤمن بالرب يسوع يختار له الآب بالروح القدس موهبة خاصّة به وذلك من أجل الخير العام. هذه المواهب على أنواع: أ. كلام الحكمة، كلام معرفة، الإيمان بالروح نفسه، هبة الشفاء، القدرة على الإتيان بالمعجزات، النبوءة، التمييز ما بين الأرواح، التكلّم باللغات أو ترجمتها، “وهذا كُلُّه يَعمَلُه الرُّوحُ الواحِدُ نَفْسُه مُوَزِّعًا على كُلِّ واحِدٍ ما يُوافِقُه كما يَشاء” (1قور 12/4-11).
يؤكّد القدّيس بولس أنّ هناك سلّماً من المواهب: في هذا السلّم تأتي المحبّة في رأس الهرم. المحبّة التي هي الله، أي يسوع الله الابن المتجسّد. المواهب الآخرى تسقط أمّا هذه الموهبة فباقية للأبد. هذه المحبّة ليست إحساساً بشرياً وليست فعلاً إنسانياً، إنّما هي كيانٌ، شخصٌ، كائن اسمه الله: الآب والابن والروح القدس (1يو 8/4 و16). من هذا المنطلق، موهبة المحبّة لم تعد نعمةً خاصّةً أو قوّة مميّزة تُعطى للإنسان، إنّما هي الله عينه يعطي ذاته للإنسان كي يلتقيه ويتعرّف إليه ويعيش معه ويشاهده حتى يشهد له في وقت لاحق في قلب المجتمع. وهكذا، فإنّ كل أعمالنا سواء التي تدخل في الإطار الروحي أو الخدماتي تفقد معناها إن لم تكن نابعة من المحبّة أي من حضور الله والشهادة له في المجتمع. من هنا فالحياة المسيحيّة، وبالتالي المكرّسة بالنذور التي هي في الأصل مواهبيّة، تقوم على استقبال الله في رحابها ومشاهدته والشهادة له في كل ما تقوم به. خطيئة هذا العصر أنّ الإنسان فقد معنى البعد التواصلي الذي يقوم في الأصل على نقل الوجود للآخر وليس العدميّة. عندما أقول نقل الوجود يعني ذلك أولاً أن أعترف بوجود الآخر، وثانياً أن أربطه بنبع الوجود أي الله (1قور 13/8-10 و 12).
في الخلاصة فالمواهب أعطيت لأجل الجماعة وبنيان الجماعة…. واستعمالها يجب أن يكون فقط لخير الجماعة (1قور 14/12). المواهب تفترض التكامل وليس التنافس. هي كلُّها “من أجل البنيان”. من المهم الاشارة إلى أنّ الحكم على هذه المواهب يتم في الجماعة أي في الكنيسة. الكنيسة هي التي تقبل الموهبة وتحكم عليها وتفسّرها (1قور 14/26-29).
ثانياً، مفهوم “الموهبة” بعد المجمع الفاتيكاني الثاني
مرّت قرون على انطلاقة الكنيسة وتعبير “الموهبة” الذي استعمله القدّيس بولس غائب، ممّا أدى إلى اعتقاد الكثيرين أنّ المواهب منحت بشكل خاص للكنيسة الأولى فقط. وها هو القرن العشرين يطل ويعود تعبير الموهبة للظهور.
ترولتش Troeltsch (1912) هو أوّل من استعمل هذا التعبير في علم الاجتماع، ثمّ تعمّق في مفهومه ماكس فيبير Max Weber (1922) الذي اعتبر الموهبة قدرة خارقة العادة يملكها البعض ويمارسون بواسطتها سلطة انجذاب خاص على الآخرين. إنّها لا تشبه سلطة الاقطاعيين ولكنّها تتميّز بصفات خارقة العادة، وما فوق الانسان والطبيعة. هذه النظريّة كانت محط انتقاد لاذع من قبل ديركهايم Durkheim الذي رفض وجود الشخصيّة المواهبيّة. بالنسبة له من يخلق الحالات النفسيّة النشيطة والقويّة والمميّزة هو المجتمع وتأثيره على الأفراد[6].
من المؤكّد، بحسب المجمع الفاتيكاني الثاني، وخصوصاً في الدستور العقائدي نور الأمم، أنّ الحياة المكرّسة هي “عطيّة” خاصّة من الله، علامة للسرّ المسيحي الذي يعمل في الكنيسة والذي ينتمي إلى حياتها وإلى وقداستها، إذاً إلى طبيعتها الأسراريّة العميقة وإلى حضورها المرتبط بمبادرة الروح القدس الحرّة[7].
في العدد الثامن من الدستور العقائدي “نور الأمم”، يتحدّث الآباء عن طبيعة الكنيسة المواهبيّة-المؤسساتيّة Charismatico-Institutionnelle وعن مجموعة العطايا الهرميّة hiérarchiques؛ المواهبية والخدماتيّة معاً. في وقت لاحق، وفي مرجعين كنسيين رسميين تمّ توضيح البعد المواهبي للحياة المكرّسة[8]. بالنسبة لهذين المرجعين فإنّ الحياة الرهبانيّة هي موهبة خاصّة، على السلطة الكنسيّة، بكثير من روح الشكر والامتنان، معرفة استقبالها وفحصها وحمايتها ومساعدتها على التفتح والازدهار والأمانة لدعوتها الأساسيّة[9].
إنّ تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني تحدّث عن المؤسسين والمؤسّسات وعن أبنائهم الذي عنهم يأخذون الالهام الأوّل ويعيشونه ويشهدون له (نور الأمم، عدد 45-46 والمحبّة الكاملة، عدد 1و2). من هنا، راح لاهوتيي الحياة المكرّسة يتحدّثون عن عدّة أنواع من المواهب نضعها هنا باختصار مع بعض التعابير ذات الصلة، وذلك من أجل المساعدة على فهم دور الموهبة وديناميكيتها.
موهبة المؤسّس أو المؤسِّسة: أي الشخص الذي سُلِّم له الالهام الأوّل بتجسيد ناحية من نواحي حياة يسوع أو ملمحاً من ملامح سرّه في التاريخ. من الممكن أن تعطى مباشرة لشخص واحد يكون المؤسّس، ومن الممكن أن تعطى بطريقة مباشرة أيضاً لمجموعة أشخاص، ومن الممكن ان تعطى لشخص وتنتقل بطريقة غير مباشرة لأشخاص آخرين (القدّيس أنطونيوس، أو باسيليوس، أو أغوسطينوس أو شارل دي فوكو).
موهبة التأسيس: هو الشخص الذي اختاره الله لكي يضع الإلهام الأوّل موضع التنفيذ، فتنشأ المراكز، ويوضع القانون بمباركة الكنيسة الأم، ويحدّد شكل الحياة والرسالة. من الممكن أن تكون موهبة المؤسّس والتأسيس في شخص واحد (كالقدّيس فرنسيس الأسيزي والبطريرك الياس الحويك والمطران يوحنّا حبيب) ومن الممكن أن تكون منفصلتين (شارل دى فوكو، أو الأم ماري ألفونسين والخوري يوسف طنّوس يمّين). موهبة التأسيس لا يمكن أن تعطى لأحد بطريقة غير مباشرة. في الحقيقة إنّ موهبة المؤسّس أو المؤسِّسَة إذا كانت غير واضحة فيمكن الاعتماد على موهبة التأسيس لتوضيح الهويّة الخاصّة بالرهبانيّة.
موهبة المؤسَّسة: هو العمل الرسولي المناط بالجماعة المكرّسة. هي التي تتجلّى فيها موهبة المؤسِّس أو المؤسِّسَة وموهبة التأسيس. هنا يجب العودة إلى الجيل الأوّل والثاني والثالث من الرهبانيّة واكتشاف أنواع الرسالة التي قامت بها الرهبانيّة خلال هذه الحقبة. لماذا هذه العودة؟ لأنّ من أعطيَ له بقوّة الروح القدس نعمة المؤسِّس أو التأسيس سيمنحه الروح القدس عينه ميادين تطبيق هذه الموهبة.
الشفيع: هو الشخص الذي أعطي له أن يكون والد أكثر من موهبة كمؤسّس وليس كتأسيس.
المؤسسون وأبناؤهم: بحسب لاهوت الموهبة فكل مؤسّس يشبه حشاءً أو نبعاً أو شجرة أو أرضاً خصبة تتفتّح فيها الموهبة من خلال ولادة أبناء جدد لاقتبال الموهبة والتأمل بها وعيشها والتبشير بمضمونها.
الروحانيّة: هو الاختبار الذي يعيشه المؤسسون في علاقتهم بالرب يسوع. من الطبيعي أن يكون يسوع بكليته مصدر اتباع ولكن انجذابهم وخبرتهم تتركّز على ناحية من نواحي حياته (أنطونيوس وباخوميوس ومبارك وباسيليوس ومارون انجذبوا بيسوع المصلّي على الجبل؛ فرنسيس الأسيزي، ودون بوسكو، والأم تيريزا والأخت آمنيول انجذبوا بيسوع صديق المتألمين والمعذبين واالمشردين، أنطوان شوفرييه، فيليبي دي نارو Filippi Di Nero، انجذبوا بيسوع الكاهن).
يجب الانتباه أنه في كل جماعة رهبانية هناك:
- روحانيّة المؤسِّس أو المؤسِّسَة التي تعني الاختبار الشخصي لهؤلاء ليسوع –بالتركيز على ملمح من ملامح وجهه الواحد- الذي دعاهم دعوة خاصّة؛
- روحانية كل عضو من أعضاء الجماعة الرهبانيّة على مدى تاريخ الجماعة. هذا يعني الطابع الشخصي الذي يميّز اختبار كل فرد في الجماعة لهذا الملمح من ملامح وجه يسوع؛
- روحانيّة المؤسَّسَة: هي مجموعة اختبارات المؤسِّس وأعضاء الجماعة من بعده وبالتالي معرفة ما كشف يسوع لهؤلاء حول شخصه.
الروح: هو الطريقة المتبعة في تجسيد الاختبار الروحي في الواقع الكنسي والإنساني. بكلمة ثانية الروح هو القوانين التي تنظّم عيش وتطبيق الاختبار الروحي.
لقد رأيت من المناسب هنا أن أورد مثلاً عن كيفيّة قراءة القوانين بطريقة نستنتج معها الموهبة الخاصّة وعيشها في الحاضر. هذا المثل أخذته من عمل قمت به مع “راهبات قلب يسوع المصريّات”[10] في القاهرة ويمكن أن يكون مفتاحاً لكل جماعة تريد ان تكتشف موهبتها من خلال قراءتها لقوانينها. هذه القراءة تمحورت حول ست نقاط :
1. في البند الأوّل هناك دعوة لعيش «روح التطويبات». ماذا يعني عيش روح التطويبات؟ هل يعني ذلك عيش يسوع الطوباوي أم عيش يسوع «المربّي» الذي عاش التطويبات وربّى تلاميذه عليها؟ من الممكن أن يكون المقصد الالهي من هذا الكلام هو عيش يسوع المربّي المطبوع بروح التطويبات. بهذا الشكل تُصبح التطويبات مشروع حياة غايته التعرّف إلى يسوع المربّي والعيش «معه» والشهادة له متميزين بروح التطويبات.
2. في البند الثاني نلاحظ أن الرهبانيّة مكرّسة «لكي تشهد لحب قلب يسوع». الحب يعني الاعتراف بوجود الآخر، والآخر بكليته الانسانيّة والروحيّة. وهل التربية هي أمرٌ آخر سوى الاعتراف بوجود الآخر وبكل حقوقه وخصوصاً بحقّه في المعرفة والنمو والتطوّر وبناء حياة كريمة قادرة على بلوغ ملء قامتها؟ من هنا فدعوة الحب هذه تشكّل نقطة الارتكاز في العمل التربوي. انطلاقاً من هذه الخلاصة نستنتج أن «موهبة» الجماعة التي هي التعرّف إلى يسوع المربّي ومشاهدته والشهادة له تتوافق لا بل ترتكز على الحب.
3. رسالة الراهبات الأوائل تصب في ما أشرنا إليه سابقاً وتوضّحه وتؤكّده «عاشت أمهاتنا المؤسِّسات دعوتنا هذه بإصغائهنَّ وفتح قلوبهنَّ لاحتياجات عصرهنَّ ولنداءات الكنيسة والشعب المصري. فكان اهتمامهنَّ بتربية النشء، في المدارس والعمل الرعوي ورعاية الفقراء» (بند 5).
4. الاعتراف بالآخر المسلم هو تفصيل للرسالة الأساسيّة (التي هي يسوع الذي يريد أن يربّي الناس من خلالنا) المطبوعة بالاعتراف بالآخر من خلال تربيته ليحقّق ذاته ويبلغ بها إلى ملء وجودها.
5. اللقاء بيسوع المربّي يعرّفني إلى غناه كمربّي وإلى نظرته للتربية وأهدافها وطرق مزاولتها وبالأخص من الناحية العلائقية مع الطلاّب.
6. اللقاء بيسوع المربّي يبني فيّ أيضاً شخصيّة المربّي على حسب رغبة قلبه.
ثالثاً، دور “الموهبة” على صعيد الفرد والجماعة
الموهبة، هي إرادة الله في أن يتجلّى في التاريخ، من أجل خلاص الإنسان. ولأن الخلاص لا يتم إلاّ في شخص الربّ يسوع، فتجلّي الله يتم فقط من خلال تجلّي الله الابن، يسوع المسيح. الموهبة إذاً هي علامة لاستمرار حضور يسوع في التاريخ بمختلف نواحي حياته التي عاشها على الأرض منطلقاً من أحوال الناس وحالاتهم وحاجاتهم: يسوع الطبيب، وغافر الخطايا، والمبشّر، والمعلّم، والكاهن، والمصلّي على الجبل، والمرسل، وصديق الفقراء، وصديق الخطأة، والفقير والمطيع والعفيف….
ومن يُدعى، ليتجلّى يسوع من خلاله في التاريخ، وقد سميناه مؤسِّساً وحشاءً لأولادٍ كثر يشاركونه نفس الدعوة، لا يُعتبر، كما لا يُعتبر أولاده، عبّارة فقط، إنّما أرضاً تتفجّر من خلالها الماء، على شبه ما حدث مع مريم ومع التلاميذ فيما بعد. إنّه تفجُّرٌ يشبه الماء الذي يرشح من جرّة الفخّار، فبقدر ما الفخّار جيداً بقدر ما يرشح منه الماء بشكل أفضل. فيسوع، عمانوئيل أخذ من مريم جسداً ليدخل العالم، كذلك من خلال الرسل الذين رأوه وتأملوه ولمسوه (1يو 1/1)، أخذ جسداً ليمتد من خلالهم في التاريخ. في هذا المنطق فكلُّ مدعوٍ هو امتداد عضوي لشخص يسوع في التاريخ (الحياة المكرّسة، عدد 32).
ولأنّ يسوع، هو غني، إلى حدٍّ أنّه لا يوجد إنسان في الكون، بخلاف مريم، قادرٌ على استيعاب كل أبعاد حياته فقد أعطى لكل مدعو أن يتخصّص بواحدة منها، فيمنحها كل حياته لكي يستطيع يسوع من خلاله أن يمنح الحياة الأبديّة للآخرين.
من هنا القول إنّه بقدر ما أعي أي ناحية من نواحي حياة يسوع مدعوٌ أنا كي أتأمّل وألمس وأحمل في أعضائي بقدر ما أنمو على مختلف أبعاد حياتي. إنّ اكتشاف الناحية، من نواحي حياة يسوع، المدعو لأعيشها تحدّد لي دوري وغاية تكرّسي، الأمر الذي ينعكس على نمويّ الشخصي. كيف يحدث ذلك؟
لقد قلنا إنّ اكتشاف الناحية من نواحي حياة يسوع المدعو لأعيشها تحدّد لي دوري وغاية تكرّسي، أي تحدّد لي أي يسوع مدعو أنا أن أعيش: يسوع المصلّي على الجبل، يسوع صديق الفقراء، يسوع المبشّر، أو المعلّم أو المرسل أو الكاهن…؟
- على الصعيد الفردي
- على مستوى نمو الشخصيّة:
اكتشاف الموهبة يؤمّن لي العناصر الأساسيّة في تكوين شخصيتي الانسانيّة:
- وجهاً أتماهى عليه؛
- اسماً يميزني عن الآخرين؛
- 3) سلّم قيم أرتكز عليها في حياتي الانسانيّة والمكرّسة؛
- ويؤمّن لي أخيراً مشروعاً يوجّه مسيرتي ويمنحها معنىً وهدفاً نهائياً واضحاً.
- على مستوى النمو الفكري
- الفكر يسعى بطبيعته إلى اكتشاف الحقيقة أي يسعى إلى اكتشاف معنى الأمور. الموهبة الخاصّة تساعدني على اكتشاف معنى وجودي في الدير؛
- الفكر بطبيعته هو مشروع نمو يسعى إلى بلوغ ملء قامته عبر مسيرة العمر (الخليّة الأولى في تكوين الإنسان والتي منها تتفرّع باقي خلايا الجسم هي خليّة الدماغ). الموهبة الخاصّة تكشف لنا ماهية مشروع حياتنا المكرّسة؛
- الفكر يسعى بطبيعته أيضاً إلى تنظيم حياة الانسان والكون. الموهبة الخاصّة تساعدنا على ترتيب حياتنا بما يتوافق مع الهدف الأساسي المنشود؛
- التركيز في ثقافتنا اللاهوتيّة على الملمح المدعو لأعيشه؛
- قراءتي الروحيّة من الممكن أن تركّز على هذا الملمح أيضاً؛
- التخصّص الجامعي من الممكن أن يذهب في هذا الاتجاه.
- على مستوى النمو الروحي:
- الحياة الروحيّة هي «أنا الحي» بفضل «نفس الله» الذي نفخه فيَّ يوم تكوّنت في أحشاء أمّي. هذا «الأنا الحي» مدعوٌ أن يكون على «صورة الله وكمثاله»، أي أن يكون على صورة يسوع (لأنّ صورة الله بحسب القدّيس بولس هي يسوع المسيح ابن الله) وكمثاله؛ أي أن تكون نوعيّة حياتي كنوعيّة حياة يسوع. الموهبة توضّح لي بشكل جلي أي ناحية من نواحي هذه الصورة (يسوع) يجب عليَّ أن أطبع في حياتي وأشاهدها وأشهد لها في رسالتي كمكرّس؛
- تقول القدّيسة تيريز الطفل يسوع إنّه لا يصعد أحدٌ إلى السماء إلاّ وجذب معه نفوساً كثيرة. الحياة الروحيّة تبغي إذاً خلاص نفسي وخلاص الآخرين. الموهبة تساعدني على تحديد الفئة التي يجب عليّ أن أحمل يسوع لها لكي يمنحها الخلاص؛
- الحياة الروحيّة بحاجة إلى ينابيع تغتذي منها، والموهبة تحدّد لي هذه الينابيع؛
- التأمّل بالنصوص التي تختص بالموهبة الخاصّة؛
- التركيز على معرفة يسوع من خلال الناحية الخاصّة المدعو لأعيشها؛
- التركيز على الاختبارات الروحيّة المرتبطة بهذه الناحية.
- على مستوى النمو الرسولي:
- دراسة النصوص الكتابيّة المرتبطة بالموهبة؛
- تحديد الفئة المستهدفة؛
- دراسة أنماط يسوع الرسوليّة؛
- التأمّل والتفكير بمواقف يسوع الرسوليّة، التي تساعدني بالتالي على تكوين شخصيّتي الرسوليّة.
- على صعيد حياة العائلة المكرّسة
إنّ مؤتمر الرؤساء العامّين[11] الذي انعقد في روما سنة 1993 يحدّد نحو من اثنتي عشر فائدة تأتّى كثمرة اكتشاف الهويّة المواهبية للعائلة المكرّسة وهي التالية:
1) فهم الهويّة الرهبانيّة الخاصّة بكل جماعة؛
2) بوصلة مسيرة كل تجديد في الحياة الرهبانيّة؛
3) وعي روحانيّة كل عائلة رهبانيّة؛
4) فهم وتجديد القوانين (الروح) الخاصّة بكل جماعة مكرّسة؛
5) تحديد الرسالة الخاصّة بكل جماعة مكرّسة؛
6) توجيه التنشئة على الحياة المكرّسة؛
7) تحديد شكل الحياة الأخويّة؛
8) وضع المساواة وتحديد المسؤوليّة المشتركة بين أعضاء الجماعات الرهبانيّة؛
9) توضيح أسس العلاقة بين المكرّسين والعلمانيين؛
10) المواهب الخاصّة، في تكاملها، تلعب دوراً أساسياً في إعطاء صورة واضحة عن وجه الرب الواحد؛
11) الموهبة هي دربنا نحو القداسة: تجسيد ملمح من ملامح يسوع في حياتي وفي حياة الآخرين؛
12) الموهبة هي أساس كل تعاون بين مختلف الجماعات الرهبانيّة أو المكرّسة.
خلاصة
في كلّ مرّة، عندما كنت أنتهي من دورة حول “الهويّة المواهبيّة” سواء في لبنان أم خارج لبنان، في رهبانيّة نسائّية أم رجاليّة، في إطار ديري أم جامعي، كنت أشعر بفرح المشاركين الذي كانوا يختصرونه بعبارات متشابهة “نحن فرحين لأنّنا اكتشفنا من نحن، ما هي هويتنا وما الذي يميزنا عن الآخرين وما هي الرسالة المناطة بنا”.
نعم إنّ القدّيس بولس عندما كان يقول بأنّ المواهب وإن كانت على أنواع فغايتها الأساسيّة هي بناء الكنيسة أي جسد يسوع السرّي (1قو 12/12-30)، كان، على ما أعتقد، يدرك أن هذا البناء كان يطال الجماعة الناشئة ولكن أيضاً كل عضوٍ من أعضاء هذه الجماعة. من هنا دأبت الكنيسة منذ أيام السعيد الذكر البابا بولس السادس على تشجيع المكرّسين بالنذور على اكتشاف هويتهم المواهبيّة لما في ذلك من خير لهم وللكنيسة جمعاء.
نحن اليوم في لبنان والمرجع هو دراسة متواضعة قمت بها في رحاب الحياة المكرّسة الرجاليّة ذات الجذور اللبنانيّة[12]، بحاجة ماسّة إلى العمل على هذا الموضوع لتوضّح كل من عائلاتنا المكرّسة هويتها المواهبيّة فتجني الثمار التي تحدّثنا عنها أعلاه إن على الصعيد الشخصي أو الجماعي. هذه الملاحظة نجد صداها بقوّة في نتائج المؤتمر الذي نظّمه المعهد العالي لإعداد المنشئين في كليّة العلوم اللاهوتيّة والدراسات الرعائيّة وكان بعنوان “شهادة الحياة الرهبانيّة في لبنان ورسالتها: واقع ومرتجى”[13].
إنّ اكتشاف الموهبة لهو دواء ناجع لكثير من الأمراض التي يعاني منها مكرّسينا اليوم وجماعاتنا المكرّسة، فهل نعود إلى هذا الدواء لنتقي شرّ أي داء؟
[1] لأب معين سابا، مرسل لبناني. معلّم الابتداء ومشير عام وأمين السرّ العام في جمعيّة لمرسلين اللبنانيين الموارنة. أستاذ محاضر في الجامعة الأنطونيّة، فرع معهد تنشئة المنشئين.
صدر له حتى الآن كتابين:
- Pere Mouin Saba, La Vie Consacree au Liban, Editions Apotrd, Jounieh – Liban, 2005.
- الأب معين سابا، هكذا علّمتني الحياة، مطابع الكريم الحديثة، جونيه-لبنان 2012.
كما صدر له عدة مقالات.
[2] مؤتمر الرؤساء العامّين حول ”الحياة المكرّسة اليوم: مواهب في الكنيسة من أجل العالم“، روما، 22 – 27 ت2 1993، عدد 3.
[3] Adrienne Von Speyr. Première Épître de saint Paul aux Corinthiens II. Méditations sur les chapitres 10 à 16, Lessius,Bruxelles 2000, P. 81.
[4] André-Marie Gerard, Andrée Nordon-Gerard, Dictionnaire de la Bible, « Charisme », Robert Laffond, Paris 1989, PP. 201-202
[5] « Charisme », dans : Dictionnaire Encyclopédique de la Bible, sous la direction du Centre : informatique et Bible, Brepols, Belgique 1987, P. 261.
[6] Cf., Père Mouin Saba, La Vie Consacrée au Liban : actualités et perspectives, Éditions Apôtres, Jounieh-Liban, P. 67.
[7] Cf., LG 4 ; 12 ; 43-44 ; PC 1-5 ; AG 23 ;29 ; 40 et EN 69.
[8] Pape Paul VI, Exhortation Apostolique « Evangelica Testificatio » sur la renouvellement de la Vie Religieuse selon l’enseignement du Concile Vatican II, Rome 29 juin 1971 ; Sacrée Congrégation pour les religieux et les Instituts Séculiers, Sacrée Congrégation pour les Évêques, Directives de base sur les rapports entre les Évêques et les religieux dans l’Église, Rome 1978.
[9] Cf., ROMANO A., « Carisma », dans : RODRIGUEZ A.A. et CANALS CASAS J.M. (et autres), Dizionnario Teologico della Vita Consacrata , Traduction italienne : GOFFI T. et PALAZZINI A. (sous direction), Milano, Ancora 1994, p.177.
[10] انطلاقاً من القوانين ومن تاريخ الجماعة اكتشفنا سويّة أنّ موهبة الجماعة هي “ملمح يسوع المربّي”. تاريخ راهبات قلب يسوع المصريّات، القاهرة 2002؛ قوانين راهبات قلب يسوع المصريّات، حاضرة الفاتيكان، 24/1/2008 وقد جاء فيه تحت فصل الحياة الرسوليّة: “أمانة للهدف الذي تأسّست رهبنتنا من أجله، فإنّ رسالة التربية هي من أهمّ مجالات رسالتنا، لأنّنا بها نكوّن إنساناً أفضل للمجتمع وللكنيسة، دينياً وثقافياً واجتماعياً” (عدد، 21).
[11] مؤتمر الرؤساء العامّين حول ”الحياة المكرّسة اليوم: مواهب في الكنيسة من أجل العالم“، روما، 22 – 27 ت2 1993، عدد 3.
[12] Père Mouin Saba, La Vie Consacrée au Liban : actualités et perspectives, Éditions Apôtres, Jounieh-Liban 2005, 168-170.
[13] أعمال مؤتمر “شهادة الحياة الرهبانيّة في لبنان ورسالتها”، المعهد العالي لإعداد المنشئين في كليّة العلوم اللاهوتية والدراسات الرعائيّة، منشورات الجامعة الأنطونيّة، أيّار 2102.