العلّامة يوسف السمعاني؛ علامة فارقة في تاريخ كنيستنا المارونية.
كتب د. روني سمعان خليل.
فخرٌ لي أن أتحدثَ عن علاّمةٍ قلَّ نظيرُه، فباتَ علامةً فارقةً في تاريخِ كنيستِنا، ومهما تحدثنا عنه يبقى القليلُ، ولن نستطيعَ ايفاءَه حقَّهُ. ومَن أجدى به أن يُطلق عليه “عالمٌ كماروني”، وصفةُ العلاّمةِ التصقت به وسبقت كلَ الرتب التي ارتقاها.
1- يوسف السمعاني، حصرونيُ الأصلِ والنشأةِ، ولد في 27 أب 1687.
من بيتٍ كهنوتيٍ قدّم للكنيسة عمَّه المطران يوسف السمعاني، رئيسَ أساقفةِ طرابلس الذي أرسلَهُ إلى روما لمتابعةِ علومِه في المدرسةِ المارونيةِ وهو بعدُ في الثامنة من العمرِ. نبغَ في العلومِ واللغاتِ العديدةِ، سيم كاهنًا سنة ١٧١٠. مهماتٌ ورُتبٌ عديدةٌ استلمها، ومن أبرزِها؛
– الترجمةُ في المكتبة الفاتيكانية، للغتين العربية والسريانية،
– الملفنةُ في الفلسفةِ واللاهوت،
– حافظُ المكتبةِ الفاتيكانيةِ ثم رئيسُها،
– خادمٌ شرفيٌ في قاعة الحبر الاعظمِ،
– مؤرّخٌ في مملكة نابولي بطلب من ملكها،
– مستشارٌ في مجمع انتشارِ الايمان،
– عضوٌ في مجمع التوبة،
– أسقفٌ على صور.
توفاه الله في 13 كانون الثاني 1768، تاركًا مؤلفاتٍ بالمئاتِ تناولت مواضيعَ لاهوتيةً، تاريخيةً، فلسفيةً، أدبيةً…
إنَّ أبرز ما تركَه لكنيستِنا بصماتُه في المجمع اللبناني.
2- المجمعُ اللبناني
أ – فترة ما قبل المجمع؛ شكلتِ الكنيسةُ المارونيةُ قبيلَ عقدِ المجمعِ مسرحًا لبعض الخلافاتِ داخلَ الكنيسةِ والتدخلاتِ في شؤونِها من السلطةِ السياسيةِ المتمثلةِ آنذاك بسلطةِ الاقطاعيين، نظرًا لغيابِ قانونٍ يسيّرُ شؤونَها وشؤونَ احبارِها ويشرحُ لكلٍ منهم حقوقَهُ وواجباتِهِ… ومن تلك المداخلاتِ، مسألةُ تنزيل البطريرك يعقوب عواد عن السدةِ البطريركيةِ بين 1710 و 1713، وإعادتِه بعد تدخّلِ الكرسيِ الرسولي، إضافةً إلى أنّ المجامعَ التي سبقت عقدَ المجمعِ اللبنانيِّ لم تكن شاملةً بمضامينها واقتصرت على نواحٍ معينةٍ، فارتفعتِ الأصواتُ المطالبةُ بالاصلاحِ الكنسي وترتيبِه، ومن بينها مطالبةُ المطران عبدلله قرألي بمرجعٍ يستندُ إليه لمعرفةِ حقوقِه الأسقفيةِ، فلم يجد.
راسل قرألي المجمعَ المقدس طالبًا تعيينَ من يقضي ويُشرّعُ في هذه الأمور، فأوفدَ الاخيرُ القسَ جبرائيل حوا قاصدًا رسوليًا إلى الكنيسةِ المارونية، فعقدَ مجمعًا اوضحَ من خلاله بعضَ المسائلِ الداخليةِ بين أصحابِ السلطات، لكنه لم يكن شاملًا.
مع البطريرك يوسف ضرغام الخازن، رُفعت إلى المجمعِ والى الحبر الأعظم اقليمنضوس 12 رسائلَ من أركانِ الطائفة سنة 1734، تطالب بإرسالِ العلاّمةِ يوسف السمعاني لإصلاحِ القوانينِ البيعيةِ. وعليه، أصدرَ الحبرُ الأعظم 4 براءاتٍ للسمعاني وللكنيسةِ المارونية بهذا الخصوص. وصلَ السمعاني في 17 حزيران 1736 قاصدًا من قبلِ الكرسيِ، حاملًا معه لائحةً من 12 بندًا اصلاحيًا ارتكز عليها في جلساتِ المجمع، (ارشيف بكركي، وثيقة رقم 15خزانة البطريرك يوسف الخازن). استُهلَ المجمعُ بجلساتٍ تمهيديةٍ عُقدت في دير مار سركيس في ريفون ثم انتقل المشاركون من أركان الطائفة وأعيانِها إلى دير سيدة اللويزة بين 27 أيلول و 30 منه، وهو الموقعُ الوسطيُ بين المناطقِ اللبنانيةِ وهو ديرٌ عامرٌ بالحضور الرهباني، وحالتُه جيدةٌ، وما إليها من الضروريات لعقدِ مجمعٍ بهذا الحجم.
إنّ إقامتَه في هذه المنطقةِ تضعُنا أمام واقعٍ جديدٍ، إذ شهدتِ الطائفةُ تحولاتٍ جذريةً اعتبارًا من أوائل ذاك القرن، فمن الناحية السياسية، اتصفت بالهدوءِ النسبي والانتقالِ من مناطقَ اعتبرت أماكنَ حمايةٍ للموارنة، إلى مناطقَ اخرى في وسطِ البلادِ. ومن الناحيةِ الدينيةِ ستشهد كنيستُنا انتشارًا في بناء الأديرةِ في كسروان والمتن وغيرهما من المناطق. ومن الناحيةِ الديمغرافية، عرفت تقدمًا ملموسًا عدديًا على حساب تراجعٍ نسبيٍ في الديمغرافية الدرزية، وكذلك في زعامةِ الأخيرة سياسيًّا نتيجةَ التناحرِ الداخليِ ولا سيما المعاركِ القيسيةِ اليمنية في عين داره 1711 لتتجلى هذه التغيراتُ بوضوحٍ أواسطَ القرن 19 ليلعبَ الموارنةُ دورًا رئيسيًا في الحكم إضافةً إلى عاملِ التقرّبِ من عائلاتٍ غيرِ مسيحيةٍ تنصّرت خلال تلك الفترةِ.
ثبّتَ البابا أعمالَه بنسخته اللاتينيةِ سنة 1741، وبعد جدالٍ لن ندخلَ في تفاصيله هنا، في ما يتعلقُ ببعض الفروقاتِ بين الترجمة اللاتينيةِ والعربية، حُسم الأمرُ بشكلٍ نهائيٍ سنة 1884 بقرارٍ من الكرسيِ الرسولي باعتمادِ النسخةِ اللاتينيةِ بعهد بطريركية بولس مسعد.
ب- أبرز ما تضمّنه المجمعُ اللبناني؛
– مثّلَ المجمعُ رمزَ الإصلاحِ والتنظيمِ في كنيستِنا، في تاريخِها الحديثِ والمعاصر. فالسمعاني اعتُبرَ رمزًا من رموزِ الحداثةِ الأوروبية، طبعَ كنيستَنا الشرقيةَ، جاءت بنودُه مستوحاةً من المجمعِ التريدنتي ومن افكارِ السمعاني النهضويةِ التغييرية، شملت النواحي الايمانية، الاجتماعية، التنظيمية والوطنية.
– أعاد التأكيدَ على هُويّةِ كنيستِنا الانطاكيةِ السريانيةِ المارونيةِ المرتبطةِ بالكنيسةِ الكاثوليكيةِ الرومانيةِ والمناهضةِ لكلّ انواعِ البدعِ والهرطقات،
– ألزم التعليمَ الابتدائيّ قبل الثورةِ الفرنسيةِ بعقودٍ من الزمن ، ص 494، وأوصى بضرورةِ تثقيفِ طالبي الكهنوتِ واقتناء الكتب،
– سمح باستخدامِ اللغةِ العربيةِ في القداس مع استمرارِ استخدامِ السريانية كلغةٍ أساسيةٍ، ما يؤكد على اعتبارِ اللغة العربية قبلَ عصرِ النهضةِ العربيةِ، ص 214- 216،
– حدد واجباتِ وامتيازاتِ وحقوقِ الاكليروسَ والرهبناتِ وكيفيةَ ممارسةِ الاسرارِ والاهتمامِ بالكنائسِ وطريقةِ هندستِها والرساماتِ الكهنوتيةِ والاسقفيةِ وشروطَ الانتخابِ،
– حدد الاعيادَ والاصوامَ وتكريمَ الصورِ والذخائرِ وتبريكِ الزيت،
– عيّن جغرافيةَ الكرسيِ البطريركي وابرشياتِها وبعضَ مراكزِها الاسقفيةِ التي تغيّرت مع الوقت حدودُها نظرًا للمتغيراتِ الديمغرافيةِ والاجتماعية،
– فصَل الاديارَ المشتركةَ، وسواها من البنود التنظيمية.
إنّه دستورٌ بكلّ ما للكلمة من معنى. لم تزل كنيستُنا تعتمدُه، يُحترمُ ويطبّقُ. فكنيستُنا مؤسسةٌ منظمةٌ شديدةُ التنظيمِ بهيكليةٍ واضحةٍ وأهدافٍ وطنيةٍ وروحيةٍ واجتماعيةٍ ثابتةٍ، باستمرارية 1400 سنة، وبتطورٍ مستمرٍ في مؤسساتِها كافةً، في حين نتخبطُ سياسيًّا في أيّ استحقاقٍ زمنيٍّ…
إنّه لَمسارٌ واضحُ المعالمِ والخُطى ومصيرٌ مفتوحُ الأفقِ، لم ولن تقوى علينا صعوباتُ الايامِ.
مجمعٌ لبنانيٌ وليس مارونيًّا، وهو التنظيمُ الدينيُ الوحيدُ الذي ارتبطَ عنوانُه باسم لبنانَ. رسّخّ هُويّةً وطنيةً ومشرقيةً كاثوليكيةً للكنيسة المارونيةِ ولبننَ إيمانَنا المسيحيَ وثبّت مفهومَ الكيانِ اللبنانيِ بكلِ دلالاتِه الوطنيةِ والجغرافيةِ باستخدامِ كلمةِ لبنان؛ اولًا، في عنوانِ المجمع، وثانيًا في مواقعَ عديدةٍ في نصوصِه، وعلى سبيل المثال في ص 356، ص 360، وفي رسالةٍ وجّهها السمعاني إلى البابا اقليمنضس 12 بتاريخ 17 كانون الثاني 1737 تتضمّنُ خلاصةَ اعمالِ المجمعِ، يوردُ فيها عبارةَ سكان لبنان وانتيليبان، ص 176- 178 من ذيل المجمع اللبناني.
وعبارةُ الرهبانية اللبنانية (التي انقسمت سنة 1770 إلى لبنانية حلبية والى لبنانية بلدية) في العديد من صفحاتِه وبذلك يكونُ المجمعُ قد مهّدَ للبنانَ الكبير قبل قرنين من الزمن.
وما نهجُ بكركي وسيدِها منذ قرونٍ من الزمن، حتى يومنا هذا الا تأكيدًا واضحًا على ديمومةِ كيانِ لبنانَ، ومع صاحبِ الغبطةِ الكاردينال الراعي، ونداءاتِه المتكررةِ بمبدأ الحيادِ سوى استكمالٍ لمسارٍ تاريخيٍ وخطابٍ وطنيٍ عرفتهُ بكركي. فلتبقَ بكركي حصنًا من حصون لبنان المنيعة.
عشتم عاشت كنيستُنا بأركانها وشعبها.