Almanara Magazine

الرحمة الإلهيّة

الأب جورج خوام البولسي[1]

          يكشف موضوع الرحمة الإلهيّة النقاب عن أحد الوجوه، التي يُعرَف بها الله، فيضيف على تكوين المعرفة الإنسانيّة بشأنه ركنًا ذا أهميّة، يندرج في سلك الوحي المقدّس. فكما السيادة، مثلاً، والغلبة، والعلم، صفات تضيء للعابد سبيل التقرّب إلى الله، كذلك رحمته، فهي تضفي على العبادة جانبًا يجمع الإنسان بكامله، لدى وقوفه بين يدي الباري تعالى. ومن ثمّ، ففي حديثنا عن رحمة الله مقاربة جزئيّة، ومساهمة كلاميّة، إذًا، لا يليق بالقارئ أن يحملها على غير قياسها، كأن يعارضها بالعدل الإلهيّ، والقضاء في آخر الأزمنة، وهما موضوعان كلاميّان أيضًاّ! إنّ قياس الخطاب، في موضوع الرحمة الإلهيّة، الإحاطة وحسبُ بهذا الوجه، الذي تجلّى فيه الله للإنسان، عبر التاريخ، لا البحث في الذات الإلهيّة عن مقارعة الصفات الإلهيّة!

1ـ مفردات الرحمة

أمكننا أن نحصي 164 لفظة، تدلّ كلّها على “الرحمة”، في الكتاب المقدّس بجزئيه: القديم والجديد. يتوزّع هذا العدد، بالطبع، على مختلف الأشكال الاشتقاقيّة، التي تلحق باللفظة، أي على الاسم “الرحمة”، والفعل، “رحم”، والصفة “رحيم”. ترد اللفظة، في العهد الأوّل وحده، 116 مرّة، موزّعة بتفاوت ملحوظ بين أقسام الأسفار الخمسة، والأسفار التاريخيّة، والأسفار النبويّة، والأسفار الحكميّة. ويبرز استخدامها في مجموعة المزامير، على نحو خاصّ، حيث ترد 51 مرّة، أي بنسبة تقارب الثلث. أمّا في العهد الثاني فللّفظة 48 استخدامًا، أكثرها ورودًا في الرسالة إلى الرومانيّين، حيث تتكرّر 12 مرّة؛ غير أنّنا نجدها، بنسب متقاربة، في سائر الأسفار، ما خلا إنجيلي مرقس ويوحنا، وسفر الرؤيا، بشكل خاصّ.

من ناحية أخرى، عمد واضعو الكتاب المقدّس الملهمون إلى 3 مفردات بالعبريّة، للتعبير عن “الرحمة”، هي: “حِنْ”، و”حِسِدْ”، و”رِحِمْ”. ولكنّهم استخدموا تعابير أخرى، للدلالة على مفهوم مجاور، من قبيل “صِدَقَه”، و”يَشَعْ”، وغيرهما. وأرادوا، عمومًا، بهذه الألفاظ الإشارة إلى نحو من “ميل”، أو “انعطاف” الله، تجاه المخلوق الضعيف بطبيعته (الأصل الاشتقاقيّ للمفردة “حِنْ”)، أو التعبير عن “غيرة” الله، و”تأجّج” محبّته تجاهه (الأصل الاشتقاقيّ للمفردة “حِسِد”)، أو، أخيرًا، إظهار موضع الخليقة في علاقتها مع الله، الذي يحتضنها في أحشائه (الأصل الاشتقاقيّ للمفردة “رِحِمْ”). فالألفاظ الثلاث تؤدّي كلّ منها، على حسب منظور خاصّ بها، معنى الإشفاق والحنوّ، اللذين يأخذ بهما الباري تعالى، كلّما تعلّق الأمر بالإنسان.

وحين نقل يهود الإسكندريّة كتبهم المقدّسة إلى اليونانيّة، لم يجدوا أفضل من المفردة “إليُوس”، للتعبير عن الرحمة الإلهيّة؛ ولكنّهم سندوا اختيارهم، في كثير من الأحيان، باللجوء إلى مفردات أخرى، من مثل “خاريس” (النعمة، الحظوة)، و”ذيكيوسيني” (البرّ، الإحسان)، على وفق السياق، الذي كانوا ينقلون منه. فأغنوا بذلك المدلول الأصليّ بمدلولات، يغلب عليها الوضع الاجتماعيّ، بحيث إنّ الرحمة الإلهيّة أضحت أنموذجًا للرحمة بين الناس.

ونجد، أخيرًا، في اللاتينيّة اختيارًا للفظة ” Misericordia”، التي تجمع، في الوقت نفسه، مدلولات الألفاظ العبريّة الثلاث. أمّا امتياز هذه المفردة فقائم، خصوصًا، في التشديد على العطف، الذي يلفّ وجه الله، في معاملته الإنسان: إنّه ممتلئ محبّة وحنوًّا تجاهه.

1-1 الإطار التاريخيّ

غنيّ عن الإطالة في موضوع الإطار التاريخيّ، الذي تجد فيه المفردات طريقها إلى الاستعمال، ضمن لغة من اللغات. فإنّ لفظ “الذبيحة”، مثلاً، عنى الإقدام على سفك دم الحيوان، أوّلاً، أمام الإله ـ وفي زمن أوّل، “دم البشر” أيضًا ـ للتعبير عن الاحتماء به، والإقرار بسيادته، فيما يدلّ اليوم على معنى العبادة، من دون اللجوء إلى الترتيب نفسه. إنّ تقدمة المسيح نفسه “ذبيحة” خلاصيّة (عب 26:9) شكّل مفصلاً تاريخيًّا ولاهوتيًّا، في هذا المعنى، بحبث إنّ ما يقوله الكاتب المقدّس في 1 بط 5:2: “… لتقديم ذبائح روحيّة مقبولة…”، لا يلمح البتّة إلى الواقع الأنثروبولوجيّ السابق.

كذلك الحال، بالنسبة إلى لفظ “الرحمة”، فإنّ إطاره التاريخيّ الأصليّ قلّما يمكنه أن يرقى إلى ما قبل داود، في أبعد حدّ. فالأسباط، التي نجح داود في توحيد كلمتها، لم تجتمع على معرفة يهوه كإله واحد للشعب، إلاّ بعد أن استقرّ مقامها في أرض كنعان، وخضعت لها الممالك الصغيرة، وتقاسمت الأراضي. أمّا وضع هذه الأسباط، قبل إعلان داود مملكة يهوذا، فكان تفرّق كلمتها، وانصرافها إلى توطيد أقدامها في البقاع، التي انتزعتها من أيدي جيرانها. من أجل هذا، ندر أن نقع على اللفظ في كتب الأنبياء، الذين عملوا بعد تشييد الهيكل، وقبل أن تحلّ بالشعب كارثة السبي إلى بابل. وإذا اتّفق للفظ أن يظهر في بعض الآيات “التوراتيّة”، وهو أمر نادر، فالسبب أثر البيئة الكهنوتيّة، التي أعادت صياغة هذه النصوص، بعد العودة من السبي. هذه البيئة الكهنوتيّة، التي ازداد أثرها في حياة الشعب، وتنظيم أحواله وعباداته، هي الحاضنة الطبيعيّة، التي شبّ اللفظ في حناياها، والتي ينبغي على الباحث التنقيب فيها عن معناه الأوّل.

فقد الشعب الملْك والهيكل خصوصًا، عندما سُبِي إلى بابل. وضامه جدًّا أنه تألّبت فيه الأسباط بعضها على بعض، واقتتلت، وسط عداء لا نظير له. لقد قسوا على أنفسهم، فقسى يهوه عليهم. ولم يصبروا على المخالفة والمنازعة، ولم يتحمّل بعضهم بعضًا؛ لذا، لم يَطُل أجلهم وحتفهم. مثل هذه الدروس التاريخيّة هي التي تعلّمها علماء اليهود، بعد العودة من السبي؛ وهي التي اجتهدوا في أن يعلّموها الرعيّة. لذا، يتردّد صدى هذا التعليم بكثرة في الأسفار الحكميّة: ابن سيراخ، والحكمة، والأمثال، والمزامير. فالرحمة أصبحت، في قاموس الأحبار اليهود، منجاة، وخلاصًا. وعنت، في أفواههم، الأناة، ورحابة الصدر، والمغفرة، أو التغاضي عن الإساءة، والإحسان إلى الآخر، والتصدّق.

1-2 الإطار اللاهوتيّ

إعتبر حكماء اليهود السبي أدنى البؤس، الذي يمكنه أن ينزلق فيه إنسان. فلا حريّة، أوّلاً، له؛ ولا اقتناء يتصرّف فيه. الأولاد عبيد عند الآخرين، والمستقبل قاتم، والعادات مختلفة، والعبادة مستهجنة، واللغة مستلبة. ولما أعملوا فكرهم في الأسباب، التي أودت بشعبهم إلى الانحدار في مهالك السبي، وجدوا أنّ خطيئته المتنوّعة هي التي كانت قابعة في أساس المصيبة المشار إليها. فكان من الطبيعيّ أن يربطوا بين البؤس والخطيئة، بين التخبّط في المعاثر، وجني المصائب التي تترتّب عليها، وبين التقاعس عن إرضاء الله. فلولا الخطيئة، التي استسلم شعب إسرائيل لسلطانها، لما أذلهم البابليّون بالاستعباد، والسبي، والدمار، والسلب. أما وقد دارت الدوائر عليهم، ووقعت المصيبة، فلا مخرج منها سوى التوبة، ولا سبيل إلى العودة إلى أيام المجد سوى بالاستغفار. وليس الأمر بالمستحيل طالما الله هو إله إسرائيل.

تحلّ رحمة الله على المستغيث به، إن وجد هذا الطريق إلى التوبة. فمن جهة، إذًا، الوعي التامّ تجاه الذات، التي أخطأت، والإقرار الصادق بتجاهلها دروب الربّ ومرضاته؛ ومن جهة مقابلة، ندم واسترحام. بهاتين الوسيلتين، سوف تجد النفس ثانية اللحمة الأولى، التي كانت تصلها بالله؛ وبهما تكتشف محبّته الخاصّة لها، بعد أن تخلّت عنه. أمّا في ما سوى ذلك فليست رحمة الله ظاهرة للعيان. إنّه يحبو على المسكين والخاطئ، وينجد المستغيث والملهوف؛ ولكنه يأنف الظالم، ويعرض عن المتجبّر. ذلك بأنّ النفس التي لا ترى حاجة إلى الاحتماء بالله في ضيقها، لا يمكنها أن ترى فيه ملجأ، ولا تعترف بقدرته. فكيف يمكنها من بعد أن تسأله رحمة؟!

إتّخذ عمل الأرباب اليهود، بعد السبي، طابع الإحياء من الموت، موت الشعب، الذي تغرّب في أرض بابل. وكان عليهم أن يزيلوا ما علق في عاداته، وذهنه، وسلوكه، من كلّ ما رآه لدى قاهريه، ممّا يخالف، بطبيعة الحال، أدبيّات العيش وفق الناموس. لذا، ترجع حركات الشعب الدينيّة المختلفة إلى هذه الحقبة، حقبة ما بعد السبي، كدليل على انتعاش الحياة الروحيّة، وازدهار الغيرة على سنن الآباء. وفي الواقع أنّ بروز العديد من الفرق الدينيّة إلى الساحة نجم من حماسة دينيّة في وسط الشعب، الذي استجاب لنداءات الأرباب والحكماء المتكرّرة، بخصوص التمسّك برحمة الله، القادر على محو الآثام، وإعادة إسرائيل إلى سابق مجده. فالله، الذي اصطفى أبناء الشعب ليكونوا أخصّاءه، هو الذي، بفعل رحمته العظمى، يقدر على إنهاضهم ثانية من كبوتهم، وردّ اعتبارهم إليهم، وبهاء صورتهم الأولى. إنّ رحمته، التي هي صفة ذاتيّة، تظهره كأمّ رؤوم لا تقوى على مشاهدة أبنائها يتخبّطون في حمأة افعالهم، وتحوّط وجهه بعلامات الارتباك والاهتمام التي تعرفها الأمّهات، عندما تدركن أنّ أولادهنّ متورّطون في قضيّة، وأنّهم على وشك الوقوع في شباك الأذيّة. كذلك هو الله الرحيم، فإنّ صورته كأب لا تخلو من طابع الأمومة، من جرّاء رحمته. ولن يجد هذه الصورة التامّة فيه من يفوته أن يتعوّذ به، ويلتجئ إليه كابن.

2ـ الرحمة في نصوص العهد القديم

قد يكون من السذاجة المفرطة أن نضع الرؤية الكتابيّة في تصنيف، في ما يتعلّق بموضوع الرحمة، وكأنّ النصوص تعرّضت للمسألة، على نحو منظّم ومتتابع. ولكنّا إذا آلينا على أ نفسنا أن نجري، على حسب هذه الطريقة هنا، فإنّما استجبنا بالحقيقة لحاجة الإيضاح، من جهة، ولضرورة الاستعراض شبه الجامع، من جهة مقابلة.

2-1 الرحمة صفة ذات في الله

يراد بالقول إنّ الحكمة صفة ذات في الله أنها تدلّ على جوهره، بعكس ما نادت به المعتزلة في الإسلام. فالله، حسب قولنا، رحوم لا عَرَضًا، أي بحسب ظرف، أو حدث من الأحداث، وإنّما هو بجوهره يعمل ما يعمل على وفق الرحمة فيه تعالى. هذا ما نجده، في عدد من نصوص العهد القديم، التي تجعل الرحمة صفة ذات له، ولكنّها تقرنها بصفة ذات أخرى فيه، هي صفة العدل. ففي الآية خر 6:34، ينادي موسى الربّ قائلاً: “الربّ، الربّ! إله رحيم ورؤوف، طويل الأناة، كثير الرحمة والوفاء”، ثمّ يتابع فيقول: “يحفظ الرحمة لألوف، ويحتمل الإثم والمعصية والخطيئة، ولكنّه لا يترك دون عقاب شيئًا…” (7:34). الرؤية هي هي في مز 13:62، حيث الرحمة متاحة لله، يعمل بمقتضاها في الخليقة، ولكنه “يجازي الإنسان بحسب عمله”.

تبدو “الرحمة”، في هذه النصوص وغيرها مثلها (سي 12:16) حديثة العهد، من حيث النظرة اللاهوتيّة. فالكاتب الملهم سرعان ما يستدرك القناعة الراسخة، في شأن الأعمال، التي يقوم بها بنو البشر: لن يُضرَب صفح عنها، بسبب الرحمة الإلهيّة، فتمسي كأنها لم تقع على أيدي فاعليها؛ وإنّما سوف يُنظَر فيها لاحقًا. فالعدل الإلهيّ، إذًا، حسب هذا المنظور الإلهيّ، يسبق الرحمة؛ وهذه، من جهتها، لا تلغيه، وإنّما تعني إعطاء الآثم فرصة، بل فرصتين، كي يصلح ذنبه. إنّها تعني عدم إجراء الحكم عاجلاً على من يستحقّ حكم القضاء، على حسب ما تلهج به الآية مي 18:7: “من هو إله مثلك، حامل للآثام، وصافح عن المعاصي لبقيّة ميراثه، لا يشدّد غضبه للأبد، لأنه يحبّ الرحمة”. 

2-2 شريكات الرحمة الإلهيّة

تصحب، غالبًا، مفاهيم إضافيّة صفة الرحمة، التي يكتنفها الله في ذاته، فتبيّن هكذا ـ ولو جزئيًا ـ وجهًا من وجوه الرحمة عند الله. بل إنّه ليمكن الاتّكال على هذه المفاهيم، لشرح معنى الرحمة، على حسب ما يراه الكاتب الملهم. ففي مز 8:145، يتفرّد لفظ “طول الأناة” في الآية، حيث يبرز بروزًا استخدام “الرحمة”: “الربّ رحيم رؤوف، طويل الأناة، وعظيم الرحمة”. إنّ معنى الرحمة الإلهيّة، حسب الكاتب الملهم، معاناة الله، التي يبديها لنفسه، من جرى الآثام، التي يرتكبها بنو البشر. فهو، سبحانه، لا يفتأ “يتنفّس عميقًا”، لشدّة الضجر، الذي يلحقه به الإنسان، و”يطيل أناته” أيضًا، دلالةً على تحمّله ما لا يحسن في عينيه (أنظر خر 6:34؛ عد 18:14؛ نح 17:9). 

ومن اللائق باللاهوتيّين أن يعيروا انتباههم مواكبة لفظ “المغفرة” للفظ “الرحمة”، في عدد من الآيات. إنّه يدلّ على نقلة نوعيّة، في المنظور اللاهوتيّ للموضوع. وفي الواقع أنّ العبور من “الرحمة وإنّما مع العدل”؛ إلى “الرحمة وإنّما بإزهاق النفس”، فإلى “الرحمة، أي المغفرة”، ليس مجرّد تدرّج لاهوتيّ، في فهم العبرانيّين لعلاقتهم مع الله؛ إنّه يدلّ على قسمات وجه الله، وقد باتت، شيئًا فشيئًا، مضاءة بكشفه عن ذاته. ففي مرحلة أولى، بل تمهيديّة، تسبق مرحلةَ الكشف عن الهويّة، وتدور بالأحرى حول إثبات الوجود، رعى الله الشعب، الذي اختاره بين شعوب الأرض قاطبة، بأحد أصول العلاقة الاجتماعيّة، وهو أصل العدل، حيث ينال كلّ طرف حقّه، الذي يرجع إليه. ثمّ أعقبت هذه المرحلة، التي امتدّت قرونًا، مرحلة تالية، تسرّب فيها، رويدًا رويدًا، مفهوم الرحمة إلى وشائج العلاقة بين الله والإنسان، بعد أن وجد الطرفان عجز البشريّة إجمالاً، والمخلوقات على أنواعها كذلك، عن مراعاة الأصول الواجبة، على نحو ما ينبغي، ولكن من غير تبديل في السنن الأولى. لقد أمكن الإنسان أن يلمس، في هذه المرحلة، تعلّق الله به، وإخلاصه له، رغمًا عن فداحة مآثمه. وعندما راح ابن آدم هذا يغرق في إغاظة الله، فلا يقيم وزنًا لوصاياه، ويتعدّى رسومه، من دون أن يهجر عبادته، أو أن يحتقر تعاليمه، وينبذها، اقترب منه الله بقِسْم أوفر من الرحمة به، إذ بات “يطيل أناته” عليه. ورفع من موجبات العلاقة بينهما فريضة العدل، وأحلّ محلّها فضيلة “الصبر”. فهذا يعني الرغبة في إبقاء العلاقة قائمة بين الله وعبده، مع ما يجني فيها هذا الأخير على قواعدها، من غير أن يتهدّده الأوّل بفسخ لها، أو باعتزاله محبّته. ثمّ تلا ذلك، أخيرًا، وليس آخرًا، حقبة، ذهبت فيها رحمة الله شأوًا بعيدًا، في المحافظة على الإنسان شريكًا في العلاقة، عندما اصطحبت الرحمة الإلهيّة المغفرة معها. إنّ صبر الله على الإنسان لم ينفذ، وإنّما أمسى صبرًا راضيًا بالواقع، ومحتضنًا له.

ففي المزمور 5:85 (1مل 50:8)، ترافق المغفرة الرحمة، أي يصحب التغاضي التامّ عن المعصية رأفة الله بعباده. على هذا المستوى من العلاقة بين الله وشعبه، لا يجد الإنسان حجّة بعدُ حتى يرفض الله، صاحب العهد، فإنّه قد غفر له جميع ذنوبه، وأشاح بوجهه عن حقّه كلّه، في أن يقاضيه، وارتضى الإنسان شريكًا له في الحياة، رغم خياناته المرّة. المغفرة المواكبة للرحمة ترجمة عن تنزّه الله التامّ، في علاقته مع الإنسان، لأنها تبقيه خارج حدود الندّ، وتعليه فوق أيّ فرصة قد تطرأ، يبدو فيها للإنسان أنّه منشئ علاقة مع شبه له في الوجود. لذا، يعبّر هذا الوجه عن ذات الله، القريب من الإنسان، والسحيق في البعد تجاهه.

للرحمة، في نصوص العهد القديم، شريكات أخرى وكثيرة، نورد بعضها بالاسم فقط: الحقّ، البرّ، العهد؛ الرأقة؛ وهي متناثرة في أسفار الحكمة خصوصًا.

2-3 طبيعة الرحمة الإلهيّة

وتضيء بعض نصوص العهد القديم على هويّة هذه الرحمة الإلهيّة، فتبدو تأمّلاً مندهشًا في هذه الحِلية العلويّة، ومدحًا لاستقرارها في الله. ففي المزمور 1:106 (136 بكلّ آياته)، يعلن المترنّم بالآيات أنّ رحمة الربّ تدوم إلى الأبد. هي، إذًا، رحمة متأصّلة في الله، لا بتبرير مؤقّت، وفاعلة على الدوام، لا حاجة فيها إلى حشد للطاقات، أو إلى مؤونة تعوّض عن نقص في زخمها. أضف أنّها لا تنحصر في أمّة، ولو أشاد بعظمتها بنو إسرائيل؛ وإنّما تمتدّ إلى كلّ جيل من أجيال الخلق (مز 9:145). هذه الرحمة الإلهيّة، التي لا تفرّق بين الوجوه، ولا ينقضي لها أجل، ولا يحدّ شيء من فعل قدرتها، العارمة، والمثابرة على نشاطها، هي التي كشف الأنبياء عن حقيقتها للشعب، وامتدحوها أمامهم، وحثّوهم على طلبها.

3ـ الرحمة في نصوص العهد الجديد

ما يمكن ـ بل ما ينبغي ـ لحظه في مسألة الرحمة، عندما نتقصّى عنها في صحائف العهد الجديد، هو أنّها غدت واقعًا من الماضي، يبني عليه كتبة النصوص ما يريدون تبليغه، لا واقعًا يرتجى، كما هي الحال، عند قراءتنا نصوص العهد القديم، وكأني، في هذا الموضوع، أقف بالأمر إزاء مسألة لاهوتيّة، لم تفتأ تطرح ذاتها على المؤلّفين، الذين أوحي إليهم بتدوين الأسفار المقدّسة، ففعلوا على امتداد التاريخ المسمّى خلاصيًّا. إنّ الانتقال إلى نصوص العهد الجديد، للحديث عن الرحمة، ينقل الخطاب كلّه إلى مرحلة تدلّ على أن هذه الأخيرة قد أنجزت!

3-1 الواقع الرسولي والمسيحيّ رحمة من لدن الله

في 2كو 1:4 (1تي 16:1)، ينظر بولس إلى دعوته الخاصّة، عبر منظار الرحمة. إنّه يعتبر أنّ ما حصل عليه كواقع جديد، من قيامه بالتبشير باسم يسوع، في الأوساط غير المؤمنة به، حظوة ليس هو أهلاً لها. قد يخيّل إلينا أنّ ما حمل بولس على اتّخاذ هذا الموقف ناجم عن اختباره الشخصيّ المرير، إذ إنّه قاوم طريق الربّ؛ ولكنّ دراسة متعمّقة لكتابات بولس تبيّن لنا أنّ اختباره الشخصيّ والمرير قد حمله، بالواقع، على اتخاذ هذا الموقف، وإنّما من زاوية الرجل، الذي غلبه المسيح على أمره، لا من جانب انقلابه على مبادئه الأولى. فالمستبدّ، إذًا، ما انقلب وديعًا، إنّما صار إلى حالة الوداعة، بعد أن غُلِب في صميم عقله وقلبه، لا بعد أن جلس إلى نفسه يحاورها، في شأن تبديل محتمل. كذلك بولس؛ لقد أيقن ما في سرّ المسيح من علم، يستطيع به أن يفهم “رحمة” الله العظمى، التي صنعها نحو الشعب اليهوديّ والأمم، منذ القديم! ولمّا نظر إلى نفسه، وقد أقحم إقحامًا في مسيرة الله الخلاصيّة هذه، لم يقوَ على تحمّل الفكرة، حتى عدّ رسالته وتفانيه فعل منّة، أي عطيّة، مجانيًّا، خصّه به الله نفسه. على وفق هذا المعنى، ينظر أيضًا إلى رسالة أونيسيفورس، الرسول في بلاد آسية (2تي 16:1).

ولكنّ الحديث عن الواقع المسيحيّ والرسوليّ يدفعنا إلى النظر إليه كواقع بناء مشيّد على أساس إيمانيّ، ومرتفع على أساس مسلكيّ. فالبناء واحد، ولو تباين قسماه: إنّه كلّه معًا “رحمة” من لدن الله. فالأساس الإيمانيّ هو “رحمة” تجلّت في شخص الربّ يسوع، الذي خلّص العالم بموته وقيامته (تي 5:3؛ راجع رو 9:15)؛ ولولا هذا الأساس لما كان بناء! أمّا قسم البناء، المرتفع على هذا الأساس، والمشيَّد عليه، فذو لمسة مسلكيّة. وفي نظر بولس، هو أيضًا “رحمة” من قبل الله، لأنّه مسلَّم إلى أناس ناقصي الكفاية، قد لا يبرعون دومًا في عملهم. من أجل هذا، يحثّ الرسول أهل كورنثس على أن يتقنوا عمل بنائهم (1كو 10:3ب).

3-2 الدعوة المسيحيّة دعوة إلى الرحمة

هو يسوع من دعا المستمعين إليه، المتتلمذين له، إلى أن يجعلوا من “الرحمة” قوامًا لوجودهم (لو 36:6)؛ وذلك عن ضرورة ! أجل، من الضروريّ أن يغدو المؤمن بيسوع أنّه هو المسيح رحومًا، لأنه يدلّ بذلك على أنّ تجسّد المسيح، موضوع إيمانه، حقيقة. فالمسيح نقل بتجسّده ألوهته إلى الطبيعة البشريّة، من دون أن يفقدها. وتسربل بها في الطبيعة الإلهيّة، التي هو عليها، من دون أن يتأثّر بعجزها، بحيث إنّ “رحمته”، سمةَ ألوهته، صارت، في الطبيعة البشريّة، التي شارك فيها إخوته البشر، جزءًا مكوّنًا، لا بدّ له من أن ينمو فيهم، لبلوغ كمالهم المرتجى. وما دعوة يسوع المؤمنين به إلى أن يكونوا “رحماء” سوى تأكيد منه على تأليهه الطبيعة البشريّة بتجسّده. هذا الواقع الجديد يدلّ على جدّة الرسالة، التي نادى بها يسوع: فهو لم يعمل ما عمله الأنبياء، بل عمل ما دعا إليه هؤلاء، من غير أن ينجزوه؛ عمل ما أعدّوا الناس له. 

إذا كان واقع الإله، المتجسّدِ رحمةً للعالمين، قد صار بالفعل حدثًا، فإنّ واقع الإنسانيّة المتالّهة هو، بالفعل، رسالة ودعوة، لن تدرك البشريّة تمامهما إلاّ في السماء. وذلك بأنّ ممارسة الرحمة، في عالم البشر، متطلّبة مضنية، لا يُتاح العمل بها بسهولة، لكثرة الجهود، التي ينبغي أن تصحبها. في كول 12:3 باقة من هذه الجهود المضنية: “فالبسوا، إذن، أنتم مختاري الله، وقدّيسيه، وأحبّاءه، أحشاء الرحمة، واللطف، والتواضع، والوداعة، والصبر”. لا يورد الرسول هذه الألفاظ كمرادفات للرحمة، بل كمكمّلات لها، كتدابير لا بدّ من التحوّط بها، من أجل التمكّن من “الرحمة”. إنّه يشدّد عليها، في الآية التالية، ثمّ يضيف: “وفوق كلّ شيء، إلبسوا المحبّة”. فحيث لا محبّة، لا رحمة. الرحمة منـزلٌ صاحبُه المحبّة.

على أساس هذه المعطيات، يمكننا فهم إعلان يسوع “الطوبى للرحماء”، في متى 7:5. الطوبى، أي التهنئة والمباركة، هي لأولئك الأشخاص، الذين أمكنهم أن يتشبّهوا بالله وهم على الأرض، وأن يذيعوا عظائم الله، من خلال مَثَل حياتهم. فكما يعلن الإنسان الله مباركًا، كذلك الله يعلن الرحيم مباركًا، لأنّه أمكنه أن يقتدي به. الرحماء، إذًا، مباركون في عالم البشر؛ إنّهم صورة الله على الأرض، إذ يجد الآخرون فيهم صفحًا إلهيًّا عن معاصيهم. فإنّ الله “الكليّ الرحمة”، و”أبا المراحم”، يمدّهم دومًا بدفقات من “رحمته”، حتى يوزّعوها على الأنام، فيُرحَمون وهم الرحماء.

3-3 الرحمة تحيّة يتبادلها المؤمنون

يعود الفضل إلى بولس، في إدراج لفظ “الرحمة”، في عبّ عبارة التحيّة المألوفة بين الناس، عندما يلتقون (1تي 2:1ب؛ 2تي 2:1)؛ ولكنّه يفضّل عليه لفظ “النعمة” (رو 7:1؛ 1كو 3:1 وغيرهما). لسنا نتطلّع هنا إلى الخوض في عبارات التحيّة، التي يفتتح بها بولس رسائله؛ فالمجال لا يسمح بهذا، من جهة، والأبحاث الموضوعة، حول هذه النقطة، موزّعة بين آراء مختلفة، من جهة أخرى. بيد أنّنا نذكّر بوجود اللفظة في عبارات السلام، التي يتبادلها عدد غير قليل، في بعض مجتمعات شرقيّة، إذ يقولون: “السلام عليكم، و”رحمة” الله، وبركاته”. إنّ هذه الصيغة قريبة جدًّا من صيغ بولس، في مطلع كثير من رسائله.

لا شكّ أنّ استحداث بولس هذا الشكل، في إلقاء التحيّة، مستند إلى ظروف عمله الرسوليّ. ففي هذه البيئة الحاضنة، وجدت العبارة طريقها إلى الاستعمال، في رسائله. غير أنّ السؤال، الذي يشغل فكرنا، في هذا الخصوص، يتعلّق لا بطريقة عبور اللفظة إلى التحيّة، وإنّما بفكرة عبورها إليها. إنّ لجوء بولس إلى فكرة “الرحمة”، من أجل إضافتها على سائر المفردات، في قلب التحيّة، يدلّ، بشكل قاطع، على استحواذ الموضوع على فكره. ففي خلده أنّ التحيّة تعبير عن بدء لقاء، وأنّها تتصدّر الكلام، أو النقاش، الذي سوف يدور في أثنائه، كعلامة على تدشين واقع جديد. فالسلام، في قلب عبارة التحيّة، وفي بدء اللقاء، علامة على رغبة من يتبادلون التحيّة في أن يمثّل الواقع، الذي سوف يحدثونه بالتقائهم معًا، وتشاورهم، صبوةَ نفوسهم ومساعيهم. وما غير السلام، بين البشر والجماعات، أمنية يتوق إلى إدراكها الكثيرون؟ كذلك، الرحمة، فهي، في اعتقاد بولس، كما نرى، جلّ ما تتطلّع إليه أنفس المؤمنين بالله. فالركون إلى اللفظة علامة حسيّة على صدق هذا التطلّع، عند كلّ طرف من أطراف اللقاء، وثباته، بحيث إنّ النطق بها يمسي تأكيدًا علنيًّا، من قبل الجميع، بشأن نظرتهم الإيمانيّة. فكما يبغي الجميع أن يسود السلام في العلاقات بين الأفراد، كذلك يبغي الجميع أن يمنّ الله عليهم برحمته، لئلا يغلب فيهم السوء، أو يتسلّط على عقولهم التجبّر.

الرحمة، كما قلنا، صفة من صفات الذات الإلهيّة. إنّها تعكس للمخلوق موقعه من هذه الذات السُّميا، وموضعه بالنسبة إليها، لا في زمن الوجود وحسب، بل في زمن الوجود الإلهيّ أيضًا. وتفيد المخلوق أيضًا، ليقيس بمقياسها قربه من الله، أو بعده عنه؛ لأنها، كعلامة ألوهيّة، تُظهِر ما في أعمال الإنسان من إيمان حقّ بالله، خالق البرايا بأسرها. ولكنّ دورها يتمثّل في بثّها خصوصًا، في قلب الإنسان، فكر الله. فإنّ كلّ فكر يأخذ به الإنسان، لو خلا من مسحة الرحمة خلا، بالقدر نفسه، من فكر الله، حتى لو أتى عن وحي. إنّه لفكر بشريّ، لو تبدّى على مثل هذا النحو، بلا مراء. وعليه، فالبحث عن الوحي خليق به أن يتقصّى عن رحمة الله، في  الكتب المقدّسة، كي يصل إلى استجلاء وحي الله للإنسان، بشأن عظمته، ووجوده، وتدبيره، وسرّه. فإنّ “رحمة” الله قد ملأت الكون، والتاريخ، والإنسان، عجبًا، حتى إنّها تُعَدّ، بحقّ، خير هبة، يستطيع الإنسان أن يفيد منها في علاقته مع الخالق.


[1] مدير معهد القديس بولس – حريصا

Scroll to Top