Almanara Magazine

الإعلامُ الكنسيُّ بينَ الأمسِ واليوم. الأب فادي تابت م.ل

  1. توطئة

سَنحاوِلُ من خلال هذا الكُتيِّبِ مقاربةَ موضوعِ الإعلامِ الكنسيِّ من خلالِ مَسارٍ تاريخيٍّ طويلٍ، أيْ منذُ نشأتِهِ إلى يومنا هذا.

وعلى الرّغم مْنْ أنّنا سَنُرَكّزُ على الحقبةِ الممتدَّةِ من المجمَعِ الفاتيكانيِّ الثاني، أيْ من بداياتِ النِّصْفِ الثاني منَ القرنِ الماضي حتّى بدايةِ العقدِ الثالثِ من القرنِ الحاليِّ، هذهِ المساحةِ الزمنيّةِ التي شَهَدَتْ انطلاقَةَ الإعلامِ الكنسيّ من خلالِ وثائقَ رسميَّةٍ مكتوبةٍ، والتي يظهَرُ فيها تنامي هذا المفهومِ وتطوُّرهُ مع تطوّرِ وسائلِ الإعلام وتنوُّعِها وكثافةِ أنتشارِها، فإنّنا سَنَسْتَعْرِضُ بإختصارٍ شديدٍ مسارَ الإعلامِ  المسيحيّ الّذي بدأهُ السيّدُ المسيحُ، ولو بأسلوبٍ مُخْتَلِفٍ، ثُمَّ اسْتَكْمَلَهُ الرُّسُلُ والمُبَشّرون والوعّاظُ والكنيسةُ على امتدادِ نحوِ ألفَي سنةٍ بأنماطٍ  وطرائقَ متعدِّدةٍ حتى جاءَ المجمعُ الفاتيكانيُّ الثاني ليطرَحَ المسألةَ بقالَبٍ جديدٍ يُزاوِجُ ويمزِجُ ما بين الروحانيِّةِ المسيحيِّةِ والأَهدافِ الكنسيَّةِ، وحاجاتِ الإنسانِ المسيحيِّ المُعاصِر، وَبِنَظْرةٍ مستقبليّةٍ منبثقةٍ من حاضرٍ يَشْهَدُ تغيّراتٍ متسارِعَةً وتطوّرًا مذهِلاً يُحتِّمُ على الكنْيسَةِ مواكبتَهُ لكي تُؤمّنَ عمليّةَ التواصُلِ في ما بين الكيانِ الكنسيّ والناسِ، أينما وُجِدوا في هذا العالَمِ، وهذا ما عَكسَ وعيَ آباءِ الكنيسةِ الذي تجلَّى بوضوحٍ في توصياتِ الفاتيكاني الثاني الخاصَّةِ بالشأنِ الإعلاميّ، هذا الوعيُ المتزايِدُ الذي لا زِلْنا نَشهَدُهُ في رسائلِ الباباواتِ التي تُنشَرُ سنويًّا في اليومِ العالميِّ لوسائلِ الإعلامِ، وَتَحْديدًا في ذِكرى القدِّيسِ فرنسوا دي سال. كما ليسَ خافيًا عَدَدُ المؤتمراتِ التي عُقِدَتْ وَتُعْقَدُ دوريًّا، وفي أكثرَ مِنْ بَلَدٍ حولَ مسألةِ الإعلامِ المسيحيّ ِووسائِلِه ومضامينهِ، ومؤخّرًا حولَ كيفيّةِ استفادتهِ من التكنولوجيا، بما فيها الإنترنت وما يرتبِطُ بها من تطبيقاتٍ ومواقِعِ تواصُلٍ، ناهيكَ عَنِ المسموعِ والمرئيِّ والمكتوبِ مِنْ إذاعاتٍ وشاشاتِ تلفزة ٍوَجَرائدَ وَمَجَّلاتٍ وَمَطْبوعاتٍ …

خلاصة القَوْلِ، إنَّ الكنيسةَ لَيْستْ في غُربةٍ عنِ الإعلامِ، بلْ على العكسِ، تجِدُ نَفْسَها اليومَ واكثرَ من أيِّ وَقْتٍ مضى، مَدْعُوَّةً إلى تطويرِ إعلامِها الخاصِّ ليحمِلَ البشارَةَ إلى الدُّنيا، وليتصدَّى لكلِّ ما يدعو الى الشرِّ والإساءِة الى القِيَمِ، وليوطِّدَ دعائِمَ كنيسةِ المسيحِ.

 

  1. ما هِيَّةُ الإعلامِ بالمطلق

لمحةٌ تاريخيَّةٌ

لصياغَةِ توسيعِ هذا العنوانِ المُركَّبِ مِنْ جُزأيْنِ، أعودُ إلى محاضراتٍ جامعيّةٍ كنتُ قَد أَلْقَيْتُها على طلاّبي، وأضأتُ فيها على موضوعِ الإعلامِ المسيحيِّ بدءًا مِنْ شرحِ مَعْنى كلمةِ “إعلام”. إنَّ كلمةَ إعلام مُشْتَقَّةٌ من الفِعْلِ “عَلِمَ” الذي مِنْ مَزيداتِه: عَلَّمَ، أَعْلَمَ، اسْتعْلَمَ، تَعَلَّمَ إلخ…

وفي كُلِّ الأَحوالِ، ولكي يَتِمَّ المقصودُ من اللفظةِ المستخدمةِ، يجبُ أن يكونَ هناك اثنانِ على الأَقَلِّ: واحِدٌ يُعْلِمُ وآخَرُ يُعْلَمُ، وما بَيْنهما هناك معلومةٌ، وقد تطوّرتْ هذه الثلاثيَّةُ لِتصبحَ على الشكلِ الآتي: مُرسِلٌ، مُرْسَلَةٌ ومرسَلٌ إليه.

وإذا حاوَلْنا أَنْ نُسْقِطَ هذه الثلاثيَّةَ على زَمنِ المسيحِ، يتبيَّنُ لنا أَنَّ المسيحَ كانَ المُرسِلَ فيما تلاميذهُ والجموعُ كانوا المرسَلَ إليهم، وفيما كلماتُهُ وأقوالُه، الشفهيَّةُ طبعًا، كانتْ هي المرسَلَةَ أو المَرسَلاتِ، ولا تفوتُنا الإشارةُ إلى أنهُ في البَدْءِ “كان الكلمةُ”… وإلى أّنَّ السيِّدَ المسيحَ كانَ معلِّمًا بل “المُعلِّمُ”، وبنتيجةِ الإشتقاقِ أعلاهُ، يكونُ هو الإعلاميَّ الأوِّلَ والمُبَشِّرَ الأوّلُ والكارِزَ الأوّلَ أيضًا، ليأتيَ بَعْدَهُ بولَسُ الرسولُ ثمَّ سائرُ الرُّسُلِ الذين بَشّروا وكرزوا وشَهدوا وأخبروا.

ولمّا كان الإعلامُ يعني نَقْلَ معلومةٍ “مِنْ” أو “عَن” إلى آخرَ أو آخرينَ، فإنَّ الإنجيليينَ الأربعةَ: متّى ومرقسَ ولوقا ويوحنا، هُمْ أيضا إعلامِيّونَ بل أوائلُ الإعلاميينَ الذين استخدموا الإعلامَ المكتوبَ لينقُلوا إلينا أخبارَ السيَّدِ المسيحِ، مستخدمينَ الذاكرةَ وليسَ النقْلَ المباشِرَ.

وعليهِ، يكون الإعلامُ المسيحيُّ قديمًا قِدَمَ التاريخِ المسيحيِّ، ولا شكَّ في أَنَّ الإعلامييّنَ المسيحيينَ الأوائلَ واللَّاحِقينَ قد أسْهَموا بقوَّةٍ في نَشْرِ المسيحيَّةِ بين الشعوبِ، وقد كَلَّفَهُم ذاكَ النَّشْرُ البشريُّ جُهدًا كبيرًا وتعَبًا جسديًا مُرْهِقًا، كما عَرّضَهُم للمخاطرِ والويلاتِ، وذلك بِفِعلِ انعدامِ وسائِلِ الإعلام، التي لم يَتوافَرْ منها آنذاك سوى الكتابةِ المسهَّلةِ المستخدَمَةِ لصياغَةِ بعضِ الرسائل التي كان وصولُها يستغرِقُ إلى المرسَلِ إليهِم أسابيعَ، وَرُبّما أشهرًا أحيانًا.

وقد كان الاعتمادُ على السَّفرِ والترحالِ سيرًا على الأقدامِ أو على متنِ زوارقَ خَشبيّةٍ صغيرةٍ، وفي أحْسَنِ الأحوالِ على ظَهرِ مركوبٍ، وذلك لتحقيقِ إعلامٍ مباشرٍ من خلالِ حضورِ المرسِلِ المُبشِّرَ جسديًا / شخصيًا، غير أنّ عمقَ الإيمانِ والإصرارَ على إيصالِ البُشرى إلى كلِّ مكانٍ، أَمَدَّا المُرسلينَ المُبشّرينَ بالصلابةِ وقوّةِ الإرادةِ حتّى تمكّنوا من إتمام وصيَّةِ المسيح: “اذهبوا الى العَالمِ أَجْمَع واكرزوا بالإنجيل للخليقةِ كُلِّها” (مر 16/15).

وعودًا على بَدْءٍ، فإنَّ الإعلامَ المسيحيَّ بالمفهومِ الذي أشَرْنا إليه، استمرَّ عَبْرَ سنينَ طويلةٍ، مرّةً في العَلَن ومرَّةً في السرِّ، ولطالما واجَهَ صعوباتٍ وَعَقباتٍ  وعمليّاتِ مَنْعٍ وَقَمعٍ، وكلَّفَّ ما كَلَّفَ من تضحياتٍ نابعةٍ من إيمانٍ عميقٍ بتوصياتِ المُعلّمِ السّيِّدِ يسوعَ المسيحِ، الذي كان عالِمًا مُسْبقًا بما يَنتظِرُ كنيستَهُ من مِحَنٍ، لذا تعمَّدَ اختيارَ بطرسَ صخرةً يبني عليها بيعتَهُ، وَعَمَليَّةُ البناءِ لن تكونَ إلاّ بجُهْدٍ وَتَعَبٍ وتضحياتٍ، ولعلَّ الجحيمَ ستحاوِلُ الاستقواءَ عليها، لكّنَّها لن تقوى ولنْ تستَطيعَ… وليسَتْ خافيةً على أحَدٍ كُلُّ محاولاتِ الإضطهادِ التي تعرّضَتْ لها الكنيسةُ على مَرِّ العصورِ، الأمْرُ الذي جَعَلَ التبّشيرَ مُغْامَرةً خَطِرَةً ،ما أدَّى إلى تراجُع حَرَكَتهِ، حَتّى إنَّ الشهادّة العلنيَّةَ للمسيحِ انحسَرَتْ مقابِلَ انتشارٍ قويٍّ وسريعٍ للإسلامِ مِثلاً، وبموازاةٍ تزايُدٍ مُذْهِلٍ لمعتنقي الديانةِ البوذيَّةِ وسواها من الدياناتِ المنتشرةِ بِكثافةٍ في الصينِ والهندِ مثلاً ،وفي العديدِ من بلدانِ الشرقِ الأَقصى. وَلَعَلَّ آباءَ الكنيسةِ قد تساءَلوا في مطلعِ النِّصفِ الثاني من القرنِ العشرينَ حولَ مسألَةِ محدوديَّةِ انتشارِ المسيحيَّةِ بحيثُ صار مُلْفِتًا، ورُبّما خطيرًا أَنْ يكون بعدَ مرورِ نحو ألفي عامَ على مجيءِ المسيح، نصفُ البشريَّةِ وأكثرُ غيرَ مسيحيٍّ ورّبما لَمْ يَعْرِفِ المسيحَ…

من هُنا بدا اهتمامُهم بالإعلام واضحًا كوسيلةٍ بديلةٍ، عصريَّةٍ وسريعةٍ لِنَشْرِ المسيحيَّةِ، كيف لا وقد تحوَّلَ هذا الإعلامُ أَقوى سُلطةٍ فاعلةٍ ومؤثّرةٍ على الفِكْرِ الإنسانيّ، ما حدا أباءَ الكنيسةِ الى ان يُشدِّدوا على هذا الأمرِ بمنحاه الإيجابيِّ.

ولا شَكَ في أنَّ اهتمامَ الكنيسةِ بالإعلامِ ووسائلهِ، أَدخلَها في حَرْبٍ صامتةٍ معَ الإعلامِ السياسيِّ والإعلامِ التجاريِّ، والإعلامِ الطّائفيِّ والإعلامِ الفاسِدِ المُدَمِّرِ، من هُنا، كانَ استخدامُها للإعلامِ خَجولاً، بطيئًا ومحدودًا حتّى في أماكنِ انتشارِ المسيحيَّةِ، ولا نَغْفَلُ حَجْبَ كُلِّ إعلامٍ مسيحيٍّ في عددٍ كبيرٍ من البُلدانِ ذاتِ الطابِعَ غيرِ المسيحيِّ، حجبًا كُلِيًّا أو جُزئيًا، وهل بينَنا منْ لا يعرفُ الكثيرَ أو القليلَ عن أعداءِ المسيحيَّةِ ومُناهضيها؟!

  • الإعلامُ في الكنيسةِ ما قبلَ المَجمعِ الفاتيكاني الثاني، وتحديدًا في العقودِ الأولى من القرنِ الماضي

عندما نقولُ: الإعلامُ الكنسيُّ ما قبلَ المجمَعِ الفاتيكانيِّ الثاني، فإنّنا نكونُ في صَدَدِ الإضاءَةِ على أولى الرّسائِل الباباويَّةِ، وتحديدًا على رسالةِ البابا بيوسَ الحادي عَشَرَ، “Maximan Gravissimamque” التي ترجمتها “الأعظم والأشدُّ خطورة” أو “الأمر الجلل والخطير للغاية”.[1] التي وجَّهَهَا في 17 سبتمبر من العام 1923 إلى مُديري الصحفِ الكاثوليكيّةِ، تزامُنًا مَعَ سَعْيِ الكنيسةِ إلى تعزيزِ دورِ الإعلامِ الكاثوليكيِّ في مواجهةِ التحدّياتِ الفِكريّةِ والإجتماعيّةِ التي كانتْ قد أَخذتْ بالتفاقُمِ والإنتشارِ، توازيًا معَ تفشّي العديدِ من الأفكارِ العِلمانيّةِ والطروحاتِ الإلحاديَّةِ التي بدأتْ تُضْفي أَجواءً من القَلَقِ والخوفِ من دونِ وعيِ حقيقةِ أبعادِها ومخاطِرها.

 

الصحافة المكتوبة

وتجدرُ الإشارةُ إلى كلمةِ “صُحف” باعتبار ِأَنَّ الإعلامَ كانَ بِمُعْظَمِهِ آنَذاك يَقْتَصِرُ على الصَّحافةِ المكتوبَةِ، التي كانت وسيلةً رئيسةً لِنقلِ المعلوماتِ وتشكيلِ الرأيِ العامِّ، وَلَعِبَتْ دورًا مِحوَريًّا في نَشرِ القِيَم المسيحيَّةِ والدفاعِ عن العقيدَةِ الكاثوليكيَّةِ في وَجْهِ التحدّياتِ الفِكريَّةِ والاجتماعيَّةِ التي أشَرْنا إِليها سابقًا.

وَقَدْ حَمَّلَ صاحِبُ الرسالةِ الصّحافةَ الكاثوليكيَّةَ والصحفيّينَ العديدَ من المسؤوليّاتِ كضرورةِ نقلِ الأخبار ِبمصداقيَّةٍ وشفافيَّةٍ وتَجَنُّبِ التشويهِ، والإلتزامِ بالقِيَمِ الدينيَّةِ والأخلاقيَّةِ العاليةِ وتوجيهِ القرّاءِ نَحْوَها، وكتابَةِ ما يُعزِّزُ الإيمانَ المسيحيَّ، ويتصدَّى للدعايةِ المُغرِضةِ التي تهدِفُ إلى تقويضِ تلك القِيَم.

إنطلاقة للإعلام المسيحي

وإذا شِئْنا أَنْ نَفْهَمَ كيفَ أَنَّ هذه الرسالة “Maximan Gravissimamque” شكَّلَتْ انطلاقةً أولى للإعلامِ المسيحيِّ الكاثوليكيِّ الفِعْليِّ، وخارطةَ طريقٍ لِتَطوُّرِهِ وتناميهِ، فحريٌ بنا التوقُّفُ عندَ أبرزِ أفكارِها ومضامينها وتوصياتِها، آخذينَ بالإعتبارِ أَنَّ هذه الرسالةَ صَدَرَت قَبْلَ نحوِ مئةِ عامٍ من يومِنا هذا.

فهذِهِ الرسالةُ رَكَّزتْ على مجموعَةِ نِقاطٍ أساسيَّةٍ لَمْ تُطْرَحْ من ذي قبلٍ، حيْثُ دعا كاتِبُها إلى تعزيزِ التعاونِ بينَ الصُّحُفِ الكاثوليكيَّةِ لتوحيدِ الجهودِ في مواجهةِ التحدياتِ المشتركةِ، والى الإلتزامِ برسالتِها في نشرِ القِيَم المسيحيَّةِ وتعزيزِ الأخلاقِ في المجتمَع، بعدَ توفيرِ التدريبِ اللّازِمِ للصحافيين الكاثوليك على القِيَمِ الأَخلاقيَّةِ والمِهنيَّةِ العاليةِ لضمانِ جودَةِ المستوى الإعلاميّ.

ولَعَلَّ من أبرزِ ما جاءَ في الرسالةِ هو التأكيدُ على أهمِيَّةِ دَعْمِ الكنيسَةِ للصحافةِ الكاثوليكيَّةِ من خلالِ توفيرِ المواردِ والإرشادِ.

وتبقى أَهميَّةُ هذهِ الرسالةِ في كَوْنِها قَدَّمَتْ إطارًا شاملاً لدورِ الصحافةِ الكاثوليكيَّةِ في نَشْرِ القِيَمِ المسيحيَّةِ والدِّفاع عن العقيدةِ، وفي كونِها أَثَّرتْ على تطويرِ سياساتِ الإعلامِ الكاثوليكيِّ، حيثُ دَفَعَتْ إلى إنشاءِ مؤسّساتٍ صحفيَّةٍ جديدةٍ والى تطويرِ المؤسّساتِ القائمة.

العملُ بتوصياتِ الرسالةِ

بالفِعل، فَقَدْ عُمِلَ بتوصياتِ الرسالةِ، بحيثُ شَهَدتِ الصحافةُ الكاثوليكيَّةُ بعدَ صدورِها نشاطًا متزايدًا، وتحديدًا في نَشرِ القِيَمِ المسيحيَّةِ والتصدِّي للأفكارِ المُفرِطةِ، كما تَمَّ تأسيسُ معاهِدِ تدريبٍ للصحافيينَ الكاثوليك لتعليمهِم القِيَمَ الأخلاقيّةَ والمهنيَّةَ، ما ساهَمَ في رَفْعِ مستوى الصحافةِ الكاثوليكيةِ.

وعليه، تكونُ هذهِ الرسالةُ قد شكَّلَتْ وثيقةً محوريةً في تاريخِ الإعلامِ الكاثوليكيِّ، خصوصًا لجهةِ تأثيرِها على السياساتِ الإعلاميةِ في الفتراتِ اللاحقةِ.

وإذا كانتْ مجموعةٌ من الكلماتِ المفاتيحِ قد ورَدَتْ في هذهِ الرسالةِ قبلَ مئةِ عامٍ ككلمةِ:” قيم، تطوير، تدريب، نشر، تصدٍّ، تعليم، تعاون”

فإنّنا نَسْألُ سؤالينِ اثنينِ:

أولاً: هل لا زَالتْ مفاعيلُ وأبعادُ هذه الكلمات والعباراتِ ساريةً إلى يومِنا في إعلامِنا الكاثوليكيّ؟

ثانيًا: هل تطوَّرَ إعلامُنا الكاثوليكي فِعْلاً بعدَ مئةِ عامٍ، وتحديدًا على مستوى مضمونهِ، تماشيًا مع تطوُّرِهِ على المستوى التقنيّ؟

ولَعَلَّ ما وَرَدَ في رسائلِ الباباواتِ المُتتالِيَةِ، وما نشْهَدُ عليهِ ونشاهِدُهُ ونسمَعُهُ ونعيشُهُ اليومَ، يُجيْبُ عن تساؤلاتِنا من خلال تَتبُّعِنا لهذا التطوُّرِ عِبْرَ الوقائِعِ والوثائِق والواقِع.

  1. الجديدُ في الإعلامِ المسيحيِّ الكاثوليكيِّ بعد سَبْعِ سنوات

بينَ 1923 و1930 سَبْعُ سَنواتٍ شَهَدتْ تطوُّرًا ملحوظًا في صناعةِ السّينما وإنتاجِ الأفلامِ التي شَكَّلَتْ وسيلةً إعلاميّةً جديدةً وبالغةَ الأهمِيَّةِ والتأثير، خصوصًا على الفئةِ العُمريَّةِ الشبابيَّةِ التي أَقبَلَتْ عليها بِقُوَّةٍ.

هذه الإنطلاقةُ السّينمائيَّةُ حَتَّمَتْ تَطوُّرًا موازيًا مقابلاً في الإعلامِ الكنسيِّ، فكانَ أَنْ سَارَعَ البابا بيوسُ الحادي عَشَرَ إلى إِصدارِ رسالةٍ وَجَّهها في 31 كانون الأوّل “Casti Connubii” وما ترجمتُها “العفافُ في الزواجِ” أو “الزواجُ العفيفُ”، تؤكّدُ الرسالةُ على:

  • قداسةِ الزواجِ واعتبارهِ سرًّا من أسرارِ الكنيسةِ.
  • تُشدّدُ على وحدةِ الزواجِ وعدمِ قابليّةِ فَسْخِهِ.
  • تدينُ وسائلَ مَنْعِ الحَمْلِ الاصطناعيّةَ التي بدأتْ تُطْرَحُ في ذلك العصر.
  • تدعو الى العيشِ العفيفِ ضمنَ الزواجِ ورفضِ أي انحرافاتٍ أخلاقيّةٍ فيه.
  • تُشَجِّعُ على تربيةِ الأولادِ تربيةً مسيحيّةً صحيحة.
  • رغمَ أنَّ موضوع الرسالةِ الأساسَ هو الزواجُ إلّا أنَّ البابا ينتقِدُ فيها بشكلٍ مباشِرٍ الإعلامَ الذي يروِّجُ للأفكارِ المنافيةِ للعفّةِ كالإنحلالِ الأخلاقيِّ في الصحافةِ والمسرحِ والسينما، لذا تُعتَبَرُ ذاتَ صلةٍ برؤيةِ الكنيسةِ للإعلامِ الأخلاقيّ.
  • وجّه البابا الرسالة إلى رؤساءِ الأساقِفَةِ والأساقفةِ في روما، وقد ضَمَّنَها موقِفًا توجيهيًّا لضمانِ استخدامِ هذه الوسيلةِ بشكلٍ يتماشى معَ القِيَمِ المسيحيةِ، للحدِّ من قلقِ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ المتزايدِ حولَ تأثيرِ هذهِ الوسيلةِ الإعلاميّةِ الجديدةِ على القِيَمِ الأخلاقيَّةِ التي من قَدْ تَتَزَعزَعُ أو تَضيعُ، إذا لم تُجْبَهُ بتأثيراتٍ عكسيّةٍ نابعةٍ من توجيهاتٍ توعويَّةٍ إِيجابيَّةٍ، ذلك أنَ الكنيسةَ ليسَتْ ضدَّ السينما بالمطلقِ، إنما هي مدعوَّةٌ إلى الوقوفِ في وجهِ السينما المُدَمِّرةِ للقيمِ الأخلاقيّةِ.

حماية الشباب

وهذا التصدّي الإيجابيُّ لتأثيراتِ الأفلامِ السينمائيَّةِ على الرأي العامِّ وفي تشكيلِ الثقافاتِ الشعبيَّةِ، استدعى من الكنيسةِ تطوّرًا في التوجيهاتِ الإعلاميَّةِ لحمايةِ الشبابِ من المحتوياتِ السينمائيَّةِ غيرِ المُناسِبَةِ، كالترويجِ للعُنفِ او السلوكِ غيرِ الأخلاقيِّ على الإعلام الكاثوليكيِّ. ولهذهِ الغايَةِ، اعْتَبرَ البابا في رسالتهِ أَنَّ الأفلامَ يمكِنُ أن تكون أداةً تعليميَّةً قويَّةً، لذا أوْعَزَ إلى القيِّمين بضرورة تحمُّلِ المسؤولية الى جانب مسؤوليَّةِ الكنيسةِ عبرَ توجيهِ المؤمنينَ إلى اختيارِ الأفلامِ التي تتماشى مَعَ القِيَمِ المسيحيَّةِ.

ولم يكتَفِ بهذا الطلبَ، بل دعا إلى تعاونٍ مُسْتَمِرٍّ بينَ الكنيسةِ والمجتمعِ المدنيِّ لضمانِ أنْ تكونَ السينما وسيلةً لنشرِ القِيَمِ الأخلاقيّةِ وتعزيزِ الخيرِ العامّ.

هذا، ولم تَغْفَلِ الرسالةُ دورَ الأسرةِ في مراقبةِ ومناقشةِ المحتوى السينمائيِّ الذي يشاهدهُ أبناؤها.

ولعَلَّ الأهَمَّ هو تشديدُ البابا صاحبِ الرسالةِ على ضرورةِ وجودِ رقابةٍ أخلاقيَّةٍ على الأفلامِ.

العمل بتوصيات الرسالة

بالفعلِ، وفي إثْرِ صدورِ هذه ِالرسالةِ، شَهدَ الإعلامُ الكنَسيُّ تطوُّرًا ملحوظًا على غير ِمستوى واتجاهٍ ومجالٍ، فقد تمَّ، ولأوَّلِّ مرَّةٍ، تأسيسُ لجانِ رقابةٍ سينمائيَّةٍ في العديدِ من الدُّوَلِ لتكونَ مسؤولةً عن مراجَعَةِ الافلامِ من منظورٍ أخلاقيٍّ ودينيٍّ.

ثم تمَّ تشجيعُ صُنّاعِ الأفلامِ على تجنُّبِ المحتوياتِ الضَّارَّةِ بالأخلاقِ العامَّةِ، كما بدا استخدامُ الأفلامِ كأداةٍ تعليميّةٍ في المدارِسِ الكاثوليكيّةِ لتعزيزِ التعليمِ الأخلاقيِّ والدينيِّ بينَ الطلاّب.

إلى هذا، تَمَّ تعزيز ُالتعاونِ بين الكنيسةِ والسُّلطاتِ المدنيَّةِ لضمانِ تنفيذِ سياسياتٍ رَقابيَّةٍ فعّالةٍ على الأفلامِ.

خلاصةُ القولِ، وَعَوْدًا على بدءٍ، فإنَّ السنواتِ السبعَ الواقعةَ ما بين 1923 و1930 شَهدت بداياتٍ ملحوظةً لمسار ِالتطوُّرِ في الإعلامِ الكاثوليكيِّ، ووضعَتْهُ على خطِّ التحدّياتِ والتنافساتِ الإعلاميَّةِ، لا سعيًا إلى أرباحٍ ماديَّةٍ بل الى ضمانِ أمنِ القِيَمِ والأخلاقِ ليس إلاّ.

 

  1. لماذا الرسالةُ البابويَّةُ الـ ”Vigilanti cura”وما ارتباطُها بالتطوُّرِ الإعلاميِّ، المسيحيِّ تحديدًا؟

ليْسَتْ خافيةً على أحَدٍ البصماتُ النّاصِعَةُ التي طبَعَتْ بابويَّةَ بيوسَ الحادي عَشَرَ التي امْتَدَّتْ من العام 1922 حتى وفاته في العام 1939، وإلى جانبِ إنجازاتهِ الكنسيَّةِ العديدةِ التي زيَّنتِ العقودَ الاولى من القرنِ العِشرينَ، تبقى رسائلُهُ الثلاثُ ذاتُ الصّلةِ بالإعلامِ شاهِدَةً على أَنَّه أَبو الإعلامِ المسيحيِّ، فإذا كانَتْ رسالتهُ الأولى “Maximam Gravissimamque” إلى مديري الصُّحُفِ الكاثوليكيَّةِ الصادرةُ في 17 سبتمبر 1923 قد فتحَتِ الباب على ضرورةِ نَشْرِ القِيَمِ المسيحيَّةِ والأخلاقيَّةِ، وقد استتبِعَتْ برسالتهِ الثانيةِ “Casti Cannubii” في الحادي والثلاثين من كانون الأوّل 1930 إلى رؤساءِ الأساقفةِ والأساقفةِ، والتي تولّدَتْ من قلقهِ المتزايدِ على القيمِ المسيحيَّةِ والأخلاقِ التي باتتْ مهدَّدةً بفعلِ انتشارِ الأفلامِ السينمائيةِ بقوةٍ، ومدى تأثيرِها على الفئاتِ الشبابيَّةِ، فإنَّ هذه الرسالةَ شَكَّلَتْ محطَّةً أساسيَّة ومِفْصليَّةً عَكَسَتْ وعيَ الكنيسةِ خطورةَ الوسيلةِ الإعلاميّةِ الجديدةِ اي السينما، وحتّمَتِ القيامَ بإعلامٍ كنَسيٍّ قادِرٍ على توجيهِ المؤمنين وبخاصَّةٍ الشبابَ إلى الخطِّ القِيَمِّي الاخلاقيّ السليم، من خلالِ اختيارِ أفلامِهم، وَقَدْ سَعَت، بالتعاونِ معَ المجتمَعِ المدنيِّ، إلى تأسيسِ لجانٍ رَقابيَّةٍ جَعَلَتْ منتجي الأفلامِ يلجؤون إلى صناعةٍ سينمائيَّةٍ تعليميَّةٍ، راقيةٍ ومراعيةٍ للأدبيّاتِ القِيميَّةِ والخُلقيَّةِ.

”Vigilanti cura”

إنَّ رسالتَهُ المعروفَةَ بِـ Vigilanti cura” وما ترجمتها “بعناية يقظة” أو “بعناية ساهرة” والّتي هي ثالِثُ وآخِرُ رسائله المرتبطةِ بالإعلامِ المسيحيِّ،

  • تؤكّدُ على قوّةِ تأثيرِ السينما في العقولِ والقلوبِ خاصةً لدى الشباب.
  • تشدِّد على ضرورةِ توجيهِ الإنتاجِ السينمائيِّ لكي يكون أخلاقيًا وتربويًا.
  • تدعو الى إنشاءِ هيئاتٍ رقابيّةٍ كاثوليكيّةٍ (Legion of Decency) لمتابعة محتوى الأفلام.
  • تحثُّ المؤمنين على تجنُّبِ مشاهدةِ الأفلامِ غيرِ الأخلاقيّةِ والمُفسِدَة.

جاءَتْ في العام 1936 الذي سَبَقَ وفاتَه في العام 1937، قد اكَّدَتْ على ما كانَ قد أعْلَنَهُ في العام 1923 والعام 1930، وذلك من خلالِ توسِعَةٍ للأفكارِ والتّوصياتِ الَّتي كان قَدْ أَوْرَدَها سابقًا، حتّى إِنَّها اعْتُبِرَتْ واحِدةً مِنْ أَهَمِّ الوثائقِ الكنسيَّةِ التي تناوَلَتْ موضوعَ الرَّقابةِ على الأفلامِ السينمائيَّةِ، وقد أظْهَرَت إهتمامَ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ الدائِمَ بوسائلِ الإعلامِ وتأثيرِها على القِيَمِ الأخلاقيَّةِ.

وتجدُرُ الإشارةُ إلى أنَّ هذهِ الرسالةَ جاءَتْ استجابةً للقَلَقِ المتزايدِ بشأنِ تأثيرِ الأفلامِ على الأخلاقِ العامَّةِ، خصوصًا أخلاقَ العنصرِ الشبابيِّ.

هذا القَلَقُ الذي ازدادَ مع ازديادِ التحضُّر ِوالتقدُّمِ التكنولوجيِّ، وانتشارِ وسائلِ الإعلامِ الجديدةِ، ومنَ بينها الأفلامُ التي أصْبَحَتْ جزءًا من الحياةِ اليوميَّةِ لكثيرينَ، ما جَعَل تأثيرَها في المجتَمَعِ هائلاً، كلُّ ذلكَ في فترةِ الثلاثينيّاتِ من القرنِ الماضي التي تُعْتَبَرُ وقتًا حسّاسًا من تاريخ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ والعالَمِ بصورةٍ عامَّةٍ، حيْثُ رأتِ الكنيسَةُ نفسَها في مواجهةِ التحديّاتِ الأخلاقيّةِ المتزايدةِ بفعلِ ازدهار ِصناعةِ السينما.

خطورة هذا التطوّر

لأنَّ البابا بيوسَ الحاديَ عشَرَ أدْرَكَ خطورةَ هذا التطوُّرِ الإعلاميِّ على القِيَمِ المسيحيَّةِ والأَخْلاقِ وقدِ اعترفَ بهذا في مطلَعِ رسالتهِ، وعبَّرَ عن قَلَقِهِ من أنَّ الأفلامَ السينمائيَّةَ قد تنشُرُ محتوياتٍ غيرَ أخلاقيَّةِ، لذا شَدَّدَ على ضرورةِ وجودِ رقابةٍ أخلاقيّةِ لحمايةِ المجتمعِ. وكما في الرسالتينِ السابقتينِ، فقد دعا إلى إِنتاجِ أفلامٍ تُعَزِّزُ الفضائِلَ والأخلاقَ الحميدةَ، وَتُعَلّمُ الناسَ عن الدينِ والأخلاقِ، وشدَّد على أهميَّةِ تقديمِ ارشاداتٍ واضحةٍ حولَ الأفلامِ التي تتماشى مع القِيَم المسيحيَّةِ، وتلكَ التي تنشُرُ الخيرَ والفضيلةَ في المجتمَعِ.

والجديدُ في الـ ” Vigilanti cura” هو تشْديدُ البابا على أنّ الرقابةَ ليسَتْ مَهمَّةً مؤقتةً بل هي مسؤوليَّةٌ دائمةٌ لِنشرِ القِيم الإنسانيّةِ وتعزيز الخير ِالعامِ. وبالفِعل، فإنَّ دولاً كبيرةً كالولاياتِ المتّحدِّةِ وإيطاليا قد استجابَت لنداءات البابا وتوصياتِ الرسالةِ فأسّست لجانًا رقابيَّةً لمراجعةِ وتقييمِ الأفلام من منظورٍ أخلاقيٍّ ودينيِّ، وبالتالي، فإنَّ شركاتِ الإنتاجِ بدأتْ في التفكيرِ بمسؤوليَّتِها الأخلاقيَّةِ والاجتماعيَّةِ تجاهَ المحتوياتِ التي تقدِّمُها للجمهور.

  1. بابا جَديدٌ وإعلامٌ جَديد

بعدَ وفاةِ البابا بيوسَ الحادي عَشَرَ في العاشرِ من شهرِ شباط 1939 بعدَ 17 سنةً من العطاءِ ليخلِفَهُ البابا بيوس الثاني، الذي انتُخِبَ في 12 آذار 1939 ودامَت ولايتُهُ حتّى التّاسعِ من تشرينَ الأوّلِ 1958 أي قرابةَ 19 سنةً وسبعةِ أشهرٍ. عايشَ البابا بيوس الثاني عَشَرَ الحربَ العالميَّةَ الثّانِيَةَ والنهضةَ التي شَهِدَتْها أوروبا والعالمُ بَعْدَ هذهِ الحربِ، والتطوُّرَ الهائِلَ في وسائِلِ الإعلامِ، حيثُ انتشرَتِ السينما بشكلٍ كبيرٍ وأصبَحَ الرّاديو وسيلةَ اتصالٍ جماهيريَّةً رئيسةً، كما بدأ التلفزيونُ يشُقُّ طريقهُ كوسيلةٍ جديدةٍ وفعّالةٍ للتواصُلِ الجماهيريِّ.

الإعلام لخدمة الحقيقة

وإذْ أدركَ البابا بيوسُ الثاني عَشَرَ التأثيرَ الكبيرَ لهذهِ الوسائلِ على الأفرادِ والمجتمعاتِ، كتبَ رسالتهُ الشهيرةَ التي عُرِفَت بِاسمِ Miranda prorsus والتي ترجمتُها “أمورٌ عجيبةٌ حقًا” أو “أمورٌ مُدهِشَةٌ بالفعلِ” وهو تعبيرٌ يشيرُ الى التقدّمِ الهائلِ لوسائلِ الإعلامِ الحديثةِ آنذاك، صَدَرتِ الرسالةُ بتاريخِ 8 سبتمبر من العام 1957 قبلَ عامٍ تقريبًا من وفاته. “Mairanda Prossus” هي رسالةٌ بابويَّةٌ هامَّةٌ جدًا تناولتْ للمرّةِ الأولى في وثيقةٍ بابويةٍ ثلاثَ وسائلِ إعلامٍ رئيسَةٍ: السينما، الراديو والتلفزيون.

  • تؤكّدُ الرسالةُ على الدورِ الهائلِ لهذه الوسائلِ في تشكيلِ الرأيِ العامِ، والتأثيرِ على القِيَمِ والمجتمعِ.
  • تشدِّدُ على ضرورة توجيهِ الإعلامِ لخدمةِ الحقيقةِ والخيرِ والجمال.
  • تدعو الكنيسةَ ومؤمنيها الى عدمِ البقاءِ في موقِفِ المُتفرِّجِ، بل الى المشاركةِ في صناعةِ الإِعلامِ الأخلاقيِّ.
  • تطالبُ الدولُ والمجتمعاتِ، بوضعِ أطُرٍ قانونيّةٍ وأخلاقيّةٍ، لإستخدامِ هذهِ الوسائلِ بشكلٍ مسؤول.

وعلى خُطى سَلَفِهِ، سعى بيوسُ الثاني عَشَرَ الى تطويرِ الإعلامِ الكَنَسيِّ الكاثوليكيِّ مضمونًا ووسائلَ، لكي يتمكَّنَ مِنْ مواكبةِ العصر وَجَبْهِ التَحدياتِ، على كثير من الايجابيةِ والانفتاح، مَعَ المحافظةِ على الثوابِتِ المسيحيَّةِ. وعليهِ، ضَمَّنَ رسالتَهُ تذكيرًا بمُعْظَمِ ما وَرَدَ في رسائل البابا بيوسَ الحادي عَشَرَ من توصيات وتوجيهاتٍ، ثُمّ أضَافَ إليها ما يتناسبُ مع التطوُّر الإعلاميِّ الجديد الذي تنامى ما بين 1936 و1957، ولقَدِ اعترفَ صاحِبُ الرسالةِ في مُقدَّمتِها بالتطوّراتِ الهائلةِ في وسائلِ الإعلامِ وتأثيرِها البالِغِ في الحياةِ البشريَّةِ، ورأى أنَّ هذهِ الوسائلَ تحمِلُ إمكانيّاتٍ ضخمةً لنقلِ المعرفةِ والتواصُلِ والتعليمِ والترفيه… وأَغْلَبُ الظّنِّ أَنَّ البابا تَعَمَّدَ الإشارةَ إلى إمكانيّاتِ هذهِ الوسائِلِ من بابِ حثِّ الإعلامِ الكنسيِّ على تطويرِ ذاتِهِ وإمكاناتِهِ والاستفادَةِ من الرّاديو والتلفزيون بعدَ الصحفِ والمجلّاتِ، لإيصالِ تعليمٍ مسيحيِّ سليمٍ، وتثقيفِ المؤمنين ونشرِ كلمةِ اللهِ وكُلِّ ما من شأنِه أن يُحَصِّنَ القِيَمَ المسيحيَّةَ والأخلاقَ.

بين الصورة والكلمة

اعتَرَفَ البابا بيوس الثاني عشر بتأثيرِ السينما والتلفزيون والرّاديو في العقولِ والقلوبِ من خلالِ الصُّورِ المرئيَّةِ والمحتوى المسموعِ والمكتوبِ، فقد أكَّدَ على ضرورةِ استخدامِ هذهِ الوسائِلِ لِنَشْرِ القِيَم الأخلاقيَّةِ وتعزيزِ الفضائِلِ، بعدَ إِخْضاعِها للرّقابةِ، مَنْعًا لِنَشْرِ محتوياتٍ ضارَّةٍ، مؤكّدًا على أهميّة إنتاج برامِجَ تلفزيونيَّةٍ مُعَزِّزةٍ لِلْقِيَمِ المسيحيَّةِ والإنسانيّةِ، خصوصًا وأنَّ التلفزيونَ وسيلةٌ جديدةٌ وذاتُ تأثيرٍ كبيرٍ، بحيث يُمكِنها الجَمْعُ بين الصوتِ والصورةِ لنقلِ رسائلَ مُؤثّرَةٍ.

وعلى غِرارِ سَلَفِهِ، لم يَغْفَلِ التعليمَ والتوجيهَ المسيحِيِّينِ اللذينِ تُقدّمُهُما هذه الوسائلُ، وَذَكَّرَ بضرورةِ التوجيهِ المِهنيّ للإعلاميينَ، وبضرورةِ إنشاءِ معاهِدِ تدريبٍ لهؤلاءِ ليتمكّنوا من تحمُّلِ مسؤوليّاتِهم بشكلٍ أكثَرَ وعيًا، ومن لَعِبِ دورِهم بفعاليّةٍ وتأثيرٍ.

دور الأسرة والمجتمع

إلى ما تقدَّمَ، وعطفًا مرَّةً أخرى على رسائِلِ سَلِفِهِ، شَدَّدَ صاحِبُ الرسالةِ على دورِ الأُسرةِ والمجتمعِ، ودعا إلى إشراكِ رجالِ الدّينِ في العَمَلِ الإعلاميِّ لتقديمِ الإرشاداتِ الدينيّةِ والأخلاقيَّةِ.

وَلَعَلَّ أبْرَزَ ما ذُكِرَ في هذهِ الرسالةِ هو اعترافُها بالتحدياتِ التقنيَّةِ والأخلاقيَّةِ التي تواجِهُ وسائلَ الإعلامِ، وَدَعْوَتُها إلى بَذْلِ جهودٍ مُسْتَمِّرَةٍ لمواجَهتها بما يُعَزِّزَ القِيَمَ الإنسانيَّةَ والمسيحيَّةَ

وَبَعْد، فقد اعتبر المراقبون الـ ” Miranda Prorsus” وثيقةً مهمَّةً في تاريخ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ، بكونِها تُعالِجُ بتفصيلٍ دقيقٍ العلاقةَ بينَ الكنيسةِ ووسائلِ الإعلامِ، وبكونِها تؤكِّدُ على ضرورةِ توجيهِ هذهِ الوسائلِ لخدمةِ الصالِحِ العامِّ.

وبالفعلِ، فإنَّ الكنيسةَ، ومن خلالِ هذهِ الرسالةِ وَضَعَتْ أُسُسًا مُهِمَّةً لِفَهْمِ وتوجيهِ وسائلِ الإعلامِ في العَصْرِ الحديثِ، ولكيفيَّةِ التعاونِ بينَ الكنيسةِ ووسائلِ الإعلام من خلالِ تأطِيرٍ العلاقةِ في ما بينَها.

  • الإعلامُ الكنسيُّ الكاثوليكيُّ عشيَّةَ المجمَعِ الفاتيكانيِّ الثّاني

ظَلَّ الإعلامُ المسيحيُّ الكاثوليكيُّ يتقدَّمُ ببُطْءٍ، فيما الإعلامُ العامُّ بِكلِّ وسائِلِهِ راحَ يتطوَّرُ بإيقاعٍ أسرعَ، وقد احتلّتْ وسَائلُهُ عواصِمَ وبلدانًا وقد تنوَّعَت  وكثُرَتْ، من صحفٍ ومجلاّتٍ ومطبوعاتٍ، إلى محطاتٍ إذاعيَّةٍ وراديوهات، وصولاً إلى التلفزيون، مرورًا بالسينما، إلى أَنْ عُقِدَ المجمَعُ المسكونيُّ الفاتيكانيُّ الثّاني في 11 تشرين الأوّل من العام 1962، حتّى الثامن من كانون الأوّل 1965، بَدأهُ البابا يوحنّا الثالثُ والعِشرون وأكْمَلَهُ البابا بولسُ السّادِسُ، ومن بينِ المراسيمِ التي أصْدَرَها هذا المجمَعُ، مرسومٌ خاصٌ بوسائِلِ الإعلامِ الإجتماعيَّةِ.

مَرَّتْ وِلادَةُ هذا المرسومِ بمخاضٍ عسيرٍ بين اللجانِ، من مسوَّدّةٍ الى مُسودَّة، ومن توسيعٍ الى تلخيصٍ، ومن فئةٍ موافِقَةٍ إلى فِئةٍ مُعترضةٍ، من عَمَلٍ جدِّيٍّ عميق إلى عَمَلٍ سَطحيّ مُستَخِفٍّ، ومن زيادةِ فِقرٍ وبنودٍ إلى تعديلِ أُخرى أو إلغائِها، إلى أن اقترعَتْ عليه الجمعيّةُ العموميَّةُ نهائيًا بموافقة اكثريَّةِ الثلثينِ، وذلك في 4 كانون الأول 1963.

وتجدُرُ الإشارةُ إلى أَنَّ البَحْثَ الذي سَبَقَ صدورَ المرسومِ، دارَ حَوْلَ صعوبَةِ مَهَمَّةِ الصحافيِّ، وأهميَّةِ الرأيِ العامِ وسبُلِ تكوينهِ، والدَوْرِ الفعَّالِ الذي تلعبُه وسائلُ الإعلامِ في البلدانِ الناميةِ، وجرى البَحْثُ أيضًا في أَرْبَعِ موادَّ أُضيفَتْ إلى موادِّ الدستورِ، وهي دورُ العلمانيين ( في الإعلامِ طبعًا)، في حماية الشبيبةِ (وهذا كانَ مطلبَ الباباواتِ السابقين)، دورُ الصحافةِ الكاثوليكيَّةِ، واخيرًا تَمَّ ذِكْرُ المسرحِ كوسيلةٍ يُمْكِنُ أَنْ تُشكِّلَ هي الأُخرى إعلامًا مُعَيَّنًا.

من حقّ الكنيسة أن تستخدم هذه الوسائل التبشيريّة

بكلامٍ آخَرَ، إذا كانَ هذا المرسومُ قد بَدَّلَ الكثيرَ من المُعْطَياتِ والمفاهيمِ ذاتِ الصلةِ بوسائل الإعلامِ المسمّاةِ اجتماعيَّة، فذلك لأنه انطلقَ منْ أَنَّهُ مِنْ حَقِ الكنيسةِ أنْ تَستَخْدِمَ هذهِ الوسائلَ في سبيلِ نشرِ الإنجيل، وقد رأى فيها ضرورةً ومنفعةً لكلِّ عَمَلٍ رسوليِّ، وشدَّدَ على حُسنِ استخدامهِا لكي تتجاوَبَ مع آمالِ البشريَّةِ الكُبرى ومقاصِدِ الله، ومن هُنا ذكَّرَ بوجوبِ استخدامِها وِفقًا لمبادئ النظامِ الأدبيِّ. والطَّرحُ المتطوِّرُ ظَهَرَ في تشديدِ المجمَعِ على تكوينِ ضميرٍ شخصيٍّ مستقيمٍ لحسنِ استخدامِ هذه الوسائِل، خصوصًا وأَنَّ الإعلامَ أصبَحَ بالنسبة للأفرادِ كخبزِهِم اليوميِّ، بحيْثُ لم يَعُدْ ممكِنًا الاستغناءُ عَنْهُ، وهو حقٌّ من حقوقِهم شرطَ أَنْ يكونَ هذا الإعلامُ صادقًا وكاملاً وغيرَ متعارضٍ مَعَ مبادئ العَدْلِ والمحبَّةِ، شريفًا يحترِمُ الشرائِعَ الأدبيّةَ والحقوقَ الإنسانيَّةَ. الكثيرُ من هذا الكلامِ يبدو جديدًا، ويعكِسُ تطوّرًا لم نَلْحَظْهُ من ذي قَبْل قي كلِّ ما صَدَرَ عن الباباوات السّابقينَ الذين أصدروا رسائلَ تتعلّقُ بالإعلامِ ووسائِلِهِ وهذا خيْرُ دليلٍ على التطوُّرِ في الإعلامِ المسيحيِّ الذي أرادُه الفاتيكاني الثاني رافِعًا لقيمةِ الإنسانِ الرّوحيّةِ والعلمِيَّةِ والفنيَّةِ، من خلالِ تَنويرِ هذا الإنسانِ ليعرِفَ أيَّ إعلامٍ ينتقي، وإلى أيِّ إعلامٍ ينحازُ، وأن يكون قادرًا على تمييزِ صالِحِهِ من طالِحِهِ. أمَّا بالنسبةِ إلى الشبابِ فإنَّه حَرِيٌ بِهِ أَنْ يُروِّضَ نفسَهُ ليقتنعَ بالشيءِ الضروريِّ منه (أي من الإعلامِ) مَعَ فَهْمِهِ فهمًا يُساعٍدُهُ على إِنماءِ شخصيَّتِهِ وبلوغِ السَّعادَةِ.

أولويَّة الفرد

وفي تطوُّرٍ ملحوظٍ، حَمَّلَ المرسومُ السلطةَ المدنيَّةَ تَبِعَةَ تشجيعِ كُلِّ إعلامٍ من شأنِهِ أنْ يرفَعَ من قيمةِ الفردِ والمجتمعِ، وَمَنْعِ ما هو هدّامٌ، ذلك لأنَّ هذهِ السلطةَ تنفَرِدُ بحقِّ إصدارِ قوانينَ أدبيَّةٍ لحِفظِ الأخلاقِ، وبخاصًةٍ أخلاقَ الشبابِ والأحداثِ والأطفالِ، وأهابَ بالمُنْتجينَ الاّ يسمَحوا لأَنْفُسِهِم بخرقِ حُرمةِ الشريعةِ الأدبيَّةِ، كما حَدَّدَ عَمَلَ الكنيسةِ الرّاعويَّ في هذا المِضمارِ من خلالِ سَعْيِها إلى وَضْعِ وسائِل الإعلامِ في خدمةِ العديدِ من أعمالِ الرسالةِ. ودائمًا على خطّ التطوُّرِ والتطويرِ، حَثَّ المجمَعُ الكاثوليكَ في العالَمِ على أَنْ يُشجِّعوا الصحافةَ الصالحةَ، وأَن يُسانِدوا الإذاعاتِ التي تنمّي فيهم محبَّةَ القريبِ واللهِ، وأن يقومَ العلمانيّونَ بواجِبِهم في دَعْمِ الوسائِلِ الإعلاميَّةِ لكي تتمكّن دومًا من نَشْرِ الحقيقةِ والدفاعِ عنها. بالمقابِلِ، طلبَ إلى رُعاةِ الكنيسةِ انْ يُكرِّسَ كُلٌّ منهم في أبرشيّتهِ يومًا في السَّنةِ، فيه تستَخْدِمُ الكنيسةُ كُلَّ طاقاتِها، لكي، بواسطةِ وسائِلِ الإعلام، تتمكَّنَ مِنْ أَنْ تَجْعَلَ رسالتَها أكثَرَ فعاليَّةً.

وَلَعَلَّ الجديدَ الأبرزَ هو أمانةُ السِّرِّ التي أقامها عندهُ الحَبْرُ الأعظَمُ البابا بولُسُ السادِسُ للاهتمامِ بالصحافَةِ المكتوبَةِ والإعلامِ المرئيِّ، وقد تمنّى قداستُه أَن يَنْحُوَ أساقِفَةُ العالَمِ نَحْوَهُ.

نقلةٌ نوعيَّة

في المُحصِّلَةِ، فإنَّ المرسومَ الصادِرَ عنِ المجمَعِ الفاتيكانيِّ الثاني في خِتَامِ أعمالِهِ، والموقَّعَ من قِبَلِ البابا بولسَ السادسِ في الثامِنَ عَشَرَ من شهرِ تشرينَ الثاني 1965 والمتعلّقَ بوسائِلِ الإعلامِ الاجتماعيَّةِ، قد شكَّلَ، ومن دونِ أدنى شَكّ، وباعترافِ الكاثوليكِ العارفينَ، نقلَةً نوعيَّةً، بل تطويريّةً، إذا صَحَّ التعبيرُ، نَقَلَتِ الإعلامَ المسيحيَّ الكاثوليكيَّ من مكانٍ إلى آخر، مِنْ دونِ أَنْ تَنْسِفَ ما كانَ مُعْتمدًا وَمُتَعارَفًا عليهِ قَبْلَ هذا التاريخ…

ويَكْفي أن نَستَعْرِضَ الأفكارَ والتعابيرَ والمُفرداتِ التي استخدمها المحرّرون فيما بعدُ، حتى نلاحِظَ بوضوحٍ وقوَّةٍ الجديدَ الذي أتى به هذا المرسومُ المنبثقُ عن المجْمَع الفاتيكاني الثاني.

ففي المقدّمةِ، أثنى على الاكتشافاتِ التقنيَّةِ العجيبةِ، والتي رأى فيها سُبلاً واسعةً وسهلةً لِنًقْلِ الأخبارِ، وأَوجَبَ تخصيصَ مكانٍ ممتازٍ للوسائلِ التي من شأنِها أن تؤثِّر في الأفرادِ والمجتمعاتِ كالسينما والراديو والتلفزيون والتي أَكَّدَ على تسمِيَتها: وسائِلُ الإعلامِ الاجتماعيّةُ، والتي بإمكانِها تقديمُ خدماتٍ جُلّى للجنْسِ البشريِّ، والإسهامُ في امتدادِ ملكوتِ اللهِ وتَرسيخِهِ.

وإذا كان المجتمعُ قد اعتبرَ انَّ من واجِبِه معالجةَ هذهِ المشاكِلِ الرئيسَةِ المتعلِّقةِ بهذهِ الوسائِلِ، فذلكَ لأنَّهُ رأى فيها فائدةً لخلاصِ المسيحيينَ وتَقَدُّمِ البشريَّةِ.

“تعليم الكنيسة”

في الفَصْلِ الأوَّلِ، وتحتَ العنوانِ “مَهمّاتُ الكنيسةِ” وإذْ أكَّدَ على أنَّ استخدامَ هذهِ الوسائلِ هو حقٌّ طبيعيٌّ للكنيسةِ، فذلك لأنّه رآها نافعةً للتربيةِ ولِكلِّ عَمَلٍ رسوليٍّ، واكثرُ من ذلك، فإنَّه رأى في حُسنِ استعمالِ هذه الوسائلِ تأمينًا لخلاصِ مستخدميها وكمالِهِم الذاتيِّ، كما للبشريَّةِ جمعاءَ. ودائمًا في الفَصْلِ الأوَّلِ من هذا المَرْسومِ، وتَحْتَ العنوانِ “الشريعَةُ الأدبيَّة”، نقرأ إيعازًا “جديدًا مُوَجِّهًا الى مُستخْدِمي هذهِ الوسائِل” ليقدّروا القرائن اي الظروفَ التي يتمُّ فيها هذا الإعلامُ، والتي من شأنِها أَنْ تُكَمّلَ هذا الاعلامَ أو أَنْ تُفسِدَ مغزاهُ الأدبيَّ وتُغيِّرَهُ تمامًا.

أمّا الجديدُ الذي وَرَدَ تحت العنوانِ “الحقُّ في الاستعلام” وأيضًا في هذا الفصل الأوَّلِ، هو دعوةُ المسيحيين إلى تكوينِ ضميرٍ مستقيمٍ عندَ استخدامهِم هذه الوسائلَ في المسائلِ التي تُشكّلُ موضوعَ جِدالٍ في المجتَمعِ الحديثِ الذي يتقدَّمُ بِسُرعةٍ.

والجديدُ، بل الصريحُ والجريءُ هو ما وردَ في العنوانِ السابِعِ من هذا الفصلِ الأوَّلِ وتحتَهُ أيضًا (عرضٌ للشرِّ الادبيّ) حيثُ يقولُ: إِنَّ سَرْدَ الشّرّ الأدبيّ ووصفَهُ أو تمثيلَهُ بفضلِ وسائلِ النشرِ الاجتماعيِّ، قد يمكِّنُ من عَرْضٍ وتمجيدٍ للحقِّ والخيرِ في كُلِّ بَهائِهِ… وكي يكونَ فِعْلُ هذا خيرًا اكثَرَ منهُ شرَّا في النفوسِ، يجبُ أَنْ يتماشى مع الآدابِ، خصوصًا عندما يتعلَّقُ الأمرُ بمواضيعَ تفترِضُ بعضَ الحْفُظِ أو التي توقِظُ الشهواتِ الرديئةَ عندَ الانسانِ الذي جَرَحَتْهُ الخطيئةُ الأصليَّةُ.

“الرأي العامّ”

ولأنَّ الإعلامَ كما أوردَ جميعُ الباباواتِ قبلَ الفاتيكاني الثاني، يؤثِّر جدًّا في أعضاءِ المجتمع، ويشكّلُ رأيًا عامًّا، فإنَّ المرسومَ، يطَوِّرُ هذا الطرحَ داعيًا هؤلاءِ الأعضاءَ الى القيامِ بواجباتِ العدالةِ والمحبَّةِ، وإلى الجِديَّةِ في العملِ لِخَلْقِ رأيٍ عامٍّ صحيحٍ وَنَشْرِهِ. أمّا في ما يخصُّ المنتفعينَ من هذهِ الوسائل، فَهُمْ مدعوّونَ إلى تشجيعِ كُلِّ ما يسْمو عِلْمًا وفضيلةً وفنًّا.

وفي واجباتِ المُنتجينَ، فإنّهُ يتوسَّعُ قليلاً، ويذْهَبُ الى أبْعَدَ ممّا ذهبَ إليه المسؤولون سابِقًا، ليدعُوَهم، هُم الصحافيين والكتّابَ والمُمثّلينَ والمخرجينَ والمؤلّفينَ والمُعلنينَ والموزّعينَ ومديري البرامجِ والباعةَ والرقابةَ، وكلُّها فئاتٌ لم تُذْكَرْ من قَبْلِ المرسوم، إلى أنْ يَحْمِلوا الإنسانيّةَ على أَنْ تسيرَ في طريقِ الخيرِ، وإلاّ قادَ إنتاجُهُم البشريَّةَ إلى الشّرِّ. من هنا حَرِيٌ بهم، اي المنتجينَ أنْ يَكِلوا الأمورَ الدينيَّةَ إلى أشخاصٍ ذوي رصانةٍ وجدارةٍ لمعالجَتِها بالإحترامِ المطلوبِ.

دعوةٌ الى السلطاتِ العامّة

رُبَّما هي المرَّةُ الاولى التي دُعُيَتْ فيها السلطاتُ العامَّةُ إلى حمايةِ الحريَّةِ الإعلاميّةِ الصّحيحَةِ والحقيقيّةِ وضمانَتِها، فَقبلَ الفاتيكاني الثاني ومرسومِهِ المتعلّقِ بوسائلِ الإعلامِ الإجتماعيّةِ، كانَ الإعلامُ، وتحديدًا الصحافةَ، غيرَ محميٍّ، ولقد جاءَتْ دعوةُ السلطاتِ إلى توفيرِ هذهِ الحمايةِ بكونِ الإعلامِ حقًّا شرعيًّا للجميعِ، ولهم ان يفيدوا منه ويتمتَّعوا به وجديدُه أيضًا دعوةُ السلطة الى اتخاذِ اجراءاتٍ خَاصَّةٍ لوقايةِ الأحداثِ من المنشوراتِ والمشاهدِ المُضَلِّلَةِ.

عَمَلُ الرعاةِ المؤمنين

يُكْمِلُ الفاتيكاني الثاني من خلالِ المرسومِ موضوعِ بَحْثِنا مشوارَهُ التطوُّريَّ، ليضعَ تحتَ العنوانِ “عملُ الرُعاةِ المؤمنين” وسائلَ الإعلامِ الاجتماعيّةَ في خدمةِ العديدِ من أعمالِ الرّسالةِ وتحديدًا التبشيرَ، كما يحُثُ العلمانيّين الذين يَمْتَهِنون هذهِ الوسائلَ على أَن يشهَدوا للمسيح، وأَنْ يُساهموا بِعَمَلِ الكنيسةِ الرّاعويِّ مساهمةً تِقْنيةً واقتصاديّةً وفنيّةً وثقافيّةً، كُلُّ بِحَسبِ قدُراتِهِ ومقدّراته.

الصحافة الصالحة

تحتَ العنوان “مبادراتُ الكاثوليك، نقرأ عبارةً جديدةً، بل صِفةً جديدةً للصحافةِ وهي “الصحافةُ الصّالحةُ”، والصلاحُ إيّاهُ يمتَدُّ إلى مُنْتِجينَ صالحينَ وَمُوزَّعينَ صالحينَ… وفي إطارِ تشجيعِ العملِ الإعلاميِّ السينمائيِّ، يدعو إلى الثناءِ على الأفلامِ الجديرةِ بِهِ من خلالِ نقدِها نقدًا بنّاءً ومَنْحِها الجوائِزَ، ويذهبُ إلى أبْعَدَ من هذا ليُشيرَ إلى تعزيزِ صالاتِ السّينما التي تخُصُّ مُسْتَثمرينَ كاثوليكَ فاضلين.

ومن العباراتِ الجديدةِ التي وَرَدَتْ في المرسومِ، العبارَةُ: إذاعاتُ الراديو والتلفزيون المرئيةُ والإذاعات العائليَّةُ، ودعوةُ المستمعينَ والمشاهدينَ إلى الاشتراكِ في حياةِ الكنيسةِ.

كما أَوجبَ انشاءَ محطّاتٍ كاثوليكيةٍ تفرِضُ نَفْسَها بالنوعيَّةِ والفعالِيَّةِ.

المسرح

يختمُ هذا العنوانَ بجديدٍ أيضًا، هو الدعوةُ إلى بَذْلِ الجهودِ لِجَعْلِ الفنِّ المَسْرَحِيِّ العريقِ والنبيلِ الذي ينتَشِرُ بقوةٍ بِفَضْلِ وسائِلِ الإعلامِ الإجتماعيَّةِ، مُساهِمًا في تطوُّرِ الثقافةِ الإنسانيَّةِ والأدبيَّةِ  عندَ المشاهدينَ. وتحتَ العنوان” الوسائلُ التقنيَّةُ والاقتصاديَّةُ”، وبكلامٍ غَيْرِ مسبوقٍ، يُذكِّرُ المجمَعُ المقدَّسُ الكاثوليكَ بواجِبِ مساعَدَةِ الصُّحُفِ الكاثوليكيَّةِ والنشراتِ الدوريَّةِ والمشاريعِ السينمائيةِ ومحطّاتِ الراديو والتلفزيون، إِذْ يرى أنهُ من المُعيبِ أَنْ تُقّيَّدَ كلمةُ اللهِ وأنْ تَسْقُطَ بسبَبِ صعوباتٍ تقنيَّةٍ أو مُعْضِلاتٍ ماديَّةٍ. من هنا، دعا الذين يتمتّعون بنفوذٍ مرموقٍ في الاقتصادِ والتقنيَّةِ إلى أَنْ يَعْضُدوا طوعًا وبسخاءٍ وبثرواتِهم وخِبرَتِهِم بِقَدْرِ ما هي، واضعينَها في خدمةِ الثقافةِ والرسالةِ الحقَّةِ. ويختمُ المجمَعُ المُقدَّسُ مرسومَهُ حَوْلَ وَسائِلِ الإِعلامِ الإجتماعيَّةِ بالكلامِ على المُنظّماتِ الدوليةِ وضرورةِ تعاونِ المراكزِ الوطنيَّةِ مَعَها، سَعْيًا إلى جَعْلِ كُلّ إنسانٍ مواطِنًا عالميًّا.

وينتهي بتحريضٍ ختاميٍّ مفادُهُ أنَّ أبناءَ الكنيسة إذا ما استخدَموا الوسائل الإعلاميَّةَ الإجتماعيَّةَ بما لا يُلحِقُ بِهِم الضّرَرَ، سيكونون “كالمِلِحِ الذي يُعطي الأرضَ طعمًا، كالنورِ الذي يُضيءُ العالَمَ”.

  • التطوُّر المُلْفِتُ للتواصُلِ الاجتماعيِّ، والإعلامُ في الكنيسة الكاثوليكيَّةِ بعدَ المجمعِ الفاتيكانيّ الثاني

انْتَهَتْ أعمالُ المَجمعِ المُقدَّسِ الثاني الَذي دامَ ثلاثَ سنواتٍ 1962- 1965 وانطلق الآباءُ الكرادِلَةُ ورؤساءُ الأساقفةِ والأساقفةُ، حاملينَ مَعَهُم كمًّا من القراراتِ والتَوصِياتِ والمراسيمِ والأوراقِ، ومِنْ بَيْنِها ما يتعلَّقُ بما سُمِّيَ ” وَسائلُ التَّواصل الاجتماعيّ، وبدؤوا بتجسيدِ مضامينِها وترجَمتِها أفعالاً وأعمالاً ولو بإيقاعٍ متوسِّطٍ حينًا وبطيءٍ أحيانًا، الى أنَّ حَلَّ العامُ 1971، تاريخُ صدورِ الرسالةِ “Communio et progressio” التي ترجمتها “الشركة والتقدّم” أو “الشركة والنمو” التي وَجَّهها هذهِ المرَّةَ المجلسُ البابويُّ لوسائلِ التواصُلِ الاجتماعيِّ مباشرةً، وقد شكَّلَتْ محطَّةً وازِنةً في مسارِ تطوُّرِ هذهِ الوسائلِ الإعلاميّةِ التواصليَّةِ. وبما أَنَّ الفاتيكانيَّ الثاني كانَ قدْ شجَّعَ على تحديثِ طُرُقِ التواصُلِ بينَ الكنيسةِ والعالمِ، فإنَّ هَذهِ الوثيقةَ – الرسالةَ، قّدْ هَدَفَتْ الى تفعيلِ توصياتِ هذا المجمعِ، وبخاصةٍ تِلْكَ المتعلِّقَةَ بوسائِل الاتّصالِ الاجتماعيِّ. “Communio et progressio” هي وثيقةٌ تطبيقيّةٌ بناءً على تعليمِ المجمَعِ الفاتيكاني الثاني، خاصّةً وثيقةَ Inter Mirifica التي ترجمتُها “من بين العجائب” ويُقصَدُ بها من بينِ العجائبِ التي منحَها الله للإنسانِ، تأتي وسائلَ الإعلامِ الحديثةُ كأداةٍ عظيمةِ التأثيرِ. صدرَتْ هذه الوثيقةَ 4 كانون الأوّل سنة 1963، وهي واحدةٌ من الوثائقِ الدستوريّةِ الأربع الصادرةِ عن المجمعِ وتحديدًا وثيقة Decretum [2]

 

النقاطُ الأساسيّة لوثيقةِ Inter Mirifica:

  1. قيمةُ وسائلِ الإعلامِ:
  • تعترفُ الكنيسةُ بأنَّ وسائلَ الإعلامِ، مثل الصحافةِ، السينما، الراديو، التلفزيون، هي من بينِ العجائبِ التقنيّةِ التي يُمكِنُ استخدامُها لخيرِ البشريّةِ.
  • تُشيد بدورِها في نقلِ المعلوماتِ والتثقيفِ والتسليةِ.
  1. المسؤوليّةُ الأخلاقيّةُ:
  • تؤكّدُ على وجوبِ استخدامِ هذه الوسائلِ بما يخدِمُ الحقيقةَ والخيرَ العامَّ.
  • تحمِّلُ المنتجينَ والمستخدمينَ المسؤوليّةَ الأخلاقيّةَ عن المحتوى والتأثير.
  1. حقُّ المتلقّي:
  • لكلّ إنسانٍ الحقُّ في أن يتلقّى معلوماتٍ صادقةً، كاملةً وملائمةً.
  1. الرقابةُ والتوجيه:
  • تدعو الكنيسة الى إعدادِ توجيهاتٍ راعويةٍ للإعلامِ المسيحيِّ.
  • تشجّعُ على إقامةِ أيّامٍ سنويّة للتأمّلِ في وسائلِ الإعلام (مثل اليوم العالمي لوسائلِ الاتصالاتِ الإجتماعيّة).
  1. التنشئة الإعلاميّة:
  • تدعو الى تربية المؤمنينَ خاصّة الشبابَ والكهنةَ على فَهْمِ الإعلامِ ونَقْدِه بوعي.

بعدَ أنِ استعرَضْنا النقاطَ الأساسيّة في وثيقة Inter Mirifica، ننتقِلُ الى النقاطِ الأساسيّةِ في الوثيقة التي جاءَتْ بعدَها وتوسّعت فيها.

Communio et progressio

أساسُها تطبيقٌ وتطويرٌ لوثيقة Inter Mirifica جاءَ فيها:

  1. نظرةٌ أعمقُ للإعلام:
  • وسائلُ الإعلامِ لا تُعتَبَرُ فقط أدواتٍ تقنيّةً، بل هي ساحَةٌ للحوارِ والتواصُلِ الإنسانيّ.
  • الإعلامُ يُسهِمُ في بناءِ حضارةٍ جديدةٍ قوامُها الشَّرِكَةُ (Communio) بينَ البشرِ.
  1. الحقُّ في الإعلامِ:
  • تؤكّدُ الوثيقة أن لكل إنسانٍ الحقَّ في تلقّي المعلوماتِ الصحيحةِ والكاملةِ، هذا الحقُّ مشروط بـِ:
  • احترامِ الحقيقةِ.
  • العدالةِ.
  • المحبةِ.
  • كرامةِ الشّخصِ البشريّ.
  1. مسؤوليّةُ العاملينَ في الإعلامِ:
  • الصحافيُّ والمخرِجُ والمنتِج… جميعُهم مدعوّون الى التحلّي بالمسؤوليّةِ الأخلاقيّة.
  • لا يجوزُ استخدامُ الإعلامِ لأغراضٍ تجاريّةٍ أو إيديولوجيّةٍ تشوِّهُ الحقيقةَ.
  1. دورُ الكنيسةِ في الإِعلام:

الكنيسةُ مدعوّةٌ الى:

  • استعمالِ وسائلِ الإعلامِ بفعاليّةٍ في التبشيرِ والتعليمِ.
  • إنشاءِ وسائلِ إعلامٍ كاثوليكيّةٍ مستقلّةٍ تواكِبُ العصرَ.
  • تشجيعِ حضورِ المسيحيّينَ العاملينَ في الحقولِ الإعلاميّةِ ودَعْمِهم.
  1. التنشئةُ والتربيةُ الإعلاميّة
  • تدعو الوثيقةُ الى إدخالِ التربيةِ الإعلاميّةِ في المناهِج الكاثوليكيّةِ.
  • تطالِبُ بتكوينِ الكهنةِ، الرهبانِ والمربِّينَ على فَهمِ الإعلامِ وتحليلِه.
  1. الإعلامُ كوسيلةٍ لبناءِ السلامِ والتفاهمِ
  • إذا استُعْمِلَ الإعلامُ بروحٍ مسيحيّةٍ يُمكِنُه أن:
  • يبنيَ الجسورَ بين البشر.
  • يُعزِّزَ العدالةَ.
  • يُسهِمَ في السلامِ العالميِّ.
  1. التفاعلُ مع تطوّرِ التكنولوجيا
  • الإعلامُ ليس جامدًا بل يتطوّرُ والكنيسةُ مدعوَّةُ الى مواكَبة هذا التطوّرِ بروحٍ نقديّةٍ بنّاءَةٍ لا بالخوفِ أو الإنغلاقِ.

جديدُ الرسالة

كانَ جديدُ هذهِ الرسالةِ دعوتَها هذهِ الوسائِلَ إلى احترامِ الحقيقةِ والمساهمةِ في بناءِ مجتمعٍ أكثر َعَدْلاً وانسانيَّةً، وإلى تأديةِ دورٍ ايجابيٍّ في تعزيزِ الحوارِ بينَ الشعوبِ والثقافاتِ، كما أوصتْ بتحسينِ أخلاقيَّاتِ الصّحافَةِ والإعلامِ لِتَكونَ في خِدمةِ الإنسانِ وتدعيمِ قِيَمِ الحُبِّ والعَدْلِ والسلامِ.

وبعدُ، لا يختلِفُ اثنانِ في أّنَّ هذهِ الرسالةَ – الوثيقةَ شَكَّلَتْ أساسًا لتَطويرِ سياساتِ الكنيسةِ تجاهَ الإعلامِ الحديثِ، كمَا أسّستْ لِفَهْمِ وتعزيزِ التواصُلِ داخِلَ الكنيسةِ وخَارجَها.

وبالفِعْلِ، فإنَّ الباحِثَ في عمقِ هذهِ الرسالةِ، يكتشفُ تأثيرَها، كوثيقةٍ كنسيَّةٍ، على استخدامِ الكنيسةِ للأعلامِ الجديد، وتتبيَّنُ لَهُ استراتيجيّاتُ التواصُلِ التي اقْتَرَحَتْها الكنيسةُ الكاثوليكيَّةُ.

باختصارٍ، فإنَّ أهميَّةَ هذهِ الوثيقةِ تكْمُنُ في كونِها جاءَتْ كاستجابةٍ لتوصياتِ المجمَعِ الفاتيكانيِّ الثاني، الَّذي انْعَقَدَ وأَصْدَرَ توصياتٍ ومراسيمَ تتماشى مَعَ التّحوُّلاتِ الاجتماعيَّةِ والسّياسيّةِ في الستينيّاتِ من القرنِ الماضي، ولم يَغْفَلْ دورَ الكَنيْسَةِ في التَواصُلِ مَعَ العالِمِ الخارِجيِّ.

تطوّرُ الإعلامِ الكاثوليكيّ

كانتْ أهميَّةُ هذهِ الرسالةِ في الإستجابةِ الأوَّليَّةِ لها من قِبَلِ وَسائِل الإعلامِ الكاثوليكيَّةِ، حيثُ بدا واضحًا تطوُّرُ الإعلامِ الكاثوليكيِّ منذُ السبعينيّات ولا يزال مستمرًّا حتّى اليوم، وبالفِعْلِ، فإنَّ الوسائلَ الإعلاميّةَ التواصليَّةَ الكاثوليكيَّةَ باتَتْ بِلا حَصْرٍ وبتنوّعٍ كبيرٍ من جرائدَ ومجلاَتٍ وصحُفٍ ومطبوعاتٍ وكتُبٍ وإذاعاتٍ ومحطاّتِ تلفزة، ومواقِعِ تواصُلٍ … إلخ

والجديرُ ذِكْرُه، ودائمًا بهدَفِ التطويرِ، هو أّنَّ هذهِ الرسالةَ- الوثيقةَ، طرحَتْ رؤيةً مُسْتَقبليَّةً لتطويرِ سياساتٍ إعلاميّةٍ تستَنِدُ الى مبادئِها وقدَّمَتْ اقتراحاتٍ مستقبليَّةً لتعزيزِ دورِ الوثيقةِ في توجيهِ الإعلام.

  1. “العَصْرُ الجديدُ” لِوَسائِل الاتَصالاتِ الاجْتماعيَّةِ

بَعْدَ مُرورِ نَحوِ عقدينِ من الزَّمَنِ على توصياتِ المجمَعِ الفاتيكانيِّ الثاني ذاتِ الصلةِ بوسائِلِ التواصُلِ الاجتماعيِّ، تطالِعُنا الوثيقةُ الفاتيكانيّةُ Aetalis Novae التي تعني حرفيًا “العصر الجديد” أو “زمن جديد”، في 22 شباط 1992 التي أصدرَها المجلسُ الحبريُّ لوسائلِ الإعلامِ الاجتماعيّةِ “Pntifical Council for Social Communication” تحتَ إشرافِ البابا يوحنّا بولس الثاني. إنّها ليستْ رسالةً بابويّةً، بل هي توجيهٌ رعويٌّ (إرشاد رعويّ) مكمِّلٌ للوثيقةِ الأساسيّةِ السابقةِ Communio et progression وامتدادٌ لتعليمِ الكنيسةِ حولَ وسائلِ الإعلامِ.

 

النقاطُ الأساسيَّةُ في الوثيقةِ:

  • التحوُّلُ الإعلاميُّ العالميُّ:

تؤكّدُ ان العالَمَ دَخَلَ عصرًا جديدًا في وسائلِ الإعلامِ، يتَّسِمُ بالسّرعَةِ والانفتاحِ والتأثيرِ القويِّ على الضمائِر والثقافاتِ.

  • أهميّةُ وسائلِ الإعلامِ في الكرازةِ التبشريَّةِ:
  • تُشدِّدُ على ان وسائلَ الإعلامِ، ليستْ فقط أداةً لنقلِ المعلومات، بل هي ساحةٌ حقيقيّةٌ للكرازةِ بالإنجيل.
  • تدعو الكنيسةَ الى حضورٍ فعّالٍ في وسائلِ الإعلامِ لا كَمُراقِبٍ فقط، بل كمشاركٍ ومؤثّرٍ.
  • المسؤوليّةُ الأخلاقيّة
  • يَجِبُ على الإعلامِ أن يُسْتَخْدَمَ لنشرِ الحقيقةِ، والدفاعِ عن كرامةِ الإنسانِ، وخدمةِ الخيرِ العام.
  • تنتقدُ الإستغلالَ التجاريَّ والسياسيَّ للإعلامِ الذي يشوِّهُ الحقيقة.
  • الدعوةُ الى التكوينِ والتنشئةِ
  • تشجِّعُ على تدريبِ الكهنةِ والعلمانيّينَ في التعاملِ معَ الإعلامِ بفهمِ لاهوتيٍّ وأخلاقيٍّ.
  • تطالِبُ بإنشاءِ مراكزَ تعليميّةٍ وإعلاميّةٍ كاثوليكيّة.
  • وسائلُ الإعلامِ الحديثةُ كأداةٍ لبناءِ الشراكَة (Communio)

إذا استُخْدِمَ الإعلامُ بطريقةٍ صحيحةٍ، يُمكِنُه أن يعزَّز الوحدةَ والتواصُلَ داخلَ الكنيسةِ وبينَ الشعوبِ.

جاءتْ هذهِ الوثيقةُ الفاتيكانيّةُ حاملةً رؤيةَ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ لِدَوْرِ وسائِلِ الإعلامِ في العالَمِ المُعاصِرِ، وتوجيهاتٍ للإستخدام الأخلاقيِّ لوسائلِ الإتصالاتِ الإجتماعيَّةِ، وَتَكْمُنُ أهميَّةُ هذهِ الوثيقةِ Aetalis Novae ، في كونِها تَعْكِسُ التغيُّراتِ التكنولوجيَّةَ والإجتماعيّةَ في نهايةِ القرنِ العِشرينَ، وتطلُبُ إلى المعنيّينَ من رجالِ دينٍ ودُينا من العاملينَ في مجالِ الإعلام الكاثوليكيِّ مواكبةَ هذهِ التغيُّراتِ في عَمَلِهم، لكي يَصِلَ إلى الجميعِ، ويكونَ مقبولاً من الجميعِ. وتُشيرُ إلى وجوبِ رَدْمِ الهُوَّةِ ما بينَ الإعلامِ الكنسيِّ والإعلامِ المدنيِّ، وما بينَ الكنيسةِ والجمهورِ، ودائمًا مع الحفاظِ والتمسّكِ بالثوابتِ التي تتناقَلُها الرسائلُ البابويَّةُ الإعلاميّةُ والأجيالُ، وهي تعزيزُ القِيَمِ الإنسانيّةِ والمسيحيّةِ، وتحمُّلُ المسؤوليَّةِ الإجتماعيَّةِ والأخلاقيَّةِ لوسائِلِ الإعلامِ، وتحسينُ أخلاقيّاتِ الصحافةِ والإعلام.

مواجهة التحدّيات

إلى هذا، طرحَتِ الوثيقةُ مجموعةَ مبادئَ من شأنِها مواجَهَةُ التّحديّاتِ المُعاصِرَةِ الأخلاقيَّةِ والعقائدِيَّةِ والإقتصاديَّةِ وسواها مّما يَجْتاحُ العالَمَ من بِدَعٍ وهرطقاتٍ وشذوذٍ والتواءٍ وفسادٍ ومظاهِرَ مجنونةٍ تأخُذُ بألبابِ الشبّانِ والشّابّاتِ وعقولِهم، حتّى إنَّ بعضَ الدُّولِ والجهاتِ تدفَعُ ملايينَ الدولاراتِ لإنشاءِ محطاتِ تلفزةٍ ودورِ سينما وإذاعاتٍ، ولإنشاءِ مواقِعَ ومنصّاتٍ على شَبكةِ الإنترنت، ومعظَمُها مُسَطَّحٌ ولا أخلاقيٌّ وبعيدٌ كُلَّ البُعْدِ عن التوجُّهاتِ القيميَّةِ والأخلاقيَّةِ والروحيَّةِ المسيحيَّةِ تحديدًا، بينما نرى العديدَ من البلدانِ الإسلاميِّةِ يُنشئُ الكثيرَ من المحطّاتِ والمواقِع لِنشرِ الدّينِ الإسلاميِّ، فأمامَ هذا الإعصارِ الإعلاميِّ الكاسِح، يَجِدُ الإعلامُ الكاثوليكيُّ المعاصِرُ نفسَه مَدْعوًّا إلى تطويرِ سياساتٍ إعلاميّةٍ مُستنَدةٍ إلى مبادئِ الوثيقةِ، وذلك من ضِمْنِ رؤيةٍ مستقبليّةٍ شاملةٍ.

ولا شكَّ في أَنَّ الوثيقةَ Aetatis Novae قَدِ استُجيبَتْ بعدَ صدورِها طبعًا بإيقاعٍ مختلفٍ في ما بينَ البلدانِ التي تنضَمُّ إلى الكنيسةِ “الكاثوليكيَّةِ، حتّى بِتْنا نشاهِدُ العديدَ من شاشاتِ التلفزةِ والمحطّاتِ الإذاعيّةِ تبثُّ نِتاجاتٍ ذاتَ أبعادٍ كاثوليكيَّةٍ وأهدافٍ مسيحيَّةٍ، كذلكَ ازدادَ عددُ الأفلامِ السنيمائيَّةِ الهادِفَةِ مسيحيًّا، بموازاة إصداراتٍ ورقيّةٍ عديدةٍ في الإتجاهِ ذاتهِ، من دونِ أْن ننسى بعضَ مواقِعِ التواصلِ الإجتماعيِّ. بكلمةٍ، فإنَّ الإعلام الكاثوليكيَّ ما بعدَ المَجمعِ، وفي أثناءِ انعقادهِ، وما بعدَ وثيقةِ العصرِ الجديدِ ليسَ كما قَبْلَها.

  1. تفاعُلُ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ وإعلامِها مع ثَوْرَةِ التكنولوجيا والإنترنت

في غمرةِ التطوُّرِ التكنولوجيِّ الهائِل، وإزاءَ غزوِ الإنترنت لِكُلِّ مرافِقِ حياةِ الناسِ وتفاصيلِها، حتّى إنّها باتَتْ كالخبزِ والماءِ والهواءِ، وقوتًا يوميًّا لا غِنى عنه إطلاقًا للصِغار وللكبار، وفي ظِلِّ التحوّلاتِ السريعةِ والمُدهشةِ التي تُحْدِثُها التكنولوجيا معَ كلِّ إشرَاقةِ شمسٍ، وبما أَنَّ الكنيسةَ هي جُزْءٌ من هذا العالَمِ، فإنَّها وَجَدَت نَفْسَها مهتمَّةً أكثرَ فأكثرَ بالإنترنت، وبالتالي، وكما في السابقِ ودومًا بوسائلِ الإتصالِ الإجتماعيِّ.

عطايا إلهيّة

ولا ننسى أنَّ المَجمَعَ الفاتيكاني الثّاني كانَ قد رأى في وسائِلِ الإعلامِ اكتشافَ تقنيةٍ رائعةٍ بإمكانِها ان تَسْتَجيبَ للحاجاتِ البَشَرِيّةِ أكثرَ فأكثَرَ. إلى هذا، فإنَّ الكنيسةَ تعتبِرُ الوسائلَ الإعلاميّةَ بمثابَةِ ” عطايا إلهيّةٍ” من شأنِها أن تولِّدَ بينَ البَشرِ علاقاتٍ أخويّةً تعزّزُ المشروعَ الخلاصيَّ، وعليه، اعتمدَتِ الكنيسةُ مقاربَةً إِيجابيّةً حيالَ وسائِلِ الإعلامِ، ورأتْ فيها مجدّدًا عناصِرَ مُساعَدَةٍ فعّالةٍ تساعِدُ الجْنسَ البشرّيَّ للترويحِ عن عقلِهِ وتثقيفِه، كما تُساعِدُ على انْتشارِ مملكَةِ اللهِ وترسيخِها، ولطالَما رَغِبَت في تشجيعِ تَطوُّرِها واستعمالِها الصحيحِ في سبيلِ بناءِ المجتمعِ المحليِّ والوَطنيِّ… ولأنَّ الكنيسةَ تُدرِكُ ما لوسائِلِ الإتصالِ الإجتماعيِّ من أهميَّةٍ حيويَّةٍ، فإنها سَعَتْ وتسعى في صبيحَةِ الألِف الثالِثِ إلى توفير ِحوارٍ نزيهٍ قائمٍ على الإحترامِ مَعَ المسؤولينَ عن وسائلِ الإعلامِ، يؤديّ إلى بلوَرَةِ سياساتِها، ويقتضي من الفرقاء تَفَهُّمَ الوجوهِ المختلفةِ لقَواعِدِ العملِ، وتقديمَ عروضٍ في سبيلٍ إزالةِ العقباتِ التي تُعيقُ التقدُّمَ البشريَّ وإعلانَ الإنجيلَ. ولَعَلَّ التَطوُّرَ الأبرزَ في الإعلامِ الكنسيِّ والتواصُلِ الإجتماعيِّ المسيحيِّ الكاثوليكيِّ، هو ما أَعْلَنَهُ البابا القدّيسُ يوحَنّا بولسُ الثاني عندما قالَ: “إن الكنيسةَ ستشْعُرُ بأنَّها مُذْنِبَةٌ أمامَ الربِّ، ما لَمْ تسْتَعمِلِ الإعلامَ في سبيلِ البشارةِ، وأضافَ واصِفًا وسائلَ الإعلامِ بأنّها السَّاحةُ الأُولى في الأزمنةِ المعاصرةِ، ولا يكفي أَنْ نستَعْمِلَها ليتأكَّدَ انتشارُ الرسالةِ المسيحيَّةِ وتعليمُ الكنيسةِ، بل يَجبُ دَمْجُ الرسَالةِ في هذهِ الثقافةِ الجديدةِ التي أنشأَتْها وسائِلُ الإعلامِ الحديثةُ، كيف لا، ووسائلُ الإعلامِ تؤثّرُ تأثيرًا شديدًا في المفهومِ الذي يُكوّنُه الأشخاصُ عن الحياةِ وَحَسْبُ، بل أصبَحَ الإختبارُ البشريُّ بحدّ ذاتِهِ اختبارًا إعلاميًّا. وليسَ خافيًا أّنَّ عالَمَ وسائلِ الإتصالِ الإجتماعيِّ، ولو بدا غريبًا عن الرسالةِ المسيحيَّةِ، فإنّهُ يُقدِّمُ مناسباتٍ فريدةً لإعلانِ حقيقةِ المسيحِ الخَلاصيَّةِ الى البشريَّةِ ويكفي التفكيرُ بالإمكانيَاتِ الإيجابيّةِ التي تُوَفّرها الإنترنت لِنَشْرِ الإعلام الدينيِّ والتعليمِ الدينيّ، وبالطّبعِ، فإنَّ هذهِ القدرةَ على الوصولِ إلى شرائِحَ واسعةٍ من الناسِ لم تَكُنْ لتخطُرَ في بالِ المبشّرينَ الأوائلِ بالإنجيلِ. وفي السِّياقِ المُشَجّعِ على تطويرِ المفاهيمِ الإعلاميَّةِ المسيحيَّةِ الكاثوليكيّةِ، يقولُ البابا القدّيس يوحنّا بولسُ الثاني: “على الكاثوليكِ ألاّ يَخْشوا فَتْحَ أَبوابِ وسائلِ الإعلامِ واسِعَةً أمامَ المسيحِ لكي تُسْمَعَ بشارَتُهُ الجديدةُ عاليًا مِنْ على السطوحِ…”.

تقييم تطوّرِ وسائلِ التواصلِ الإجتماعيّ

وإذا ما توقّفنا في محطَّةٍ تقييميّةٍ لِتَطوُّرِ وسائلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ والإعلامِ الكاثوليكيَّ نجِدُ أَنَّ ما قيلَ وما جرىَ في هذا الإعلامِ ووسائلهِ، قَدِ اختلفَ كثيرًا في ما بينَ مَطلَعِ القرنِ العشرينَ ونهايتهِ، ولقد سارَ في مسارٍ تطوُّري تصاعديٍّ بل تغييريٍّ مُلْفِتٍ، خصوصًا في ما بعدَ المجمَعِ الفاتيكانيّ الثاني، أيْ على امتدادِ النصفِ الثاني من ذاكَ القرنِ العشرين، حيثُ نلاحِظُ تبديلاً في النظرةِ والفهمِ والسلوكِ… وما بدا في البداياتِ غريبًا ومُسْتَهجنًا ومرفوضًا ومحرَّمًا أحيانًا، وما بدا هامشيًّا مُسَطَّحًا وبسيطًا، مُزاحًا وغيرَ موثوقٍ، ثانويًا لا يُقَدّمُ ولا يؤخِّرُ ولا يمكِنُ التعويلُ عليه، ولنْ يُحقّق أيَّةَ أهدافٍ ذاتِ قيمةٍ، هو إيَّاه راحَ يتبدَّلُ شيئًا فشيئًا بِفِعْلِ توجيهاتِ الباباواتِ المتعاقبينَ ورؤساءِ الأساقفةِ والأساقفةِ والقيّمين، بفعل توصياتِ المجمع الفاتيكاني الثاني ومراسيمِه، وَبِفِعْلِ المثابرةِ والإصرار ِعلى استخدامِ الوسائلِ الحديثةِ، وبِفْعلِ رَدْمِ الهُوَّةِ بّيْنَ الكَنيسَةِ ووسائلِ التواصُلِ الإجتماعيّ، وبفعلِ النظرةِ الإيجابيّةِ، حَتَّى توَصَّلَ الكاثوليكُ إلى فهمِ التكنولوجيا والإنترنت فَهْمًا أعْمَقَ، أدّى إلى استيعابِ الإمكانيَّاتِ الهائلةِ لهذهِ التكنولوجيا، والتفكيرِ في اسْتِثمارها لصالِحِ الكنيسةِ ولِنَشْرِ كلمةِ الإنجيلِ وأعمالِ البشارَةِ.

باختصارٍ، فإنَّ نهايةَ القَرنِ الماضي شَهدَتْ انقلابًا شبهَ شاملٍ في كلِّ ما يرتبِطُ بالإعلامِ الكاثوليكيِّ شكلاً ومضمونًا ووسائلَ وإمكانياتٍ، والثوابِتُ الوحيدةُ الّتي لَمْ تُمَسَّ وَجَرى التمسُّكُ بها ولَم يزلْ، هي الأخلاقُ والقٍيَمُ المسيحيَّةُ والإجتماعيَّةُ، اقتناعًا من الكنيسةِ بأنّها أركانٌ واعمدَةٌ، إذا ما تزعزعتْ هدَّدتِ الكيانَ الكنسيَّ بالانهيارِ…

  1. أهَمُّ الفوائِد التي وَفَّرتْها وسائلُ الإعلام والإنترنت للكنيسةِ وللدينِ المسيحيِّ وللمؤمنينَ وللكاثوليكيّةِ بشكلٍ خاصٍّ، بفعلِ تطوُّرِها وتطوُّرِ طرائقِ استخدامِها.
  • لقد نقلتْ أفكارًا شكَّلَت محاوِرَ للبشارةِ والكرازةِ،
  • أمَّنتْ للناسِ وسيلةَ اتّصالٍ مُباشِر ٍبمصادِرَ دينيَّةٍ ذاتِ شأن، خصوصًا للأشخاصِ غيرِ القادرينَ على التنقّلِ والمرغمينَ على ملازمَةِ أماكِنهِم،
  • وفَّرتِ التوجيهَ والكرازةَ وبعضَ الأنماطِ التربويَّةِ،
  • ساهمتْ في اجتذابِ الأشخاصِ نحو اختبارٍ أوسَعَ لحياةِ الإيمانِ،
  • أمَّنتْ للأشخاصِ إمكانيّةَ تواصُلٍ على خطّينِ: من أعلى الهرمِ الى القاعِدَةِ وبالعكسِ، وبهذا تكونُ إحدى توصياتِ الفاتيكان الثاني قد تحقّقّتْ عندما ذكَر: على أعضاءِ الكنيسةِ أنْ يُكاشِفوا رُعاتَهم بحاجاتِهم وأمانيهم بِمِلْءِ الحريَّةِ والثقةِ اللتينِ تَليقانِ بأبناءِ اللهِ…

فالمؤمنون بما يملكونَ من اختصاصٍ، ويحتلّون من مكانةٍ مرموقةٍ، حَريٌ بِهم أنْ يُبدوا آراءَهم في ما يتعلَّقُ بخيرِ الكنيسةِ.

ولسلامةِ التواصُلِ الإجتماعيِّ وَحُسْنِ استخدامِ وسائلِهِ لصالِحِ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ وإعلامِها، أَجْمَعَ المعنيوّنَ على ضرورةِ وجودِ صيغةٍ مستديمةٍ في التربيةِ على وسائلِ الإعلام، لا تقِفُ عندَ حدودِ تلقينِ المعلوماتِ التقنيةِ، بل تتعدَّاهُ إلى إيقاظِ ذوقٍ سليمٍ ورأيٍ أخلاقيٍّ قَويمٍ لدى النّاسِ. وبلغَ التطوُّرُ في هذا المجالِ حدودَ الكلامِ على تنشئةٍ اعلاميَّةٍ جديدةٍ وهي التربيةُ على الضميرِ.

  • المخاطرُ والتحدّيات

تجدُرُ الإشارةُ الى وَعْيِ الكنيسةِ لمخاطرِ التكنولوجيا والانترنت والإعلامِ ذي الصلةِ، من هنا الدعوةُ بل التأهُّبُ لمواجَهتِها بِعَكْسِها وبإيجابيَّةٍ وعدمِ الكَفِّ عن التحذيرِ من خطورةِ إدمانِها، خصوصًا من قِبَلِ فئاتٍ عُمْرِيَّةٍ شبابيَّةٍ باتتْ تُقبِلُ على مواقِعِ تواصُلٍ تستَهْدِفُ الكنيسةَ الكاثوليكيَّةَ وتُمْعِنُ فسادًا في الآدابِ العامَّةِ والأَخلاقِ، وتُسيءُ إلى أفكارِ العديد من الفتيانِ والفتياتِ والشبَّانِ والشابّات وتشوِّهُها، وتدفَعُ بِها إلى الإنحرافِ والإنغماسِ في بحرِ الخطيئةِ.

مخاطر الواقع الإفتراضي

هذه المخاطِرُ وعاها آباءُ الكنيسةِ فدعوا ويدعون إلى تطويرِ لاهوتٍ حقيقيٍّ بشأنِ وسائلِ الإعلامِ المسيحيّ الكاثوليكي والاتّصالِ الإجتماعيِّ ومن المخاطِرِ الواجبِ التصدّي لَها، أنّ الواقعَ الإفتراضيَّ ينطوي على مضامينَ مُقْلِقَةٍ بالنسبةِ إلى الدينِ… وبالتالي فإنَّ هذا الواقِعَ الافتراضيَّ لا يحلُّ مَحَلَّ الحضورِ الحقيقيِّ للمسيحِ في الإفخارستيا ولا مَحَلَّ الأسرارِ المقدّسةِ إذْ لا يوجَدُ اسرارٌ  على الإنترنت، ولا يُغني عن المشاركَةِ في العبادةِ مَع الجَماعةِ البشريَّةِ المكوَّنَةِ من لَحْمٍ وَدَمٍ، من هُنا فإنَّ الإختباراتِ أو الممارساتِ الدينيةَ على الإنترنت أو عبرَ وسائلِ الاتصالِ الاجتماعيِّ وحدهَا لا تكفي.

الجنونُ الإستهلاكيّ

ومن التحدياتِ المُقلِقَةِ أيضًا إصابةُ العديدِ من روَّادِ مواقِع الانترنت الدينيَّةِ بالجنونِ الإستهلاكيِّ على ما يقولُ المطران جون ب. فولي John Patrick Foley [3] في مقالتهِ: “الكنيسةُ والانترنت “الصادرةِ بتاريخ 22 شباط 2022، وحيثُ يُضيفُ قائلاً: ينتابُهُم الجنونُ الاستهلاكيُّ بما يختارونَه من موادَّ جاهزةٍ قيدَ الطلبِ ملائمةٍ لأذواقِهم الشخصيَّةِ… ويتابعُ: أمَّا الميلُ عندَ بعضِ الكاثوليك إلى الإنتقائيَّةِ في اعتناقِهم تعليمَ الكنيسةِ فهو مسألةٌ تحتاجُ إلى إعلامٍ إضافيٍّ للتحُقِّقِ منها.

  • الدعوةُ إلى تطوُّرٍ من نوعٍ آخرَ في وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ (المسيحيِّ – الفاتيكانيّ) مطلعَ الألفِ الثالث.

إزاءَ ما تقدَمَ من تحدّياتٍ ومخاطِرَ، وَجَدَتِ الكنيسةُ نفسَها مدعوَّةً إلى تطويرِ مقارباتِها الإعلاميَّةِ لتتمكَّنَ من مواكَبَةِ التغيّراتِ المتلاحقةِ في عالَم ِالتكنولوجيا والانترنت، والتي فَرَضَتْ نَفْسَها على وسائلِ التواصُلِ والإعلامِ، وَلَقدِ اعتبرَتِ التخَلُّفَ عن المواكبَةِ، ولأيِّ سببٍ كان، أَمْرًا غير مَقبولٍ، فالإنترنت بحسب نظرةِ الكنيسةِ ومفهومِها، وسيلةٌ تمتلِكُ أمكانيّاتٍ ايجابيّةً عديدةً، فهي إلى جانِبِ تَسهيلها عمليَّةَ الإتصالِ، تُسَهِّلُ أيضًا عمليَّةَ الحوارِ الذي، بدورهِ، يُعَزِّزُ روابطَ الوحدةِ بينَ أعضاءِ الجَماعةِ الواحدةِ، ويعمّقُ الحوارَ الكنسيّ مَعَ العالَمِ المُعاصِرِ. إلى هذا، يُمَكِّنُ الإنترنت الكنيسةَ من الإشتراكِ في الحواراتِ السماويةِ الهادِفةِ الى حَلِّ العديدِ من معضلاتِ البشريَّةِ… وفي السّياقِ التطويريِّ إيّاهُ، توجَّهتْ إلى المسؤولين الكنسيين طالبةً الإيعازَ إلى المنشّطينَ الراعويينَ لكي يتعلّموا كيفيّةَ التعرُّفِ الى وسائلِ الإعلامِ، ومن ثُمَّ  طلبَتْ تطبيقَ هذهِ المعرفةِ في خططٍ راعويةٍ اعلاميَّةٍ، مستخدمينَ مقدّراتِ عَصْرِ المعلوماتيّةِ والتكنولوجيا بأوجهٍ مختلفةٍ تأديةً لرسالةِ الكنيسةِ “وتمجيدًا للآبِ ينبوعِ كُلِّ خير”، مستكشفينَ فرصَ التعاونِ ما بينَ الأديانِ بما يرتبِطُ باستخدامِ التكنولوجيا والمعلوماتيَّةِ.

تنشئةٌ إعلاميّة

كما حَضَّتْ على تحقيقِ تنشئةٍ إعلاميَّةٍ للعاملينَ في الحقلِ الراعويِّ، وتنشئةٍ عقائديّةٍ وروحيَّةٍ للعاملينَ في مجالِ الإعلامِ، على أن تكونَ تنشئةً اكثرَ تطوُّرًا في مجالِ الإتصالِ والإدارةِ واخلاقيَّةِ العملِ والسياساتِ الإعلاميّةِ.

دورُ الأهلِ

وأوعَزَتْ بالتالي إلى الآباءِ والأُمهاتِ أن يدرِكوا دورَهم الإعلاميَّ الواعي داخِلَ المنزلِ، وأنْ يَعْمَلوا على حمايةِ أولادِهم من أخطارِ الإباحيَّةِ وما ارتبطَ بِها، وان يساعِدوهم في استخدامِ الإنترنت بصورةٍ واعيةٍ ومسؤولَةٍ.

وفي الإطار، تُذَكِّرُ الكنيسةُ بأنَّ المسيحَ هو الإعلاميُّ الكامِلُ، وتدعو الكاثوليكَ المنخرطينَ في الحقلِ الإعلاميِّ إلى التبشير ِبشارةً حقيقيةً بِيسوعَ.

  • وسائلُ التواصلِ الاجتماعيِّ في قلبِ العولَمة:

ترافقَتْ بدايةُ الألفِ الثالثِ، ومنذُ مطلعِ القرنِ الحادي والعشرينَ، أيْ بَعدَ نحوِ أَربعةِ عقودٍ من المَجمعِ الفاتيكانيّ الثاني، معَ طرْحٍ كونيٍّ جديدٍ اسمُهُ “العولمة” جَعَلَتِ العالَمَ كُلَّهُ “قريةً واحدةً” وذلك بِفَضْلِ التطوُّرِ المُدهِشِ للتكنولوجيا ومن ضِمْنِها الإنترنت التي تربطُ المجتمعاتِ البشريَّةَ ببعضِها البعضِ…

هذا التطوُّرُ السَّريعُ شَمَلَ وسائلَ التواصُلِ الإجتماعيِّ التي حَلَّتْ في مواضِعَ كثيرةٍ محلَّ الصحافةِ الورقيَّةِ المكتوبَةِ ومحلَّ الرَّاديو والتلفزيون والسينما والهاتفِ والتلغرافِ وسواها.

وبالطبعِ، فقد أمْتَدَّ هذا التطوُّرُ إلى وسائلِ الإعلامِ، الأمرُ الذي حدا بالقيّمينَ على الإعلامِ الكنسيِّ المسيحيِ الكاثوليكيِّ ووسائلِهِ، إلى وقْفَةٍ تقييميّةٍ، في مرحلتِها الأولى، تنتهي بوضعِ خارطةِ طريقٍ جديدةٍ للإعلامِ الكاثوليكيِّ…

وفي مراجعةٍ لأبرزِ ما جاءَ في توصياتِ المجمَعِ الفاتيكانيِّ الثّاني ورسائلِ البابواتِ بَعْدَه، وأبرزُها ما أضاءَ عليهِ كُلٌّ من البابا القدّيس يوحنا بولُسُ الثاني فالبابا بنديكتوس السادسَ عَشَرَ، وقد أتى امتدادًا للمسارِ الإعلاميِّ الكاثوليكيِّ منذُ القرنِ الماضي حتّى بداياتِ القرنِ الحاليِّ ليُتابعَ المسيرة في العقدِ الثاني من القرنِ الحاليِّ البابا فرنسيس، حيث جرى التأكيدُ على ما يأتي من الثوابتِ، كما أدّى إلى طروحاتٍ جَديدةٍ تتلاءَمُ والمعطياتِ المستجدَّةَ.

إنَّ ما أوردَه البابا القدّيس يوحنّا بولسُ الثاني وشدَّد عليهِ في رسائِلِهِ وكتاباتهِ ذاتِ الصلةِ بالإعلامِ، أَنَّ وسائلَ الإعلامِ هي في خدمةِ العدالَةِ والسلامِ، وأَنَّ العاملينَ في هذهِ الوسائلِ ليسوا جماعاتٍ نكراتٍ، وحريُ بِكلِّ إعلاميٍّ أن يطالَ كُلَّ شخصٍ بِحسَبِ قدراتِهِ الذهنيةِ، وذلك بواسطةِ تكنولوجيا مُتطوِّرَةٍ واستراتيجيَّةٍ فعَّالةٍ.

والإعلامُ الرقميُّ المعتمِدُ على الإنترنت بشكلٍ أخَصَّ، يمكنُ أَنْ يؤدِّيَ إلى تواصلٍ أفضلَ، وباستطاعتِهِ ان يوحِّدَ الناسَ، كما يمكنِهُ أَنْ يُفرِّقَهم كأفرادٍ وجَماعاتٍ هُمْ بِرَسْمِ التفرقةِ الإيديولوجيَّةِ والسياسيَّةِ والعرقيَّةِ والدينيَّةِ.

بالمقابلِ، فإنَّ مجالاتِ القَلَقِ تّتَّسِعُ، وتكثرُ الهمومُ المُضمَرَةُ حولَ الإنترنت، وأَحَدُها باتَ يُعرَفُ “بالفجوةِ الرقميَّةِ” الرّاميةِ إلى بلوغٍ التكنولوجيا الرقميَّةِ الجديدةِ بهدَفِ الإشتراك في العولمةِ والتنميَةِ المُبشِّرَةِ بالخيرِ لا التقهقُرِ والتخلُّفِ. وتجدُرُ الإشارةُ إلى أنَّ الكنيسةَ ترغَبُ في عولمةٍ تَخدمُ جميعَ الأشخاصِ، وهي معنيَّةٌ بالأبعادِ الثقافيَّةِ التي تحدثُ اليومَ، كوسائِلَ فعّالةٍ لعمليَّةِ العولمةِ، كما ترغبُ في استخدامِ الإعلامِ ووسائلِ التواصلِ لتعزيزِ الحوارِ بين الثقافاتِ التي تحتاجُ الى التفاهُمِ والمشاركةِ في ما بينَها من أجلِ التضامُنِ الدَّوليِّ.

دَمْجُ التكنولوجيّات

يزدادُ قلق الكنيسةِ على مُسْتقْبَلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ والإعلامِ الكاثوليكيِّ جرّاءَ دَمْجِ التكنولوجيّاتِ الجديدةِ والعَوْلَمَةِ، ما يَجْعَلُهما عرضةً للضغوطاتِ الإيديولوجيَّةِ والتجاريَّةِ، ومجالاً لِنْقلِ أفكارٍ غير مألوفةٍ، ما يُشكّلُ تطوُّرًا غير َصحِيٍّ في عالمٍ تعدُّدِيٍ يحتاجُ فيهِ الناسُ إلى النموِّ في التفاهُمِ المتبادَلِ، ضمنَ إطارٍ من الحريَّةِ المنضبطةِ، وليسَ ضمنَ نطاقِ من التحرُّريَّةِ المتفلّتَةِ التي تُثيرُ جُمْلَهُ مخاوِفَ، أبرزُها إِفلاتُ العِنانِ للبِدَعِ والهرطقاتِ التي تضرِبُ جَوْهَرَ الدينِ المسيحيِّ… وهنا يَكْمُنُ دورُ الإعلامِ الكاثوليكيِّ النزيهِ المدعُوِّ إلى التصدّي لما يجري ولما قد يَحْدُثُ، وتصويبهِ، عَبْر بَثِّ الحقائِق بإيجابيَّةٍ بعيدًا من مهاجَمَةِ حُرّيَّةِ التعبيرِ، بَلْ من خلالِ تقديمِ مادَّةٍ إعلاميَّةٍ روحيَّةٍ مسيحيَّةٍ جاذبةٍ خصوصًا للفئاتِ العمريَّةِ المُهدَّدَةِ بالتأثُرِ بالإعلامِ التجاريِّ الهدَّامِ أحيانًا كثيرةً، إذْ يُقدِّمُ لهؤلاءِ موادَّ مرئيّةً ومسموعَةً تنطوي على مخاطِرَ مُدَمِّرةٍ لأخلاقِهم ونفوسِهم، مسيئةً الى سلوكيّاتِهم.

عطايا إلهيّة

إنَّ الإعلامَ الكاثوليكيَّ شريكٌ أساسٌ في العَمَل على إغلاقِ الفجوةِ الرقميَّةِ الخَطِرة.  ومن البديهيِّ القولُ إِن وثائقَ كثيرةً ومحادثاتٍ عديدةً حولَ الإنترنت والإعلامِ سلبًا وايجابًا، قد أَيْقَظتِ الكنيسةَ وأَظْهَرَتْ دورَ الإنترنت في حياتِها، الكنيسةَ الكاثوليكيَّةَ التي لم يَعُدْ أمامَها سوى خيارِ الوجودِ المرئيِّ والفاعِلِ على شبكةِ الإنترنت، والشراكةِ في الحوارِ العامِّ حول تَطَوُّرِها، تمامًا كما يَفْعَلُ القيِّمونّ على باقي الأديانِ الذينَ يُخصّصُون ميزانيّاتٍ عاليةً لإعْلامِهم الدِّينيِّ بهَدَفِ نَشْرِ دينهِم.

إذًا، منَ المُفْتَرَضِ أن تكونَ الكنيسةُ الكاثوليكيّةُ في سباقٍ إيجابيٍّ مع باقي الأديانِ وليسَ في صراعٍ تنافسيٍّ، وذلكَ مِنْ بابِ تَرْكِ حُريَّةِ الإعتناقِ لِكُلِّ إنسانٍ، لكنَّ المُهِمِّ أَنْ تُظهِر َالدينَ المسيحيَّ على حقيقتِه وكذلكَ المفهومَ الكاثوليكيَّ على حقيقتهِ أيضًا من خلالِ إعلامٍ كاثوليكيٍّ متقدِّمٍ ونظيفٍ، وللمتلقيّ أنْ يختارَ وِفقَ قناعاتهِ…

ويبقى التحدّي الأكْبرُ أمامَ الإعلامِ الكاثوليكيِّ هو التشبُّثَ بالقِيَمِ والأخلاقِ إيَانَ تطوُّرِهِ، فلا يَنْجَرُّ إلى ما يُضِرُّ بها، مُتأثًرًا بما يجري في وسائلِ الإعلامِ والتواصُلِ التي تُسبِّبُ العديدَ من التشوُّهاتِ، وحَريٌّ به ان يُحّذِّرَ من المحتوياتِ التي تروِّجُ للعنفِ وللفسادِ الخُلُقي والسلوكيّاتِ  الممجوجَةِ، وعلى الرَّغْم من كل القَلَقِ الذي تثيرُهُ الثَورةُ التكنولوجيَّةُ حتّى في الإعلامِ ووسائلهِ، نرى البابا القدّيس يوحنّا بولُسَ الثاني في معظمِ رسائلهِ ذاتِ الصلةِ، مؤكدًا على الأمَلِ والتفاؤلِ بمستقبَلِ الإعلامِ، وهو بالطبْعِ يشْمَلُ بالتفاؤلِ والأمَلِ الإعلامَ الكاثوليكيَّ … وهذا الكلامُ الإيجابيُّ من قداسَتِه يُخفي حقيقةً واقعيَّةً وهي أنَّ الإعلامَ الكاثوليكيَّ والتواصلَ الاجتماعيَّ (المسيحيَّ) لا يزالانِ بعيديْنِ عَمَّا بلغَتْهُ وسائلُ الإعلامِ عُمومًا، وكأنَّه بهذَيْنِ الأملِ والتفاؤلِ يحضُّ ويشجِّعُ العاملينَ ومحتوى نِتاجِهم.

  1. نحوَ إعلامٍ كاثوليكيٍّ أكثرَ فعاليّةً وانخراطًا في المسائلِ الكونيّةِ

لا يختلِفُ اثنانِ في أّنَّ البابا القدّيس يوحنَا بولسَ الثاني عاشَ رسولَ محبَّةِ وحوارٍ وسلامٍ، ومحطّاتُ حياتهِ شاهِدَةٌ، كذلك كتاباتُه ورسائِلُه، مضافةً إلى زياراتِه الراعِويَّةِ للعديدِ من بلدانِ العالَمِ، من دونِ أَنْ نغْفَل إسهاماتِه في إنهاءِ كيانِ الإتحادِ السوفياتيِّ وعودةِ الحريَّةِ إلى شعوبِ البلدانِ والدولِ التي كانتْ تحتَ نيرِ الظُّلْمِ والحرمانِ. وعليهِ رأى يوحنّا بولُسُ الثاني أَنْ لا سلاَم من دونِ حوارٍ، ولا حوارَ حقيقيًّا من دونِ إعلامٍ.

أهميّةُ الإعلامِ ودورُه

إزاءَ هذهِ الأهميَّةِ التي أعطاها للإعلامِ ودورِهِ، وربطًا بما ذكرناهُ في ختامِ العنوانِ السابقِ، واستكمالاً لإستنهاضِ هِمَّةِ الإعلامِ الكاثوليكيِّ والتواصُلِ الإجتماعيِّ (المسيحِيّينِ) واقتناعًا منهُ بضرورةِ تطويرهما، فإنَّهُ أسْنَدَ إليهما سَبْعَ مهامَّ أساسيَّةٍ نوجِزُها بما يأتي:

أولاً: التوعيةُ من خلالِ برامجَ متنوّعةٍ يقدِّمُها الإعلامُ للناسِ لكي يفهموا مسألَةَ السَلاَمِ وينبذوا الحروبَ والعنفَ والظّلمَ.

ثانيًا: حريٌ بإعلامِنا أَنْ يُندِّدَ بِمُسَبِّباتِ هذهِ الحروبِ، وبالتسلّحِ والتعذيبِ والظلمِ والإرهابِ،

ثالثًا: تقديمُ محتوى إعلاميٍّ يدعو إلى نزعِ السلاحِ،

رابعًا: تقديمُ مادَّةٍ إعلاميَّةٍ تُبيّنُ العقباتِ التي تعترِضُ أعمالَ العَدْلِ في سبيلِ السلامِ، وتدعو إلى إسقاطِ جميعِ الحواجِزِ.

خامسًا: إسْهامُ الإعلامِ في جَعْلِ السَلامِ مُمْكِنًا، فالإعلامُ طريقٌ للتحسُّسِ بحقيقةِ الأحداثِ…

سادسًا: نَشْرُ كُلِّ ما يُسَاعِدُ على فَهْمِ السلامِ وإحيائهِ انطلاقًا من المبادراتِ لخدمةِ السلامِ والعدالةِ، ومهمَّةُ المسؤولينَ عن وسائلِ الإعلامِ هي مهمَّةٌ تربويَّةٌ مسؤولَةٌ عن مصيرِ العدالةِ والسلامِ. وهنا حريٌّ بوسائِلِنا الإعلاميّةِ الدعوةُ إلى السلامِ والعدالةِ المسيحيَّةِ كما إلى الصلاةِ من اجلِ السلامِ.

سابعًا: الحبُ وحدَه الحُبُّ قادِرٌ على أنْ يَجْعَلَ الرعبَ يرمي سلاحَهُ نهائيًا، وكما الحُبُّ عطيَّةٌ من اللهِ، كذلكَ هي تقنياتُ الإعلامِ عطيَّةٌ من عندِ اللهِ لخدمةِ البشريَّةِ والإسهامِ في سلامِها وعدالتِها…

هذا، ولم يَغفَلِ البابا أن يُذَكِّرَ بالوثيقةِ Communio et progressio (الشركة والتقدّم) الصادرةِ عام 1971 ومبادئِها التي كان قد أقَرَّها البابا بولُسُ السَادسُ تطبيقًا لقرارِ المجمَعِ الفاتيكانيِّ الثاني بشأنِ وسائلِ الإعلامِ الإجتماعيّةِ والإتّصالاتِ بعالَمِنا المُعاصِرِ…

وفي السّياق، ومن بابِ الأمانةِ والوفاءِ، وبإعتبارِ الحاضِرِ امتدادًا للماضي، فإنّ يوحنّا بولسَ الثاني يخطو خطوةً ثانيةً الى الوراءِ، مُسْتعيدًا قولَ البابا بيوسَ الثاني عَشَرَ الذي وَرَد في رسالتهِ الحبريَّةِ العامة Miranda prorsus (أشياء مدهشة بالفعل) الصّادرةِ في العام 1957:” واجبٌ علينا أَنْ نتطَلَّعَ إلى وسائلِ الإعلامِ الجماهيريَّةِ على أنَّها عَطيَّةٌ من عندِ اللهِ، وهذه العطايا تتطوَّرُ مَعَ التقنياتِ من أقمارٍ اصطناعيَّةٍ وغيرِها مِمّا صار بمتناوَلِ الناسِ.

الإعلاميّون الكاثوليك

أردَفَ البابا القدّيسُ يوحنا بُولُسُ الثاني قائلاً، إنَّها ادواتٌ جامدةٌ، (ويريدُ بها: الراديو، والتلفزيون والسينما…) التي كانت معروفةً جدًّا في منتصفِ القرنِ الماضي)، ولا يمكنُ لأَحَدٍ أَنْ يعرِفَ إِمكانيَّاتِها على تحقيقِ الأهدافِ إلاَّ من خلالِ حكمةِ المُتداولينَ بها وشعورِهم بالمسؤوليَّةِ، وهنا يتوجَّهُ من جديدٍ إلى الإعلاميينَ الكاثوليك ليحُثَّهُم مرَّةً أخرى على المضيِّ قُدُمًا في تطويرِ عملِهِم وتحمُّلِ المسؤوليَّةِ. وفي الحديثِ عن المسؤوليَّةِ، فإنَّهُ حَرِيٌّ بأصغرِ مستهلِكٍ كما بأكْبَرِ مُنتِجٍ للبرامجِ الإعلاميَّةِ أَنْ يَتَحَمَّلَ جُزءًا منها، كما هو حَريٌ برعاةِ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ وأبنائِها ذوي الصلةِ بمجالِ الإعلامِ، أَن يُجدِّدوا اطّلاعَهُم على المبادئ والتوجيهاتِ المطروحَةِ والمحدَّدَةِ في الارشادِ الرعويّ ” Communio progressio (الشراكة والتقدّم) ويُتابع قداسَتُهُ قائلاً: إنّ وسائلَ الإعلامِ والاتّصالِ تُسهِّلُ تطويرَ الجِنْسِ البشريِّ بكامِلِهِ وتُسْهِمُ في تَعزيزِ التآخي بينَ البَشَرِ، كما تساهِمُ في نَقْلِ البُشرى الإنجيليَّةِ إلى كُلِّ بقعةٍ من الَعالمِ شهادةً للمخلّص.

“ننقُلُ الرجاءَ بِتأييدٍ من الروحِ القُدُسِ” Communicare spem spiritu sancto fulti، كتبَ البابا القدّيس بوحنا بولس الثاني هذه الرسالةَ سنةَ 2004 لِمناسبة اليومِ العالميِّ لوسائلِ الاتصالاتِ الإجتماعيّةِ يدعو فيها العاملينَ في وسائلِ الإعلامِ المسيحيَّةِ إلى نَقْلِ الرّجاءِ الذي يختبرونَهُ في حياتِهم الخاصَّة، والى أن يكونوا أهْلَ صلاةٍ، فالصلاةُ تُساعِدُنا على أنْ نشْهَدَ للرجاءِ الذي نعيشُهُ.

ويُضيفُ أنَّ الإتصالَ من خلالِ وسائلِ الإعلام ليْسَ مجرّدَ عَمَلٍ نفعيٍّ مادَيٍّ يؤَدّي الى الإقناعِ وترويج السِّلع، أو وسيلةً لِنَقْلِ الإيديولوجيّات.

والمطلوبُ عَدَمُ تحويلِ الإعلامِ أدواتٍ تُحوِّلُ الإنسانَ عُنصُرًا مُسْتَهْلِكًا، أو جِهَةً بإمكانِها التلاعُبُ بعقولِ المشاهدينَ والسامعينَ والقارئينَ، والتلاعُبُ بمصالِحَ من شأنِها تخريبُ المجتمعِ، ودائما بِحَسَبِ يوحنّا بولسَ الثاني، فإنَّ مهمَّةَ الإِعلامِ هي الجَمْعُ بين الناسِ وإغناءُ حياتِهم بَدَلاً من استغلالِهم.

لذا، فالكنيسةُ مَدْعُوَّةٌ إلى الغَوْصِ في مجالِ الإعلامِ واستعمالِ وسائِلِه لِنْقلِ الإنجيلِ ودَمْجِ الرسالةِ الإنجيليَّةِ بالثقافةِ الجديدةِ وتقنيّاتِها.

  • الإعلامُ الكاثوليكيُّ ما بعدَ الإرشادِ الرسوليّ

أكَّدَ الإرشادُ الرسوليُّ بإيجابيّةٍ تامَّةٍ على أَنَّ وسائِلَ الإعلامِ والتواصُلِ الإجتماعيِّ هي عناصِرُ هامَّةٌ في عالَمِنا المُعاصِرِ، ولِلْكنيسةِ دورٌ هامٌّ فيها، خصوصًا وأنّ مخاطِرَ عديدةً تهدِّدُ الأعلامَ عمومًا والإِعلامَ الكاثوليكيَّ خصوصًا.

أمّا أَبْرَزُ المخاطِرِ التي تتهدَّدُ الإعلامَ وَتَنْتُجُ منهُ، فهي دخولُه في الحياةِ الخاصَّةِ للأفرادِ، وتأثيرُ بعضِ البرامجِ سلبًا على العائلات.

وبالنسبةِ للمُشاهِد أو المستَمِعِ أو القارئ، فإنَّ هذهِ الوسائلَ تبني حَولَهُ عالمًا خاصًّا يحجبُهُ بلْ يَفْصِلُهُ عن القريب الذي يحتاجُ إليه، وتُبْعِدُهُ عن سمَاعِ مختلِفِ النداءاتِ التي تحيطُ به، ويُمكِنُها بالتالي أَن تُسْجُنَهُ ضِمْنَ عالِمِه حَيثُ يَستطيعُ أن يرى ما يميّزُ عصرَهُ”. وكذلك فإنَّ سِجْنَ وسائِل الإعلامِ يضيِّقُ آفاقَ الفردِ فلا يرى إلا ما تُريه إياهُ هذهِ الوسائلُ، ولا يسمَعُ إلاّ ما تُسْمِعَهُ، حتّى إنّها صارتْ عالَمَه وحياتهُ فيهمِلُ الإتصالَ المُباشِرَ بالآخرِ والعيشَ معه.

غير أن هناك خَطَرَيْنِ يهدِّدانِ الحقيقةَ والإعلامَ وهما المسؤولانِ دونَ سواهما.

أمَا الخَطرُ الأولُ فهو ما أسماهُ جورج أو رويل George Orwell [4]: “ثقافَةُ الأسر” أيْ حجبَ المعلوماتِ بحرمةِ الديكتاتور”

أما الخطرُ الثاني فهو ما أسماهُ ألدوس هكسلي Aldos Huxley  [5]:” ثقافة التفاهة والإبتذال” اي حجبَ الحقيقةِ وإغراقَها في بحرٍ من التفاصيلِ الخارجيّةِ عنِ الموضوعِ، على الطريقةِ الفرنسيَّةِ المسمّاةِ: إِغراقُ السمكةِ في السياسةِ.

  • انتقالُ الإعلامِ الكاثوليكيّ إلى الفضاءِ الرقميِّ

رَحَلَ البابا يوحنّا بولُس الثاني تاركًا الكثيرَ الكثيرَ من الأفكارِ والآراءِ والتوصياتِ والتوجيهاتِ والتواصلِ الإجتماعيِّ، وقد أفادَت منها الكنيسةُ والإعلاميون وسائرُ المعنيين بهذا المجالِ، وقد شكّلتْ استكمالا لخطِّ أسلافِهِ بدءًا من الفاتيكاني الثاني حتّى مطلعِ القرنِ الحادي والعشرين. رّحَلَ مُقْتَنِعًا بأنَّ وسائِلَ الإعلامِ والتقنياتِ والتكنولوجيا وما يمكِنُ أنْ تُقدِّمَهُ للبشريَّةِ، هي عطيَّةٌ من الله ويجِبُ استثمارُها بإيجابيَّةٍ وفعاليَّةٍ لِصَونِ القيمِ والأخلاقِ، ولِنَشْرِ كلمةِ الإنجيل، والتصدّي لأعداءِ الكنيسةِ جمعاءَ بما فيها الكنيسةُ الكاثوليكيّةُ.

رَحَلَ تاركًا مِشْعَلَ الإعلامِ ليحملَهُ البابا بنديكْتوس السادسَ عَشَر في زمَنٍ انتقلَ فيه الإعلامُ بما فيه الإعلامُ الكاثوليكيُّ إلى الفضاءِ الرقميِّ وقد أصدَرَ رسالتَه الاولى في هذا الصَدَدِ بتاريخِ24 كانون الثاني 2009 لمناسبةِ اليومِ العالميِّ للإتصالاتِ الإجتماعيَّةِ، وقد حَمَلَتِ العُنْوانَ

“Novae technologiae Novaerelationes. Fovendus cultus observantiae colloqui, Amicitiae”    تقنيّات جديدة، علاقات جديدة تعزّز ثقافة الإحترام والحوار والصداقة.“New technologies, new relationships, Respect dialogue and friendship”

في تلك الفترةِ، كانَ العالَمُ يشهدُ تطوّراتٍ هائلةً في مجالِ التكنولوجيا والإتصالاتِ مَع بروزِ وسائلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ كوسيلةٍ رئيسةٍ للتواصلِ بينَ الناسِ.

وقد ظهرتْ في تلكَ الفترةِ منصّاتُ التواصُلِ الإجتماعيِّ كالفايسبوك وتويتر وسواهُما، بالإضافةِ الى التطوُّرِ المستمرِّ والمُتسارِعِ في تِقنيّاتِ الإنترنت.

أهميّة التكنولوجيا

منْ هذا المنطلقِ، ذكَّر البابا بنديكتوس السادسَ عَشَرَ في مطلِع رسالتهِ بأهميَّةِ التكنولوجيا في العصرِ الحديثِ، ثمَّ انتقلَ للإعترافِ بأنَّ التطوُّرَ السريعَ في وسائِلِ الإعلامِ يفرِضُ تحدّياتٍ وفُرصًا جديدةً للكنيسةِ، كما أكَّدَ على ضرورةِ التكيُّفِ معَ هذهِ التغيُّراتِ والإستفادةِ منها لِنشْرِ رسالةِ الكنيسةِ، ولِدَعْم التعليمِ والتَنميةِ البشريَّةِ والوصولِ إلى المعرفة.

وتناوَلَ قداسَتُهُ التحدياتِ المتعلِّقَةَ بالأمانِ والخصوصيَّةِ في عصرِ الإعلامِ الرقميِّ. وكأسلافِهِ، دعا إلى استخدامِ التكنولوجيا بوعي ومسؤوليَّةٍ لتعزيزِ الهويَّةِ الإنسانيَّةِ الإيجابيَّةِ، ومعَ ازديادِ الوعيِ الأخلاقيِّ داخِلَ الكنيسَةِ حولَ استخدامِ وسائِلِ الإعلامِ الحديثةِ، بدأتِ الكنيسةُ في تطويرِ سياسياتٍ وبرامِجَ لتعزيزِ الإستخدامِ الأخلاقيِّ للتكنولوجيا.

ولعَلَّ أهَمَّ ما شجَّعَتْ عليهِ هذهِ الرسالةُ، هو الحوارُ بين الأديانِ والثقافاتِ من خلالِ وسائلِ الإعلامِ، وهو الوصولُ الى جُمهورٍ أوسَعَ وتعزيزُ التعليمِ المسيحيِّ.

ودائمًا في عصرِ الفضاءِ الرقميِّ، وإيمانًا مِنْهُ بأهميَّةِ الإعلامِ ووسائلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ في نَشْرِ كلمةِ الإنجيلِ وإيصالِ رسالةِ الكنيسةِ إلى العالَمِ، أصدرَ البَابا بنديكتوس السادِسَ عَشَرَ رسالةً بعنوانِ ” الشبكاتُ الاجتماعيَّةُ بوّاباتٌ للحقيقةِ والإيمانِ: مساحاتٌ جديدةٌ للتبشير، وذلك في 24 كانون الثاني 2012 لمناسبةِ اليومِ العالميِّ للاتَصالاتِ الإجتماعيَّةِ. “Silentium et Verbum: Inter se Evangelizant” ترجمتُها باللّغةِ العربيّةِ “الصمتُ والكلمةُ دربُ التبشيرِ”، في هذه الرسالةِ يتأمّلُ البابا بنديكتوسُ السادسَ عشَر في العلاقةِ بينَ الصمتِ والكلمةِ في عمليّةِ التواصلِ الإنسانيِّ والتبشيرِ، معتبِرًا أنَّ الصمتَ ليس غيابًا للكلامِ، بل هو مساحَةٌ ضروريَّةٌ لإستقبالِ الكلمةِ والتأمّلِ فيها، ومن ثُمَّ نقلُها بِصِدْقٍ وفَعاليَّة. تزامَنَتْ هذه ِالرسالةُ معَ الدورِ الكبيرِ الذي تلْعَبُهُ وسائِلُ التواصُلِ الإجتماعيِّ في تغييرِ كيفيَّة تفاعُلِ الناسِ معَ بعضِهم البعضِ ومَعَ المعلوماتِ، وتؤكِّدُ على ضرورةِ اسْتِغلالِ هذهِ المنصّاتِ لتعزيزِ الحقيقةِ والإيمانِ، كما تعرضُ للتحدياتِ الأخلاقيَّةِ الناجمةِ من استخدامِ وسائلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ، كالخصوصيَّةِ، الهويَّةِ الرقميَّةِ، وتأثيرِ الإعلامِ على القِيمَ الإجتماعيَّةِ.

واستجابةً لهذهِ الرسالةِ، قامَ العَديدُ من المؤسّساتِ الكنسيَّةِ بتطويرِ برامِجَ تعليميَّةٍ وتدريبيَّةٍ في مجالِ الإعلامِ الرقميِّ.

هذا هو الاطارُ العامُّ للرسالةِ المشارِ إليها أَعلاهُ، أّمَّا في بعضِ مضمونِها، وهو غنيٌّ جِدًّا، فنقرأُ ما شكَّلَ خطوةً تطويريَّةً واسعةً في الإعلامِ الكاثوليكيِّ والتواصُلِ الإجتماعيِّ ذي الصلةِ.

الشبكاتُ الإجتماعيّةُ الرقميَّةُ

جاء تَطوُّرُ الشبكاتِ الإجتماعِيَّةِ الرَّقميَّةِ مُساهِمًا في بُزوغ مِساحةٍ عَامَّةٍ ومنفتِحَةٍ، يتبادلُ فيها الأشخاصُ الأفكارَ والمعلوماتِ والأسرارَ، ومنْ شأنِها أن تُعزِّزَ روابطَ الوحدَةِ بينَهُم، وتدعَمَ بفعالِيَّةٍ تناغُمَ العائلة البشريَّةِ. وإذا ما التزمَ هؤلاءِ الأشخاصُ وتشاركوا في بناءِ علاقاتٍ، فإنَّ هذه الشبكاتِ التواصليَّةَ تُصبِحُ جزءًا من النسيجِ الإجتماعيِّ لكونِها توحِّدُ الناسَ فوقَ قاعدةِ الإحتياجاتِ الشخصيَّةِ. وليسَ خافيًا أنَّ ثقافةَ الشبكاتِ الإجتماعيَّةِ تشكِّلُ تحدّيًا صَعْبًا للراغبينَ في الكلامِ عن الحقيقةِ والقِيَم. ففي بعضِ الأحيانِ يمكنُ أَنْ يَغْرقَ صوتُ العقلِ الهادئُ تحتَ ضجيجِ سَيْلِ المعلوماتِ الجارِفِ، من هُنا تحتاجُ وسائلُ الإتصالاتِ الإجتماعيَّةِ إلى التزامِ جميعِ الذينَ يُدركونَ قيمةَ الحوارِ والنقاشِ العقلانيِّ، والساعينَ إلى تنميةِ أشكالِ تعبيرٍ تقومُ على التطلُّعاتِ النبيلةِ للمشاركينَ في عمليَّةِ التواصُلِ بحيثُ يقبلونَ ثقافَةَ الآخرِ وينهلونَ منها ويقدّمون إليهِ ما لديهم من أشياءَ جديدةٍ، ويشاركون إيمانَهم مع الذين يُقابلونَهم في البيئةِ الرقميَّةِ. إضافةً إلى ما تقدَّمَ، فإنَّ الشيكاتِ الإجتماعيَّةَ ليْسَتْ أداةَ تبشيرٍ فحسبُ، بل هي عاملٌ للتطوُّرِ البشريِّ.

إيجابيّة الشبكات الإجتماعيّة الرقميّة

وبإمكانِها أّنْ تَكْسِرَ عُزلَةَ العديدِ من المسيحيين، وتُعَزِّزَ شعورَهم بالوحدةِ مَعَ جَماعةِ المؤمنينَ العالميَّةِ، وَتُسَهِّلَ أيضًا التشارُكَ في الموارِدِ الروحيَّةِ والليتورجيَّةِ، وكُلُّنا نَعْلَمُ أنَّ هناكَ شبكاتٍ اجتماعيَّةً في مجال البِنيةِ الرقميَّةِ، تُقدِّمُ للإنسانِ المُعاصِرِ فرصًا للصلاةِ والتأمّلِ والمشاركةِ لكلمةِ الله.

وقد تكونُ دعوةُ البابا بنديكتوس للإعلاميينَ والقيّمين على وسائلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ أَنْ يجعلوا الإنجيلَ حاضرًا في البيئةِ الرقميَّةِ، هي ابْرزَ علاماتِ التطوُّرِ الحديثِ في الإعلامِ الكاثوليكيِّ، خصوصًا وأنَّها ترمي الى إعلان محبَّةِ اللهِ إلى أقاصي الأرضِ.

 

تطوُّرٌ إعلاميٌّ منْ نَوْعٍ آخَرَ

البابا بنديكتوس السادِسَ عَشَرَ: خطواتٌ إعلاميَّةٌ غيرُ مسبوقَة

مرّةً جديدةً يَصُحُّ القولُ:” الأسلوبُ هو الرَّجُلُ” في البابا بنديكتوسَ السادِسَ عَشَر َالذي يختلِفُ أسلوبُهُ في التواصُلِ عن سَلَفِهِ البابا يوحنّا بولس الثاني.

عُرِفَ البابا بنديكتوس السادِسَ عشرَ بِلَقبِ ” ناقِلُ الإيمانِ في العَصْرِ الرقميِّ”…

صحيحٌ أنَّه لَمْ يَكُن بارعًا في التواصُلِ معَ الجماهيرِ، عِلْمًا أّنَّهُ جَذَبَ انتباهَ الملايينِ مِنَ الشبابِ في أيّامِهِم العالميَّةِ، غيرَ أنَّهُ كانَ متواصِلاً رائعًا، ولكِنْ على طريقتِهِ وبأسلوبهِ الخاصِّ والجديدِ من نْوعِهِ الذي جَعَلَ مِنْهُ شاهِدًا عظيمًا للإيمانِ من خِلالِ كتاباتِهِ وخُطَبِهِ وعظاتِه.

وبالتالي، امتلكَ هذا البابا ما يكفي من الشجاعةِ للمجازفةِ في مجالِ الإتصالاتِ الواسِع. فقد تواصَلَ عَبْرَ الإصغاءِ مرةً، وَعَبْرَ الحوارِ مرَّة ثانيةً، وعَبْرَ المراسَلةِ مرَّةً ثالثَةً، وَعَبْرَ المقابلةِ الوجاهيَّةِ مرَّةً رابعةً، من لقائِهِ ضحايا الاعتداءاتِ الوحشيَّة، الى الزياراتِ الدَّوليَّةِ، وصولاً الى محاورَتِهِ روّادَ الفضاءِ وَهُمْ في الأعالي، مرورًا بالرسائلِ الخطيَّةِ…

نَعَمْ، هذا البابا كانَ الأوَّلَ في ما ذَكَرْنا، والأوَّلَ الذي عاشَ غَزْوَ شبكاتِ التواصُلِ الإجتماعيَّةِ التي اعادَتْ تشكيلَ سياقِ الإتّصالِ العالميِّ ، وَقَدْ شكَّلَتْ رسائلهُ الخمسُ الخاصَّةُ بالأيَّامِ العالميَّة لوسائِل التواصلِ الإجتماعيَّةِ نوعًا من الخُلاصةِ للسلطَةِ التعليميَّةِ في الكنيسةِ حولَ هذا الواقِعِ الجديِدِ الذي غيَّر، ليسَ فقطْ طريقتَنا في التواصُلِ، ولكِنْ أيضًا أسلوبَ علاقَتِنا بالآخرين، فالبابا بنديكتوس السادسَ عَشَرَ أدركَ معنى ثورةِ شبكاتِ التواصُلِ الإجتماعيَّةِ، التي باتتْ في نَظَرِهِ بيئةً نعيشُ فيها، ولم تَعُدْ وسيلةَ استخدامٍ فقط. من هُنا جاءَ مُصْطَلَحُ “القارَّةُ الرقميَّةُ” لِوَصْفِ شبكات التواصُلِ الإجتماعيَّةِ.

كونوا شهودًا

وهي تتطلَّبُ التزامَ المؤمنينَ، ولا سيَّما العلمانييّن، بما يتماشى معَ القرارِ المَجْمَعيِّ في وسائِلِ الإعلامِinter mirifica  لتبشيرِ منطقةِ الرسالاتِ الجديدةِ. وقَدْ أدرك أيضًا وجوبَ تخطّي التمييزِ الواقعيِّ من الإفتراضيِّ… كما شجَّعَ المسيحيينَ على أنْ يكونوا شُهودًا رقميّينَ، مُحوّلينَ شبكاتِ التواصلِ الإجتماعيِّ ” أبوابًا للحقيقيةِ والإيمانِ”

وكما اسَّسَ البابا بيوسُ الحادي عَشَرَ إذاعةَ الفاتيكان قبلَ أكثرَ من سبعين عامًا، كذلك فعلَ البابا بنديكتوس السادسَ عشرَ عندما فتح حسابَ pontifex [6] في 12 كانون الأول 2012 وَنَشَرَ لأوَّلِ مرَّةٍ تغريدةً، وَقَدِ اعتُبِرَتْ هذهِ خطوةً فاتيكانيَّةً رائدةً في مجالِ التواصُلِ الإجتماعيّ المسيحيِّ الكاثوليكيِّ.

وقد قامَ قداستُه بهذهِ الخطوةِ لإقتناعِهِ بخيارٍ جديدٍ يسيرُ في اتجاهِ البشارةِ الجديدة.

وبالفِعل، ها هو البابا فرنسيس يُعيدُ تنشيطَ هذا الحسابِ الذي قارَبَ عددُ متابعيه الخمسينَ مليونًا، مغرّدينَ بتِسْعِ لغاتٍ.

بكلمةٍ، لقد كانَ بنديكتوس السادسَ عَشَر سبّاقًا وشجاعًا وفاتحًا إذا صَحَّ التعبيرُ، وقد استطاع أنْ يَنقُلَ الإعلامَ الكاثوليكيَّ إلى مكانٍ آخرَ أكثرَ تطوّرًا.

 

البابا فرنسيس والإعلام: تأكيدٌ على الثوابتِ وإضاءَاتٌ على مفاهيمَ تطويريَّةٍ جديدةٍ

في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني 2014، وجَّه البابا فرنسيس رسالةً في اليوم العالميّ! للإعلامِ والاتصالاتِ، حملت العنوانَ الآتي: “Communicatio in servitium authenticate culture occursus” ترجمتها “الاتصالُ في خدمةِ ثقافةِ اللقاءِ الأصيلةِ”. رُبّما تكونُ الصفةُ “الأصليّة بل الأصيلة” التي استخدمَها قداستُه، هي الكلمةَ الجديدةَ بل الكلمةَ المفتاحَ في هذهِ الرسالةِ، وكأنّه شاءَ أنْ يَغْمِزَ إلى أنواعٍ عديدةٍ من اللقاءَاتِ السطحيَّةِ الفارغةِ الباهتةِ التي تجري بواسطةِ وسائلِ التواصُلِ الإجتماعيّ، والتي لا تؤدّي أيّةَ خدمةٍ لسعادةِ البشَرِ ولا تمجِّدُ اللهَ ولا فائدةَ روحيَّةً منها…

ثقافة اللقاء

ومعظَمُها مجرَّدُ تفاهاتٍ سخيفةٍ مادّيةٍ ومُفْسِدَةٍ أحيانًا كثيرةً، وقد تكونُ مُدَمِّرَةً في بعضِ المرَّاتِ، أمَا ثقافةُ اللقاءِ التي وصفَها قداستُه بالأصيلةِ والأصليَّةِ فهي لا ترى في التواصُلِ الإنسانيِّ وسيلةً لتعزيزِ الحوارِ والتفاهُمِ بينَ الأفرادِ والجَماعاتِ، وحريٌ بوسائلِ التواصُلِ الحديثةِ أنْ تخدِمَ غرضًا أعمَقَ من مُجَرَّدِ نقْلِ المعلوماتِ، وهو بناءُ الجسورِ وتعزيزُ العلاقاتِ الإنسانيَّةِ من خلالِ حوارٍ مفتوحٍ لتعميقِ الفَهْمِ المتبادَلِ والتعاون.

التّواصُل الأصيل

وإذْ وصفَ قداستُه التواصُلَ بالأصيلِ، فقد قَصَدَ ذاكَ التواصلَ القائمَ على الصدقِ والنزاهَةِ، وغيرَ الهادِفِ إلى الإستغلالِ أو التضليلِ، وإذْ تحدَّثَ عن البناءِ الإجتماعيِّ، فإنَّما اعْتُبِرَ أنَّهُ يَجِبُ على وسائِل الإعلامِ أَنّْ تُسْهِمَ في بناءِ مجتمعٍ اكثرَ عدالةً وتضامُنًا…

وفي سياقِ الأصالةِ التي عَناها، تندرِجُ مسألةُ مكافحةِ العزلةِ الاجتماعيَّةِ والانقسامِ، كما مسألتا تعزيزِ الحوارِ والتربيةِ على القِيَمِ.

وجديدُ البابا فرنسيس في هذهِ الرسالةِ أنَّهُ أطلَقَ ما عُرِفَ بالأطُرِ النظريَّةِ، من النظريَّةِ الإجتماعيَّةِ التي تقومُ على تحليلِ دورِ التواصُلِ في بناءِ الهويَّةِ الاجتماعيَّةِ وتعزيزِ الروابطِ بين الأفرادِ، الى النظريّةِ الأخلاقيَّةِ التي من شأنِها تقييمُ دَوْرِ الأخلاقيّاتِ في توجيهِ استخدامِ وسائلِ الإعلام والتواصُلِ وصولاً إلى النظريَّةِ الاتصاليّةِ التي تَدْرُسُ التواصليَّةَ بينَ الأفرادِ والجماعاتِ.

الأهميّة الإجتماعيّة

وتحتَ عُنوانِ:” الأهميّة الإجتماعيَّةِ” تضمَّنَتِ الرسالةُ كلامًا سبقَ لبابواتٍ أسلافٍ أَنْ جَاؤوا على ذِكرهِ في رسائِلهم ذاتِ الصلةِ بالإعلامِ ووسائلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ، وقد رأى فيها البابا فرنسيس منحىً أصيلاً إذْ تكلَّمَتْ على دورِ وسائلِ التواصُلِ في بناءِ الجسورِ بينَ الثقافاتِ المختلفةِ، وفي تمكينِ الأفرادِ والمجتمعاتِ المهمَّشةِ، وفي التربيةِ والتوعيةِ في القضايا الإجتماعيَّةِ والإنسانيَّةِ.

سَيْطرَةُ البيْئَةِ الإعلاميَّةِ

في الرابعِ والعشرينَ من شهرِ كانونَ الثاني 2019، وفي اليومِ العالميِّ لوسائِل التواصُلِ الاجتماعيَّةِ، يَخْرُجُ البابا فرنسيس برسالةٍ موجَّهَةٍ إلى جَماعاتِ شبكاتِ التواصُلِ الاجتماعيَّةِ والجماعةِ البشريَّةِ، وقد أخْتارَ لها العُنوان: “Sunt autem membra Invicem” وترجمتها “إنَّنا أعضاءٌ بَعْضُنا لِبَعْضٍ”

وقد أرادَ من خلالِها دعوةَ المعنيّينَ الى التأمُّلِ حولَ أساسِ الحوارِ وأهميَّتهِ، والى اكتشافِ رغبَةِ الإنسانِ الذي لا يُريدُ الحوار أن يبقى في عُزلَتِهِ. وَلِكَسْرِ هذه العزلةِ وإلغائها، شاءَ استثمارَ قدراتِ الإنترنت في الإعلامِ، خصوصًا وأّنَّ البيئةَ الإعلاميَّةَ هي المُسيطِرَةُ، وباتتْ إطارًا لِعَيِشِ الإنسانِ اليَومِيِّ، وموردًا لهذا الزمنِ، ومَصدَرَ معرفةٍ وعلاقاتٍ كانتْ مُتَعَذرةً في ما مضى

سيف ذو حدَّين

صحيحٌ أَنَّ الإنترنت توفِّر فيضًا من المعارِف، لَكِنْ الصحيحُ أيضًا أنَّها أحدُ أكثرِ الأماكِنِ للتضليلِ والتشويهِ الواعي والمتعمِّدِ للوقائعِ والعلاقاتِ الشخصيَّةِ التي غالبًا ما تنالُ من المصداقيَّةِ.

إنَّ الإنترنت كسيفٍ ذي حدّيْنِ، تساعِدُنا من جهةٍ وتسيءُ إلينا من جهةٍ ثانيةٍ، فهذهِ الشبكةُ الإجتماعيَّةُ تُشكِّلُ من جهةٍ فرصةً لتعزيزِ اللقاءِ مع الآخرين، لكنّها منْ جهةٍ ثانيةٍ تقويّ انعزالَنا تمامًا كشبكةِ عنكبوتٍ قادرةٍ على الإيقاعِ في الفخّ.

ومنَ الواضحِ أنَّ فئةَ الشبابِ هي الأكثرُ تعرُّضًا لِوَهْمِ أنَّ الشبكةَ الإجتماعيَّةَ بإمكانها أَنْ تُشْبِعَ أخلاقَهُم، ويبلغُ الوهُم حدودَ الظاهرةِ الخطرةِ التي تجْعلُ منهم “نسّاكًا اجتماعيين”، يُخاطِرون بأنْ يُصبحوا غرباءَ بالكامِلِ عن المجتمعِ. إزاءَ هذا الواقعِ الذي فرضَ نفسَهُ بقوَّةٍ وهو إلى تعاظُمٍ على ما يبدو، تجدُ الكنيسةُ نفسَها، ومعَها إعلامُها المسيحيُّ الكاثوليكيُّ ووسائلُ التواصُلِ الإجتماعيَّةُ المرتبطةُ بها، أمامَ مسؤوليَّةٍ كُبرى، وَمَدْعُوَّةً الى الإجابَةِ عن سؤالٍ كبير جدًّا: ما المادَّةُ الإعلاميَّةُ الكاثوليكيَّةُ التي يَجِبُ عليها  أنْ تُقَدِّمها الى الشرائحِ الشبابيّةِ التي أصبَحَتْ في حالةِ إدمانٍ على مواقِعِ التواصُلِ، والّتي بإمكانِها أَنْ تجذِبَهُم وتُفيدَهُم وتُبْعِدَهُم عن الضّلالِ، وتحمِيَ عُقولَهُم من الأفكارِ الهدَّامةِ، وتقرِّبَهُم من اللهِ والآخَرِ، وتزوِّدَهُم بالقِيَم، وتصونَ أخلاقَهُم؟

أيُّ إعلامٍ كاثوليكيِّ من شأنِهِ أَنْ يُعيدَ شبابَنا من غُربتهِ؟ ويُخرِجَهُ من عُزلتِهِ؟ ايُّ إعلامٍ كاثوليكيٍّ سيكونُ قادِرًا على كسْرٍ هذه الديناميَّةِ المأساويَّةِ التي تُظْهِرُ شِقًّا خطيرًا في نسيجِ المجتمعِ العلائقيِّ، وَجُرْحًا لا يُمكِنُ تجاهُلُهُ…

الهويَّةُ الجَماعيّة الحقيقيّة

في السّياقِ يطرَحُ قداسة البابا فرنسيس سؤالاً كبيرًا: كيف يُمكِنُنا أَنْ نجِدَ الهويَّةَ الجَماعيَّةَ الحقيقيةَ، مدركينَ مسؤوليَّتَنا تجاهَ بَعضِنا البَعْضِ حتّى في شبكةِ الانترنت وعبرَ وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيِّ؟

ثم يُجيبُ بنفسهِ اجابةً محتملَةً انطلاقًا من التشبيهِ الذي استخدَمَهُ القدّيسُ بولسُ، وهو تشبيهُ الجَسَدِ والأعضاءِ للحديثِ عن علاقةِ التبادليَّةِ بينَ الأشخاصِ والقائمةِ على الجسْم الذي يجْمَعُهم:” ولذلك كُفّوا عنِ الكذبِ وليْصدُقْ كُلُّ منكم قريبَهُ، فإنّنا أعضاءٌ بعضُنا لبعضٍ (أفسس 4، 25).

ونحن كمسيحيينَ نعتبِرُ أنفُسَنا جميعًا أعضاءً في الجسَدِ الواحِدِ الّذي رَأسُهُ المسيحُ.

إنّها عضويَّةٌ دامِجَةٌ وَمُدْمجةٌ في شركَةِ الله الذي هو شَرِكَةٌ ومحبَّةٌ وبالتالي تواصُلٌ، ذلك لأنَّ المحبَةَ تتواصَلُ دائمًا، بلْ توصِلُ ذاتَها من أَجْلِ لِقاءِ الآخَرِ…

أمَّا في ما يخُصُّ الحوارَ الحقيقيَّ مَعَ البشريَّةِ، فقد أقامَهُ اللهُ مَعَها منذُ العهدِ القديمِ مُتكيّفًا مَعَ لُغةِ الإنسانِ مرَّةً بالمُباشرِ كما حَصَل عندما كلَّم موسى، ومرَّةً بالوحيِ عندما كلَّمَ الأنبياءَ موحيًا إليهم، ومرَّةً من خلالِ الأحداثِ الكُبرى كما فعلَ في سادومَ وعامورَ أو في خلال ما عُرِفَ بطوفانِ نوح…

باختصارِ، واضاءَةً على الجديدِ الذي أرادَهُ البابا فرنسيس على مستوى الإعلامِ ووسائلِ التواصُلِ الاجتماعيَّةِ، حريٌ بنا التوقُّفُ عندَ ما وَرَدَ في رسالتهِ الصادرة في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني سنة 2019 لمناسبةِ اليومِ العالميِّ لوسائِل التواصُلِ الإجتماعيَّة

“Sunt autem membra invicem, Eph 4, 25 de socialium retilus et communitate humana”، وترجَمَتُها نحن أعضاءٌ بعضُنا لبعض (أف 4/ 25)، الشبكاتُ الإجتماعيّةُ والجماعَةُ البشريّةُ، حيثُ قالَ: “تُذكرِّنا صورةُ الجسَدِ والأعضاءِ بأنَّ استخدامَ الشبكةِ الإجتماعيَّةِ هو مكمِّلٌ للقاءِ الشخصيِّ الذي يحيا من خلالِ جِسَدِ وقلْبِ وعَيْنَي الآخرِ ونظرتهِ ونفسِه… فالشبكةُ فرصةٌ لأتقرَّبَ من الآخَرِ، للصلاة معًا، والإبتسامةِ والملاطفةِ، هذه هي الشبكة التي نريدُها للإحتفالِ بالإفخارستيا، للبحْثِ عن الخيرِ… هي طريقٌ للحوارِ واللقاءِ، شبكةٌ ليْسَت للإيقاع في الفخّ، إنَما للتَّحَرُّرِ، إنَّ الكنيسَةَ نفسها هي شبكةٌ تُسبِّحُها الشركةُ الإفخارستيّةُ حيثُ يتأسَّسُ الاتحادُ على الحقيقة…

عودًا على بدءٍ… وجوابًا عن سؤالٍ مطروحٍ منذُ ما قبلَ المجمَعِ الفاتيكانيِّ الثاني حتى أَمْسٍ قريبٍ من تاريخ الكنيسةِ المُعاصِرِ والحديثِ:

هل يُمكِنُ لوسائلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ أَنْ تكونَ مكانًا أو وسيلةً للتبشيرِ؟

ظَلَّتْ آراءُ رؤساءِ الأساقفةِ والأساقفةِ والمعنيّين المُباشرين مُنقَسِمةً حَوْلَ هذهِ المسألةِ، فَفِئَةٌ اعتبرتْ أنَّ وسائلَ التواصُلِ لا يمكنُ أن تكونَ مكانًا للتبشيرِ، وفئةٌ ثانيةٌ أجابَتْ بأنَّ هذهِ الوسائلَ تُساعِدُ ولا تُغني عن التبشير ِالمُباشِر من خلالِ الحُضور الجسديّ لِلْمُبشّرينَ والمُبَشَّرينَ، وفئة ثالثةٌ، وعلى رأسِها البابا بنديكتوس السادسَ عَشَرَ الذي أضافَ قائلاً: “علينا أَنْ نعيشَ في هذهِ الأمكنةِ بمسؤوليَّةٍ، فإنَّ هذهِ المساحاتِ التي نجدُها على الانترنت هي بِبساطةٍ مختلفةٌ عن المساحاتِ العاديَّةِ التي نجِدُها في التواصُلِ التقليديِّ، واعتَبر أنَّ الفئةَ التي تنتَقِدُ هذه الوسائِلَ هي من أشخاصٍ رجعيّين عاشوا في زمنٍ مضى حَيْثُ لم تكنْ فيه هذه الوسائلُ، ولم يتسَنَّ لهم ان يعرفوها ويتعرَّفوا إلى ماهيَّتِها وقدراتها.

باباوان متحرِّران من الرّجعيَّة

رأيُ البابا بنديكْتوسَ السادِسَ عَشرَ المضافُ الى رأيِ البابا فرنسيس مخالِفان لموقفِ هذهِ الفئةِ، بل معاكِسان لها كلِّيًا، فهما يريَانِ أَنَّ مجموعاتٍ بشريَّةً شبابيَّةً تُصغي الى التعليمِ المسيحيِّ الذي تقدِّمُهُ وسائلُ التواصِلِ الإجتماعيَّةُ الكاثوليكيَّةُ، ثم تَسْتَخْدِمُ الشبكةَ للحوارِ والمناقشةِ وتبادُلِ الآراء حولَ ما سَمعوا أو قرؤوا أو رأوا، وبالتالي، فإن أشخاصًا كثيرين يَجدونَ في الشبكاتِ الإجتماعيَّةِ التحضيرَ ليشارِكوا شخصيًّا في تنشئةٍ مسيحيَّةٍ…

وبالطبعِ، حريٌّ بالقيّمين على هذهِ الوسائلِ وعلى الإعلامِ الكاثوليكيّ، أن يطوِّروها باستمرارٍ لتبقى عُنْصرَ جَذْبٍ للفئةِ العمريَّةِ الشابَةِ التي تتألّفُ منها أكبرُ شريحةٍ من المُسْتَخدِمينَ، ولتكونَ قادِرةً على إيصالِ رسالة البابا والإنجيلِ والكنيسةِ بشكلٍ أَسرعَ بكثيرٍ من أيَّةِ وسيلةِ تواصُلٍ اجتماعيَّةٍ تقليديَّةٍ.

 

ديناميكيَّةُ التواصلِ: الحوارُ والمشاركَةُ والتكلُّمُ مِنَ القلبِ

نَحا الإعلامُ الكاثوليكيُّ ووسائلُ التواصُلِ الاجتماعيَّةُ منحىً آخرَ مختلفًا مع البابا فرنسيس، واتَّخذَتْ وِجهةً تطويريَّةً فريدةً حتّى لا نقولَ غيرَ مسبوقةٍ، باعتبارِ أنَّ الذين سبقوا في هذا المجالِ، من المجمَعِ الفاتيكاني وما رسَمَهُ في هذا الإطار، مرورًا بيوحنّا بولسَ الثاني وبنديكتوسَ السادسَ عَشَرَ، قد قدّموا مقارباتٍ وطروحاتٍ جِدِّيَّةً وذاتَ نَفَسٍ تطويريٍّ في مجالِ الاعلامِ الكاثوليكيِّ ووسائلِ التواصْلِ الإجتماعيَّة.

الخروجُ عن المألوف

أمَّا البابا فرنسيس، وَلَئِنْ كانَ قد تابَعَ المسارَ التصاعُدِيَّ، غيرَ أنَّهُ خرجَ عن ما هو تقليديٌّ ومألوفٌ ليختارَ عناوينَ أَحْدَثتْ صدمةً إيجابيَّةً، كأنْ أصدَرَ رسالةً في الرابع والعشرين من شهر كانون الثاني سنة 2023، تَحْمِلُ العنوان “Loqui Corde: facientes in caritate” وترجمته “التحدّث من القلب: الحق بالمحبة” (أفسس 15/ 4) وذلكَ لمناسبةِ اليومِ العالميِّ السابعِ والخمسينَ لوسائِلِ التواصُل الإجتماعيَّة…

تحت هذا العنوانِ، لم يتكلَّمْ بلغةٍ علميَّةٍ عن تكنولوجيا المعلوماتِ بما فيها الإنترنت وخصائصُها وخِدماتُها، إلخ … بَلِ اختارَ لغةً جديدةً متبادَلةً على وسائِل التواصُلِ الاجتماعيَّةِ ولقد اختارَ التكلُّمَ من القَلْبِ، لأنَّ القلْبَ في رأيهِ، هو الذي يُحرِّكُ الأشخاصَ ويدفَعُ بِهِم لكي يتواصلوا بشكلٍ مُنفَتح ومضيافٍ ضِمْنَ ديناميكيَّةِ الحوارِ والمشاركةِ التي هي ديناميكيَّةُ التواصُلِ من القلبِ ويقولُ:” إذا أَصغَيْنا إلى الآخرِ بقلبٍ نقيٍّ، سنتمكَّنُ أيضًا منْ أَنْ نتكَلَّمَ بِحَسَبِ الحقّ في المحبَّةِ، وَيَجِبُ ألا نخشى من أنْ نُعْلِنَ الحقيقةَ حتى لو كانت مزعجةً في بعضِ الأحيانِ، وإنمّا علينا أن نخشى إعلانَها من دونِ محبَّةٍ أو من دونِ قلب”

هذا الكلامُ قالَ شبيهَهُ البابا بنديكتوس السادسَ عَشَرَ عندمَا كَتَبَ: برنامجُ المسيحيِّ هو قلبٌ يَرى، قلبٌ يكشِفُ بنبضاتِهِ حقيقةَ وجودِنا، ولهذا السبَبِ عَلَيْنا أَنْ نُصْغِيَ إليه.

وأضافَ: إنَّ التواصُلَ من القَلْبِ يَعْني أَن نقودَ الذي يقرأُنا أو يستمعُ إلينا إلى أَنْ يَفْهمَ مشاركَتَنا في أحوالِ الناس… ثم تابعَ: لا يتعلّقُ الإلتزامُ بالتواصُلِ من القلبِ بالعاملينَ في مجالِ المعلوماتِ فقط، بلْ هو مسؤوليَّةُ كُلِّ فَرْدٍ، ونحن المسيحيين مَدْعوّونَ بشكلٍ خاصٍّ لكي نُحافِظَ على لِسانِنا مِن الشّرِ لئِلّا يشكَّ أحدٌ في أنَّ الكلامَ اللطيفَ يفتحُ ثغرةً في اكثرِ القلوبِ قساوةً.

الكلام الذي لا يُسمِّم القلوب

وعليهِ، فإنَّ وسائلَ الإعلامِ بحاجةٍ إلى كثيرٍ من الكلامِ الذي لا يُسَمِّمُ القلوبَ والعلاقاتِ، وحيْثُ لا يؤجّجُ التواصُلُ حِقدًا، ويولِّدُ غضبًا، ويقودُ إلى مواجهةٍ، بل يُساعِدُ على التفكيرِ بهدوءٍ وفَهْمِ الواقِعِ بروحٍ ناقِدَةٍ ومحترمةٍ.

وإثباتًا للمقولَة:” يكفي أَنْ نُحِبَّ جيّدًا لكي نتكلَّمَ جيّدًا فإنّنا نستعيرُ من (سيراخ 6، 5) قولَهُ: ” الفَمُ العَذْبُ يُكْثِرُ الأصدقاء وَاللسانُ اللطيفُ يُكْثِرُ المؤانساتِ”.

إعلامٌ أفضلُ

يَمضي البابا فرنسيس في توجيهاتِهِ نحوَ إعلامٍ أَفضَلَ ووسائلِ تواصُلٍ أَنْصَعَ وأنقى ليقولَ:” إنّنا في زمنٍ يَتِمُّ فيهِ استغلالُ وسائِلِ التواصُلِ الإجتماعيَّةِ لكي يرانا العالَمُ كما نرغَبُ في أَنْ نكونَ وليس لما نحنُ عليهِ. وحريٌ بالعاملينَ في مجالِ الاتّصالاتِ أّنْ يرفضوا تجرُبةَ استخدامِ التعابير ِالعدائيَّةِ والمُلفِتَةِ للنَظرِ، وأنْ يبحثوا عن الحقيقةِ ويقولوها بشجاعةٍ وحريَّةٍ.

تطويرُ الجوهَر

من هُنا نَفْهَمُ أن البابا فرنسيس لا يَطْمَحُ إلى تطويرٍ اعلاميٍّ بالشَّكْلِ والتجهيزاتِ والأدواتِ والمباني، بل يريدُه تطويرًا للجوهَرِ وَلِغاياتٍ نبيلةٍ، لذا نراهُ يَحْلُمُ بتواصُلٍ كنَسيٍّ يعرفُ كيف يسمَحُ للروح القُدُسِ أَن يُوجِّهَهُ، تواصُلِ لطيفٍ ونبويٍّ في آنٍ، يعرِفُ كيفَ يجدُ أشكالاً وَأساليب جديدةً للإعلانِ الرائعِ لكي يَحْمِلَهُ إلى الألفيَّةِ الثالِثة.

التواضع في الإصغاء

إلى تواصلٍ تكونُ أَساساتُهُ التواضُعَ في الإصغاءِ، والجرأةَ في الكلامِ، ولا يفصِلُ الحقيقةَ عنِ المحبَّةِ. نَعَمْ، يريدُ البابا إعلامًا ينطِقُ بلغَةِ السَّلامِ ولأجْلِ السلامِ، وهل شيءٌ أكثرُ من الكلامِ النابِعِ من القلبِ قادِرٌ على تعزيزِ ثقافةِ سلامٍ حيْثُ توجَدُ الحرب؟؟

وهل أَبْلَغُ وأعمَقُ من قولِ سفرِ الأمثال (25،15) ” اللسانُ الليِّنُ يَكْسِرُ العِظام”؟

نَعَمْ، إعلامُنا بحاجةٍ إلى عاملي اتّصالاتٍ مستعدّينَ للحوارِ، منفتحينَ، شُجعانٍ، مُبدعينَ ومُستعدّينَ للمخاطرةِ ولإيجادِ أرضيَّةٍ مشتركةٍ لِلّقاءِ…

كُلُّ خُطابٍ عدائيٍّ مرفوضٌ، وكذلك كلُّ شكلٍ من اشكالِ الدعايةِ التي تتلاعَبُ بالحقيقةِ وتُشوِّهُها لأغراضٍ أيديولوجيَّةٍ. مِنَ القَلْبِ تنبَعُ الكلماتُ الصحيحةُ لبناءِ حضارةٍ أفضل من تلكَ التي نِلْناها في السّابق.

هذا الأمرُ يحتاجُ جُهْدًا مِنْ كُلٍّ مِنّا، ويذكِّرُ عاملي الاتَصالاتِ بِحِسِّ المسؤوليَّةِ ليقوموا بِعَمَلِهم كرسالةٍ يقودُها القلْبُ وتُكَلِّلُها المحبَّةُ.

 

مخاطِرُ التَّطوُّرِ، والتحدياتُ التي يواجهُها المسيحيّون في استخدامِهِم لوسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ

لَقَدْ آنَ الأوانُ، ونحنُ في بدايةِ العقدِ الثالِثِ من الألْفِيَّةِ الثالثةِ، من قَوْلِ جُمْلَةِ حقائِقَ، ومن وقفةٍ تقييميَّةٍ لما بلغَهُ الإعلامُ عمومًا والإعلامُ الكاثوليكيُّ خصوصًا، في ظِلِّ تطوُّرٍ تكنولوجيٍّ هائلٍ يقدِّمُ جديدًا مَعَ كلِّ إشراقةِ شمسٍ، يُسيطِرُ ويستولي على كلِّ مرافِقِ الحياةِ، وعلى الكبارِ والصغار. ولا بدَّ للإعلامِ الكاثوليكيِّ مِنْ أَنْ يعتَرِفَ بأنَّهُ على الرّغْمِ من كُلِّ ما قَدَّمَ حتى الآنَ، لا يَزالُ يُبدي قُصورًا وتقصيرًا في أكثرَ من جانِبٍ، ولم يَسْتَطِعْ حتّى اللحظةِ بلوغَ الغاياتِ النهائيَّةِ التي رسمَها المجمَعُ الفاتيكانيُّ الثاني، وتلك التي حدَّدها البابواتُ المتعاقبون في رسائِلِهم ذاتِ الصلةِ بالإعلامِ ووسائلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ، وذلك لأكثرَ من سبَبٍ نورِدُ أبرزَها من دونِ تَسَلْسُلٍ بِحَسَبِ الأهميَّةِ.

  • عَدَمُ التزامِ مجموعاتٍ من أصحابِ القرارِ الكنسيِّ بجدِّيةِ الموضوعِ وجدواهُ، وَمَيْلُهُم الى عَدمِ التمادي الإعلاميِّ، والى التَقْوقُعِ، وإلى الخوفِ من إطلاعِ الناسِ على خصوصيَّاتِ الكنيسَةِ وأعمالِها ورجالِها، ومن تعريضِ ذواِتهم للنقدِ، ولإعتبارِهم أَنَّ الكثير من وسائِلِ التواصُلِ مسيءٌ إلى الدينِ المسيحيِّ، وعدَمُ اقتناعِهِم بأنَّ هذهِ الوسائلَ بإمكانِها أّنْ تُسْهِمَ في بعضِ جوانِبِ التبشيرِ ونشرِ الإنجيلِ وتعاليمِ الكنيسةِ.
  • إدارةُ ظهورِ عَددٍ من كبارِ المسؤولينَ في الكنيسةِ لتوصياتِ المجمعِ الفاتيكانيّ الثاني، ولرغبَةِ البابواتِ المتعاقبينَ في اعتبارِ هذهِ الوسائل نعمةً وعطيَّةً من اللهِ، وَيجبُ استثمارُها واستخدامُها لصالِح الدينِ المسيحيِّ والكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ.
  • عَدَمُ تَخصيصِ موازناتٍ كُبرى للإعلامِ المسيحيّ الكاثوليكيّ تمكِّنهُ من أعمالٍ تطويريَّةٍ في غيرِ مجالٍ.

نحوَ حضورٍ كاملٍ

  • تزايُدُ التّحديَاتِ والمخاطِرِ على اختلافِها، والتي سَنَعْرِضُ لها في هذا البابِ، وهي من العناصِر ذاتِ الوجهَيْنِ: وَجهٍ يُظهِرُ معاناةَ الإعلامِ الكاثوليكيِّ ووسائلِ التَّواصُلِ الإجتماعيَّة ومستخدميها، وَوَجْهٍ يْرسُمُ خارطةَ طريقٍ نحوَ إعلامٍ كاثوليكيٍّ أفْضلَ واعَمَّ وأَشْمَلَ واَعمقَ، وأبرزُ هذهِ النقاطِ أضاءتْ عليها الوثيقةُ الرعويَّةُ التي أصْدَرَتها دائرةُ الاتصالاتِ الفاتيكانيّةُ في 29 أيار 2023 تحتَ عنوان “نحوَ حضورٍ كاملٍ، تأمُّلٌ رعويٌّ حولَ التّفاعلِ معَ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ” وثيقَةٌ حولَ التعامُلِ المسيحيِّ مع وسائِلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ، وجاءَتْ على شاكِلةِ توصياتٍ هَدَفُها تدارُكُ المخاطِرِ وَجَبْهُ التَّحدياتِ، فَتَكَلَّمَتْ على الحِمْلِ الزائدِ للمعلوماتِ، ما يُسبِّبُ ضَياعًا للعديدِ من المستخدِمينَ، وَمَعَ هذا، البَحْثُ مُستَمِرُّ نَحْو تراكُمٍ أكبرَ، وفي هذا الخِضَمِّ لم يَعُدِ الأشخاصُ يُولونَ الآخرينَ اهتمامًا، بل باتوا متَغمسينَ بما تقدِّمُهُ وسائلُ التواصُل، علمًا أنَّ إحدى وظائِفِ الإعلامِ الكاثوليكيَّة المفتَرضةَ هي الشهادَةُ للمسيح، ولكن؟ ومن مهامِّ هذا الإعلامِ تخليصُ المستخدمينَ وبخاصَّةٍ الصغارَ والشّبانَ والشّاباتِ من السمومِ الرقميَّةِ التي تتفشّى على المواقعِ، ولن يَكونَ الإعلامُ الكاثوليكيُّ قادرًا على مواجَهَتِها من دونِ حركةِ وعيٍ شاملٍ وتوعيةٍ مستدامةٍ، وقد يكونُ حَرِيًّا بالعاملينَ في الإعلامِ والناشطينَ البالغينَ المتقدّمينَ على وسائلِ التواصُلِ أّن يوجِّهوا المُستخدِمينَ إلى فتراتٍ من الصَّمْتِ كي يتمكّنوا من الإصغاءِ الى صوتِ اللهِ والضميرِ بتأنٍّ، ومن بناءِ جمَاعةٍ في عالَمٍ مُجَزَّأ مُشْرذمٍ.

فقدان القدرة على التفكير العميق

هذا، وتحذِّرُ الوثيقةُ من أنَّ أَحَدَ التحدّياتِ المعرِفِيَّةِ المُهِمّةِ للثقافةِ الرقميَّةِ هو فُقدانُ قدرَتِنا على التفكيرِ بعمقٍ وبشكلٍ هادِفٍ، بمعنىً آخر، إنَّ اكثريةَ المُستخدمينَ باتَتْ تتصفَّحُ السَّطْحَ الخارجيَّ، بدلاً من الغوصِ إلى الأعماقِ، تبقى في الوَحْلِ ولا تعبُر الى الأرضِ الصلبةِ.

ولطالما سعى البابواتُ المُتعاقبون منذُ الفاتيكاني الثاني في رسائِلِهم لأيامِ الإتصالاتِ الإجتماعيَّةِ، وبالأخصّ رسائلِ البابا فرنسيس إلى تعزيزِ التفكيرِ المُشترَكِ حولَ كيفيَّةِ تبنّي علاقاتٍ هادفةٍ على وسائلِ التّواصُلِ الاجتماعيِّ.

إغراءُ النشر السريعِ

وفي سياقِ تَعْدادِ المخاطِرِ والتحدّيات، نَذْكُرُ استغلالَ الرغبةِ البشريَّةِ في الإقرارِ بالمواقعِ الإلكترونيَّةِ والتطبيقاتِ والمنصّاتِ، وقد تمَّتْ برمَجَتُها لهذهِ الغاية، حتّى باتَ الإهتمامُ بِها دونَ سواها، من جوانبِ الحياةِ، ثمينًا بَلِ الأثمنَ على الأطلاَقِ، والأخطرُ الأخطرُ هو ما يُسمّى بإغراءِ النَّشْرِ السريعِ لتلبية إدمانِ الناسِ على التحفيز الرقميِّ، حيْث يتصفَّحونَ على مَرِّ الثواني، متنقّلينَ من موضوعٍ إلى آخرَ بصورةٍ سطحيَّةٍ من دونِ أّنْ تَعْلَقَ في أذهانِهم ولو مسألةٌ واحِدَةٌ ذاتُ قيمةٍ وعُمقٍ، وذلك لأنَّ التصفُّحَ يَتمُّ بِلا تركيزٍ، ومنْ دونِ إصغاءٍ، ومن دونِ انتباهٍ، حتّى إِنَّ تمييزَ الحقائقِ صارَ مسألةً نادرةً.

الدّعوةُ الى الصّمتِ

من هُنا تبرزُ الدعوةُ الى الصمتِ، وإلى خَلْقِ مساحةٍ للتفكيرِ الهادِفِ بعمقٍ، وإلاّ فنحنُ مهدّدونَ بخطرِ فقدانِ القدراتِ المعرفيَّةِ وعُمقِ علاقاتِنا بِبَعْضِنا وبالله، إضافةً إلى خطرِ المزالِقِ الواجبِ تجنُّبُها معَ وسائلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ كالخطابِ العدوانيِّ والسلبيِّ… والإنقسامِ والكراهيّةِ، والسلوكيَّاتِ المتطرِّفة.

وهو خطرٌ كبيرٌ أّنْ تعتَبِرَ شركاتُ وسائِلِ التواصُلِ الأشخاصَ كأنَّهُم سِلَعٌ وبياناتُهم الشخصيَّةُ بِرَسْمِ المتاجرةِ.

بالخلاصةِ، وتخفيفًا من حَجْمِ هذهِ المخاطِرِ التي يفرضُها التطوُّرُ التكنولوجيُّ الإعلاميُّ، حريٌ بِكُلِّ مسيحيٍّ أن يُبدّلَ طريقةَ استخدامِهِ وسائلَ التواصلِ الإجتماعيَّةَ، من ناشِرٍ للمعلوماتِ فحسبُ، الى عارضٍ للأفكار ِوالتأمّلاتِ الروحيَّةِ ضِمْنَ التزامٍ بالتقاليدِ المسيحيَّةِ من مُنْفَعِلٍ إلى مُتأمِّلٍ، متحاشيًا الوقوعَ في الفخاخِ الرقميَّةِ.

 

انخراطُ الكنيسةِ في واقِع العالّمِ الرقميِّ والتكيُّفُ معه.

مَع تَحوُّلِ العالَمِ بأسْرِهِ رَقميًّا، كان لا بُدَّ للإعلامِ عُمومًا، وللكاثوليكيِّ خصُوصًا، وَمَعَهُ وسائِلُ التواصلِ الإجتماعيِّ، من أَن تُطَوِّرَ ذاتها لِتتَمَكَّنَ من البقاءِ والإستمراريَّةِ من خِلالِ تكيُّفِها مَعَ الواقِع الجَديدِ الذي فرضَ نفسَهُ بِقوَّةٍ، بحيْثُ لَمْ يَعُدِ الاسْتِغْناءُ عَنْهُ مُمْكِنًا، وصارَ من السُّخْفِ والرَّجْعِيَّةِ تجاهُلُه والتّنكُّرُ له.

لِذا، وبطواعيَّةٍ كاملةٍ وانفتاحٍ شديدٍ وواع ومنضبطٍ، راحَتِ المؤسساتُ الدينيَّةُ تستَخدِمُ وسائلَ التواصُلِ لمساعدةِ الناسِ للوصولِ الى الكنائِس والتعبُّدِ والتقرُّبِ الى اللهِ بطرقٍ مختلِفةٍ، كالبَثِّ المُباشِرِ لخدمةِ غيرِ القادرينَ على الوصولِ الى الكنائِسِ، وللترويجِ للنشاطاتِ الدينيَّةِ واللقاءاتِ الروحيَّةِ وللبرامجِ ذَاتِ الصلة وسوى ذلك… وهنا كَثُرتِ الأسئلَةُ حولَ ما إذا كانَ ما تُقدِّمُه هذهِ الوسائلُ عامِلاً سلبيًّا لجهةِ تَرَدُّدِ المؤمنينَ على الكنيسةِ لِلْعِباَدَةِ؟ وحولَ ما إذا كانَتْ مشاهدةُ الإحتفالاتِ الدينيَّةِ، ومنها القُدّاسُ الإلهيُّ، على الشاشاتِ كافيةً، أو أنَّ هناك حاجةً بل ضرورةً للتقرُّبِ من الكنيسةِ كجماعةِ صلاةٍ في داخلِ مبنى؟ وحولَ ما إذا كانتْ هذهِ الوسائِلُ عنصرًا جاذبًا للشبابِ للمشاركةِ في الشعائرِ الدّينيّة، أو أنَها كفَّتهم عن ذلك؟

في الحقيقةِ، اختلفَتِ الإجاباتُ عن هذهِ التّساؤلاتِ وتنَّوعَتْ، فمنْهُم مَن يَرَى أنَّ هذهِ الوسائلَ وَلَّدَتْ ضُعفًا في التواجُدِ داخِلَ الكنائسِ، وتحديدًا من قِبَل الفئاتِ العُمْرِيَّةِ الشابَّةِ والبالغَةِ المُنغمِسَةِ في أعمالِها، ولا تجدُ وقتًا للذهابِ الى الكنائسِ مستعيضةً عن الحضورِ الجسَديِّ بمتابعةِ ما تبثُّهُ هذهِ الوسائلُ.

ومنهم مَنْ رأى أنَّها لا تُغني عن زيارة الكنيسةِ، ويعتَبِرُها وسائِلَ جَذْبٍ تُسْتَخْدَمُ لتسويقِ الأفكارِ والمعتقداتِ والحصولِ على المعلوماتِ.

فيما يعتبِرُها آخرون نِعْمَةً ساهمَتْ بنجاحٍ في إدخالِ المؤمنينَ في أجواءٍ تَقَوِيَّةٍ، وساعَدَتْهُم على ممارسَةِ شعائِرِهم في زَمَنِ الكورونا، ويُمْكِنُها فِعْلُ ذلك إبّانَ الأزماتِ والحروبِ حيْثُ تَرْدُمُ جانبًا من الهوَّةِ بين المؤمنينَ والكنيسَةِ، ومنهُم مَنْ يقولُ: إنَّهُ يومًا بعد يَومٍ يتكيَّفُ الناسُ اكثرَ معَ التكنولوجيا وما تقدِّمُهُ إليهم من جديدٍ ومُتطوِّرٍ في جوانِبِ حياتِهم كافَّةً، وقد رَبَطَتْهُم عبرَ الإنترنت ومواقِعها بجميعِ أقطارِ الدُّنيا وناسِها، وصارَ من المستحيلِ أَنْ يعيشوا بِلا إنترنت ومواقِعِ تواصُلٍ…

وجهان مضادّان

هذا التكيُّف السريعُ له وجهانِ: وجهٌ ايجابيُّ بما يتيحُهُ للمستخدِمِ مِنْ فُرصٍ ومُساعداتٍ وتسهيلاتٍ، وَوَجْهٌ سَلْبِيٌّ جدًا من خلالِ إعلامٍ موجَّهٍ نحوَ الشَّر والفسادِ والإنحرافِ، وأحيانًا كثيرةً بِلا حَسيبٍ ولا رقيبٍ ومنْ دونِ ضوابطَ، ولن ندخلُ في هذه المتاهاتِ التي باتتْ معروفةً، من تنمُّرٍ وشذوذٍ وفجورٍ وسواهَا… بل نتوقَّفُ عندَ خطرٍ قدْ ينتجُ عن هذا التكيُّفِ، وهو استبدالُ الحضورِ الجسديِّ والمشاركةِ الفعليَّةِ في الإحتفالات الليتورجيَّةِ بمشاهدةٍ على شاشَةِ التلفازِ أو جهازِ الكومبيوتِر او الهاتفِ الخلويّ، علمًا أنَّ الدعوةَ إلى  استخدامِ الإعلامِ ووسائِل التواصُلِ الإجتماعيَّةِ، كانَتْ تستهدِفُ في الأساسِ المرضى والعجزةَ وغيرَ القادرينَ على الذهابِ الى الكنيسةِ بِعُذرٍ مستدامٍ.

وهناكَ خطرٌ ثانٍ لا يُقَلُّ أهميَّةً عَمَّا سَبَقَ، وهو تفكُّكُ العائلاتِ والروابطِ الإجتماعيّةِ، وتغييرُ مفهومِ الصداقةِ واضمحلالُ الكثيرِ من العاداتِ الإجتماعيَّةِ، ناهيكَ عن الخَطر الذي يهدِّدُ اللغاتِ بحيثُ أَنَّ التعبيرَ خصوصًا الأدبيَّ، هو في طريقِ الزوالِ ليُستَعاضَ عنه بلغةٍ تعتمِدُ بعضَ الحروفِ المشوَّهَةِ والرموزَ والصورَ، ولن نتكلَّمَ عمّا أصابَ ذاكرةَ الإنسانِ من ضَعْفٍ وشَلَلٍ نتيجةَ اعتمادِ اكثريّةِ الناسِ على التكنولوجيا وما تختزِنهُ من معلوماتٍ…

وَهُنا لا بُدَّ من الإشارةِ الى أنَّ التماديَ في الإتّكالِ على وسائلِ التواصُل وعلى التكنولوجيا عمومًا، قد يُسيءُ الى قلبِ الإنسانِ وعاطفتهِ ووجدانهِ فيمَسُّ سلبًا بمفهومِ الحُبِّ خصوصًا لدى المستخدمينَ من الفئاتِ العمريَّةِ غيرِ البالغةِ وغيرِ الراشدةِ وغيرِ الواعيةِ.

انطلاقًا مِمّا تقدّم، وَعَوْدا إلى السؤالِ الأساسِ، فإنّه حريٌ بالشبّانِ والشّاباتِ الذين يُمضونَ مُعْظَمَ وَقْتِهم على مواقِع التواصُلِ الإجتماعي أن يَستفيدوا من هذهِ الفرصةِ التي يُقدِّمها إليهم الراشِدونَ والمسؤولونَ والواعونَ ليحفّزوهم على دخولِ الكنائسِ والرجوعِ لها من خلالِ أنشطةٍ وألعابٍ تُغنيهم عَمَّا هو موجودٌ على الفايس بوك والتيك توك وما شابَهَ، ولِيُشْعِروهم بأنَّهمُ يعلمونَ ما هي احتياجاتُهم الدينيَّةُ في هذهِ الأنشطة.

الكنيسةُ الى الإنفتاحِ

وفي زمَنٍ كَبُرَ فيه التفاعُلُ بينَ الناسِ والكنيسةِ بِحَيْثُ لم تَعُدِ الكنيسةُ محصورةً داخِلَ مبنى مُعيَّنٍ، بل أصْبَحَ التفاعُلُ خارجيًّا من خلالِ الانترنت ووسائلِ الإعلامِ والتواصُلِ، بِتْنا نَجِدُ رسالةَ الكنيسةِ على مواقعِ التواصُلِ الإجتماعيِّ، الأمْرُ الذي يُوفِّرُ فُرصةً جديدةً للشهادَةِ المسيحيَّةِ، وإذا كانتِ الوسائلُ غيرَ متاحَةٍ في ما مَضى للموهوبينَ والراغبينَ في البشارَةِ، ها هي متوافِرَةٌ اليومَ عَبْرَ الإعلام ووسائِل التواصُلِ الإجتماعيّةِ المسيحيَّةِ والكاثوليكيَّةِ.

بإختصارٍ، حريٌ بالمسيحيين ان يَعوا أَنَّ زمَنَ كورونا قد ولّى وولَّت معه الإجراءاتُ الكنَسيَّةُ ذاتُ الصِّلَةِ، وما وفَّرَتْه من تسهيلاتٍ، وما شكَّلْتهُ مِنْ أَعْذارٍ للتخَلُّفِ عن المشاركةِ الفعليَّةِ في القداسِ وسائرِ الإحتفالاتِ الليتورجيَّة.

وحريٌ بالمسيحيين أن يعرفوا أن الكنيسةَ هي مِنَ المجتمَعِ، وهي مِثْلُه تواكِبُ التكنولوجيا الجديدةَ والإعلامَ الجديدَ، وتتكيَّفُ مَعَ هذا التطوُّرِ وهذا الواقِعِ الجديدِ، منهم منْ لا يستطيعون أّنْ يعيشوا ضمنَ هذا العالَمِ بعباءَةِ أشخاصٍ عاشوا ويعيشون في النصفِ الأوَّلِ من القرنِ الماضي…

وهذا التكيُّفُ، لا يعني بالتأكيدِ، أَيَّ نَوْع من أنواعِ التنازُلِ عنِ المبادئِ والأسُسِ كالأخلاقِ والإيمانِ باللّهِ، فصحيحٌ هي مَدْعُوَّةٌ إلى الإستفادَةِ من وسائِل التواصُلِ الإجتماعيّ، ولكنْ بهدَفِ التوجيهِ والإرشادِ وخدمَةِ المبادئِ والأسُسِ.

 

هل يطالُ التَطَوُّرُ لغةَ وسائِلِ التواصُلِ الإجتماعيَّةِ في الكنيسة؟

مَهْما عَظُمَ شَأْنُ الآلةِ قدراتٍ وإمكاناتٍ، تبقى وسيلةً جامدةً ما لم يُحرِّكْها الإنسانُ.

مهما استطاعَتِ التكنولوجيا أن تحقِّقَ وبسرعةٍ هائلةٍ، تبقى عاجزةً عن ملامسةِ قلبٍ. مهما كَبُر حَجْمُ الآلةِ وتَعَقَّدَ تركيبُها وتضاعَفَتْ استجابةُ دماغِها الإلكترونيّ، تبقى جوفاءَ خاليةً من مشاعِرَ وأحاسيسَ. مهما جَمَعَتِ الآلةُ وخَزَّنَتْ من مُفرداتٍ وتعابيرَ ومَعاجِمَ وقواميسَ ومشتقّاتٍ بِلا حَصْرٍ ولا عَدَدِ، فإنّها في النهايةِ تُفرِغُ ذاكرةً ملأها الإنسانُ، ومهما ذَكَرَتْ تَطبيقاتُها وصاغَتْ وكتبَت كال chat GPT  أو COPILOT أو GOOGLE  أو سواها، تبقى استرجاعًا لِعَمَلِ أشخاصٍ، وقد تبدو لنا ذاتَ قدرةٍ هائلةٍ، لكنَّها عاجزةٌ عن كلمةٍ حُبٍّ حقيقيَّةٍ، ذلك لأنَّ لا قلْبَ لها يُحسُّ وينبضُ، بل نَبْضُها اصطناعيٌّ، ولا شرايينَ لها يَسْري فيها دَمٌ، ولا عروقَ تَجري فيها ارتعاشاتٌ بل تسري في أسلاكِها طاقةٌ كهربائيةٌ وَذَبْذّباتٌ لا تشبِهُ تلكَ التي تخرجُ من كيانِ إنسانٍ… وعليهِ، ما نَفْعُ أكبرِ الإستديوهاتِ في مباني وسائِل الإعلامِ إذا خَلَتْ من كلماتٍ نابعةٍ من قلوبٍ موجَّهَةٍ عَبْرَ الأثيرِ إلى قلوبٍ تنبِضُ في ملايينِ الصدورِ البشريَّةِ؟

ليسَ صدفةً أن يختارَ اللهُ “الكلمة” في بدءِ التكوين! “وفي البدء كان الكلمةُ”، وليسَ صدفةً أن يُحِبَّنا اللهُ إلى حَدِّ أنَّه أَرسلَ ابنهُ الوحيدَ ليموتَ عنَّا لأجلِ خلاصِنا، وليس صدفةً أن يقولَ السيَّدُ المسيحُ يا بُنيَّ أعطِني قلبَك (وليسَ عقلك) …

القلبُ مركزُ الأحاسيسِ والحُبّ

إذًا، القَلْبُ ثُمَّ القَلْبُ، أيْ الحُبَّ ثُمَّ الحُبَّ.. وكلُّنا مقتَنِعٌ بأنَّ لُغَةَ القَلْبِ هي أصْدَقُ من لُغَةِ العَقلِ، وَكَمْ من مرَّةٍ أصابَ القلبُ حيْثُ أخطأ العقلُ؟!

وَلَعَلَّ هذهِ الإشكاليّةَ هي التي دَفَعتْ بالكاردينال ماتيو ماريو زوبي Matheo Mario Zuppi [7] ان يَكْتبَ ذاتَ يومٍ: “على وسائلِ التواصُلِ الإجتماعيَّةِ في الكنيسةِ ان تتحدَّثَ بلغةِ القَلْبِ”، وهي عبارَةٌ مُقتَطَفَةٌ من إحدى رسائِلِ البابا فرنسيس الذي سعى إلى إصلاحِ وسائلِ الإعلامِ الفاتيكانيَّةِ من خلالِ إيجادِ نظامِ اتّصالات كنسيٍّ كاثوليكيٍّ يختلِفُ عن الأنظمةِ الأخرى، لكنَّهُ يَسيرُ في هذا العَصْرِ بوسائلِ هذا العَصْرِ، لَكِنْ بمَضمونٍ وأبعادٍ وأهدافٍ مختلفةٍ عَمّا تُقدِّمُه هذه الوسائلُ الإعلاميّةُ المتعدِّدةُ والمتنوِّعَةُ، والأهَمُّ بلغةٍ مختلفةٍ اختارَ أنْ تكون لُغةَ القَلْبِ”، ذلك أنَّ الإعلامَ الكاثوليكيَّ ووسائلَ التواصلِ الإجتماعيَّة ذاتَ الصلةِ، كلُّها تكلّمتْ بلغةِ العَقْلِ منذ الفاتيكانيّ الثاني إلى اليومِ، والأرجَحُ أنَّها لم تستطِعْ حتّى تاريخهِ أّنْ تحقِّقَ ما هو متوخّى منها، وتحديدًا على مستوى التبشيرِ وَنشْرِ كلمةِ الإنجيلِ في أصقاعِ الدنيا.

باباوانِ متحرِّرانِ من الرّجعيَّة

ربّما يَستطيعُ القَلْبُ بلُغَتِه أن يحقِّقَ وَيَصِلَ إلى حيْث لم يَسْتَطِعِ العَقْلُ…

نَعَمْ، ربّما تستطيعُ لُغَةُ القَلْبِ أنْ تصْنَعَ سلامًا في عالمٍ تملؤه الحروبُ،

أن تُلْغيَ، أو على الأقلِّ أَنْ تُخَفِّفَ من العداواتِ والأحقادِ، أنْ تُسْهِمَ في عودَةِ الأبناءِ الضّالينَ، أنْ تُحوِّلَ الشواذَ استقامَةً، والقسوةَ لينًا، والإحجامَ عن أفعالِ الخيرِ والمحبَّةِ عطاءً وإقدامًا، أنْ تَمحْوَ الضغائِنَ، أَنْ تُساعِدَ المتكبّرينَ المتعجرفينَ على التواضُعِ، أَنْ تعيدَ الإنسانيَّةَ لفاقديها، أّنْ تُنمِّي الحسَّ المجتمعيَّ وروحَ الألفةِ والتعاونِ والتعاضُدِ، أَنْ تَشرَحَ قيمةَ المجّانِيّةِ في الكثيرِ من أعمالِنا، أن تُنْقِذَ الشبابَ من ضياعِه، أَنْ تعزِّزَ العاداتِ والتقاليدَ المسيحيَّةَ،  أَنْ تعلِّمَ الشُّبانَ والشابّاتِ الإصغاءَ إلى صوتِ الرّبِّ الذي سيدعوهُم رُبّما إلى دخولِ الأديار، أو إختيارِ الكهنوتِ، أو لعِبِ دورٍ يُنعِشُ الروحانيَّة المسيحيَّةَ، كُلُّ ذلكَ من خلالِ إعلامٍ مسيحيٍّ ينطِقُ بلغةِ القَلْبِ، ويتوجَّهُ إلى القلبِ ومن خلالِ أنشطةٍ وتمارينَ ونصوصٍ قصيرةٍ وشهاداتِ حياةٍ وتجارِبَ تُنشَرُ وَتُظهَّرُ وَتُبَثُّ وَتُتَناقَلُ عَبْرَ وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيَّة، لَعَلَّها تَفْرَغُ شيئًا فشيئًا من تُرَّهاتٍ وتفاهاتٍ وسخَافَاتٍ لا تُقدِّمُ شيئًا للمسْخدمينَ سوى إضاعةِ الوقتِ وبلبلةِ العقولِ والنفوسِ وإفسادِها.

نَعَمْ، فَلْيُغلِّبْ إِعلامُنا الكاثوليكيُّ استخدامَ لغةِ القَلْبِ في الكثيرِ من الموادِّ الإعلاميَّةِ لَعَلَّهُ يُنعِشُ توصياتِ الفاتيكانيّ الثاني أكثرَ، ولَعَلَّ وسائلَ التواصُلِ الاجتماعيَّةَ تكونُ فِعْلاً نعمةً وهديَّةً من السّماءِ، فتتنقّى من كلِّ سوسٍ وشائبةٍ، وتَعملَ لمجدِ اللهِ وسعادَةِ البشريَّةِ وخيرِها.

 

الإِعلامُ الكاثوليكيُّ بين 1965 و 2024

اسْتِشهاداتٌ وعناوينُ وعباراتٌ جاءَت على ألسنَةِ البابواتِ المتعاقبين: تعليقٌ وتقييمٌ ومؤشّراتٌ تطويريَّة.

لَقَدْ حاولَ كلٌّ من البابواتِ المتعاقبينَ على السدَّةِ البطرُسيَّةِ بعدَ المَجمعِ الفاتيكانيّ الثاني، وبالتحديدِ البابا بولسُ السادِسُ والبابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني والبابا بنديكتوس السادِسَ عَشَر والبابا فرنسيس، أَنْ يُفَعِّلَ ويترجِمَ توصياتِ المَجمعِ المتعلّقةَ بالإعلامِ وبوسائلِ الإتصالِ الإجتماعيَّةِ بطريقةٍ مختلفةٍ مُكَمَّلَةٍ لِلّتي سَبَقَتْها، لَكِنْ بروحيَّةٍ جَديدةٍ وَنَفَسٍ جَديدٍ وعلى خطِّ تَصاعُديٍّ، تماشيًّا مع التطوُّرِ الحاصِلِ على الأصعدةِ كافَّةً، خصوصًا التطوّرَ العلميَّ- التكنولوجِيَّ بما فيهِ الكومبيوتر والإنترنت وما أوجداهُ من وسائِلِ تواصُلٍ ومواقِعَ الكترونيَّةٍ  وحساباتٍ خاصَّةٍ، وثورةٍ رقميَّةٍ طالَتْ وجوهَ الحياةِ وغيَّرَتْها وقلَبَتِ المقاييسَ والمفاهيمَ، ومَسَّتْ بعلائِقِ البَشَرِ بينَ بعضِهِمِ البعضِ من جهةٍ، وبينَهم واللهِ من جِهةٍ ثانية، وَبدَّلَتِ المفاهيمَ العامَّةَ، وألغَتْ عاداتٍ وتقاليدَ، وَغيَّرتْ أنماطَ الحياةِ والعملِ، إلخ…

الكنيسةُ خارجَ التقوقّعِ

نَعَمْ، خَرجَتِ الكنيسةُ بعدَ الفاتيكانيّ الثاني من تقَوقُعِها، وبدأتْ بإخراجِ إِعلامِها الكاثوليكيِّ مِنَ القُمْقُم، وما بدا لرؤساءِ الكنيسةِ ما قبْلَ الفاتيكانيّ الثاني غريبًا وَمُسْتَهَجَنًا وَرُبّما مَمْنوعًا وَعَلى شيْءٍ من الخَطَرِ، بات أمرًا مألوفًا بل حاجةً مطلوبةً في رسالةِ الكنيسةِ وَعَمَلِها…

وما تجدرُ الإشارةُ إليه في السّياقِ التقدُّميِّ للإعلامِ الكاثوليكيّ، هو ارتباطُهُ الوثيق بجذورِهِ التي عَمَّقَها الفاتيكاني الثاني، وهو انطلاقُ البابواتِ في مُعْظَمِ رسائِلهم من آياتٍ إنجيليَّةٍ تؤكِّدُ على أنَّ السَّيدَ المسيحَ هو الإعلاميُّ الأوَّلُ والناشِطُ الأبرزُ في تواصُلهِ معَ الناسِ، ولو بوسائلهِ الخاصَّةِ، وَيَكفي أَن نُركِّزَ على عَددٍ كبيرٍ من الآياتِ الكتابيَّةِ في العَهْدَيْنِ القديمِ والجديدِ، حتّى ندركَ أَنَّ مَنْ سبقونا في الوجودِ التاريخيِّ، سبقونا أيضًا في إنجازاتِهم الإعلاميَّةِ والتواصُليَّةِ.

وإذا عُدْنا مثلاً إلى (متّى 10/ 27)، وقرأْنا الآيةَ الآتيةَ: “ما أقولُه لكُم في الظلامِ، قولوه في النورِ، وما تسمعونَهُ همْسًا، نادوا بهِ على السطوح…

نَرى أَنَّ السِّيدَ المسيحَ كان السبّاقَ إلى إِعلانِ الحقائِقِ، والحريصَ على إخراجِها من السرِّ إلى العَلَنِ، ومن التقوْقُعِ والإخفاءِ إلى الظهورِ والإنكشافِ، ومن الدائرةِ الضيِّقَةِ إلى الدائرةِ الأوسَع، إلى حيْثُ يمكِنُ أن يبلُغَ الصوتُ بموجاتهِ وتردُّداتِه، الى أقاصي الدّنيا وَكُلِّ الأُمم، وهذهِ هي المهمَّةُ التي طلبَها لاحقًا مِنْ تلامذتِهِ في يوْمِ العنصَرَةِ.

مِنْ على السطوحِ

أمّا وسيلةُ التواصُلِ التي استخدمَها، يسوع في زمانه فهيَ تلكَ التي كانتْ مُتاحةً ومتوافرةً في زمانهِ، وهي الصعودُ إلى السطوحِ واستخدامُ الحُنجُرةِ في المناداةِ وإخبارِ الناسِ بما سمَعوه… وكانت الحناجرُ في ذاكَ الزمانِ بمثابةِ الهوائيِّ أو مُكبّر الصَوتِ، والسطوحُ محطّاتٍ للبثِّ والإلتقاطِ ولا تزالُ المرتفعاتُ حتّى يومِنا أمكنَةً تركّزُ فوقَها الصحونُ اللاقِطةُ، أما الوسيلةُ فهي التي اختلَفت. إذًا المَفهومُ نَفسُه. بكلمةٍ، فإنَّ إعلامُنا الكاثوليكيَّ مدعوٌّ إلى كَشْفِ الحقائِقِ وإِعلانِها للناسِ أَجمعينَ، مدعوٌّ إلى الكلامِ العلنيِّ الذي يتباهى به قائِلُه، ومن دونِ تردُّدٍ وبلا خَوفٍ ولا وَجَلٍ. ونحنُ مدعوّون، إلى إعلانِ ايمانِنا المسيحيِّ منْ على السطوحِ أَيْ بواسطةِ إعلامٍ حَيويٍّ مُجَرَّدٍ من السياسةِ والتجارةِ، وبعيدٍ من كُلِّ مَصلحةٍ، وخالٍ من كلِّ فسادٍ وانحرافٍ، هذا الإعلامُ المسيحيُّ الكاثوليكيُّ، حريٌ بهِ أَنْ يُعْلِنَ كلمةَ يسوعَ…

وما تقدَّمَ هو سبَبٌ رئيسٌ ليَجْعَلَ الكنيسةَ تكشِفُ أنْ لا سبيلَ لها للتخلّي عن كَوْنِها مَعْنِيَّةً إلى حَدٍّ بعيدٍ وعميقٍ بعالَمِ الإعلامِ في غَمْرَةِ نُموِّه.

والدعوةُ أعلاهُ تَتَحوَّلُ أَمْرًا بل واجبًا مُلْزِمًا وإلزاميًّا، يستحقُّ التخلُّفُ عن القيامِ بهِ العقابَ، وذلك في الآيةِ:” الويلُ لي إِنْ كُنْتُ لا أُبَشِّرُ (1 كور 9/16). إذًا، أَسمى وأَهمُّ غاياتِ الإعلامِ المسيحيِّ الكاثوليكيِّ هي التبشيرُ، وإبعادًا للعقابِ والويلاتِ فإنَّ الكاثوليكَ مدعوّونَ إلى عَدَمِ الخِشيَةِ من فَتْحِ أبوابِ وسائلِ الإعلامِ واسعةً أمامَ المسيحِ لِكَيْ تُسْمَعَ بشارتُهُ الجديدةُ من على السطوحِ، وَلْتَكُنْ نداءاتُنا إنجيلاً بَعْصْرِ الإعلامِ العالميِّ .وَبَعْدُ، فإنَّنا نَجِدُ أَنَّ الإعلامَ الكاثوليكيَّ في مسيرتهِ المواكِبةِ للتطوُّرِ لم يَتَخَلَّ عن أَخْلاقِياتِهِ  التي شدَّدَ عليها الفاتيكانيُّ الثاني، وذلكَ لأنَّهُ مُقْتَنِعٌ، بِما جاءَ في (يعقوب 3: 10) :”من فمٍ واحدٍ تَخْرُجُ البركَةُ واللَّعْنَةُ.

غاية الإعلام

اختارَ المسيحُ البركةَ وحاربَ اللعنة، ذلك المبدأَ الخُلقِيَّ الأساسَ هو التالي: إنَّ الشخصَ البشريَّ والجماعَةَ البشريَّةَ هُما الغايةُ والمِقياسُ في استخدامِ وسائلِ الإعلامِ والتواصُلِ الإجتماعيِّ.

وعلى الرَّغْم مِن الشّحِ في مُوازناتِ الإعلامِ الكاثوليكيِّ فإنّهُ لم يَلْجَاْ إلى أساليبَ أو مادَّةٍ إِعلاميَّةٍ منْ تلك التي تدرُّ أموالاً طائلةً، وظَلَّ حريصًا على السموِّ الخُلقيّ، مفضِّلاً إيّاهُ على المالِ الوارِدِ من موادَّ مضرَّةٍ بالأخلاقِ والقِيَمِ.

وبَقِيَ همُّه مُركّزًا على قُوَّةِ الكلمةِ الساميةِ التي تُشَذِّبُ الأخلاقَ وتهدِمُ جُدرانَ الحقدِ، وتجمَعُ ولا تفرِّقُ، مُركِّزًا على سلامةِ التواصُلِ القائِمِ بينَ اللهِ والإنسانِ في إطارِ تريبةٍ قائمةٍ على الحوارِ الكونيِّ. وعليه، فإِنَّ وسائلَ الإعلامِ الكاثوليكيّ تَسْعى لتكونَ دائِمًا في خدمَةِ التفاهُمِ ما بينَ الشعوبِ وفي خدمةِ الكلمةِ. نَعَمْ، الكلمةُ أولاً واخيرًا.

وفي هذا الَصَدَدِ يقولُ البابا بنديكتوس السادسَ عشَر لِمناسبةِ اليومِ العالميِّ الرابعِ والأربعينَ لوسائلِ الاتصالاتِ الإجتماعيّةِ، ونُشِرَتْ في 16 أيار 2010 تحتَ عنوان: الكاهن ووسائلُ الإعلامِ أداةٌ جديدةٌ في خدمةِ الكلمة The priest and pastoral ministry in a digital world: new media at the service of the world. وأبرزُ ما جاءَ فيها دعوةٌ “للكهنةِ أن يُظهروا حضورَ الكنيسةِ في العالَمِ الرقميِّ، لا بشكلٍ سطحيِّ بل عبرَ شَهادةٍ متجذّرةٍ في الإنجيلِ، تنيرُ القلوبَ وتوقِظُ الضمائرَ”. ويضيفُ “وسائلُ الإعلامِ الجديدةُ هي عطيّةٌ من الله تتيح فرصًا جديدةً للتبشيرِ، إذا استُخْدِمَتْ بروحِ إيمانٍ وأصالة”، فهذا الكلامُ من شأنهِ أن يرتقيَ بالإعلامِ الكاثوليكيِّ إلى مصافٍّ أعلى، حيثُ يَطلبُ من الذين يتعاطَوْنَ الإتصالاتِ أن يُزوِّدوا اولئكَ الذين يعيشونَ الزمنَ الرقميَّ بالعلاماتِ الضروريَّةِ للتعرُّفِ الى الربِّ، ولإدراكِ كلمةِ اللهِ الذي يُسَهِّلُ النضجَ الإنسانيَّ الشامِلَ.

تُبْحِرُ الكلمةُ إلى العُمقِ، إلى حيْثُ تكتظُّ شبكاتُ الطرقِ مؤكّدةً على حقِّ إقامةِ اللهِ في المواطَنَةِ، كيما يستطيعَ أن يسيرَ في شوارِعِ المدينةِ، عبرَ وَسائِلِ الإتصالاتِ الحديثةِ، ويتوَقَّفَ أمامَ عتباتِ المنازِلِ والقلوبِ ويقولَ تكرارًا: “ها أنا واقِفٌ على البابِ، أقرَعُ، إنْ يَسْمَعُ أحدٌ صوتي ويفتَحُ البابَ، أدخُلُ إليه، واتعشّى معه ويتعشّى معي” (رؤيا 3/ 20).

وتمرُّ الأيامُ والسَّنواتُ سُراعًا، ليُشكِّلَ تطوُّرُ وسائلِ التكنولوجيا الجديدُ، ومُجمَلُ العالَمِ الرقميِّ، مَورِدًا ثمينًا للإنسانيّةِ، وحافِزا للتلاقي وللتحاورِ، بكونِه يُوَفِّرُ للمؤمنينَ فُرْصةً نادرةً لِيَسْتَفيدوا مِنْها بحكمةٍ في التقاطِ الإمكاناتِ الفريدةِ التي تُتيحُها وسائلُ الإتصالاتِ الحديثةُ، هذهِ الشبكاتُ الإجتماعيّةُ التي هي أبوابُ حقيقةٍ وإيمانٍ، وفُسْحاتٌ جديدةٌ للكرازةِ بالإنجيل.

الصّمتُ مُوازٍ للكلمةِ

بمقابِلِ الكلامِ على الكلمةِ ودورِها وأهميَّتِها في الإعلامِ، وعَلى وسائلِ التواصُل، يَبْلُغُ فِكْرُ البابا بنديكتوس السادسَ عَشَرَ حَدَّ اعتبارِ الصمتِ موازيًا للكلمةِ، واعتبارِهِما عُنْصُريْنِ من نشاطِ التواصُلِ الكنسِيّ، ففي التأمُّلِ الصامِتِ تبرزُ الكلمةُ بشكلٍ أقوى. وإذا كَلَّمَ اللهُ الإنسانَ من خِلالِ الصَّمْتِ، يكتشِفُ الإنسانُ في هذا الصمتِ إمكانيّةَ التكلُّمِ معَ اللهِ وعنْهُ، وبتكامُلِ الصمتِ والكلامِ تَكْتَسِبُ الإتصالاتُ قيمةً ومَعنىً، وبالمقابِلِ، عِنْدَما يُلغي الصمتُ والكلامُ بعضُهما البعضَ، تتراجعُ الإتّصالاتُ، من هُنا يَنْبَغي التوازُنُ الدائمُ بينَ هذينِ العُنصُريْنِ، ليكوِّنا معًا تواصُلاً في خدمةِ اللقاءِ الحقيقيّ، حيثُ يَتمُّ من جديدٍ اكتشافُ جمالِ الإيمانِ وجَمالُ لقاءِ المسيح…

بين الإنفتاح والتقوقع

بهذا التوازُنِ على الشبكةِ، يُمْكِنُ للدعوةِ المسيحيَّةِ أَنْ تبلُغَ أقاصيَ الأرضِ، وهنا على المسؤولينَ في الكنيسةِ وعن إعلامِها أنْ يختاروا بينَ كنيسةٍ مُعَرَّضةٍ للحوادِثِ تخرجُ إلى الشارع، وكنيسَةٍ مريضةٍ لكثرةِ التقوقعِ على ذاتِها… وأغْلَبُ الظّنّ أنَّهم سيختارونَ الأولى خصوصًا في هذا الزمنِ الذي يشهَدُ تدفّقاتٍ جديدةً وتطوّرًا يفرِضُ على كلِّ كيانٍ يريدُ البقاءَ والإستمراريَّةَ اللحاقَ بِهِ. والإعلامُ الكاثوليكيُّ ووسائلُ التواصُلِ الإجتماعيَّةُ معنيَّةٌ جدًّا بهذا الموضوعِ، ومدعوَّةٌ هي ايضًا إلى اللّحاقِ بهذا التطوُّرِ، شَرْطَ المحافظةِ على التوازن، وعلى القِيَمِ والأخلاقِ المسيحيَّةِ من خلال الكلمةِ المختارةِ.

الأسرة مع فرنسيس

بعدَ البابا بنديكْتوسَ السادِسَ عَشَرَ ، يأتي البابا فرنسيس ليطرَحَ وسيلةَ تواصُلٍ جديدةً، ألا وهيَ الأُسْرَةُ، وهو اعتَبَرها مثالَ كُلِّ تواصُلٍ بَلْ مدرسةَ تواصُلٍ، واعتبارُه هذا يأْتي نتيجةَ التَباعُدِ الحاصِلِ بين أفرادِ الأُسَرِ لإنشغالِ كُلٍّ منهُم بهاتِفه الخَلَويِّ وما يحتويه من تطبيقاتٍ ومواقِعَ وأخبارٍ وصورٍ، مُعْظَمُها سخيفٌ وسطحيٌّ، وأحيانًا مُفسِدٌ ومُضِرٌّ بالأخلاقِ، لذا اعتبرَ البابا فرنسيس الأُسْرَةَ مدرسَةَ تواصُلٍ، وهو يريدُ بهذا أن يُعزِّزَ علاقةَ الوالِدينَ بأولادِهم وعلاقَةَ الأولادِ بوالديهم، فيجتمعوا معًا، للطعامِ والشرابِ وتبادُلِ الأفكارِ، ومناقشةِ القضايا الحياتيّةِ التي تهمُّ جميعَ أفرادِ الأسْرَةِ، وللتسليةِ، وأحيانًا للشكوى أو لِطلبِ المساعدةِ أو النصيحةِ او الدَّعْمِ. المُهِمُّ أَنْ يتواصلوا مَعَ بعضِهم البّعْضِ ويتكلّموا في كُلِّ شيءٍ، وهذا سَيُساعِدُهم في الإبْتعادِ عن هواتِفِهم الخلويَّةِ وإطفاءِ شاشاتِ الأجهزةِ الإلكترونيَّةِ، والعودَةِ إلى بعضهِم البعضِ في أجواءٍ عائليَّةٍ حَميمةٍ، فيها الكثيرُ من العفويّةِ والطيبَةِ والمحبَّةِ والعاطفةِ والبنوَّةِ والأمومَةِ والأخُوَّةِ، وكُلُّها مشاعِرُ باتَ معظَمُ الأُسَرِ يفتَقِرُ اليها…

خَطَرٌ يُهَدِّدُ العائلاتِ

لِعِلَّ أهَمَّ دروسِ التواصُلِ في هذهِ المدرسَةِ العائليَّةِ هو شَرْحُ فلسفَةِ العائلةِ المُقدَّسَةِ التي هي العائلةُ المسيحيّةُ الأولى. أَجَلْ، لأنَّ البابا فرنسيس شَعَر بالخَطرِ يتهدَّدُ العائلةَ المسيحيَّةَ، نراهُ يُسارِعُ إلى إنقاذِها من الضياعِ والتشرذُمِ عبرَ اقتراحِهِ تواصلاً عائليًّا مسيحيًّا حقيقيًّا شبيهًا بذاكَ التواصُلِ الذي كانَ في زمنٍ مضى، حيْثُ كانتْ عائلاتُنا المسيحيَّةُ تجتَمِعُ معًا في الكنائسِ والساحاتِ والبيوتِ والطرقاتِ للمشاركةِ في احتفالٍ ليتورجيٍّ أو لقضاءِ وقْتٍ مُسَلٍّ، أوْ “لِعَوْنةٍ” زَمنٍ كانَ فيهِ الكُلُّ للكُلِّ بمحبَّةٍ وَصِدْقٍ، زَمَنٍ عاشَ فيه المسيحيّونَ مسيحيَّتهُم بكثيرٍ من المحبَّةِ كما عَلَّمَهُم المُعلِّمُ الأوَّلُ يسوعُ المسيحُ، وكما عَلَّمَهُم آباؤهم وأجدادُهم، وكما تربّوا في بيوتهِم ومدارسِهم وقراهُم وبلداتِهم، وكما نَشأوا على سُلَّمٍ من القِيَمِ، وفي بيئةٍ مَسيحيَّةٍ صالحةٍ، وفي إطارٍ من العاداتِ والتقاليدِ المسيحيَّةِ القائمةِ على حُسْنِ المعامَلَةِ والكلمةِ الطيّبة.

ولأنَّ قداسَتَهُ مُقْتَنِعٌ بأنَّ مَتى اصطلَحَتِ العائلاتُ، اصطلَحَ المجتمعُ، جاءَ يُولي الأسرةَ أهميّةً كبرى، مُشَددًا على أهميَّةِ التواصُلِ الأُسرِيِّ الصحيحِ. من هنا الدعوةُ الى الإعلاميّينَ لَيَخصّوا العائلاتِ المسيحيّةَ ببرامجَ خاصةٍ تؤثِّرُ في افرادِها وَتَلُمُّ شَمْلَها. فالإعلاميّونَ بِحَسَب قولِ قداستهِ هُمُ رسُلُ التواصُلِ وخُدّامهُ الأصليّون.

رسول الحقيقة

يرقى البابا فرنسيس بدورِ الإعلاميِّ المسيحيِّ ليعتبِرهُ رسولَ الحقيقةِ والشفافيَّةِ واحترامِ الآخَرِ، فالإعلاميُّ الكاثوليكيُّ ليسَ موظّفًا بالمعنى المجرَّدِ التقليديِّ الذي يُنَفّذُ دورًا أو يقومُ بمهمَّةٍ محدَّدةِ أُسْنِدَتْ إليهِ، من دونِ أَنْ يكونَ له رأيٌ بما يَفْعَلُ ومن دونِ أن يضَعَ فيها شيئًا من انسانيَّةٍ ومحبَّةٍ وعاطفةٍ وخُلقيَّة عاليةٍ، بل هو أوّلاً وأخيرًا إنْسانٌ يمتلِك ضميرًا مرشدًا إلى جانبِ ضميرهِ المِهَنيّ… الإعلاميُّ الكاثوليكيُّ موظَّفٌ يَعْمَلُ بعقلِهِ وقلبِهِ وضميرهِ وإنسانيّتهِ في آن معًا، موظَّفٌ يَسْعى إلى الحقيقةِ، ويرفُضُ نَشْرَ الباطِلِ…يَعْمَلُ لإرساءِ القِيَمِ المسيحيَّةِ والإجتماعيّةِ، فَيُعِدُّ برامِجَ ونشراتٍ هادفةً، مُحَفَّزَةً على التفكيرِ الإبداعيِّ السامي، العالي والخلوق، مُشجِّعَةً على التلاقي الإنسانيِّ، على قَبولِ الآخَرِ المُختَلفِ، على السلامِ، على التعامُل بمحبَّةٍ، على التمرُّدِ والتفاني والعطاءِ وخدمةِ الإنسانِ .

لا كمأجورٍ بلْ كرسولٍ

الإعلاميُّ الكاثوليكيُّ لا يَعْمَلُ كمأجورٍ أو مأمورٍ لأجْلِ نَشْرِ الباطِلِ، يَخْتارُ أفكارَهُ وكلماتهِ، يُخرِجُها من قَلبِهِ نقيَّةً ودودةً طيّبةً لتدخُلَ قلوبَ الآخرينَ من مشاهدينَ أو مستمعينَ أو قُرّاءٍ أو ناشطينَ على مواقِعِ التواصُلِ، وبالتالي، يَسْعى الإعلاميُّ الكاثوليكيُّ إلى توفيرِ وإِيجادِ نوعٍ من التلاقي المستمرِّ والدائمِ في ما بينَ التواصُلِ والرحمةِ… نَعَمْ، حَرِيٌ به أن يدرِكَ أنَّ تواصُلَهُ ودورَه كرسولٍ مبَشِّرٍ لا يتحقَّقُ إلاّ إذا اتَّسَمَ بالرَّحْمَةِ بكلِّ أَبعادِها… فالتواصُلُ لا يكونُ مسيحيًّا إلاّ إِذا رافقتْهُ الرَّحْمَةُ يعيشُها ويمارِسُها في كُلِّ ما يَكْتبُ وَينشُرُ، فيرحمُ جَهْلَ الجُّهالِ ويقدِّمُ إليهم مادَّةً تُسْهِمُ في التخفيفِ من جَهْلهِم وتزيدُ مَعْرِفَتَهُم في كُلِّ المسائِل الأساسيَّةِ الدنيويَّةِ والروحيَّةِ… تُعَرِّفُهمُ إلى اللهِ من خلالِ أنشطةٍ وبرامجَ ومنشوراتٍ تجذبهُم وتحاكي قدراتهِم الذهنيَّةَ…

الرحمةُ في التواصُلِ

نَعَمْ، الرحمَةُ في التواصُلِ هي تلاقٍ مثمِرٌ بينَ المُرسَل والمُرسِلِ إليه،… فَعلى المُرسِلِ أن يختارَ مضمونًا لِلمُرسَلَةِ ممزوجًا بما يَعْكِسُ رحمةً بالفقيرِ المظلومِ والمعذَّبِ والمقهورِ والمشرَّدِ وسواهُم، فالمرسَلَةُ المسيحيَّةُ ليسَتْ مضمونًا قاسيًا وجافَّا، مادّيا وأرضيًا، تجاريًّا ودعائيًا، موجَّهًا إلى طبقةٍ اجتماعيَّةٍ تجرَّدَ أفرادُها من قلوبهِم ومن إنسانيَّتِهم، إنّما هو مضمونٌ يشتَمِلُ على عبارةِ:” يا ابنَ داودَ ارحَمْنَي”.

وهنا تَكْمُنُ رسالةُ الإعلامِ الكاثوليكيِّ الحقيقيَّةُ، وهذهِ الرحمةُ إيّاها هي المنشودَةُ على وسائلِ التواصُلِ الإجتماعيَّةِ المَدْعُوَّةِ إلى نشْرِ المحبَّةِ والألفةِ وتمتينِ العاطفةِ الأخويَّةِ، وتعزيزِ الرجاءِ في قلوبِ فاقديه.

ثقافة المحبَّة

الإعلامُ الكاثوليكيُّ ليسَ سِلْعَةً تُباعُ في أسواقِ مواقِعِ التواصُلِ وعلى الشاشاتِ وفي أكثرِ الإذاعاتِ… ليسَ برامجَ فارغةً من أيِّ مضمونٍ ذي أهدافٍ وأبعادٍ تربويةٍ وإنسانيّةٍ واجتماعيَّةٍ، بل هو ثقافةُ المحبَّةِ واللقاءِ والإحترامِ والحقيقةِ والشفافيةِ والإنفتاحِ على الآخَر ِوقَبولِهِ، وفي تطوُّرِهِ يُمْكِنُ أَنْ يكونَ أيضًا شريكًا في بناءِ مواطنيَّةٍ حقيقيَّةٍ، فالمواطِنُ الحقيقيُّ هو الذي ينتمي في آنٍ واحدٍ إلى الوطنِ الأرضيِّ والوطنِ السماويِّ، وما الديموقراطيَّةُ الصالحةُ والحقيقيَّةُ المعتمدَةُ في بعضِ البلدانِ المتقدِّمَةِ سوى ترجمةٍ حقيقيَّةٍ لتعاليمِ الإنجيلِ، ويكفيكَ منها مبدأُ الحقِّ ومبدأُ العدالةِ ومبدأُ مساعدةِ المحتاج… وهكذا تتَّضِحُ لنا عَظَمَةُ دورِ الإعلامِ الكاثوليكيِّ وأهميَّةُ وسائلِ التواصُلِ الإجتماعيَّةِ ذاتِ الصلةِ بالكنيسةِ، التي تبلغُ أَقصى تطوُّرِها يومَ تستطيعُ أن تستقطبَ أكْبرَ نسبةٍ من أناسٍ يُصغون، فالإصغاءُ يعني التنبُّهَ والرَّغْبَةَ في الفَهْمِ والتقديرِ والإحترامِ والحفاظِ على كلامِ الآخَرِ، ويعني التمثُّلَ به في أنماطِ الحياةِ، أمّا السَّمَعُ فعمليةٌ طبيعيَّةٌ تلقائيَّةٌ، وقَدْ لا يبقى شيءٌ في ذِهْنِ المستَمِعِ إذا لَمْ يَكُنْ مُصغيَا ومُنْتبهًا إلى ما يَسْمَعُ… ومِثلُهُ كلمةُ اللهِ نسمَعُها ونُصغي اليها في آنٍ لترسَخَ في الذهْنِ والقلْبِ وإلاّ تكونُ ذبذباتٍ عابرةً وصوتًا بِلا صدى. حريٌّ بنا أَنْ نُصغيَ بأذُنِ العقلِ والقَلبِ معًا، فبعضُ الكلامِ موجَّهٌ الى الإثنينِ معًا ،خصوصًا إذا كانَ المُستَمِعُ المُصغي مسيحيًّا مؤمنًا فتفَعلُ فيهِ الكلماتُ فِعْلَها، وتتفاعَلُ في أعماقِه… وَلَعَلَّ مهمَّةَ الإعلامِ الكاثوليكيِّ هي بناءُ شخصيَّةِ المُتابِع والمُرسَلِ اليه، المُستَمِع والمُصغي، بناءً مسيحيًّا مُحَصَّنًا بمعرفةِ الدِّينِ المسيحيِّ وحقيقتِه، مُفعَمَ القَلْبِ بالحكمةِ، منوَّرًا بالإيمانِ، واعيًا العقيدةَ الكاثوليكيّةَ الصحيحَةَ، عضوًا فاعلاً، حقيقيًّا ومؤثّرًا في كنيسَةِ المسيحِ.

 

الإعلامُ الكاثوليكيَّ في الـ 2025

للمرَّةِ التّاسعةِ والخَمْسينَ، يَحٍلُّ اليومُ العالميُّ لوسائِلِ الإتّصالاتِ الإجتماعيَّةِ، لِيُصدِرَ البابا فرنسيس للمناسَبةِ رسالةٍ تحتَ عنوان “Cum mansuctudine communicare spem quae in cordibus vestris est” ” شاركوا بوداعةٍ الرّجاءَ الذي في قلوبِكم” هذا العنوان مُسْتوحىً من رسالةِ القدّيسِ بطرسَ الأولى (بط 3/ 15 – 16) حيثُ يدعو البابا فرنسيس في هذهِ الرسالةِ الى أن يكونَ التواصُل مبنيًا على الوداعةِ والإحترامِ، وأن يُسهِمَ في نشرِ الرجاءِ في العالَم. توجَّه البابا فرنسيس في رسالتِه الى إلتزامِهم الشجاعِ، متوجّهًا فيها إلى التزامِهِم الشجاعِ بوضعِ المسؤوليَّةِ الشخصيَّةِ والجماعيَّة تجاهَ الآخرينَ في محورِ الإعلام ويدعوهم لكي يكونوا ناقلينَ للرجاءِ انطلاقًا من تجدُّدِ عَمَلِهم ورسالتِهم بحسبِ روحِ الإنجيلِ.

ويبدو الأبُ الأقدَسُ في رسالتِهِ هذه قلقًا خائفًا خصوصًا عندما يذكر أنَّ الإعلامَ اليومَ لا يُوَلِّدُ رجاءً بَل خوفًا ويأسًا وتحاملاً واستياءً وتعصُّبًا وكراهِيَّةً. إنَّهُ إعلامٌ مثيرٌ للعقولِ، مُسْتَفِزٌ وجارِحٌ. سَبَقَ للبابا فرنسيس أن قالَ في رسائِلَ ومناسباتٍ عديدةٍ: إنَّهُ من الضروريٍّ والمُلِحِّ نزْعُ السّلاحِ من الإعلامِ لتنقيتهِ من العدوانيَّةِ، وهناكَ خطَرٌ أن يسودَ الإستحواذَ والتّلاعبُ بالرّأيِ العام، وأنْ تَعُمّ ظاهِرَةً التشتّتِ المُبرمَجِ للإنتباهِ”، من خلالِ الأنظمَةِ الرّقميَّةِ. وفي سياقِ الكلامِ على ضرورةِ التحلّي بالرّجاءِ يضيفُ قداستُه: إنَّ الرّجاءَ هو مخاطرَةٌ المخاطِرِ. هو فضيلةٌ خطيَّةٌ وهو ليس بالنّسبة الى المسيحيّين خيارًا إختياريًا، بل هو شرطٌ لا مفَرَّ منه. وكما وَرَدَ في رسالةِ بطرسَ الأولى، فإنَّ الرّجاءَ يُوضَعُ في علاقةٍ في متنِ رسالته: إنّ الإعلامَ بشكلٍ عامٍ بما فيه الإعلامُ المسيحيُّ يجِبُ أنْ يكونَ ممزوجًا بالوداعَةِ والقرب تمامًا كما كان الإعلاميُّ الأوَّلُ يسوعُ المسيحُ الذي حاورَ على الطّريقِ تلميذي عمّاوُس، وجَعَلَ قلبيهِما يضطربانِ للأسلوبِ الذي فَسَّرَ لهما فيه الأحداثَ في ضوءِ الكتابِ المقدَّسِ. وقال: لذلك أنا أحْلُمُ بإعلامٍ يُساعِدُنا على أنْ نعتَرِفَ بكرامَةِ كلّ كائنٍ بشريٍّ… ويقولُ: حريٌ بنا أنْ نتجنَّبَ خَطَرَ التحدُّثِ عن أنفُسِنا، لأنَّ العامِلَ الصالِحَ في مجالِ الإعلامِ يعمَلُ لكي يكونَ الشّخصُ الذي يَسْمَعُ أو يقرأُ أو يُشاهِدُ مشاركًا وقريبًا، فالتواصُلُ بهذهِ الطريقةِ يُساعِدُنا لكي تُصبِحَ “حُجّاجَ رجاء”. ويتابِعُ، وإذ نَحْنُ في سَنَةِ النّعمةِ هذه، نتذكَّرُ بأَنَّ الذين يجعلون من أنفسِهم صانعي سلامٍ “يُدْعَوْنَ أبناءَ الله”… وهذا اليوبيلُ يوجِّهُنا إلى ضرورةِ إعلامٍ متنبِّهٍ ووديعٍ ومتأمِّل، قادِرٍ على أن يَدُلَّ الى دورِ الحوار. وعليهِ، فإنَّ قداستَه في ختامِ هذه الرسالةِ يدعو الإعلاميينَ الى البَحْثِ عن شراراتِ الخيرِ في كلِّ ما يعملون ويبثّون وينشرون، ويدعوهم الى الإهتمام بقلوبهم أي بحياتهِم الدّاخليّة، طالبًا إليهم ألّا يسمحوا لِرُدودِ الفِعْلِ الغريزيَّةِ أنْ توجِّه عَمَلَهم الإعلاميَّ.

ويَختُم بالقولِ “كونوا شهودًا ومعزّزينَ لإعلامٍ غيرِ عدائيٍّ ينشُرُ ثقافَةَ العنايةَ ويبني الجسورَ ويخترِقُ جدرانَ زمنِنا المرئيَّةَ وغيرَ المرئيَّةِ.

 

سؤالٌ برسْمِ الجواب: هَل تَطَوَّرَ الإعلامُ الكاثوليكيُّ فعليًّا؟

لَسْتُ أدري ما إذا كنتُ بالمباشِرِ مَعْنيًّا بالإجابةِ النهائيَّةِ عن هذا السؤالِ، غيرَ أنّي، وَبَعْدَ اطلاعي على المسار الإعلاميِّ للكنيسَىةِ الكاثوليكيَّةِ، منذُ البداياتِ إلى اليومِ، يُمْكِنُني القولُ إنَّ تطوُّرًا كبيرًا قد حَصَلَ، خصوصًا على امتدادِ العقودِ الثلاثةِ الماضيةِ، وهذا واضِحٌ ولا يحتاجُ برهانًا من أَحَدٍ.

وَلَكِنْ، إذا ما قابَلْنا هذا التطوُّرَ في الإعلامِ الكاثوليكيِّ بالتطوُّرِ الذي يَشْهَدُهُ الإعلامُ العالميُّ على المُسْتوياتِ كافَةً، ألا نُلاحِظُ أنَّه لا يزالُ مُتأخِّرًا عن الرَّكْبِ؟ وأنَّهُ يحتاجُ إلى ثورةٍ بيضاءَ ليُحقِّقَ المُرتَجى؟ وأَنَّ هناك بعضًا من التلكّؤِ والتقاعُسِ وَضعْفِ الهمَّةِ؟

ألا يتبيَّنُ لنا أنَّ العديدَ من توصياتِ المجمَعِ الفاتيكاني الثاني، والكثير َممّا توخّاه البابواتُ المتعاقبونَ بعدَهُ، بشأنِ الإعلامِ الكنسيِّ ووسائِل التواصُلِ الإجتماعيّ، لم يتحقَّقْ كما هو المرتجى؟

ألا تبدو الاتّكاليّةُ واضِحةً بمعنى أنَّ في الكنيسةِ تتَّكِل على مبادراتٍ إعلاميَّةٍ من هُنا وهناك، ومعظمُها من بعضِ المُجتمَعِ المدنيِّ المسيحيِّ المؤمِنِ، أَو تعتبر أنَّ الرسائِلَ التي يوجِّهُها الباباوات سنويًا في اليومِ العالميِّ للإعلامِ كافيةً لإحداثِ فَرْقٍ أو تحقيقِ تطوُّرٍ عَصْرِيٍّ؟

هناكَ خجلاً واضِحًا في مُتابعتنا لِما يُكْتَبُ ويُنشَرُ عن الإعلامِ الكاثوليكيِّ، يشدِّدان على تطبيقُ chat gpt  وتطبيق copilot  وعن مساره. إنَّ هذين التطبيقين أَمْرينِ مهمين هما:

الأمرُ الأوَّلُ هو عدمُ اهتمامِ القيّمين على هذينِ التطبيقينِ وعلى سواهما بموضوع الإعلامِ الكاثوليكيِّ كمادة إعلاميّة.

والأمرُ الثاني هُوَ عَدَمُ متابَعَةِ القَيِّمينَ على الإعلامِ الكاثوليكيِّ التي لو توافَرَتْ لكانوا تواصلوا مع المسؤولينَ عنْ هذهِ التطبيقات وَمدّوهم بالمادَّةِ الكافيةِ.

وَبَعْدَ، هل سألَ الإعلامُ الكاثوليكيُّ نفسَهُ على ايّ درجةٍ في ُسلّم التطوّرِ يَقِفُ؟

هل هو راضٍ عَمّا حقّقهُ حتّى اليومِ، وَعَمّا يَسْعى إليهِ حاليًا؟ وعن تخطيطهِ لإعلامٍ مسيحيٍّ مسْتَقْبَليٍّ؟

وأين مكانُهُ ومكانَتُهُ بينَ وسائلِ الإعلامِ العالميَّةِ التي يُمثّلُ الكثيرُ مِنْها دُوَلاً، فيما هو يمثّلُ دينًا… أَوَلا يستَحِقُّ هذا الدّينُ المسيحيُّ الكاثوليكيُّ إعلامًا اكْثَرَ تطورًا لأجلِ انتشارٍ أوسعَ…؟

أولاً تستحِقُّ كنيستُنا الكاثوليكيّةُ إعلامًا يُضاهي بقوَّتِهِ وقدراتِهِ وإمكاناتِهِ ومواردِهِ البشريَّةِ أيَّ إعلامٍ آخَرَ يمثّلُ دينًا آخَرَ أو دولةً ما؟

سِتّون عامًا مرَّتْ على توصياتٍ المَجمعِ الفاتيكانيِّ الثاني ذاتِ الصلةِ بالإعلامِ الكاثوليكيِّ وبوسائِل التواصُلِ الإجتماعيَّةِ، غير أَنَّ التطوُّرَ الذي حَصَل لا يوازي هذا الكَمَّ مِن السَّنواتِ، وكأنَّ الجهودَ التي بُذِلَت لم تكُن كافيةً أو رُبَّما بعضُ المسؤولينَ الكنسيّينَ الكبارِ لم يكُنْ على اقتناع كامِلٍ بوجوبِ تطويرِ إعلامِ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ تطويرًا عصريًا ملحوظًا، عِلْمًا أنَّ البابوات الثلاثةَ يوحنا بولس الثاني وبنديكتوس السادسَ عشرَ وفرنسيس شَرَّعوا الأبوابَ وأطلقوا الأيادي وحَفَّزوا وشجّعوا واعتبروا أنَّ الإعلامَ باتَ حاجةً ضروريَّةً ويجبُ تفعيلُها والإستفادةُ منها وهي نعمةٌ وموهبِةٌ من اللهِ.

 

 

نَحْوَ تطوُّرٍ إِعلاميٍّ كاثوليكيٍّ مُستدام؟

كَثُرَتِ الدوافِعُ وتعدَّدَتِ والأهدافُ التي حتَّمتْ تأسيسَ إعلامٍ خاصٍّ بالكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ، من تبشيرٍ بكلمةِ الإنجيلِ إلى نَشْرِ رسالةِ الكنيسةِ وتعاليمها، الى تغطيةِ أخبارِ الكرسيِّ الرسوليِّ الفاتيكانيّ وما أمْكَنَ من الأنشطَةِ ذاتِ الصِّلةِ، بهدَفِ الوصولِ إلى جمهورٍ أوسَعَ، وبغضِّ النَّظرَ عمَّا إذا كانَ هذا الإعلامُ قَدْ حقَّق كُلَّ أهدافِهِ على الرّغْمِ من كلِّ الإبتكاراتِ العلميّةِ التي سَهَّلَتْ عمليّاتِ التواصلِ، وبصورةٍ سريعةٍ جدًّا، الأمرُ الذي لم تتَنْعَّمْ بهِ الشعوبُ مِنْ بينها المسيحيَّةُ في ما مضى من السنواتِ، عِلْمًا أنَّ هذه الشعوبَ، وبإيمانٍ عميقٍ وارادةٍ صلبةٍ، استطاعَتْ ان تحمِيَ الكنيسةَ من زوالٍ، وتمكَّنتْ بوسائلَ شتّى من تأمينِ الإستمراريَّةِ لهذا الكيانِ المُقْدَسِ. وَهُنا، وَقَبْلَ أن نَطوِيَ الصفحةَ الأخيرةَ من هذا البَحْثِ المتواضِع، يَحْضُرُنا السؤالُ الكبيرُ والأخيرُ؟

لو افترَضْنا أّنًّ نهضةً حَصَلَتْ أو ثورَةً حَدَثَتْ في الإعلامِ الكاثوليكيِّ ووسائِل التواصُلِ الإجتماعيَّةِ، وبَينَ ليلةٍ وضحاها قَفَزَت قفزاتٍ نوعيّةً على المستوياتِ كافةً، هل يكونُ المشوارُ قد انتهى، ويتوقَّفُ كلُّ شيءٍ في مَحطةِ الوصولِ أَوْ أَنَّ التطوُّرَ هو سَعيٌ مستدامٌ، من جهةٍ لأجْلِ الأجيالِ المسيحيَّةِ الكاثوليكيّةِ القادمةِ، ومن جهة ثانيةٍ للاستمرارِ في جَبْهِ التحدياتِ والمخاطِرِ التي تُهدِّدُ الدّينَ المسيحيَّ والكنيسةَ الكاثوليكيَّة؟

وإذا كانت عمليَّةُ التبشيرِ قد سارَتْ ببطءٍ على امتدادِ مئاتِ السنواتِ لأسبابٍ لم تَعُدْ خافيةً، فإنها مدعوَّةٌ اليومَ إلى الإنطلاقِ بسرعةٍ مُضاعَفةٍ لإختصارِ الزمنِ والمسافاتِ ولتعويضِ ما فاتَ.

ويومَ نَسْمَعُ بأنَّ تعاليمَ الكنيسَةِ قَدْ عَمَّتِ العالمَ، يكونُ الإعلامُ الكاثوليكيُّ قد حقَّقَ رؤيَتهُ ومشروعَهُ التطويريَّ لينطلِقَ إلى مشاريعَ أخرى لضمانِ استمراريّةِ الكنيسَةِ وتعاليمِها، والزمَنُ سيكونُ كفيلاً بكلّ شيءٍ.

 

 

المراجع

  • رسالة البابا بيوس الحادي عشر Maximan Cravissimanque، 18 فبراير 1937.
  • رسالة البابا بيوس الحادي عشر Casti Connubii، 31 ديسمبر 1930.
  • رسالة البابا بيوس الحادي عشر Vigilanti Cura، 29 يونيو 1936.
  • رسالة البابا بيوس الحادي عشر Miranda Prosus، 8 ديسمبر 1957.
  • المراسيم الصادرة عن المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثاني ما بين 1962 و1965.
  • رسالة اللجنة البابويّة لوسائل الإعلام الإجتماعيّ Communio et progressio 23 أيار 1971.
  • وثيقة inter Mirifica الصادرة في 4 كانون الأوّل 1963، وهي واحدة من الوثائق الدستوريّة الأربع الصادرة عن المجمع الفاتيكاني الثاني وتحديدًا وثيقة Decretum.
  • الوثيقة الفاتيكانيّة Aetalis Novae الصادرة في 22 شباط 1992 عن المجلس الحبريّ لوسائل الإعلام الإجتماعيّة.
  • مقالة المطران جون ب. فولي: الكنيسة والانترنت، الصادرة بتاريخ 22 شباط 2022.
  • رسالة البابا يوحنّا بولس الثاني Communicare spem spiritu sancto fulti، الصادرة سنة 2004.
  • رسالة البابا بنديكتوس السادس عشر الصادرة بتاريخ 24 كانون الثاني 2009 بعنوان: Novae technologie Novaerelationes, Fovendus Cultus Observanitiae Colloqui, Amicitae.
  • رسالة البابا بنديكتوس السادس عشر الصادرة في 24 كانون الثاني 2021 بعنوان: Silentium et Verbum.
  • القرار المجمعيّ في وسائل الإعلام Inter mirifica.
  • حساب Pontifex الذي فتحه البابا بنديكتوس السادس عشر في 12 كانون الثاني 2012.
  • رسالة البابا فرنسيس التي أصدرها في 24 كانون الثاني 2014 بعنوان: Communicatio in servitium authenticate culture occursus.
  • رسالة البابا فرنسيس الصادرة في 24 كانون الثاني 2019 بعنوان Sunt autem membra Invicem de socialium retilus et Communitate human.
  • رسالة البابا فرنسيس الصادرة في 24 كانون الثاني 2023 تحت العنوان: Loqui Corde: facientes in caritate.
  • الوثيقة الرعوية الصادرة عن دائرة الاتصالات الفاتيكانيّة في 26 أيار 2023 تحت العنوان: نحو حضورٍ كامِل، تأمُّلٌ رعوي حول التفاعل مع وسائل التواصل الإجتماعيّ.
  • الكتابُ المقدَّس بعهديهِ القديمِ والجديد.
  • رسالة البابا بنديكتوس السادس عشَر الصادرة بتاريخ 16 أيار 2011.
  • The priest and pastoral ministry in a digital world: new media at the service of the world.
  • رسالة البابا فرنسيس الصادرة في 24 كانون الثاني 2025 تحت العنوان: Cum mansuctudine communicare spem quae cordibus vestris est.
  • محاضرات جامعيّة للمؤلّف الأب فادي تابت.

 

 

 

 

 

الفهرس

 

الإعلامُ الكنسيُّ بينَ الأمسِ واليوم.. 3

  1. توطئة 5
  2. II. ما هِيَّةُ الإعلامِ بالمطلق 7

III. الإعلامُ في الكنيسةِ ما قبلَ المَجمعِ الفاتيكاني الثاني، وتحديدًا في العقودِ الأولى من القرنِ الماضي                                                                11

  1. الجديدُ في الإعلامِ المسيحيِّ الكاثوليكيِّ بعد سَبْعِ سنوات…. 15
  2. لماذا الرسالةُ البابويَّةُ الـ ”Vigilanti cura”وما ارتباطُها بالتطوُّرِ الإعلاميِّ، المسيحيِّ تحديدًا؟ 19

”Vigilanti cura”                                        20

خطورة هذا التطوّر                              21

  1. بابا جَديدٌ وإعلامٌ جَديد 22

بين الصورة والكلمة      25

دور الأسرة والمجتمع      26

VII. الإعلامُ الكنسيُّ الكاثوليكيُّ عشيَّةَ المجمَعِ الفاتيكانيِّ الثّاني.. 27

من حقّ الكنيسة أن تستخدم هذه الوسائل التبشيريّة.. 28

VIII. التطوُّر المُلْفِتُ للتواصُلِ الاجتماعيِّ، والإعلامُ في الكنيسة الكاثوليكيَّةِ بعدَ المجمعِ الفاتيكانيّ الثاني      37

  1. “العَصْرُ الجديدُ” لِوَسائِل الاتَصالاتِ الاجْتماعيَّةِ.. 44

مواجهة التحديات          47

  1. X. تفاعُلُ الكنيسةِ الكاثوليكيَّةِ وإعلامِها مع ثَوْرَةِ التكنولوجيا والإنترنت…. 48

عطايا إلهيّة                                                                48

تقييم تطوّر وسائل التواصل الإجتماعي.. 50

  1. أهَمُّ الفوائِد التي وَفَّرتْها وسائلُ الإعلام والإنترنت للكنيسةِ وللدينِ المسيحيِّ وللمؤمنينَ وللكاثوليكيّةِ بشكلٍ خاصٍّ، بفعلِ تطوُّرِها وتطوُّرِ طرائقِ استخدامِها. 52

XII. المخاطرُ والتحدّيات                53

مخاطر الواقع الإفتراضي      53

الجنون الإستهلاكي                                  54

XIII. الدعوةُ إلى تطوُّرٍ من نوعٍ آخرَ في وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِّ (المسيحيِّ – الفاتيكانيّ) مطلعَ الألفِ الثالث. 55

تنشئة إعلاميّة                                                  56

دور الأهل                                                                      56

XIV. وسائلُ التواصلِ الاجتماعيِّ في قلبِ العولَمة: 57

دمج التكنولوجيّات                              59

عطايا إلهيّة                                                                60

  1. نحوَ إعلامٍ كاثوليكيٍّ أكثرَ فعاليّةً وانخراطًا في المسائلِ الكونيّةِ.. 62

أهميّة الإعلام ودوره                            62

الإعلاميّين الكاثوليك                        64

XVI. الإعلامُ الكاثوليكيُّ ما بعدَ الإرشادِ الرسوليّ.. 66

XVII. انتقالُ الإعلامِ الكاثوليكيّ إلى الفضاءِ الرقميِّ. 68

أهميّة التكنولوجيا                                  70

الشكات الاجتماعيّة الرقميّة.. 72

إيجابيّة الشبكات الإجتماعيّة الرقميّة.. 73

تطوُّرٌ إعلاميٌّ منْ نَوْعٍ آخَرَ.. 74

البابا بنديكتوس السادِسَ عَشَرَ: خطواتٌ إعلاميَّةٌ غيرُ مسبوقَة.. 74

كونوا شهودًا                                                            75

البابا فرنسيس والإعلام: تأكيدٌ على الثوابتِ وإضاءَاتٌ على مفاهيمَ تطويريَّةٍ جديدةٍ. 77

ثقافة اللقاء                                                              77

التواصل الأصيل                                        78

الأهميّة الإجتماعيّة                              78

سيف ذو حدَّين                                          80

الهويّة الجماعيّة الحقيقيّة   81

هل يُمكِنُ لوسائلِ التواصُلِ الإجتماعيِّ أَنْ تكونَ مكانًا أو وسيلةً للتبشيرِ؟. 83

باباوان متحرِّران من الرّجعيَّة.. 84

ديناميكيَّةُ التواصلِ: الحوارُ والمشاركَةُ والتكلُّمُ مِنَ القلبِ… 85

الخروج عن المألوف                              85

الكلام الذي لا يُسمِّم القلوب…. 87

إعلام أفضل                                                          87

تطوير الجوهر                                                  88

التواضع في الإصغاء                            88

مخاطِرُ التَّطوُّرِ، والتحدياتُ التي يواجهُها المسيحيّون في استخدامِهِم لوسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ  90

نحو حضور كامل                                    91

فقدان القدرة على التفكير العميق… 93

إغراء النشر السريع                            93

الدّعوة الى الصّمت                              94

انخراطُ الكنيسةِ في واقِع العالّمِ الرقميِّ والتكيُّفُ معه. 95

وجهان مضادان                                            97

الكنيسة الى الإنفتاح                        98

هل يطالُ التَطَوُّرُ لغةَ وسائِلِ التواصُلِ الاجتماعيَّةِ في الكنيسة؟. 100

القلب مركز الأحاسيس والحب….. 101

باباوان متحرِّران من الرّجعيَّة.. 102

الإِعلامُ الكاثوليكيُّ بين 1965 و 2024.. 104

الكنيسة خارج التقوقع                105

من على السطوح                                        106

غاية الإعلام                                                            107

الصّمت موازيًا للكلمة                      110

بين الإنفتاح والتقوقع                      110

الأسرة مع فرنسيس                            111

خطر يهدد العائلات                            112

رسول الحقيقة                                                113

لا كمأجور بل كرسول                  114

الرحمة في التواصل                              115

ثقافة المحبَّة                                                            115

الإعلامُ الكاثوليكيَّ في الـ 2025.. 117

سؤال برسْمِ الجواب: هَل تَطَوَّرَ الإعلامُ الكاثوليكيُّ فعليًّا؟. 119

نَحْوَ تطوُّرٍ إِعلاميٍّ كاثوليكيٍّ مُستدام؟. 122

 

 

 

[1] “Maximan Graviddimamque”، تناولت هذه الرسالة أهمية الصحافة الكاثوليكيّة ودورها في الدفاع عن الإيمان والأخلاق، وحَثَّ البابا فيها مديري الصحف الكاثوليكيّة على الإلتزام بالحقِّ والمحبّة في نقل الأخبار، وعلى أن تكون الصحافة أداة بنّاءة في خدمة الكنيسة والمجتمع.

[2]  في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني تستخدم كلمة Decretum، للإشارة الى نوع من الوثائق الرسميّة التي تصدر عن المجمع، وتكون أقل مرتبة من الدساتير (Constitutiones) لكنها ملزمة وذات طابع رعوي أو تنظيمي.

[3]  رئيس المجلس البابوي لوسائل الإعلام الإجتماعيّة من عام 1984 – 2007.

 رئيس فخري لفرسان القبر المقدّس Grand Master of the Equestrian order of the Holy Sepulchre of Jerusalem.، من عام 2007 – 2011.

كان معروفًا بتعليقه باللغ الإنكليزيّة على قدّاس منتصف الليل في عيد الميلاد من الفاتيكان، حيث قدَّم التعليق لمدة 25 عامًا، عمل في تعزيز وسائل الإعلام الكاثوليكيّة وكان له دور بارز في تطوير الاتصالات داخل الكنيسة.

[4]  هو الاسم الأدبي للكاتب والصحفي البريطاني Eric Arthur Blair، ولد في 25 يونيو 1903 في موتيهاري، الهند البريطانيّة، وتوفي في يناير 1950 في لندن إنجلترا. تميّزت كتاباته بالوضوح والعمق في نقد الأنظمة الشموليّة والدفاع عن القيم الإنسانيّة والعدالة الإجتماعيّة.

أما موضوعه وثقافة الأسر هو محور دقيق وعميق، لأنه لم يتناول موضوع العائلة أو ثقافة الأسر التقليديّة بوصف مباشر أو كلاسيكي، بل من خلال رؤيته السياسيّة والإجتماعيّة التي نقد فيها الأنظمة الشموليّة والعلاقات الإنسانيّة ومنها الأسرة، والعمل على تفكيكها من الداخل، حيث يدرّب الأطفال على التجسُّس على آبائهم لصالح الحزب، يعتبر الحب الأسري تهديدًا للولاء للحزب. يحرّم الحميم العاطفي لأنه ينتج ولاءات بشريّة تتعارض مع الولاء للأخ الأكبر.

[5] Aldous Huxley إنكليزي الأصل، 1894 – 1963. كتب عن التحكّم الإستهلاكي وفقدان القيم. يعتبر واحد من أهم الذين انتقدوا التحكّم الاجتماعي، والمجتمع الإستهلاكي، وفقدان القيم والسيطرة على العقول، تدمير العائلة التقليدية في سبيل مصالح السلطة. ركّز في “عالم جديد شجاع”، على اختفاء الأسرة تمامًا، واستبدال العلاقات العائلية بعرقات صناعية تفرضها الدولة.

[6]  Pontifex: تعني بأني الجسر، يستخدم هذا اللقب في المسيحيّة للدلالة الى البابا لأنه يبني الجسور بين الله والبشر، وبين الكنيسة والعالم.

[7]  يلقّب بكاردينال – قسيس كنيسة سنت إيجيديو في تراستيفري Chiesa di Sant Edigio trastevere إيطالي الأصل 1955، شارك في مفاوضات السلام التي انتهت الحرب الأهليّة في موزنبيق سنة 1992 كجزء من جهود جماعة سانت إيجيديو.

عيّنه البابا فرنسيس مبعوثًا خاصًا للسلام في أوكرانيا، حيث قام بجولات دبلوماسيّة شملت كييف وموسكو وواشنطن وبكين، بهدف تعزيز المبادرات الإنسانيّة والسعي نحو السلام معروف بدعمه للحوار مع المجتمعات المهمّشة، بما في ذلك دعم حقوق المهاجرين والمشاركة في مبادرات تتعلّق بالمجتمع المدني.

Scroll to Top