الخوري دانيال زغيب[1]
مقدَّمة:
منذ البدايات، لم تفصل المسيحيَّة بين الكتاب المقدَّس واللِّيتورجيَّا([2]). وحتَّى بالنِّسبة إلى البروتستانتيَّة، تقوم العبادة الإلهيَّة على قراءة الكتاب المقدَّس وشرحه والتَّأمُّل فيه. وتكمل الكنيسة في صلاتها الطَّقسيَّة الصَّلاةَ الَّتي كانت تتِمُّ في المجمع: قراءة الكتب المقدَّسة، ولا سيَّما كتاب المزامير. وفي جميع أسرار الكنيسة، وبخاصَّةٍ في سرِّ القربان، تستوحي صِيَغُ الصَّلوات مضامينها من الكتاب المقدَّس، بشكلٍ ضمنيٍّ وأحيانًا كثيرة بشكلٍ حرفيّ. ويأتي العمل (action) بعد الكلمة؛ لا بل هي الكلمة نفسها من يتمِّمُ العمل ويحقِّقه. وكما في التَّكوين والخلق، حيث كلمة الله هي الَّتي تُخرِجُ الأشياء من العدم، وتجعل اللاموجود موجودًا، هكذا أيضًا في اللِّيتورجيَّا، حيث تتواصل الكلمة وتفعل فعلها في المشاركين في العمل الطقسيّ([3]). ما يربط الكتاب المقدَّس باللِّيتورجيَّا هي، إذًا، العلاقة الَّتي تربط الإعلان (annonce) بتحقيق ما تمّ إعلانه وتتميمه (accomplissemnet). ليست كلمة الله، إذًا، كلمةً من الماضي، ولكنَّها كلمةٌ تخاطِبُ حاضرنا؛ إنَّها كلمةٌ ليومنا هذا. وليتورجيَّا الكنيسة تفسِّر هذه الكلمة وتؤوِّنها وتُسهِّل للمؤمنين مقاسمتها والاغتذاء منها، من خلال ما يتمّ في الاحتفال اللِّيتورجيّ.
يقسم مقالنا هذا إلى ثلاثة أقسامٍ تهدف إلى تبيان أهمِّيَّة البيبليا في ليتورجيَّا الكنيسة، إذ ليس من احتفالٍ طقسيٍّ من دون دورٍ أساسيٍّ ومحوريٍّ لكلمة الله. نتناول، في القسم الأوَّل، جديد المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني([4]) في هذا الشَّأن. ونتوسَّع، في قسمٍ ثان، بقراءة الإرشاد الرَّسوليّ “كلمة الرَّبّ“، للبابا بنديكتُس السَّادس عشر. ونختم مقالنا، في القسم الثَّالث والأخير، مقدِّمين مقاربةً تفسيريَّةً ولاهوتيَّةً للعلاقة الَّتي تجمع البيبليا باللِّيتورجيَّا.
- الكتاب المقدَّس واللِّيتورجيَّا في المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني
كان هَمُّ وضْع كلمة الله في موقعها الصَّحيح والأساسيّ في كلِّ احتفالٍ طقسيّ، الهمّ الشَّاغل لمن عمل على صياغة نصّ الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة (= ل)، في المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني([5]). ويظهر هذا الهمّ في مختلف التَّوصيات المتعلِّقة بالمشاركة الفاعلة، واللَّحن، واللُّغات الحيَّة، إلخ. نتوقَّف هنا عند ثلاث نقاطٍ هامَّةٍ في نظرنا، هي الآتية:
- أوَّليَّة الكلمة
شدَّد ل علىأمرَين أساسيَّين في العمل اللِّيتورجي عمومًا، وفي القدَّاس خصوصًا، وهما: “ليتورجيَّا الكلمة” و”العظة أو الكِرازة” المرتبطة بالقراءات الكتابيَّة الَّتي تُتلى في الاحتفال. ولقد جاء في هذا الدُّستور المجمعيّ ما يلي: “يحتلُّ الكتاب المقدَّس المكانة المرموقة في الاحتفال باللِّيتورجيَّا([6]). فمنه النُّصوص الَّتي تُقرأ والَّتي تشرحها العظة وأيضًا المزامير الَّتي تُرنَّم. فبوحي منه وبزَخمٍ انبَثَقَتْ الصَّلوات، والابتهالات والتَّراتيل الطقسيَّة، ومنه تأخذ الأعمال والرُّموز معناها. وللحصول على تجديد اللِّيتورجيَّا وتقدُّمها وجعلِها ملائمة، يجب أنْ يُعزَّز ذلك الحبُّ العذب والحيّ للكتاب المقدَّس الَّذي يشهد له تقليد الطوائف الشَّرقيَّة والغربيَّة الجليل على السَّواء” (ل، 24). وعندما تطرَّق ل إلى موضوع تجديد كتاب القراءات قال: “يجب في الاحتفالات الطقسيَّة إدخال قراءات من الكتاب المقدَّس أكثر غزارةً وأشدّ تنوُّعًا وأحسن مطابقة” (ل، 35، 1). وعن العِظة، في الاحتفال اللِّيتورجيّ، جاء فيه الآتي: “(…) العظة الَّتي تؤلِّف جزءًا من العمل الطقسيّ (…). وليَستقِ الوعظ مواضيعه خاصَّةً من ينبوع الكتاب المقدَّس واللِّيتورجيَّا” (ل، 35، 2). ويشجِّع الدُّستور في اللِّيتورجيَّا على “الاحتفالات المقدَّسة بكلام الله عشيَّة الأعياد الاحتفاليَّة (…) ولا سيَّما في الأماكن المحرومة من كاهن” (ل، 35، 4).
وعندما تناول ل موضوع كتاب القراءات الخاصّ بالقدَّاس، أشار بوضوح إلى ضرورة الاستفادة من الثَّروة الكتابيَّة الضَّخمة؛ إذ جاء فيه: “لإعداد مائدة كلام الله بأكثر غنًى للمؤمنين، فَلتُفتَحْ كنوز الكتاب المقدَّس الواسعة لكي يُقرَأ على الشَّعب في حقبةٍ معيَّنةٍ من السِّنين القسمُ الأكثر أهمِّيَّة من الأسفار المقدَّسة” (ل، 51). يبان، إذًا، ممَّا سبق أنَّ لليتورجيَّا الكلمة أهمِّيَّةً كبرى بحدِّ ذاتها، وليست بالتَّالي، مجرَّد إعدادٍ وتحضير للاحتفال باللِّيتورجيَّا القربانيَّة.
وإذا راجعنا الوثائق المجمعيَّة الأخرى، نراها تشدِّد أيضًا على محوريَّة الكتاب المقدَّس في حياة الكنيسة وليتورجيَّتها. ويشير القرار المجمعيّ في الحركة المسكونيَّة، إلى الدَّور الهامّ الَّذي يؤدِّيه الكتاب المقدَّس في حياة المؤمنين غير الكاثوليك، وكيف يغذِّي إيمانهم([7]). ويتطرَّق بشكلٍ خاصٍّ إلى ولَعِهم بدراسة البيبليا والتَّعلُّق فيها؛ لقد جاء في هذا القرار المجمعيّ، كما يلي: “إنَّ حبَّ وإجلال، بل قُل عبادة إخواننا للكتاب المقدَّس، يحملهم على دراسة هذا الكتاب باستمرارٍ وجدّ (…). وهم في ابتهالهم إلى الرُّوح القدس يبحثون عن الله في الكتاب المقدّس نفسه كأنَّه هو الَّذي يكلِّمهم بالمسيح الَّذي بشَّر به الأنبياء، والَّذي هو كلمة الله المتجسِّد من أجلنا. وفي الكتاب المقدَّس يتأمَّلون حياة المسيح والتَّعاليم والأعمال الَّتي أنجزَها المعلِّم الإلهيّ لخلاص البشر، وخاصَّة أسرار موته وقيامته”([8]). أمَّا في الدُّستور العقائديّ في الوحي الإلهيّ، فيَظهر الكتابُ المقدَّس على أنَّه التَّدوين الخطيّ والمكتوب للتَّدبير الخلاصيّ. إذ تحتوي البيبليا على الكرازة الرَّسوليَّة كلّها (العدد 8). ويكوِّن التَّقليد المقدَّس “والكتاب المقدَّس وديعةً واحدةً مقدَّسةً لكلام الله أُوكِلَتْ إلى الكنيسة”([9]). وثمّ يشير هذا الدُّستور العقائديّ إلى أنَّ الكنيسة تحترم “دومًا الكتب الإلهيَّة”، بالمقدار عينه الّذي تحترم فيه “جسد الرّبّ نفسه”. ولقد جاء في النَّصّ المجمعيّ، ما يلي: “فإنَّها [الكنيسة] لا تنثني تأخذ خبز الحياة، خاصَّةً في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة، سواءً عن مائدة كلمة الله أو عن مائدة جسد المسيح لتُقدِّمه للمؤمنين”([10]). ويُختتم هذا الدُّستور بخاتمة رائعة عن الارتباط الوثيق بين اللِّيتورجيَّا والبيبليا، جاء فيها الآتي: “وكما تنمو حياة الكنيسة بممارستها سرّ القربان ممارسة غير منقطعة، هكذا يجدر بنا أنْ نرجو زخمًا جديدًا للحياة الرُّوحيَّة ينبع من احترامٍ متزايدٍ لكلمة الله «الَّتي تدوم إلى الأبد»”([11]).
- تنشئةٌ متجدِّدة
يُشدِّد الدُّستور العقائديّ كلمة الله على أهمِّيَّة الكتاب المقدَّس الَّذي عليه يقوم علم اللاهوت؛ ونجد النَّصّ الآتي: “يرتكز علم اللاهوت المقدَّس على كلام الله المكتوب وإلى التَّقليد المقدَّس ارتكازًا ثابتًا، ويجد فيه قوَّةً ومتانةً وفتوَّةً دائمةً إذ يتفحَّص بنور الإيمان كلَّ الحقيقة الَّتي يتضمَّنها سرّ المسيح. فإنَّ الكتب المقدَّسة تحتوي على كلمة الله، بل هي حقًّا كلمة الله لأنَّها ملهمة. ولهذا يجب أنْ يكون درس الكتب المقدَّسة بمثابة روح علم اللاهوت المقدَّس”([12]). وللكتاب المقدَّس حصَّةٌ كبيرةٌ في التَّجديد على مستوى العمل الرَّعويّ، ولا سيَّما في الكِرازة ضمن العمل الطَّقسيّ؛ لقد جاء في هذا الدُّستور أيضًا: “أمَّا خدْمة الكلمة، أعني الكرازة الرَّاعويَّة والتَّعليم وكلّ إرشادٍ مسيحيّ، فهو ما يجب أن تحتلَّ فيه العظة الطقسيَّة محلاًّ ممتازًا، فتتغذَّى هي أيضًا من كلمة الكتاب المقدَّس نفسها الغذاء السَّليم وتتجدَّد بالقوَّة المقدَّسة”([13]). ولكنَّ تجديد التَّنشئة الكهنوتيَّة، وبشكلٍ خاصٍّ تجديد التَّربية على الإيمان، يهمَّاننا من زاويةٍ أخرى، ألا وهي: دور اللِّيتورجيَّا في التَّنشئة المسيحيَّة واللاهوتيَّة. يرتبط هَمُّ التَّنشئة هذا ارتباطًا وثيقًا بالقيمة الكبيرة الَّتي نُعطيها للبيبليا على أنَّها وسيلةٌ فضلى للتَّنشئة، من خلال تدريس سرِّ المسيح والتَّدبير الخلاصيّ.
من أجل بلوغ هذه الغاية التَّنشئويَّة، عرض ل ضرورة أن يتهيَّأ أساتذة اللِّيتورجيَّا في الإكليريكيَّات والأديار وكلِّيَّات اللاهوت، “كما يجب لوظيفتهم”، ليتمكَّنوا من أداء مهمَّتهم (ل، 15). ومن ثمّ عرض، في مقطعٍ مميَّز، ما هي ميزات تنشئة الإكليروس، كالآتي: “يجب وَضْعُ تعليم اللِّيتورجيَّا([14]) في المدارس الإكليريكيَّة وفي دور التَّدريس الرُّهبانيَّة بين المواد الضَّروريَّة والمهمَّة، وفي معاهد اللاهوت بين المواد الأساسيَّة. ويجب أن تُدرَّسَ سواء من الوجهة اللاهوتيَّة والتَّاريخيَّة أم من الوجهة الرُّوحيَّة والرَّاعويَّة والقانونيَّة. (…) وعلى أساتذة المواد الأُخرى (…) أن يجتهدوا في أن يُبرِزوا سرَّ المسيح وتاريخ الخلاص، بحيث يظهر جليًّا الرَّابط بين هذه المواد وبين اللِّيتورجيَّا وتظهر وحدة التَّنشئة الكهنوتيَّة” (ل، 16). وتشير الأعداد اللاحقة إلى موضوع تنشئة الإكليروس اللِّيتورجيَّة وإلى دوراتٍ “تأهيليَّة” للكهنة القُدامى.
تؤكِّد نصوصٌ مجمعيَّةٌ أخرى أهمِّيَّة هذا البرنامج وضرورته. يضع القرار في مهمَّة الأساقفة الرَّاعويَّة، في المقطع المخصَّص للتَّعليم المسيحيّ (العدد 14)، اللِّيتورجيَّا من بين الأُسُس الَّتي يُبنى عليها هذا التَّعليم. كذلك الدُّستور العقائدي في الوحي الإلهيّ الَّذي يعتبر أنَّ البيبليا هي “روح علم اللاهوت”، يُشدِّد بشكلٍ تكامليٍّ على مكانة اللِّيتورجيَّا في فهم البيبليا([15]). ومن ناحيةٍ أخرى، يؤكِّد القرارُ في التَّنشئة الكهنوتيَّة على أنَّ “سرّ الخلاص” هو أساس الدُّروس الكهنوتيَّة، ويجب أنْ تبدأ هذه الأخيرة “بدرسٍ يُعتَبر مقدَّمةً (…). وفي هذه المقدَّمة، فليُبسَطْ سرّ الخلاص، بطريقةٍ تُظهِر للطلاَّب معنى الدُّروس الكهنوتيَّة وتنسيقها وغايتها الرَّعائيَّة”([16]). بيد أنَّ “سرَّ الخلاص” هذا الَّذي يرتبط فهمه بالكتاب المقدَّس وعلم اللاهوت، ينكشف لنا أيضًا ويظهر “حاضرًا وفعَّالاً في الأعمال الطَّقسيَّة”، لأنَّ “اللِّيتورجيَّا المقدَّسة (…) يجب اعتبارها مصدرًا أوَّليًّا وضروريًّا لروحٍ مسيحيَّةٍ حقَّة”([17]).
- التَّقليد والتَّقدُّم
تناول المجمع الفاتيكانيّ الثاني موضوع التَّقليد والتَّقدُّم في نصوص عديدة. ما يهمُّنا هنا يرتبط بالتَّجديد في اللِّيتورجيَّا والبيبليا. جاء التَّعبير عن هذا الموضوع، في ل، بأسلوبٍ أعوجٍ وغير لبق. فقد اعتبر هذا الدُّستور أنَّ التَّقليد يرتبط بالماضي فقط، ولذا فهو في “صراعٍ” مع مفهوم التَّقدُّم والحداثة والتَّطوُّر. وبالتَّالي، فهناك أقسامٌ في اللِّيتورجيَّا لا تتبدَّل، وهي “مِنْ وضْعٍ إلهيّ”؛ وهناك أقسامٌ أخرى “عرضةً للتَّغيير يمكن أنْ تتبدَّل عبر العصور (…) إذا غدَتْ غير ملائمة” (ل، 21). ولقد جاء في العدد 23 من الدُّستور عينه، ما يلي: “يجب الامتناع عن استحداث شيء، إلاَّ ما تقتضيه فائدة الكنيسة حقيقة وبكلّ تأكيد، مع السَّهر على أنَّ الصِّيَغ الجديدة إتَّما تنبثق عن صيَغٍ كانت موجودةً وذلك لتَطوُّرٍ عضويٍّ نوعًا ما”.
أمَّا الدُّستور العقائديّ كلمة الله فقد مفهومًا ديناميًّا للتَّقليد، معتبرًا إيَّاه تقليدًا حيًّا، لا شيئًا جامدًا من مخلَّفات الماضي. وبالتَّالي، استنادًا إلى هذا المفهوم الدِّيناميّ للتَّقليد، يمكن أنْ نتجاوز التَّناقض بين التَّقليد والتَّقدُّم، بين الماضي والحاضر. فالتَّقليد يحتوي، في ذاته، على خواص التَّقدُّم والتَّطوُّر. ما يهمُّنا هنا هو المقطع الآتي: “هذا التَّقليد الَّذي استلمناه من الرُّسُل يتقدَّم في الكنيسة بمعونة الرُّوح القدس. فإدراك الأمور والأقوال المنقولة ينمو إمَّا بتأمُّل المؤمنين الَّذين يردِّدونها في قلوبهم ودراستهم، وإمَّا بتبصُّرهم الباطنيّ في الأمور الرُّوحيَّة الَّتي يختبرون، وإمَّا بكرازة أولئك الَّذين تسلَّموا، مع الخلافة الأُسقفيَّة، الموهبة الثَّابتة لتعليم الحقيقة. أي أنَّ الكنيسة تتوق باستمرار، على مرِّ الأجيال، إلى إكمال الحقيقة الإلهيَّة، إلى أنْ تتمَّ فيهم أقوال الله”([18]).
- مكانة “كلام الله” في اللِّيتورجيَّا بحسب الإرشاد الرَّسوليّ “كلمة الرَّبّ”
- مدخل
إنَّ الإرشاد الرَّسوليّ “كلمة الرَّبّ” الَّذي أصدرَه البابا بنِديكتُس السَّادس عشر، بتاريخ 30 أيلول من العام 2010، هو نتيجة الجمعيَّة العامَّة العاديَّة لمجمع الأساقفة، الَّتي انعقَدَتْ في الفاتيكان، من الخامس إلى السَّادس والعشرين من تشرين الأوَّل ألفين وثمان؛ وكان موضوع هذه الجمعيَّة: “كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها“. وكانت الجمعيَّة العامَّة العاديَّة السَّابقة قد تناولَت موضوع: “الإفخارستيَّا، ينبوع حياة الكنيسة ورسالتها وذروتهما“. وما بين الموضوعَين المطروحَين على الأساقفة علاقةٌ وثيقةٌ عبَّر عنها البابا بنديكتُس كالآتي: “في الواقع، الكنيسة مؤسَّسةٌ على كلمة الله، منها تولد وتعيش. فيها وَجَدَ شعبُ الله دائمًا قوَّته، طوالَ قرون تاريخه؛ واليوم أيضًا تنمو الجماعة الكنسيَّة في الإصغاء إلى كلمة الله والاحتفال بها ودرسها”([19]).
- موجز عن مضمون هذا الإرشاد
يحتوي هذا الإرشاد الرَّسوليّ على ثلاثة أقسام، هي الآتية: كلمة الله (الله الَّذي يتكلَّم)، والكلمة في الكنيسة، وكلمة الله إلى العالم (إعلان كلمة الله للعالم). يبدأ القسم الأوَّل بالتَّشديد على أهمِّيَّة التَّجسُّد، إذ الكلمة صار جسدًا. ومن ثمَّ يتناول جواب الإنسان على الله الَّذي يكلِّمه؛ ويختم فيتوسَّع بموضوع تفسير الكتاب المقدَّس. يشير الإرشاد إلى أنَّ تجسُّد الكلمة، وهو التَّعبير الأسمى لرضى الله، هو في قلب السِّرِّ المسيحيّ (العددان 11-12). عندما نتكلَّم على “الكلمة”، يتبادر إلى ذهننا دائمًا الابن نفسه. في المسيح، الكلمة المتجسِّد، كشَفَ الله عن ذاته نهائيًّا وبشكلٍ تامٍّ وكامل (العددان 12، 14). ويعني التَّجسُّد أيضًا أنَّ كشْف الله عن ذاته قد تمَّ في الزَّمان والمكان؛ وأنَّ مفهوم “الإلهام” يفترض بعدَين اثنَين مرتبطَين بعضهما بالبعض الآخر: البعد الإنسانيّ والبعد الإلهيّ (العدد 19). ومن أجل تفسيرٍ صحيحٍ للبيبليا يجب الأخْذ بمفهومَين أساسيَّين هما: “الإلهام” و”الحقيقة” (العدد 19). وبما أنَّ كلمة الله تتوجَّه إلى الإنسان (العدد 23)، هذا يعني أنَّ الله يدعو هذا الأخير إلى الدُّخول في حوارٍ معه. ويقدِّمُ البابا مريم العذراء مثالاً حيًّا في “الإصغاء المؤمن إلى كلمة الله” (العدد 27)، وفي الإلفة مع هذه الكلمة، فيقول: ” (…) وبما أنَّها مُشبعةٌ في العمق من كلمة الله، فبإمكانها أنْ تصبح أمَّ الكلمة المتجسِّد” (العدد 28).
وبعد ذلك يتناول البابا، في إرشاده الرَّسوليّ هذا، موضوع تفسير الكتاب المقدَّس في الكنيسة، بشكلٍ مستفيض. ويُشدِّد على أنَّ التَّفسير المناسب للكتاب المقدَّس لا يتمُّ من دون الإيمان الحيّ ومن دون الجماعة المؤمنة الَّتي هي الكنيسة؛ يقول البابا: “الكتاب المقدَّس هو كتاب الكنيسة، ومن ملازمته لحياة الكنيسة ينبثق أيضًا تفسيره الصَّحيح” (العدد 29). ليس التَّفسير البيبليّ متطلِّبةً مفروضةً من الخارج، وليس هو مسألةٌ شخصيَّةٌ فرديَّةٌ لا علاقة له بالجماعة الكنسيَّة، لأنَّ الكتاب المقدَّس قد دوِّن “على يد شعب الله ولأجل شعب الله، بإلهام الرّوح القدس” (العدد 30).
ويتناول القسم الثَّاني مكانة كلمة الله في الكنيسة، ولا سيَّما في اللِّيتورجيَّا والأسرار. ليست اللِّيتورجيَّا الإطار المميَّز الَّذي تُقرَأ فيه كلمة الله فحسب، ولكنَّها نقطة الارتكاز أو “مرجع تفسير الإيمان على أساس الكتب المقدَّسة” (العدد 52). غير أنَّ المؤمنين لا يتنبَّهون دومًا إلى “العلاقة الوثيقة بين الكتاب المقدَّس والعمل الأسراريّ” (العدد 53)؛ لذلك، “يعود إلى الكهنة والشَّمامسة، بخاصَّةٍ عندما يوزِّعون الأسرار، أنْ يُظهِروا الوحدة الَّتي يؤلِّفها الكلمة والسِّرّ في الخدْمة الكهنوتيَّة في الكنيسة” (العدد 53). وسوف نتوسَّع في هذا القسم الثَّاني، في المقطع التَّالي من مقالنا هذا.
ويتطرَّق القسم الثَّالث والأخير من “كلمة الرَّبّ“، إلى موضوعَي الرِّسالة والأنْجَلَة (أو التَّبشير). لا تجعل كلمةُ الله من المؤمنين الَّذين تلقَّوها مجرَّد متلقِّين لها، بل تجعلهم بالأحرى مرسلين ومبشِّرين وكارزين بها في العالم كلِّه. لقد جاء في إحدى الفقرات ما يلي: “نقَلَ “كلمةُ الله” إلينا الحياةَ الإلهيَّةَ الَّتي تُغيِّر وجهَ الأرض (…). إنَّ مسؤوليَّتنا هي أنْ ننقَلَ بدورنا ما تلقَّيناه بالنِّعمة” (العدد 91). ويتوسَّع هذا القسم في طرْح موضوع مسؤوليَّة المعمَّدين عن التبشير، وأهمِّيَّة التَّوجُّه “إلى الأُمم”، لأنَّ “كلمة الله هي الحقيقة الخلاصيَّة الَّتي يحتاج إليها كلّ إنسانٍ في كلِّ زمان” (العدد 95). ومن أجل إيصال البشارة إلى العالم، يُشدِّد الإرشاد على وجوب “توفُّر العلاقة الدَّاخليَّة بين إيصال كلمة الله وبين الشَّهادة المسيحيَّة (…). على ذلك تعتمد مصداقيَّة التبشير بالذَّات” (العدد 97). ويطاول الكلام جميع فئات المجتمع والحالات الَّتي يجب أنْ تلمسها كلمة الله. بالإضافة إلى البُعد الثَّقافيّ والفكريّ، والعلاقة الَّتي تربط كلمة الله بالحوار بين الأديان. إذًا، كلّ مجالات مجتمعنا بحاجةٍ إلى نور المسيح؛ “فليس المطلوب إعلان كلمة تعزية، بل كلمة قطيعةٍ تدعو إلى التَّوبة، تجعَلُ اللِّقاء بالله ممكنًا، فيكون لك بذار بشريَّةٍ جديدة” (العدد 93).
- مكانة كلام الله في اللِّيتورجيَّا
يتوسَّع البابا في هذا الإرشاد الرَّسوليّ بالكلام على العلاقة الوثيقة والأساسيَّة الَّتي تجمع بين البيبليا واللِّيتورجيَّا، فيعتبر أنَّ “اللِّيتورجيَّا مكانٌ مميَّزٌ لكلام الله“([20]). فاللِّيتورجيَّا هي المكان المميَّز حيث يكلِّمنا الله في حياتنا الحاضرة: نسمعُ كلامه ونجيب عليه ونناجيه. ولا ليتورجيَّا من دون كلام الله؛ فإنَّ “كلمة الله تترافق، أثناء العمل اللِّيتورجيّ، مع عمل الرُّوح القدس (…). بفضل البرقليط تُصبح كلمة الله أساس العمل اللِّيتورجيّ، والقاعدة والسَّنَد للحياة كلِّها” (العدد 52). فلا يمكن للمؤمن أنْ يفهم قيمة العمل اللِّيتورجيّ ما لم يَفقَه ويغتذي من كلمة الله المُعلَنَة والمحتفَل بها في العمل نفسه. ونقرأ في الإرشارد الرَّسوليّ، ما يلي: “هنا تظهر التربية الحكيمة للكنيسة الَّتي تُعلِن الكتاب المقدَّس وتُنصِت إليه مُتَّبعَةً إيقاعَ السَّنة الطَّقسيَّة. هذا التَّمدُّد لكلمة الله في الزَّمن يحصل خاصَّةً في الاحتفال الإفخارستيّ وفي ليتورجيَّا السَّاعات” (العدد 52). وإذا قرأنا نصَّ تلميذَيّ عمَّاوس (راجع: لو 24: 13-35)، في ضوء العلاقة بين الكلمة واللِّيتورجيَّا، نفهم أكثر فأكثر الرِّباط الَّذي يجمع بين الكلمة وكسْر الخبز. لقد جاء في “كلمة الرَّبّ“، ما يلي: “لقد سَمَحَ حضور يسوع للتِّلميذَين بمعرفته، أوَّلاً بكلماته، ثمَّ بكسْر الخبز” (العدد 54). تتلازم كلمةُ الله والإفخارستيَّا، بشكلٍ حميم، إلى درجة أنَّ الواحدة لا تفهم من دون الأُخرى. فكلمة الله الَّذي صار جسدًا (يو 1: 14)، لَمَّا تجسَّد في مذود الحيوان، وبَشَّر النَّاس بكلمات الحياة والخلاص، يصبح -هو نفسه- جسدًا سرِّيًّا في الاحتفال القربانيّ، حيث يخاطب جماعة المؤمنين ويكلِّمهم، ويهبهم جسده ودمه “لمغفرة الخطايا وللحياة الأبديَّة”. ولذلك يتطرَّق الإرشاد إلى موضوع “الطَّابع الأسراريّ لكلام الله”، الَّذي لم يتناوله الكاثوليك كثيرًا في لاهوتهم وفكرهم البيبليّ. لقد جاء في أحد المقاطع، ما يلي: “تُفهَم عندئذٍ أسراريَة كلمة الله عبر مماثلة الحضور الواقعيّ للمسيح تحت شكلَي الخبز والخمر المكرَّسين (…). يتضمَّن إعلان كلمة الله في الاحتفال الاعتراف بأنَّ المسيح ذاته هو حاضر، ويخاطبنا لكي نُصغي إليه” (العدد 56). وكما أنَّ المسيح حاضرٌ في شكلَي الخبز والخمر، هو حاضر أيضًا، وبشكلٍ مماثل، في الكلمة المعلَنَة في اللِّيتورجيَّا. لقد جاء في الدُّستور في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة، بشأن حضور المسيح في اللِّيتورجيَّا، ما يلي: “(…) هو المسيح حاضرٌ دومًا مع كنيسته، ولا سيَّما في الأعمال الطَّقسيَّة. (…) هو حاضرٌ في كلمته، لأنَّه هو الَّذي يتكلَّم عندما تُقرأ الكتب المقدَّسة في الكنيسة”([21]). ويتناول هذا القسم ارتباط الكتاب المقدَّس بموضوعات كثيرة، نعرض بعضًا منها هنا، كالآتي:
- الكتاب المقدَّس وكتاب القراءات: يجب أنْ يوفِّر كتاب القراءات الَّتي تُقرأ في ليتورجيَّا الأحد، الإمكانيَّة للمؤمنين لكي يطَّلعوا على غنى الكتاب المقدَّس، بخاصَّةٍ عندما تُقرأ نصوصٌ من العهد القديم والجديد، وتظهر اللُّحمة في تدبير الله الخلاصيّ، من خلال شخص يسوع المسيح المحتفَل به في اللِّيتورجيَّا (العدد 57). ويشير النَّص عينه، بطريقةٍ مبهمة، إلى معالجة “مسألة كتاب القراءات في طقوس الكنائس الكاثوليكيَّة الشَّرقيَّة” “وفق طريقةٍ مسموح بها”.
- إعلان الكلمة والقارئين الكنسيِّين: بما أنَّ للقراءات موقعٌ هامٌّ ومميَّزٌ في اللِّيتورجيَّا؛ وبما أنَّ القراءة الأولى يتلوها قارئ غير مكرَّس، وهو من العلمانيِّين، يوصي الإرشاد بضرورة توفير تنشئةٍ ملائمةٍ للأشخاص الَّذين يؤدُّون هذه الوظيفة اللِّيتورجيَّة في الاحتفال. وعلى هذه التَّنشئة أن تُطاول النَّواحي البيبليَّة واللِّيتورجيَّة والتِّقنيَّة (العدد 58).
- أهمِّيَّة العِظة: نقتطف بعض الأسطر الهامَّة عن هذا الموضوع، كالآتي: “إنطلاقًا من أهمِيَّة كلمة الله، من الضَّروريّ تحسين نوعيَّة العِظة (…). في الواقع، العظة هي تأوين للرِّسالة البيبليَّة (…)، يجب أن تُساعِدَ على فهم السِّرِّ الَّذي يُحتَفَل به، وعلى الدَّعوة إلى الرِّسالة (…) يجب تجنُّب العظات الغامضة والمجرَّدة الَتي تحجب بساطة الكلمة (…). يجب أنْ يكون واضحًا للمؤمنين أنَّ ما يهمّ الواعظ هو إظهار المسيح الَّذي عليه تتمحور العظة” (العدد 59).
- الكتاب المقدَّس في سرَّي التَّوبة ومسحة المرضى: في ما يتعلَّق بسرِّ التَّوبة، يُستحسن أنْ يستعدَّ التَّائب للاعتراف والتَّوبة بقراءة مقطعٍ من الكتاب المقدَّس والتَّأمُّل فيه، أو بسماع “حثٍّ بيبيلي”؛ وعند تلاوته فعل النَّدامة، يُستحسن أن يكون هذا الأخير مكوَّنًا “من أقوالٍ مستلَّةٍ من الكتاب المقدَّس” (العدد 61). ويحضُّ الإرشاد على الاستفادة من المناسبات الطَّقسيَّة لقيام احتفالات توبويَّة جماعيَّة، في الرَّعايا، يكون فيها للاحتفال بكلمة الله مكانة مميَّزة وواسعة. كما يشجِّع الإرشاد عينه على الاحتفال بسرّ مسحة المرضى، في الرَّعايا والمستشفيات، بشكلٍ جماعيّ. ويمكن عندها الاستفادة من البيبليا، لقراءة “صفحاتٍ عديدة تثظهشر التَّشجيع والعون والشِّفاء الَّتي توهَب [للمرضى] عبر تدخُّل الله” (العدد 61).
- الكتاب المقدَّس والصَّلاة الطَّقسيَّة الخورُسيَّة: للصَّلاة الطَّقسيَّة الخورسيَّة مكانةٌ هامَّةٌ في حياة الكنيسة؛ فالأساقفة والكهنة والرُّهبان والرَّاهبات ملزمون بتلاوتها يوميًّا. كما يشجِّع هذا الإرشاد المؤمنين في الرَّعايا على تلاوة صلاتَي المساء والصَّباح (العدد 62). وتُفرِد هذه الصَّلاة حيِّزًا كبيرًا واحتفاليًّا لكلمة الله. فلنقرأ هذا المقطع: “في ليتورجيَّا السَّاعات، وهي الصَّلاة العامَّة للكنيسة، يظهر المثال المسيحيّ للتَّقديس طوال النَّهار، موقَّعًا على الإصغاء إلى كلمة الله، وعلى صلاة المزامير، بحيث أنَّ كلَّ نشاطٍ يجد مرجعيَّتَه في التَّسبيح المقدَّم لله” (العدد 62).
ويقدِّم هذا القسمُ من الإرشاد الرَّسوليّ “اقتراحاتٍ وعروضًا عمليَّةً لتنشيط اللِّيتورجيَّا”([22]) من خلال إعلان كلمة الله والتَّأمُّل فيها والاحتفال بها. نتوقَّف، هنا، عند الاقتراحات الآتية:
- الاحتفالات بكلمة الله: في الرَّعايا الَّتي يمكنها أنْ تحتفل بالقدَّاس بسبب نقص الكهنة، يشجِّع الإرشادُ الجماعات أنْ تحتفل بكلام الله بكلِّ أُبَّهةٍ وجمال، مستفيدةً من غنى الكتاب المقدَّس: تقرأه وتتأمَّل فيه وتصلِّيه. كما يمكن للتَّقوى الشَّعبيَّة، بمناسبة الحجّ والأعياد الخاصَّة والرَّياضات الرُّوحيَّة، أنْ تتغذَّى من الكتاب المقدَّس، فيكون لها “ينبوعًا لا ينضب من الإلهام، ونماذجَ للصَّلاة لا تُضاهى” (العدد 65).
- الإعلان الاحتفاليّ لكلام الله: أوَّلاً، يجب “الاحتفال بأبَّهةٍ بإعلان الكلمة”، من خلال القيام بزيَّاح كتاب الإنجيل بشكلٍ احتفاليٍّ ترافقه الشُّموع والبخور. ومن المستحسَن، ثانيًا، “إعلان كلمة الله ترنيمًا، لا سيَّما الإنجيل، وخاصَّةً في بعض المناسبات” (العدد 67).
- حصريَّة النُّصوص البيبليَّة: “يجب ألاَّ تُستَبدَل النُّصوص المستلَّة من الكتاب المقدَّس مطلقًا بنصوصٍ أخرى، مهما كانت معانيها عميقة” (العدد 69). وفي ما يتعلَّق بالتَّرانيم والألحان الَّتي تُنشَد في الاحتفالات اللِّيتورجيَّة، يجب أنْ يُفضَّل “النَّشيد الَّذي يستَلهم بشكلٍ واضحٍ الكتاب المقدَّس، والَّذي يُعبِّر، عبر التَّوافق المتناغم بين الكلمات والموسيقى، عن جمال الكلمة الإلهيَّة” (العدد 70).
- الكتاب المقدَّس واللِّيتورجيَّا: مقاربةٌ لاهوتيَّةٌ وتفسيريَّة
نسعى، في هذا القسم الثَّالث والأخير من مقالنا، لأنْ نطرح التَّساؤل الآتي: إستنادًا إلى أيّ معايير يجب أنْ نفسِّر ونُؤَوِّل كلمة الله الَّتي تُعلَن في الاحتفال اللِّيتورجيّ؟ إنَّ الاحتفال هو المكان المميَّز حيث يتثبَّت المؤمنون بالإيمان بيسوع المسيح؛ وبواسطة قوَّة الرُّوح القدس، يصيرون وإيَّاه جسدًا واحدًا. فيظهرون على أنَّهم شعب الله، وكنيسة المسيح، ويُبنون على هذا الأساس. بالمقابل، فالاحتفال اللِّيتورجيّ، الَّذي يتحقَّق من خلال “العلامات” (signes)، هو علامة حضور المسيح وفعاليَّته، وعلامة حضور الكنيسة الَّتي هي جسده السِّرِّيّ. في الواقع، تستحضر الجماعةُ (assemblée) اللِّيتورجيَّة الملتئمة، أعمالَ الله المذهلة الَّتي صنَعَها من أجلها، وذلك من خلال إعلان الكلمة؛ ومن ثمَّ، عبر التَّمجيد والابتهال والشُّكر، تدعو هذه الجماعة رأفة الآب السَّماويّ وحنوّه ليغمراها. وعندما تستحضر الجماعةُ تدبير الله الخلاصيّ، وتكتشف غناه العظيم، تكتشف ذاتها على أنَّها استكمالٌ وامتدادٌ لمختلف الجماعات اللِّيتورجيَّة عبر العصور. وهكذا، تعي الجماعة اللِّيتورجيَّة، لدى احتفالها بـ”عظائم الله”، وحدةَ سرّ الخلاص في تجلِّياته المتنوِّعة. وبتعبيرٍ آخر، تعيد الجماعةُ اكتشاف حقيقة أنَّها، في الاحتفال، المكانُ المميَّز لتأوين كلمة الله، في مكانٍ وزمانٍ محدَّدَين.
وإليكم الأبعاد الأساسيَّة للجماعة اللِّيتورجيَّة([23]) الَّتي تحتفل بسرِّ الخلاص:
- البُعد التَّاريخيّ: إنَّ كلَّ جماعةٍ ليتورجيَّة هي الاعتلان المنظور لشعب الله الَّذي كوَّنه المسيحُ ووحَّده وأشركه في سرِّه الفصحيّ، وولَدَه من جديد ليُشركه في وظيفته الملكيَّة والكهنوتيَّة والنَّبويَّة. ومن ثمَّ يؤَهِّلُ الابن الوحيد هذا الشَّعب ليتمكَّن من أنْ يؤدِّي للآب العبادة الرَّوحيَّة الَّتي تشكِّل جوهر مشروع الله لخلاص البشر.
- البُعد الرُّوحيّ: تصبح الجماعة اللِّيتورجيَّة، في الاحتفال، “المكان” الَّذي تتحقَّق فيه مشاركة المعمَّدين في كهنوت المسيح، بشكلٍ فائق.
- البُعد النُّهيَويّ: تُظهِر الجماعة الَّتي تحتفل بسرِّ الخلاص، أنَّ التّحقيق التَّامّ والكامل للعمل الطَّقسيّ يتمّ في “النُّهيَة”. وتُعلِن بأنَّ الاحتفال، هنا والآن، يستبق بطريقةٍ من الطُّرق، التَّحقيق النِّهائيّ المرجوّ.
- البُعد اللِّيتورجيّ: إنَّ الجماعة اللِّيتورجيَّة الَّتي تلتئم بواسطة كلمة الله، مدعوَّةٌ إلى أنْ تعلِن، في الاحتفال وعبر الاحتفال، وتحت أشكال الطُّقوس والرُّموز، ذِكْرَ الرَّبّ يسوع.
ونجد، في كلِّ أبعاد الجماعة اللِّيتورجيَّة، أنَّ لكلمة الله دورًا أساسيًّا تؤدِّيه. تولَدُ الكنيسة من رحم كلمة الله؛ والكنيسةُ تعتلِنُ في الاحتفال اللِّيتورجيّ؛ والاحتفال يؤوِّنُ كلمة الله ويقود الكنيسة المحتفلة نحو النُّهية والآخِرة؛ وهذه الأخيرة هي الغاية مِنْ مجيء كلمة الله إلينا.
ومن خلال دور الجماعة اللِّيتورجيَّة يمكننا أنْ نفسِّر ونشرح دور كلمة الله المُعلَنَة في اللِّيتورجيَّا. يستوقفنا عنوانان اثنان([24])، وهما: تأوين كلمة الله في الكنيسة. والثَّاني: العلاقة بين الاحتفال اللِّيتورجيّ وكلمة الله.
أوَّلاً: تأوين كلمة الله في الكنيسة
نعالج الأفكار الخمس الآتية:
- ممَّا لا شكَّ فيه، أنَّ كلمة هي العنصر الأكثر أهمِّيَّة في الكتب المقدَّسة. فهي تُحدِّد الفكرة والأُفهوم والحقيقة الَّتي تبغي نقلها. وهي تحتوي في ذاتها على قوَّةٍ عندما تعبِّر عن ذاتها؛ وهي تكشف عن ذاتها لمن يسمعها ويتقبَّلها. فللكلمة فعاليَّةٌ موضوعيَّةٌ مستقلَّةٌ عن تقبُّل القارئ لها، هذا من جهة؛ ولكنَّ فعاليَّتها تبقى نسبيَّة، وذلك وفاقًا لقدرة المتلقِّي أو السَّامع، هذا من جهةٍ أخرى. وبما أنَّ الله قد اختار الكلمة ليكشف لنا عن ذاته، لذا أصبحت الكلمة المتضمَّنة في الكتاب المقدَّس، كلمةً فاعلةً وفعَّالة، كلمةً تحمل في ذاتها محتوًى معرفيًّا وطاقةً تخوِّلها أنْ تتقبَّل المعطى الموضوعيّ الَّذي يريد الله أن ينقله أو يكشفه للبشر. هذا ما يتحقَّق، بطريقةٍ مميَّزة، في البيعة عندما تحتفل بسرِّ الخلاص: يأخذ المعطى الموضوعيّ لكلمة الله، وفعاليَّته الموضوعيَّة، في العمل الطَّقسيّ، تفسيرهما وتأويلها، بغضِّ النَّظر عن قدرة السَّامعين والمحتفلين باللِّيتورجيَّا.
- تتركَّز كلمة الآب في “اللُّوغوس” («Logos») الَّذي، عندما دخل الزَّمان، أعطى الكلمةَ بُعدًا تاريخيًّا وجعلَ منها حدثًا فاعلاً في التَّدبير الخلاصيّ. فقد صارت كلمةُ الله “سرَّ” الآب، أي المسيح، الَّذي يعمل في التَّاريخ، بواسطة قوَّة الرُّوح القدس، جاعلاً منه تاريخَ خلاص وحياة: “فالمسيح هو “التَّفسير” (exégèse) للكتاب المقدَّس بكامله، كما أنَّه هو أيضًا “المفسِّر” (exégète) للآب. (…) وحده المسيح يحوِّل التّاريخ البشريّ إلى تاريخ خلاص”([25]). وقد سلَّم الابنُ كلمةَ الله هذه إلى الكنيسة، لكي تجعل منها، في المكان والزَّمان، حدثًا خلاصيًّا يطاول البشر جميعًا. وعندما تحتفل الكنيسة، في اللِّيتورجيَّا، بكلمة الله وتعلنها وتشرحها، تجعل المسيح، الكلمة المتجسِّد، حاضرًا. فـ”السِّرُّ” المُعلَن عبر “الكلمة” يصبح حاضرًا وآنيًا في كلّ عملٍ طقسيٍّ تحتفل به الجماعة المؤمنة.
- يهدف الرَّمز (أو العلامة) الَّذي يُستخدَم في العمل الطَّقسيّ إلى إذكاء الإيمان لدى المؤمن المُشارك في اللِّيتورجيَّا، لكي يتمكَّن من أنْ يُنير حياته من “سرِّ” المسيح، هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ أخرى، يهدف إلى تحقيق ما يمثِّله، كرمزٍ أو علامة، في حياة المشاركين أيضًا. وتتضمَّن الكلمة المعلَنَة، في ذاتها، بُعْد الرَّمز الَّذي يشير إلى حضورٍ من نوعٍ آخر؛ وفي الوقت عينه، هي كلمةٌ أو رمزٌ فاعل. “فالكلمة العبرانيَّة (دَبَرْ)، والَّتي تعني “كلمة”، تشير إلى حقيقةٍ واقعيَّةٍ وديناميَّة. هي قوَّةٌ في قلب الله تدفعه إلى تحقيق وإظهار ما هو خفيٌّ ومحجوبٌ فيه. إنَّ كلمة الله هي تحقيقٌ للسَّبب الَّذي يدفع الله إلى التَّدخُّل والالتزام، وهي كشْفٌ لهذا السَّبب”([26]). فالكلمة المُعلَنَة، هي ككلِّ علامةٍ طقسيَّة، في علاقةٍ مباشرةٍ وتأوين سرّ الخلاص في حياة البشر، في كلِّ عصرٍ وجيل.
- إنَّ تأوين كلمة الله، في العمل اللِّيتورجيّ، هو، إذًا، في أساس هذا العمل، لأنَّ الاحتفال يقوم على تأوين الحقيقة المحتفَل بها، من خلال العلامات والرُّموز. والعلامة المستخدمة في اللِّيتورجيَّا، والهادفة إلى إظهار اكتمال تدبير الله الخلاصيّ، تؤَوِّن ما تحمله من معانٍ، من خلال تبيان التَّدبير وإعلانه في اللِّيتورجيَّا. وبالتَّالي، يهدف إعلان كلمة الله في الاحتفال اللِّيتورجيّ، والمحتفَل بها في المسيح ومع المسيح وبه، إلى تأوين سرِّ موت المسيح وقيامته، من أجلنا ومن أجل خلاصنا. تذيع كلمةُ الله تاريخَ الخلاص وتعلنه للمؤمنين؛ ويأتي الاحتفال اللِّيتورجيّ، عبر إعلانه هذه الكلمة، ليُحقِّق ويتمِّم سرّ الخلاص المتضمَّن في كلمة الله. ولقد جاء في “كلمة الرَّبّ” ما يلي: “في العلاقة بين الكلمة والحركة الأسراريَّة، يظهر عمل الله في التَّاريخ في الشَّكل اللِّيتورجيّ من خلال الطابع الأدائيّ للكلمة. في الواقع، لا يوجد في تاريخ الخلاص فصلٌ بين ما يقوله الله وبين ما يفعله؛ فكلمته بالذَّات هي حيَّةٌ وفعَّالة”([27]).
- وأخيرًا، نقول إنَّ تأويل كلمة الله وتأوينها والاحتفال بها، يمكِّن الإنسان من أن يعرف هذه الكلمة، وبالتَّالي أنْ يعرف معنى كلِّ مخلوق. وفي مجتمعٍ سريع التَّحوُّل والاهتزاز، يمكن لمن يحتكّ بالكلمة الإلهيَّة ويتواصل وإيَّاها، أنْ يبني حياةً شخصيَّةً مستقرَّةً لا تنهار مع انهيار الأشياء الزَّائلة الَّتي يضع فيها، أحيانًا كثيرة، رجاءَه. هذا ما يسمِّيه البابا بندِيكتُس السَّادس عشر “واقعيَّة الكلمة“، إذ يقول: “الشَّخص الواقعيّ هو الَّذي يرى في كلمة الله أساس كلِّ شيء. (…) عاجلاً أو آجلاً يتكشَّف عجز المُلْكيَّة واللَّذة والسُّلطة عن تحقيق أعمق طموحات قلب الإنسان. (..) فمن يبني على هذه الكلمة، يبني مسكن حياته على الصَّخر (رج مت 7: 24)”([28]).
ثانيًا: العلاقة بين الاحتفال اللِّيتورجيّ وكلمة الله
يخلق الاحتفال اللِّيتورجيّ الَّذي تُشارك فيه الجماعة مشاركةً واعيَّةً وتامَّةً وفعَّالة، جوًّا مناسبًا لسماع كلمة الله وتقبُّلِها. ويمكننا القول إنَّ هذه الكلمة تنكشف وتعتلن، رويدًا رويدًا، خلال العمل الطَّقسيّ. فالكلمة الإلهيَّة المعلَنَة والمحتفَل بها، تنمو في حياة المؤمنين وتثمر فيهم وعبرهم في العالم كلِّه. وتكتشف الكنيسة غنى الوحي الإلهيّ من خلال كلمة الله المحتفَل بها طقسيًّا وجماعيًّا، لأنَّ الاحتفال اللِّيتورجيّ يساعد الكنيسة على تذكُّر عمل الرُّوح القدس في الأجيال السَّابقة. يقول شيبْرييَانو فاغاجيني، في هذا الشَّأن، ما يلي: “تُلقي اللِّيتورجيَّا ضوءًا خاصًّا على نصوص العهد الجديد الَّتي تُقرأُ [في اللِّيتورجيَّا]. وتتأتَّى هذه الإضاءة من مصادر ثلاثة، هي الآتية: مسار تاريخ الكنيسة، وتطوُّر العقيدة، والعمل اللِّيتورجيّ نفسه. يمكِّن مسارُ تاريخ الكنيسة، منذ الحقبة الرَّسوليّ وحتَّى يومنا هذا، الجماعةَ من فهم مرامي بعض نصوص العهد الجديد، فهمًا أكثر وضوحًا من السَّابق (…). كما تأخذ نصوصٌ عديدةٌ من العهد الجديد، معنًى جديدًا ومحدَّدًا؛ معنًى لم يكن جليًّا بالنِّسبة إلى الَّذين عاصروا الرُّسُل، وذلك في ضوء العقائد الكنسيَّة الَّتي تطوَّرَتْ وتحدَّدَت عبر التَّاريخ (…). وأخيرًا، لا تعودُ بعض نصوص العهد الجديد، -الَّتي هي في علاقةٍ والعمل اللِّيتورجيّ، وفي علاقةٍ واستعدادات المؤمنين الَّذين يُشاركون في هذا العمل-، مرتبطةً بالماضي وتشهد عليه فحسب، بل تصبح حقائق آنيَّة تعمل في حياة كلّ فرد”([29]).
ولأنَّ الله دخل الزَّمن، ولأنَّه الأزليّ والأبديّ، فهو يحيا دائمًا في الزَّمن الحاضر، اليوم وغدًا أيضًا … وتجعل منَّا النُّصوص المعلَنَة في ضوء قيامة يسوع، معاصرين للحدث الخلاصيّ نفسه الّذي شهد عنه الشُّهود الأوَّلون. فالنُّصوص الكتابيَّة تؤسِّس، أوَّلاً، هويَّتنا وكياننا كجماعةٍ ملتئمةٍ حول القائم من بين الأموات. وتؤسِّس، ثانيًا، مشاريعنا وخياراتنا. لسنا أوَّل من تحلَّق حول يسوع، ولا أوَّل من تبعه. فقد سبقنا بطرس وزكَّا ومريم، وابن طيما، إلخ. والتَّحدِّيات والصُّعوبات الَّتي عاشوها هم تبقى هي هي اليوم، بالنِّسبة إلينا. وتؤسِّس هذه النُّصوص، أخيرًا، حقيقة العهد والخلاص اللَّذَين تحقَّقا من أجلنا: “أخذ [موسى] كتاب العهد وتلاه على مسامع الشَّعب، فقالوا: «كلُّ ما تكلَّم الرَّبُّ به نعمله ونأتمر به». فأخذ موسى الدَّمَ ورشَّه على الشَّعب وقال: «هذا هو دم العهد الجديد الَّذي عاهدَكم الرَّبُّ به على جميع هذه الأقوال»” (خر 24: 7-8). عندما تسمع الجماعةُ الكلمةَ، “تغطسُ” في حدث الخلاص الَّذي تعلنُه القراءة وتكشفُه لها: “اليوم تمَّتْ هذه الكلمة الَّتي تُلِيَت على مسامعكم” (لو 4: 21). فالمسيح نفسه هو الحقيقة المعلَنَة في الكتاب المقدَّس؛ وعندها، يصبح هو الحقيقة الظَّاهرة والمكشوفة في اللِّيتورجيَّا([30]).
نعالج هنا الثَّوابت الأساسيَّة الَّتي تحكم العلاقة الصَّحيحة بين البيبليا واللِّيتورجيَّا، وهي الآتية: محوريَّة المسيح، ودور الرُّوح القدس، والبعد الكنسيّ الأساسيّ.
- محوريَّة المسيح: في كلّ احتفالٍ ليتورجيّ، نجد المسيحَ حاضرًا كما وعَدَ (راجع مت 18: 20)، وبخاصَّةٍ في كلمته المحيية: فالخادم الَّذي يعلن الكلمة يجعلها حيَّةً مسموعة؛ والَّذي يسمعها ويتلقَّاها، يقبل أن يعمل الرُّوح القدس فيه ليُحيه بالكلمة. هنا، يجدر الانتباه إلى العلاقة الوثيقة بين العهدَين القديم والجديد، لدى تفسير البيبليا تفسيرًا ليتورجيًّا؛ هذا التَّفسير الَّذي يجب أن يستند إلى وحدة سرِّ المسيح، وبالتَّالي وَحدة العهدَين ووحدة التَّدبير الخلاصيّ. ولقد جاء في الإرشاد الرَّسوليّ “كلمة الرَّبّ“، عن الترابط بين العهدَين، ما يلي: “منذ زمن الرُّسل، (…) سلَّطت الكنيسة الضوء على وحدة التَّصميم الإلهيّ في العهدَين بفضل النَّموذجيَّة. (…) يقرأ المسيحيُّون إذًا العهد القديم في ضوء المسيح الَّذي مات وقام من الموت”([31]). وإذا عدْنا إلى قول إيرونيمُس: “من يجهل الكتب المقدَّسة، يجهل المسيح”، يمكننا القول أيضًا: من يجهل المسيح، يجهل الكتب المقدَّسة. وبالتَّالي، كلَّما احتفلت الكنيسة بسرِّ المسيح، وهذه هي اللِّيتورجيَّا، عليها أنْ تحتفل أيضًا “بالكتاب المقدَّس”. فأحداث تاريخ الخلاص الَّتي عاشها المسيح، تُعلنها الكنيسة الملتئمة والمجتمعة في الجماعة اللِّيتورجيَّة. وكلَّما وضَعت الكنيسة كلمة الرَّبّ: “إصنعوا هذا لذكري”، موضع التَّنفيذ، متذكِّرةً مراحل تاريخ الخلاص ومحتفلةً بها، مع المسيح وفي المسيح، تكون في الوقت عينه قد استدعَتْ قوَّة الرُّوح الخلاصيَّة، ومجَّدَت الثَّالوث.
- دور الرُّوح القدس: لكي تتمكَّن كلمة الله من أنْ تؤدِّي فعلها في القلوب، يجب أن يسمح المؤمن للرُّوح القدس أن يتدخَّل في حياته. ألم يقُل الابن للتَّلاميذ: “لكنَّ البرقليط، الرُّوح القدس، الَّذي سيرسله الآب باسمي، هو يُعلِّمكم كلَّ شيء، ويذكِّركم بكلِّ ما قلتُه لكم” (يو 14: 26)؟ وكما أنَّ للرُّوح دور أساسيٌّ في العمل اللِّيتورجيّ كلِّه، هكذا دوره أساسيٌّ أيضًا في حياة المؤمن ليتمكَّن من تقبُّل كلمة الله واستيعابها وتطبيقها في حياته. هو الرُّوح منْ “يصلِّي فينا بأنَّاتٍ لا توصَف”، ومنْ يُشرِّع أبواب حياتنا لتستقبل الكلمة، فنثمر ثلاثين وستِّين ومئة. لذا، يحتاج المؤمنون، لكي ينالوا الخلاص، إلى تَدَخُّل الرُّوح القدس الَّذي هو “مبدأ وغاية وكمال كلّ ما كان ويكون في السَّماء والأرض”([32]). فعندما كانت الجموع تزحم يسوع وتُضايقه، امرأةٌ واحدةٌ فقط لَمَسَتْه حقًّا، بإيمانها، ونالت “الخلاص” (راجع: لو 8: 43-48). وهكذا اليوم أيضًا، كثيرون يسمعون الكلمة، ولا سيَّما كلمة الإنجيل، لكن على المؤمن أنْ يسمح للرُّوح القدس أن يدخل قلبَه، عبر الكلمة المُعلَنَة وعبر صوت الواعِظ، ليفعل فعلَه فتثمر الكلمة فيه خلاصًا وحياة. ويمكننا، بالتَّالي، أن نقول إنَّ الكلمة، كما القرابين، بحاجةٍ إلى استدعاء للرُّوح القدس([33]). ونختم بما جاء في “كلمة الرَّبّ“، كالآتي: “إنَّ الرُّوح القدس هو الَّذي ينعش حياة الكنيسة، والَّذي يجعلها قادرةً على تفسير الكتب المقدَّسة تفسيرًا صحيحًا”([34]).
- البُعد الكنسيّ: في شعب الله الجديد، تؤَوَّن الكلمة وتُستعاد حيَويَّتها، لأنَّ كلمة الله أتى إلينا وسكن معنا ليجمعَ في جسده السِّرِّيّ، الَّذي هو الكنيسة، جميع أبناء الله المشتَّتين. وتجتمع الجماعة اللِّيتورجيَّة الكنسيَّة دومًا بفضل كلمة الله الَّذي يدعوها؛ وبالمقابل، فإنَّ إعلان هذه الكلمة، في العمل اللِّيتورجيّ، هو ما يبني الكنيسة ويرسِّخ دعائمها ويثبِّتها. هذا بالإضافة إلى أنَّ الكنيسة هي مستودَع كلمة الله: ائتُمِنَت الكنيسة على كلام الله من أجل تمجيد الله وحمده، ومن أجل بنيان شعب الله([35]). فعندما تعلِن الكنيسةُ كلمة الله، خلال الاحتفال، هي تمنح المؤمن فرصة الاشتراك في العمل اللِّيتورجيّ، من جهة؛ وتمنحه، من جهةٍ أخرى، إمكانيَّة أنْ يستبطن الكلمة المعلَنة، وأنْ يدخل في علاقةٍ شخصيَّةٍ والمسيح يسوع، غايةِ الكتب المقدَّسة. يقول الخوري مكرم قزاح، ما يلي: “الكنيسة وحدها، من خلال عيشها، تستطيع أنْ تقول في تعليمها واحتفالاتها، من هو المسيح”([36]). وعن العلاقة بين البيبليا والكنيسة، يُضيف قائلاً: “قبْل أنْ تكون قراءة كلمة الله تأويلاً “نافعًا” في ضوء إشكاليَّات معيَّنة، إنَّها في جوهرها إصغاءٌ كنسيٌّ وليتورجيّ، لئلاَّ تُضحي قراءةً منحازةً وذاتيَّةً لعلامات الزَّمن (…)”([37]). وبالتَّالي، تكون الثَّابتة الأساسيَّة من أجل تفسيرٍ صحيحٍ لكلمة الله في الاحتفال، هي الآتية: يجب أنْ تُفَسَّر كلمة الله في علاقةٍ بالكنيسة الَّتي تحتَفِل، وبيسوع المسيح المحتَفِل الأوَّل والأساسيّ، والمحتَفَل به في اللِّيتورجيَّا.
نستخلص، انطلاقًا من الثَّوابت الَّتي عرضناها، بعض النِّقاط الَّتي تطاول البُعدَين الرَّعائيّ والرُّوحانيّ، في كلِّ احتفالٍ ليتورجيٍّ يتمحور حول كلمة الله:
- العِظة: يجب أن تتمحور حول كلمة الله المعلَنَة في الاحتفال (راجع أعلاه). ولكنَّ تفسير كلمة الله لا يكون اعتباطيًّا؛ بل عليه أنْ يتناغم وتقليد الكنيسة الثَّابت. من هنا، لا يمكن أنْ تتضمَّن العظة نظريَّات تفسيريَّة أو تتبنَّى فكر المدارس التَّفسيريَّة الَّتي تتعارض وتعليم الكنيسة. من هنا، لا يمكن أن يُستعاض عن العظة، أيَّام الآحاد والأعياد، بأي نشاطٍ كان. ولا يمكن، بالتَّالي، إلغاؤها البتَّة.
- تنوُّع المواهب في الكنيسة: يُظهِر الاحتفال اللِّيتورجيّ تنوُّع هذه المواهب من ضمن نشاط الكنيسة المتعدِّد. ولكن من ضمن التَّنوَّع هذا، لكلٍّ دوره المتميِّز عن الآخر: بينما تُعلَن كلمة الله لجميع المشاركين في الاحتفال، تبقى موهبة تفسير الكلمة محصورةً في الخدَّام المكرَّسين الَّذين يمثِّلون المسيح، الكاهن الأعظم والرَّأس والمعلِّم.
- الجماعة اللِّيتورجيَّة: للجماعة المؤمنة الَّتي تلتئم في جماعةٍ ليتورجيَّةٍ مصلِّية، دورٌ أساسيّ، لا في سماع كلمة الله فحسب، بل في الاحتفال بها. لهذه الجماعة اللِّيتورجيَّة الدَّور الأوَّل في جعْل كلمة الله حاضرة في عالم اليوم، وذلك من خلال قراءتها والتَّأمُّل فيها وإعلانها والاحتفال بها، بكلِّ خشوعٍ ووقارٍ وأُبَّهة. لا يمكن أنْ يكون إعلان القراءة الكتابيَّة، في قدَّاس الأحد مثلاً، مجرَّد تلاوةٍ رتيبةٍ من دون أيّ احتفال: عليه أن يترافق والزِّياح والتَّبخير والشُّموع، والتَّرتيل، إلخ.
- بين الكلمة والفعل: إنَّ الغاية من إعلان كلمة الله وقراءتها هي أنْ تقود المؤمن إلى العمل أو الفعل. تصبح كلمة الله، بالنِّسبة إلى المشاركين في الاحتفال اللِّيتورجيِّ، حقيقةً عندما تصبُّ في فعل العبادة وتصبح هي ذاتها فعلَ عبادة. فالاحتفال هو قمَّة كلِّ دراسة أو قراءةٍ أو تفسير، وغايتها. ومن ناحية أخرى، تؤَثِّر الكلمة المعلَنَة والمحتفَل بها في حياة المؤمنين، وتحوِّلها إلى حياة تستمِّدُ “حيَويَّتها” من حياة الرَّبّ وكلمته، لأنَّ كلمة الله هي الابن عينه الَّذي صار جسدًا وحَلَّ بيننا.
خاتمة:
نرغب، في الختام، أن نكون قد تلمَّسنا أفقًا جديدًا يمكِّننا من أن نفقه، أكثر فأكثر، قيمة الاحتفال اللِّيتورجيّ بكلمة الله، وأهمِّيَّته في حياة الكنيسة وأبنائها. والمميَّز أنَّ الاحتفال بهذه الكلمة يأتي ضمن احتفالاتٍ متنوِّعةٍ وعديدة (القدَّاس، الأسرار، الصَّلاة الخورسيَّة، الزِّيَّاحات والتِّساعيَّات، إلخ)، تأخذ مكانها في السَّنة الطَّقسيَّة. ويمرُّ إعلان الكلمة في ثلاث محطَّاتٍ هامَّة، هي الآتية: الاحتفال، والسَّنة الطَّقسيَّة، والجماعة المحتَفِلة. وفي كلٍّ من هذه المحطَّات، تأخذ الكلمةُ نفسُها وجهًا جديدًا ومميَّزًا، وتُقدِّم تفسيرًا لذاتها يمكِّن المشاركين من أنْ يتغذَّوا منها. يساهم الاحتفال بربط الكلمة المعلَنَة بالزَّمن المؤسِّس، ويجعل من الجماعة الحاضرة معاصرةً للكلمة المعلَنَة؛ فلا يعود المؤمن وحده، بل يشعر بالانتماء إلى شعبٍ عريقٍ من المؤمنين والمصلِّين الَّذين يعضدونه ويرافقونه. أمَّا السَّنة الطَّقسيَّة فتُعطي الكلمة آنيَّةً جديدة، وتربطها بالابن الفادي الَّذي أعطى الكتب معناها الكامل، وكشف عن مخطَّط الآب لخلاص البشر. عندها، يمكن للقارئ أو السَّامع أنْ يرى بوضوحٍ غاية ما كُتِبَ، وأنْ يضع الاحتفال بالكلمة المعلَنَة، من ضمن علاقته الشَّخصيَّة بالكلمة المتجسِّد يسوع، فيصبح الاحتفال اللِّيتورجيّ احتفالاً بالابن وعبادةً له. وأخيرًا، عندما تقوم الجماعة اللِّيتورجيَّة بالاحتفال بكلمة الله، تقوم في الوقت نفسه، برسْم خارطة طريقٍ لحياتها: لا تحتفل الجماعةُ بشيءٍ خارجٍ عنها؛ وليس الاحتفال أمرًا عَرَضيًّا وعارضًا لا يؤثِّر فيها. بل، على العكس، تقوم الجماعة اللِّيتورجيَّة المحتفلة بكلمة الله بتوجيه حياتها بحسب الكلمة المعلَنَة. وإذا كانت قد ضلَّت الطَّريق أو حادتْ عنها، يأتي الاحتفال ليقوِّم ما اعوجَّ، ويُعيدها إلى من “هو الطَّريق والحقّ والحياة” (يو 14: 6)، إلى “الكلمة الَّذي صار بشرًا وسكن بيننا” (يو 1: 14).
[1] الخوري دانيال زغيب، خادم رعيَة سيِّدة الورديَّة-حراجل حائزٌ إجازةً في اللاهوت من كلِّيَّة اللاهوت الحبريَّة، في جامعة الرُّوح القدس-الكَسْليك (لبنان)، ودبلوم دراسات معمَّقة في العلوم اللِّيتورجيَّة. وهو عضوٌ في اللَّجنة البطريركيَّة للشُّؤون الطَّقسيَّة (بكركي-لبنان). يُعدُّ أُطروحة دكتوراه في العلوم اللِّيتورجيَّة.
[2] عن هذا الموضوع، راجع: الكتاب المقدَّس واللِّيتورجيَّا، بحوثٌ مهداةٌ إلى الأب الحبيس يوحنَّا الخوند، (محاضرات الأيَّام البيبليَّة السَّادسة)، النّاشر أيّوب شهوان، سلسلة “دراسات بيبليَّة”- 39، الرَّابطة الكتابيَّة، الطبعة الأُولى، 2008.
[3] راجع: دانيال زغيب، “«الكلمة» في اللِّيتورجيَّا. أفكارٌ لاهوتيَّةٌ وروحيَّة”، المجلَّة اللِّيتورجيَّة 3، 12 (2011) 197-204 (تصدر هذه المجلَّة في أبرشيَّة الموصل للسُّريان الكاثوليك-العراق).
[4] إستندنا، بشكلٍ خاصّ، إلى المراجع الآتية: J.-P. JOSSUA, «Parole de Dieu et liturgie», La liturgie après Vatican II, Sous la direction de J.-P. JOSSUA et Y. CONGAR, Coll. «Unam Sactam»- 66, Cerf, 1967, p. 141-146; Francis DENIAU, «L’acte liturgique, lieu de transmission», Prêtres Diocésains, No 1459 (Mars-Avril 2009) 105-117; J.-L. POILLION et M. QUESNEL, «Liturgie et Bible», La liturgie, lieu théologique, Publié sous la direction de Paul De CLERCK, Coll. «Sciences théologiques et religieuses»- 9, Beauchesne, 1999, p. 159-165.
[5] المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، في: المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثَّاني-الوثائق المجمعيَّة، نقلها إلى العربيَّة يوسف بشاره وعبده خليفه وفرنسيس البَيسَري، طبعةٌ ثانيةٌ منقَّحة، 1984(= المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني).
[6] تُترجَم كلمة liturgie الفرنسيَّة بكلمة “طقسيَّات” في نصوص المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، بحسب التَّرجمة الَّتي اعتمدناها. لكنَّنا أبدَلْنا كلمة “طقسيَّات” بكلمة “ليتورجيَّا” المعتمدة اليوم أكثر فأكثر، من دون أن نغيِّر في التَّرجمة.
[7] راجع: “قرار مجمعيّ في الحركة المسكونيَّة”، العدد 23، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 792-793.
[8] “قرار مجمعيّ في الحركة المسكونيَّة”، العدد 21، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 791.
[9] “دستور عقائديّ في الوحي الإلهيّ”، العدد 10، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 169.
[10] “دستور عقائديّ في الوحي الإلهيّ”، العدد 21، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 178.
[11] “دستور عقائديّ في الوحي الإلهيّ”، العدد 26، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 182.
[12] “دستور عقائديّ في الوحي الإلهيّ”، العدد 24، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 180.
[13] “دستور عقائديّ في الوحي الإلهيّ”، العدد 24، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 180.
[14] نحن من كتبْنا هذه الجملة، والجمل الأُخرى في هذا النَّصّ، بخطٍّ بارز.
[15] راجع: “دستور عقائديّ في الوحي الإلهيّ”، العدد 23، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 179-180.
[16] “قرار مجمعيّ في التنشئة الكهنوتيّة”، العدد 14، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 543.
[17] “قرار مجمعيّ في التنشئة الكهنوتيّة”، العدد 15، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 547.
[18] “دستور عقائديّ في الوحي الإلهيّ”، العدد 8، في: المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 167-168.
[19] البابا بنديكتُس السَّادس عشر، إرشادٌ رسوليٌّ كلمة الرَّبّ، إلى الأساقفة والإكليروس والأشخاص المكرَّسين وجميع المؤمنين، في كلمة الله في حياة الكنيسة ورسالتها، نُشِر بعناية المجمع المقدَّس للكنائس الشَّرقيَّة-الفاتيكان، حاضرة الفاتيكان، 2010، العدد 3، ص 6 (= كلمة الرَّبّ).
[20] هذا هو عنوان هذا القسم من الإرشاد، كلمة الرَّبّ، ص 99.
[21] “دستورٌ في اللِّيتورجيَّا المقدَّسة”، العدد 7، المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني، ص 203.
[22] راجع: كلمة الرَّبّ، الأعداد 64-71، ص 119-127.
[23] راجع:Armando CUVA, «Assemblée», Dictionnaire Encyclopédique de la Liturgie (= DEL), sous la direction de Domenico SARTORE et Achille M. TRIACCA, Volume I: A-L, Brepols, Belgique, 1992, p. 82-91 (ici, p. 84-87).
[24] استندنا لكتابة هذا القسم على مرجعَين اثنَين أساسيَّين، هما: Achille M. TRIACCA, «Bible et liturgie», DEL, Volume I, p. 129-144; Achille M. TRIACCA, “«célébrer» la Parole de Dieu: Lignes théologico-liturgiques”, La prédication et les commentaires de la liturgie, Conférences Saint-Serge XXXVIIIe semaine d’études liturgiques, Édités par A. M. TRIACCA et A. PISTOIA, Coll. “B.E.L.- «Subsidia»”- 65, C.L.V.- Edizioni Liturgiche, Roma, 1992, p. 221-246.
[25] مكرم قزاح، “قراءة معاصرة للآباء السريان في شرحهم للكتاب المقدَّس”، كلمة الله في التُّراث السُّريانيّ وتحدّيات التَّعدُّديَّة الدينيَّة والثقافيَّة، الجزء الثاني: النصوص العربيَّة، سلسلة “التّراث السُّريانيّ”، أعمال المؤتمر الثاني عشر-أنطلياس 2009، مركز الدراسات والأبحاث المشرقيَّة، أنطلياس-لبنان، الطبعة الأُولى، 2011، ص 91-113 (هنا، ص 94).
[26] دانيال زغيب، “«الكلمة» في اللِّيتورجيَّا. أفكارٌ لاهوتيَّةٌ وروحيَّة”، المجلَّة اللِّيتورجيَّة 3، 12 (2011) 198.
[27] كلمة الرَّبّ، العدد 53، ص 102.
[28] كلمة الرَّبّ، العدد 10، ص 21.
[29] راجع:C. VAGGAGINI, Initiation théologique à la liturgie, II, Édition Biblica, Bruges, 1963, p. 28-29.
[30] راجع:Michel SCOUARNEC, Vivre … Croire … Célébrer, Coll. «Célébrer», Les éditions ouvrières, Paris, 1983, p.128-130.
[31] كلمة الرَّبّ، العدد 41، ص 78.
[32] مِنْ صلوات “الكسْر والرَّسْم والنَّضْح والمزج والرَّفعة”، كتاب القدَّاس بحسب طقس الكنيسة الأنطاكيَّة السُّريانيَّة المارونيَّة، سريانيّ-عربيّ (حجم صغير)، بكركي، 2005، ص 46*.
[33] راجع: دانيال زغيب، “«الكلمة» في اللِّيتورجيَّا. أفكارٌ لاهوتيَّةٌ وروحيَّة”، المجلَّة اللِّيتورجيَّة 3، 12 (2011) 201-202.
[34] كلمة الرَّبّ، العدد 29، ص 55.
[35] راجع: Ph. BÉGUERIE, «La Bible née de la liturgie», La Maison-Dieu, no. 126 (1976) 108-116.
[36] مكرم قزاح، “قراءة معاصرة للآباء السريان في شرحهم للكتاب المقدَّس”، كلمة الله في التُّراث السُّريانيّ وتحدّيات التَّعدُّديَّة الدينيَّة والثقافيَّة، ص 100.
[37] المرجع نفسه، ص 101.