Almanara Magazine

الألم في الكتاب المقدّس قراءة أدبيّة

الخوري شربل شلالا [1]

إذا كان الكلام عن الألم يحتل مركزاً مهمّاً في الكتاب المقدّس، فإنّه لا يحظى بتفسير عقلانيّ ونهائيّ. فلا مجال إذاً لإستخراج دراسة مفصّلة عن الألم في الكتاب المقدّس ؟ هل هذا يعني أنّه يجب النّظر إلى الألم كما هو معاش اليوم في حياتنا اليوميّة دون تعليق؟ هل هذا يعني أن لا مجال للتكلّم علميّاً عن الألم ؟ بالطبع لا.

          تحمل تسمية “ألم” عدّة تفسيرات. في التعبير اليومي، إشارة إلى الألم الجسدي للمريض أو للجريح. وفي الكتاب المقدّس إلى معاني وجوديّة. صحيح أنّ الكتاب يتكلّم مثلاً عن ألم الولادة في سفر التكوين وعن الألم المرتبط بالمرض في يوحنّا وعن ألم الشهداء في المزامير وسفر أيّوب، إنّما يركّز دائماً على ما يحيط بهذا الألم الجسدي. إنّه يربط الألم بالشعور بالتخلّي، بقساوة الإنسان، بالحقد، إلخ. لأنّ الألم له طابع روحيّ أيضاً وليس فقط جسدي. لقد كنّا نعتبر، أقلّه في العهد القديم، أنّ الألم هو علامة إذلال من قبل الله للإنسان ورفض لتصرّفاته البعيده عنه (مز105/39 راجع يو10/2). في حين أنّ بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنتوس يفتخر بمعاناته إذ عندما يكون ضعيفاً عندها يكون قويّاً (12/7-10). سأحاول في هذا المقال تبيان المفاهيم التي ارتبطت بتسمية الألم عبر بعض النّصوص الكتابيّة من العهدين القديم والجديد مركّزاً بصورة خاصّة على إختبار أيّوب الذي أَعتبره معبّراً عن التطوّر الذي حصل بمفهوم الألم وعلاقته بالخطيئة. وسأحاول أن أفهم ماذا أراد يسوع أن يقول لنا من خلال وقوفه إلى جانب المريض والمتألّم وهل كانت آلامه فدائيّة ؟

  1. ردّات الفعل أمام الألم

          إنّ إختبار الإنسان في الحياة ُيظهر تناقضاً في إنسانيّته. فنراه يسعى إلى السعادة، إلى الصحّة، إلى الجمال، إلى الحياة، ولكنّه يلتقي بالألم وبالمآسي وبالموت. هل هذا يعني أنّ هناك ضرورة تعايش بين هذه الأمور والطبيعة البشريّة ؟ في التقليد البيبلي هناك مواجهة بين الألم الذي يهدّد الوجود الإنساني والإيمان بالله الحاضر إلى جانب الإنسان والمهتمّ بشؤونه وبشجونه والتي أوجدت ردتي فعل : الأولى لها علاقة بمواجهة الألم والثانية لها علاقة بتصرّف الله الذي أخذ على عاتقه هذا البعد في الحالة البشريّة بواسطة صليبه لكي يعطي لهذا الإختبار بعداً ومعناً خلاصيّاً. نتج عن هاتين الردّتي الفعل تيّاران على الأقل خلال تطوّر المسيحيّة. تيّار أوّل يعتقد أنّ الحياة المتألّمة، بسبب المحن، أصعب من الموت، لأنّ الشخص المعني يمكن أن يفقد كرامته وقيمة حياته. تيّار ثان يعتقد أنّ الألم يُكبّر الإنسان ويُنمّيه فيجد فيه معناً لحياته ومن الضروري قبوله لأنّه يمكن أن يكون له دوراً فدائيّاً. وهنا نطرح الأسئلة التّالية :  ألسنا بصدد جعل اللّه ظالماً بحقّ البشريّة ؟ أليس الله حريصاً على الإنسان ويتألّم لألمه ويهتم بشؤونه ؟ أليس صليب المسيح هو قمّة العار والألم ؟ ألم يقبل البريء أن يموت آخذاً على عاتقه خطيئة الإنسان والعالم، وحاملاً بقيامته إثمنا ؟. ألم تكن هذه القيامة تحقيقاً لما فعله يسوع دوماً وهو مواجهة الشر الذي في أرضنا وفي إنساننا ؟ ألم يواجه يسوع الألم بمنطق القيامة ؟ يمكننا القول أنّه بإسم العمل الصامت لله على الصليب، الذي غلب الموت والشّر، يمكننا أن نتخلّص من ثلاث طرق نسلكها كردّة فعل أمام الشّر :

  • طريق الإستسلام

          هذه الطريق تسعى إلى جعل الشّر ضمن نظام الكون. هي تُجسّد عدم قدرة الإنسان على أن يرى التاريخ بكليّته ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وإذا كان الإنسان غير قادر على الوصول إلى السلام بسرعة هذا لأنّه خاطئ ومرتبط بحالته الجسديّة. هذه الطريق الإستسلاميّة تدفع بالإنسان إلى الإعتقاد بأنّ ما يحصل معه ليس بمهمّ، وأنّ الخير سينتصر يوماً. هذه الطريق تبرّر الشرّ في العالم من خلال المؤاساة وتقبل به لأنّه تحقيق لتصميم سيحوّل الشرّ إلى خير. وكأنّ خلاص العالم يجب أن يمرّ بخيانة يهوذا. كمسيحيين لا يمكننا أن ننسى أنّ المصلوب مات وأنّ الشرّ لا يمكن أن يُعوَّض بخير. بمعنى آخر لا يمكن إعتباره ضرورة من أجل خير أكبر.

  • طريق اللّامنطق

          كُثرٌ هم الذين يرفضون طريق الإستسلام السلبي ويختارون طريق اللامنطق إذ يعتقدون بأنّ الأحداث تسبقهم وهي أكبر من أن يستوعبوها فييأسوا[2]. صحيح أنّ الإنسان ليس بمنأى عن هذه التجربة التي تخبّئ في طيّاتها حاجة إلى الإستقلاليّة وإلى رفض الله. ولكن لا يمكن أن يهدم الإنسان ذاته. إنّنا مقتنعون كمؤمنين أنّ الله، قبل أن يجيب على مسألة الألم والشر، طلب من الإنسان رفض اليأس والإنفتاح على الرّجاء. ربّما لن يكون عند الإنسان الجرأة أنّ يقول دائماً نعم للحياة عندما تكون صعبة وقاسية، والله يحترم هذا الإختبار، ولكنّ الله يدفع بالإنسان إلى رفض إنهياره.

  • طريق الهرب

          يتنصل البعض من مسؤوليّاتهم ومن مسؤوليّات الحياة ويهربون من الواقع كلّ مرّة يشكّون بمصيرهم وبمصير إخوتهم فيعتقدون أن لا مجال للنجاة وأنّ الطريق غير نافذة وأنّ الحكمة تكمن في أن يلجأوا إلى الأمور السّامية. ولكنّ الله يريد إحترام حريّة الإنسان ويقبل بأن يثور على واقعه وهذا ما حصل مع أيّوب.

  •  إختبار أيّوب

          أيّوب رجل صالح ومستقيم وقد اعترف الشيطان بذلك ولكنّه شكّك بمجّانيّة إيمانه. إذ اعتبر أن علاقة أيّوب بالله فيها مصلحة وأنّه بقضائه على الخيرات التي جناها أيّوب في حياته فسوف يلعن الله. فكان التحدّي الذي أطلقه أمام الله وقبل الله التحدّي لأنّ عنده ثقة بأيّوب. إعتقد الشيطان أنّ أيّوب لا يمكنه أن يكون مثلاً للآخرين لأنّه بنى حياته على الخير المادّي. ولكنّ أيّوب بقي ثابتاً بالرّغم من الصعوبات. فتابع الشيطان تحدّيه لله وتجرّأ أن يلمس صحّة أيّوب (2/7). فأجبره على العيش خارج المجتمع الذي يرى بعين سلبيّة كلّ مريض ويعتبره خاطئ ومقاصص من الله لأخطاء شخصيّة أو جماعيّة ارتكبها. رفض أيّوب أن يلعن الله كما طلبت منه زوجته فبقي إيمانه سليماً (2/10).

          صحيح أنّ سعادة أيّوب أصبحت مجزّأة ولكنّ المؤمن بقي ثابتاً. وجد أيّوب نفسه عرياناً وضعيفاً ومهدّداً وفاقداً السلطة والمعرفة، ولكنّه تابع مباركة الله وشكره على الخير الذي أعطاه إيّاه. لأنّه أدرك أنّ الله أمين ويريد خيره وأنّ هذا الصراع بين الهبة وغيابها وبين السعادة وسوء الحظ والشرور ما هو إلاّ علامة ثقة الله به وليس إبتعاداً من الله عنه. كلّ هذا لم يمنع أيّوب من أن يصبح عدوانيّاً. فهل يمكننا القول أنّ هذا التصرّف هو تراكم الأحداث على أيّوب ؟  أم هي المدّة الطويلة التي تحمّل بها الآلام ؟ (3/3-10). فكان من أيّوب أن لعن يوم ولادته وتمنّى الرّجوع إلى الظّلمة التي سبقت الخلق. إشتكى من الله ولكنّه أبقى رجاءه فيه (3/1-6؛ 10/11-22). لم يُرد أيّوب أن يختار الموت إنّما عبّر عن ما يشعر به كلّ متألّم. لم يفقد إيمانه إنّما فقد معنى الوقت وشعر أنّ الله أنكره (7/3-4).

          الظاهر أكثر في ألم أيّوب، هو قلقه الذي هو شكل من أشكال الألم. فالذي ألّمه أكثر ليس مرضه بل قربه من الموت. فعيش القلق هو عيش مستقبل معروف سلفاً أنّه مظلم. عبّر أيّوب عن هذا القلق بالدّموع (16/16) وبالتنفّس السريع (3/24) وبنبضات القلب السريعة (3/17). هذه الصور تعبّر عن حالة يصعب وصفها لأنّ الإنسان القلق يعيش في الظّلمة وهو غير قادر على رؤية وُجهته (8/18؛ 15/23؛ 23/17). ولا على عيش السلام والطمأنينة في حياته (3/26؛ 15/2، إلخ). والأصعب من ذلك أنّ الإنسان المتألّم لا يجد له مكاناً يأوي إليه (6/13؛ 11/20)، فيفقد إرادته (9/27؛ 16/6) ويشعر أنّ شيئاً انكسر في علاقته مع ذاته ومع الآخرين فلا يعود يجد معناً لما يعيشه.

          لا شكّ أنّ أيّوب المتألّم بحاجة إلى من يساعده. فكان مجيء أصدقاءه الثلاثة ليخفّفوا عنه مأسيه. فبعدما صمتوا مدّة سبعة أيّام (2/11-13)، راحوا يدافعون عن الله أمام أيّوب. ربطوا بكلّ بساطة ما يحصل مع أيّوب بحالة الخطيئة التي يعيش فيها. فوجدوا أنّ من المنطق أنّ يحصل كلّ ذلك مع أيّوب. لأنّ الصالح ينال جزاءً حسناً والخاطئ جزاءً قاسياً (4/7-18). لكنّ أيّوب رفض تحليلهم، فانقضّوا عليه ودفعوه ليعترف بذنبه (15/1-16؛ 27/2-7). مع الأسف لم يتمكّن أيّوب من الإتّكال على أصدقائه ليؤاسوه بدل أن يدينونه (21/2-3؛ 30/28)، فكان منه أن رفض أن يبني علاقته بالله على أساس نظرة دينيّة وأخلاقيّة للعقاب (13/1-4) واستنتج أنّه وحده من يمكنه أن يتكلّم عن ألمه وأنّ حديث أصدقاءه لاهوتي وغير مرتبط بالواقع المرير من دون أن يُنكر أنّه خاطئ (7/21؛ 13/26؛ 14/3-4) أو أن ينسى رحمة الله وحبّه المجاني له. تساءل أيّوب : لماذا الأشرار يلاقون حياة أكثر هناء (21/7-9؛ 24/1-14) مع أنّهم يُعذّبون الفقراء ويسيطرون على الضعفاء بينما هو يدافع عنهم ؟ فكان لأصدقائه الفضل بمساعدته على التأكّد من أنّ الله هو الذي ينصف الفقراء (36/3) حتى ولو شعروا أنّه غائب (34/19-29). وهنا نلاحظ النضوج الذي مرّ به أيّوب مع الوقت. إذ أدرك أنّ الله الحاضر دائماً إلى جانب الإنسان يتوجّه إليه حتّى في آلامه (33/8-14)، وأنّ هذه الآلام، هي تربويّة وليست قصاصيّة (33/14-20؛ 36/15). فلا أحد يستطيع أن يأخذ مكان الله أو أن يشرح حكمته. فالإنسان يدّعي أحياناً أنّه يسلك طريق الحقيقة لكنّه يقع بخطيئة التكبّر التي تمنعه من البحث الدائم مكتفياً بما هو ظاهر. إنّ أصدقاء أيّوب تعوّدوا على لاعدالة الألم، لدرجة أنّهم أصبحوا يعتقدون أنّ الآلام هي ضروريّة. بينما أيّوب ثار ضدّها وضدّ اللاّهوت الذي يويّدها وضدّ صورة الله التي يصوّرها هذا اللاهوت. فالآلام التي يعانيها البريء هي حالة غير إنسانيّة ويجب مواجهتها لكي يختبر الإنسان ما إذا كان قادراً على معرفة الله الذي وحده يعطي بحريّة ومجّانيّة ملء الإنسانيّة. رفض أيّوب إذاً أن يُسكت آلامه كي لا يمنع عنه حقيقة إنسانيّته وكي لا يواجه الله الذي لا يمكن إلاّ أن يكون محبّاً له.

  • الآلام الإنسانيّة ووجه الله

          لم يتوقّف أيّوب عن الكلام عن الله. لم يقل أبداً أنّه غير عادل حتّى ولو لمّح إلى ذلك مرّات عدّة. لذا أتت مواقفه أحياناً متناقضة. فمع أنّه رفض التعرّف إلى الله لكنّه بقي بإنتظار دائم له (7/20؛ 10/8؛ 29/4). يعترف أيّوب أنّ الله خلق الإنسان وهو معه ولن يتركه يموت دون مساعدة (10/10-12). فهو يفهم حزنه وآلامه ولا يقدر أن يبقى غريباً عنه. لا يريد الله أن يتألّم الإنسان بل أن يُظهر له أنّ له نفساً أبديّة لا يمكن إلاّ أن تطرح السؤال : لماذا الشّر وهذه النفس المنفتحة على الآخر تلتزم بصراعها ضدّ الشر ؟. هذا التفكير الذي بدأه أيّوب جعله بالرّغم من شكواه يوضّح تفكيره ويُظهر أكثر صورة الله في قلبه وهو المتألّم البار. فطلب أيوّب أن يلتقي الرّب، وهو وحده من يمكنه أن يجيبه على تساؤلاته، ليساعده على تجديد ثقته بالحياة. من هنا لا بدّ من ذكر العوامل التي أدّت إلى خروج أيّوب من كبوته والإنفتاح على رحمة الله :

  • الوقت: تمكّن أيّوب من قياس أهميّة هذا الحدث في حياته ومن إزالة كلّ اتهام ضدّ الله.
  • قدرة أيّوب على التكلّم مع الله وعن إختباراته الحلوة والمرّة ممّا ساهم بتبديد قلقه. إذ تمكّن من تحويل آلامه إلى كلمة متّكلاً على كلمة الله.
  • صمت الله لعب دوراً في زيادة رجاء أيّوب. لأنّه ترك له أن يرفض أو أن يقبل أو أن يهرب أو أن يبحث. إختار الله أن يتظاهر أنّه بعيد لكي يتمكّن أيّوب من القيام بأولى خطوات الرّجاء.
  • أخيراً، قبل أيّوب “بإخلاء حكمته”، بالتوقّف عن إعتبار الإنسان معياراً نهائيّاً في العالم وفي التاريخ. فاكتشف مع الوقت ما الذي يجب أن يُشفى منه. فعندما اختبر حضور الله، إلتقى بنيّة الله (38/1-42) التي قادته إلى معرفة محدوديّته وإلى أن يتصالح معها.
  • اللّقاء بين أيّوب والله : الألم صار كلمة

 عندما قبل الله أن يجيب على أيّوب، لم يكن الكلام عن خطيئة أيّوب. كان كلام الله على مستوى المجّانيّة والتأمّل (38/16-28). بيّنت كلمة الله عن حريّة الله الخلاّقة وعن إحترام الله لحريّة الإنسان. فكان اللّقاء بين حريتين. بمعنى آخر، عندما لجأ أيّوب إلى الله، إٍستسلم لحريّة الله بحبّ وبدون خنوع إذ لا تُبنى علاقة الله بالإنسان على المكافأة والجزاء بل على الإيمان الذي يصبح مع الوقت إيماناً تأمّليّاً لسرّ الله الخيّر. إنّ إكتشاف أيّوب لمحبّة ومجّانيّة الله لم تُنسيه ضرورة العدالة، إذ وضعها في خانة المحبّة المجّانيّة لله. فالكتاب المقدّس لم يضع العدالة في تناقض مع المحبّة المجّانيّة، لأنّ الله لا يريد أن يقول لأيّوب أنّ العدالة غير مهمّة في العالم ولكن لا يمكن أن يكون لها الكلمة الفصل. هذا اللّقاء مع الله كان له أثره في حياة أيّوب إذ جعله يسير نحو السلام الدّاخلي ويتخلّى عن الشعور بالذنب ويترك الله يبرز وجهه الحقيقي بدل أن يضع ذاته بمواجهة بين وجهين لا يتّفقان : وجه الله الخالق ووجه الله الظالم، الصَديق والمحارب. أدرك أيّوب ضعفه (40/3-5) وأعلن عظمة الله (42/1-6 ). أدرك أنّه، في قلب الآلام، يمكنه أن يرى وجه الله ويكتشفه. وأنّه في خضمّ التساؤلات يمكنه أن يجد منفذاً للمعنى الذي يبحث عنه الإنسان. إكتشف محدوديّته أمام عظمة الله (42) وأنّه ليس وحده في هذا الصراع ضدّ الشّر بما أنّ الله معه. هذه العلاقة المميّزة مع الله جعلت من أيّوب قادراً على معرفة الله معرفة حقيقيّة.

     ختاماً، يمكننا القول أنّ كتاب أيّوب لا يبحث عن تفسير عقلاني للألم بل يوضح بأنّ الألم يساعد على الدّخول في علاقة مع الله ويمنع الإنسان من الإستسلام السلبي ومن اللامبالاة. فالله مهتمّ بآلام الإنسان ويحبّ حبّاً مجانيّاً ويفتح آفاق الرّجاء. لذا من المهمّ الإلتزام إلى جانب الأشخاص الذين يتألّمون والذين ليس لهم من يدافع عنهم كما فعل يسوع في حياته على الأرض إلى جانب الضعفاء والمتألمين فقيل أنّه هو العبد المتألّم الذي تكلّم عنه أشعيا.

  • العبد المتألّم في سفر أشعيا (53)

أربعة أشخاص فاعلون في هذا النّص : الرّب (يهوه)، العبد وهو الفاعل الصامت، نحن (إسرائيل)، الأمم والملوك. لا يعطي النّص تفسيراً نفسيّاً عن الألم إذ لا ينظر إليه لا نظرة كارثيّة أو رفضيّة ولا نظرة تعاطفيّة أو قبوليّة. العبد لا يطالب بالألم ولا ينظر إليه بنظرة العدالة، كما أنّه لا ينظر إليه بذاته وكأنّه ممكن أن يكون له أو لا معنى[3] بحدّ ذاته. الآلام التي تعرّض إليها العبد، بشكل غير عادل، كانت فرصة له ليعي خطاياه. المقصود ليس الحكم على الآخرين بقدر ما هو حكم الشخص على ذاته. لأنّ الإنسان مدعو إلى تحمّل مسؤوليّة ما يحصل معه ويلتزم ضميريّاً بإعادة كودرة حياته تفادياً لضياعه. فليس الله مصدر آلام الإنسان بل هي تعدّياته الشخصيّة التي تقضي عليه. إنّ الآلام التي عاناها العبد أحدثت تغييراً في طريقة التمييز والتحليل وتحوّلاً في النظر وفي طريقة الوجود “سينظرون إلى الذي طعنوه” (راجع يو19/37). فمن خلال آلام الشخص البريء يمكننا الإعتراف بعلامات الخطيئة لكي يخرج الإنسان من ذاته ويطلب عدالة الله ورحمته. هذه العلامات في حياتنا هي شفاء من الذنب ومن الشعور أنّنا ضحايا، ومن الأنانيّة، للإنفتاح على رحمة الله (راجع 1 بط2/21-25). لذا نرى أنّ الدّليل على تبرير العبد هو ازدهاره وتنوّره وليس طرده وموته وحيداً في الصحراء كضحيّة كما أراد الفريسيّون أن يفعلوه مع الأعمى في إنجيل يوحنّا.

  • أعمى منذ ولادته : يوحنّا 9

          رفض يسوع الرّبط بين حالة الأعمى وأهله، وشدّد على رباط قويّ بين الإنسان وعمل الله. يسوع في إنجيل الأعمى دعا بداية إلى العمل ما دام النّهار (9/5) وختم بالكلام عن الدينونة. فقد أتى يسوع ليدين : فالذين لا يبصرون يرون والذين يرون يصبحون عمياناً. أراد يسوع أن يبدّد كلّ القناعات الثابتة (9/2) والتي أصرّ الفريسيّون على المحافظة عليها “وُلدت بالخطيئة وتُعلّمنا ؟” (9/34). فجاء موقفه حازماً : “لو كنتم عمياناً لما كان عليكم خطيئة. ولكنّكم تقولون الآن : إنّنا نبصر، فخطيئتكم ثابتة” (9/41). فالأعمى الحقيقي إذاً هو من يدّعي أنّه يرى وهو لا يرى. هو من يدّعي أن هناك رباطاً بين الألم والخطيئة.          من أهمّ أهداف أولى فصول سفر التكوين هو تبرئة الله من نقصين : عدم قدرته على خلق كائن حسن وخلقه الإنسان معذّب ومتألّم. فرُفعت هكذا مسؤوليّته عن الشرور التي تعصف بالوجود البشري مع الحفاظ على وجود مجرّب قبل وقوع آدم وحوّاء بالخطيئة، مع أنّ الكتاب المقدّس ربط أحياناً الألم بالخطيئة. هذا المجرّب ليس الله بل العدوّ المتربّص بالإنسان ليهلكه. طرحت الكتب المقدّسة عدّة تساؤلات حول الموضوع وقيّمت الأمور من زوايا متعدّدة إنطلاقاً من اللاعدالة التي تظهر بين الألم والأخطاء الأدبيّة. نجد تطوّراً لمفهوم المسؤوليّة الفرديّة كما لاحظناه في سفر أيّوب وفي نشيد العبد المتألم وصولاً إلى المفهوم الجديد في الإنجيل. صحيح أنّ الرباط بين الذّنب والألم لم يكن واضحاً تماماً إنّما بقي موجوداً حتى في العهد الجديد. هذا الرباط يُحطّم الشخص ويُعيّشه بذنب كبير وبالوقت ذاته يُريح من يُطلق الإدانات كما فعل الفريسيّون مع الأعمى. أراد يسوع أن يُغيّر هذه المعرفة الخاطئة ويُخرج الفريسيين من هذا الرباط السببي ليدخلهم في مشروعه الخلاصي. فجاء جوابه لهم : “لكي تظهر أعمال الله” (9/3)[4].

5- ماذا حقّق يسوع ؟

          طيلة حياته على الأرض كان يسوع حاضراً وحسّاساً لآلام الإنسان (مت9/36؛ 14/14؛15/32؛20/34؛ لو7/3؛ 10/33؛ ؛ يو11/33-36). كانوا يضعون أمامه المرضى والمتألّمين ليشفيهم وكان يتصرّف بعفويّة. تروي الأناجيل 25 رواية شفاء قام بها يسوع ما عدا الشفاءات الجماعيّة (مت4/14؛ 8/16؛ 11/25؛ 14/35؛ مر1/32-34؛ 3/10؛ لو4/40؛ 7/21). كان يسوع يتأثر لآلام الناس إذ كانت تلمسه من الداخل (مت9/36؛ 15/32؛ 20/34؛ 10/33؛ يو11/33). هو قال أنّه لم يأتي من أجل الأصحّاء بل من أجل المرضى (مت9/12 ؛ راجع لو4/18-19؛ أشعيا 61/1-2). لم يلجأ يسوع إلى شفاءات مسرحيّة بل أخذ بجدّيّة حالات المرضى والمتألّمين. حتى عندما كان يشفي جماعيّاً كان يشفيهم من آلامهم الجسديّة والنفسيّة والإجتماعيّة مشدّداً على أنّ هناك آلام أخرى ناتجة عن قطع العلاقة مع الله بسبب الخطيئة. فإذا لم تعد العلاقة إلى حالتها فيصعب أن يصير الشفاء كاملاً. المؤسف أنّه لم يُحفظ من كلّ تلك الشفاءات التي قام بها يسوع إلاّ “العجيبة” ونسي الناس أنّ يسوع أراد تخفيف الألم وأنّ هناك عملاً خلاصيّاً يوحي أوّلاً بحبّ الله للإنسان. ولكنّ الملفت أنّ يسوع لم يعط في أيّة مرّة أسباب الآلام في العالم وكان يرفض أيضاً ما يُقترح عليه من أسباب (لو13/3-5؛ يو9/3؛ 11/4).

          فإذا كان يسوع حسّاساً لآلام الناس، ألم يكن ذلك متناقضاً مع ما قاله في التطويبات “طوبى للفقراء فإنّ لهم ملكوت السماوات” (لو6/21) ومع ما قاله في مكان آخر “من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني” (مر8/34؛ لو14/27). ماذا نقول عن آلام يسوع على الصليب. كيف يمكننا فهم هذا التناقض : رفض الآلام من جهة وإختبارها من جهة أخرى ؟ هل يجب قبول الآلام عندما تكون لنا ونرفضها عندما تكون للآخرين ؟ الجدير ذكره أنّ الإنجيل لا يطرح مسألة الألم ليقول أيّ موقف يجب إتخاذه. إنّه ينطلق من الأشخاص الذين يتألّمون والذين يتبعون الرّب. أظهر الإنجيل يسوع بين المتألّمين ليشدّد على رحمته ومحبّته لهم. فكان يتألّم مع الأشخاصcompassion  معطياً بذلك جواباً لا حلاً لآلام البشر، ومتضامناً معهم بصدق وبإحترام. لكنّه أظهر أنّ الرّحمة بدون الإعتراف بقوّة الشّر وبدون تحفيز المتألّم على أن يعيد كودرة ذاته لا يمكن أن تؤمّن إختباراً عميقاً للحب وقوّته. لأنّ الألم لا يمكن أن يصبح عثرة أمام لقاء الإنسان بالله، لقاء حبّ صادق.

          بموته وبقيامته منع يسوع الآلام البشريّة أن تصبح واقعاً نهائيّاً. لكنّه لم يخرج الألم من الواقع الإنساني اليومي. فشدّد على حبّ الله للإنسان وحضوره الدائم إلى جانبه “لا تخافوا أنا غلبت العالم” (يو16/33). إنّ ثقة الله بالإنسان النابعة من حبّه له، تدفع بالإنسان لعدم اليأس ولعدم تحجيم ذاته ضمن آلامه. لأنّ الإنسان يبقى كريماً ومحترماً رغم الآلام ويستحق دائماً الحياة. بهذا أراد يسوع قلب المقاييس جاعلاً الإنجيل، البشرى السارّة، برباط مع التطويبات. فبدل أن يتكلّم يسوع عن الألم بشكل عام، أراد أن يربطه بتاريخنا البشري الذي هو تاريخ خلاص بموته وبقيامته من بين الأموات.

          من هنا إستعمل الإنجيل تعابير العهد القديم كي يتكلّم عن موت يسوع على الصليب. منها : قصّة الخروج، النبؤات (إرميا وأشعيا)، صور رؤويّة (دانيال) وصلوات (المزامير)، إلخ. فأتى التشديد من خلال هذه التعابير على الرباط بين العبوديّة والحريّة، بين الإذلال والتمجيد، بين الإنشقاقات والمصالحة ومغفرة الخطايا، بين التضحية والتبرير والفداء. لاقت بعض من هذه التعابير تحفّظاً لدى بعض اللاهوتيين والمسيحيين. لأنّ هذه التعابير أعطت معناً إيجابيّاً للألم وكأنّه وسيلة فداء وليس فقط عامل تقدّم داخلي (التطهير، النضوج، إكتشاف الذات، الإنفتاح). هذه التعابير تشير إلى الألم على أنّه قصاص على أخطاء إرتُكبت أو فدية لمحو هذه الأخطاء. فتأتي التساؤلات : أنحن أمام تفكير مازوشي ؟ ألا نقوّي بكلامنا عن الألم بهذه الطريقة شعورنا بالذنب لأنّ هذا الألم كما هو منظور إليه يجب التخلّص منه عبر إصلاح الخطأ ؟. وبما أنّنا نحن دائماً خطأة ونحتاج لى الغفران ألا تصبح الآلام حاجة ملحّة للتكفير ؟ هذه التحاليل لا تمتّ بالفكر المسيحي بأيّة صلة مع الأخذ بعين الإعتبار وجود علاقة بين الألم والخطيئة في مطارح عدّة، ساعدنا على فهمها أشعيا في نشيد العبد المتألّم. إنّ بولس الرّسول في رسالته إلى الرومانيين وإلى الكورنثيين تكلّم عن الفداء والمصالحة والتبرير بالصليب. كذلك يوحنّا تكلّم عن حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم (1/29). في الرسالة إلى العبرانيين في مواجهة يسوع مع اليهود تلميح إلى العبد المتألّم عند أشعيا للتشديد على عدم إيمان اليهود قبل أن يدخل يسوع في آلامه للتأكيد على أنّ التوبة والوحي يعملان سويّة ( يو 12/37-38). في أعمال الرسل (8/26-35) هناك أيضاً تذكير بأشعيا 53/8. فإذا كان نشيد العبد المتألّم يتكلّم عن آلام وموت يسوع إلاّ أنّه مفتاح لفهم أمرين : البعد الفدائي والخلاصي بإعطاء الذات بحريّة. والأمر الثاني الرسالة الجديدة التي تشدّد على ما لا تراه العين. بمعنى أنّ المشاهد يصبح فاعلاً ومعنيّاً بالذي يحصل معه فيتجدّد ويعود إلى ذاته ويتوب. هذه هي رسالة يسوع أن يجعل الإنسان يتغيّر من الداخل ولو أنّ هناك أحياناً آلاماً وعذابات واضطرابات في حياته. إنّ الإنسان الطاهر الذي يسعى لتنقية ذاته يحوّل الخطيئة إلى آلام وهذه هي معاني الآلام الفدائيّة بينما الإنسان الشرير يحوّل المرض والآلام إلى خطيئة. فالألم في قلب البرئ يعمل فيه ليعترف بخطيئته وبعمل الله المستمر في حياته.

          6- هل هناك آلاماً فدائيّة ؟

          عندما نتكلّم عن الآلام الفدائيّة لا نعني بذلك الآلام الفرديّة. إذ لا يمكنني أن أفتدي بآلامي. لا شك أنّ الألم هو جزء من حياة وطبيعة الإنسان البشريّة، ونرغب دائماً بالتخلّص منه لأنّه ليس خيراً بذاته ولا مرغوباً به لذاته. فلا يمكن للآلام البشريّة أن تكون خلاصيّة بالمعنى المسيحي إلا إذا كانت برباط مع سرّ المسيح، أي عندما يتّحد المؤمن بالمسيح. لأنّ الخلاص يأتي لا بالآلام بل بالنّعمة الإلهيّة التي تظهر من خلال الآلام وتُحدث تحوّلاً. لا شكّ أنّنا نعتبر أحياناً أنّ الآلام هي تجربة من الله، فننيأس ونرفض ونغضب على الله ونلجأ إلى التخلّص من كلّ أسباب هذه الآلام. ولكن تأتي النعمة لترفع الإنسان. هذا هو الرباط مع آلام المسيح الخلاصيّة.

          صحيح أنّ الآلام البشريّة تحطّم الإنسان وتُبعده عن ذاته. صحيح أنّها تشوّه ربّما صورته الحرّة وربّما كرامته ونوعيّة حياته، فيخسر الإنسان قوّته ومقدّراته الجسديّة والذاتيّة جزئيّاً أو كليّاً. ولكن يأتي بولس ليقول “لقد حُسبنا كغنم للذبح… ولكن لا موت ولا حياة، لا حاضر ولا مستقبل يمكنه أن يفصلنا عن محبّة الله بالمسيح يسوع” (رو8/36-39). فوحدها المحبّة يمكنها أن تجعل الإنسان يتخطّى كلّ تجاربه. فالمسيحيّة لا تدعو إلى التألّم، إنّما تدرك أنّ الإنسان عندما يُقدّم آلامه عندها يتخلّى عنها. وحدها المحبّة تجعل هذا العمل فعّالاً. وهنا يمكننا التكلّم عن التضحية ليس بالمعنى التهديمي أو التشويهي بل بمعنى التقدمة الداخليّة للشخص مجيباً على حبّ الله للإنسان وهذا ما جسّده الله بتقدمة إبنه ذبيحة في الإفخارستيّا. إنّ التضحية ليست تكفيراً عن شيء لأنّه ليس من تكافؤ بين الألم المعاش والمسامحة المطلوبة. فنحن نؤمن أنّ المسيحي هو بشراكة مع يسوع القائم من الموت، فليس من الضروري أن يتألّم ليحصل على المغفرة. إنّ شرعيّة التكفير تأتي فقط من رحمة الله التي تجلّت بيسوع والتي يحصل عليها كلّ إنسان من دون تمييز إذا آمن بالله وترجّاه. وحدها النّعمة يمكنها أن تعطي للألم معناه ومغذاه. لأنّ الألم ليس عقلانيّاً ولا يمكننا أن نفهمه بفكرنا. الله ليس بحاجة إلى آلامنا ليحبّنا ويخلّصنا ولكنّه لا يخلّصنا بدوننا (العبد المتألم). كلّنا نمرّ بالآلام والعذابات المهمّ أن نكتشف عمق وجودنا وننفتح على حبّ الله اللامتناهي للبشر.

7- موقف شخصي

          الألم هو إنسلاخ عن جذور الحياة. هو إستعداد، ولو مخفّف، لساعة الموت التي تصبح حاضرة كلّ مرّة يشعر فيها الإنسان بألم في جسده. إنّ الألم قادر أن يجعل من الإنسان شريكاً له فيقضي بذلك على كلّ المحاولات التي يمكن أن يقوم بها من أجل تحسين وضعه. الألم قادر أن يمنعه من أن يبحث عن الوسائل الضروريّة للتخلّص منه. إنّه إختبار صعب وقاس يدفع بالإنسان إلى الإنغلاق على ذاته فلا يرى إلاّ حالته ويصبح متطلّباً أكثر من ذاته، رافضاً أحياناً طلب المساعدة لأنّه يرفض حدوده البشريّة.

          يسوع لا يريد أن يتألمّ الإنسان، لكنّه لم يستغل سلطته على الألم لكي يضغط على الإنسان فيتحكّم بسلوكه. فعندما كان هناك إمكانيّة القيام بأيّ شيء لتخفيف الألم كان يسوع حاضراً لأنّ رحمته هي رحمة الآب. فالمسيح بتجسّده بقي باتّحاد مع الآب (يو5/19) “من رآني رأى الآب” (يو14/9). وبموت المسيح وقيامته لم يعد الإنسان لوحده في وجه الألم لأنّ المسيح قدّم ذاته كمعلّم رحمة ودعى الإنسان لينفتح عليه فتنفتح آلامه على الحياة. من هنا، فإنّ مقاومة الإنسان للألم لا تعني أن يُخلق عالم من دون آلام. فالصراع ضدّ الألم هو صراع من أجل الحفاظ على الحياة التي في الإنسان. يسوع لا يريد أن نعطي معناً للألم بل أن نحيا من الحياة التي فينا. فليس المعنى الذي يُحيي بل الحياة التي نلناها والتي أُعطيت من الله بحبّ من أجل السعادة الأبديّة (1يو4/1-11). أعتقد أنّه يجب أن نعطي معنى آخر للمعنى الذي نبحث عنه في آلامنا، فيكون أكثر إنفتاحاً على الحياة مع كلّ مفاجآتها وأسرارها مع كلّ ما تحمل من كلمات يجب تفسيرها يوماً بعد يوم. لا داعي لأنّ نحلم بعالم مثالي يتبع منهاجاً محدّداً حيث كلّ شيء في مكانه ولا داعي لأيّ عمل أو جهاد أو إختبار. لا داعي لأنّ نشرح التاريخ البشري على أنّه إضمحلال دائم وابتعاد عن واقع مثالي نخسره لأسباب متعدّدة أو على أنّه مسيرة تصاعديّة نحو حالة معيّنة، وإلاّ فإنّنا نجهل محدوديّتنا ومحدوديّة هذا العالم. إذا كان الإنسان يقبل أنّ يكون خليقة الله، عليه أن يقبل أن لا يكون محافظاً على الوديعة والتي من مهمّاته أن يرتّب ما تَخرّب وأن يعيد الأمور إلى ما كانت عليه. الله خلق الإنسان بإرادة حرّة ليكون حِرفيّاً يصنع مستقبله إنطلاقاً من الواقع الذي هو فيه مع ما يسوده من محدوديّة. فنحن أبناء الرّجاء، ولا رجاء إلاّ مع الآخر وكلّنا مرسلون على طريق الرّجاء بشراكة مع الكلّ حيث كلّ واحد يشعر بمسؤوليّة تجاه مصير الآخر[5]

في 19 أيار 2012


[1] الخوري شربل شلالا إختصاصي في اللاهوت الأدبي وخلقية الحياة، أستاذ في جامعة الرّوح القدس. . مسؤول عن لجنة راعويّة الصحّة في الأبرشيّة البطريركيّة المارونيّة – منطقة جونيه وعضوفي الهيئة الإداريّة لللجنة الأسقفيّة لراعويّة الصحة . خادم رعيّة سيّدة السلام في كفرحباب – غزير

[2] – عندما نيأس ندين ذاتنا ونضعها في خانة الموت بدل أن نفتحها على الحياة.

[3] – المعنى هو ما يجعل حياتنا تأخذ إتّجاهاً نعطيها إياه أو نقبله. يعني أن يتّجه الإنسان نحو هدف معيّن. أن يوظّف كلّ طاقاته من أجل شيء معيّن بدل أن يعيش كلا شيء مع شعور بأنّه غير نافع. من هنا، أن نريد إعطاء معناً للألم يعني أنّنا نعطيه ضمانات. في حين أنّ الألم يعني شيئاً لا يجب أن يكون ويبقى مكاناً للهاوية لأنّه يناقض في الحياة الرّغبة بالوجود. هذا لا يعني أنّه لا يجب النّظر إليه كواقع وننفتح على حقيقة الحياة الذي يجب إستقبالها مع كلّ تعابيرها، ودعمها مع كل ضعفها، وتطويرها مع كلّ إمكانيّتها. فالحياة لا يمكن أن نتصوّرها بدون آلام ولكن من المهمّ أيضاً أن نعمل للتخفيف منها من دون أن نقضي على الشخص المتألّم.

[4] هذا لم يمنع الإنسان ولن يمنعه من البحث عن أسباب الألم.

[5] – إنّ الأشخاص الذين يشاركون الآخرين آلامهم ليسوا قادرين دائماً على تخفيف هذه الآلام. الوقت ضروري لتتحقّق هذه الخطوة خاصّة وأنّ الواقف إلى جانب المتألّم ليس عليه أن يأخذ مكان الشخص المتألّم بفرضه عليه تصرّفات معلّبة للخروج من أزمته. عليه أن يساعده على الدخول في ديناميكيّة رحمة بقبوله ضعفه بدل أن يستحي أو يخجل أو يرذل أو يحتقر ما يحدث معه. وهذا سوف يساعده فيما بعد على مقاومة هذا الألم والحصول على السلام والطمأنينة ضمن مسيرة أنسنة دائمة. الإنسان بحاجة إلى مقاومة الألم كي لا يرزح تحت نير اللامبالاة وبالوقت عينه عليه أن يقبل بما يحصل معه.

Scroll to Top