” نحن لسنا هنا على الأرض من أجل حماية متحف، بل من أجل الاعتناء بحديقة”، أجاب البابا يوحنا الثالث والعشرون حين سئل عن نظرته في الكنيسة. أما فيما يخص المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أطلق سير أعماله، وأمام أحد السفراء الذي كان يسأله عما يتوقعه من المجمع الآتي، فأجاب متجهًا الى نافذة يهم ليفتحها فقال: ” أتوقع منه بعض الهواء المنعش، فيجب أن ننفض الغبار الإمبراطوري الذي تراكم على كرسي بطرس منذ عهد قسطنطين”.
إنها نعمة التجدد وحركة “العصرنة aggiornamento” اللتان تحلى بهما هذا البابا العظيم الذي شهدنا اليوم، في عيد الرحمة الالهية، إعلان قداسته مع البابا الكبير يوحنا بولس الثاني، واللتان أكد هو نفسه أنهما هدف المجمع. لقد أراد أن يضع الكنيسة في استعداد وتأهب للإجابة على حياة الانسان المعاصر. قال في حديثه لافتتاح المجمع: “لقد ناهضت الكنيسة دائمًا أخطاء العالم، لا بل كانت تحرمها بعنف. أما الآن، فإن عروسة المسيح تفضّل استعمال دواء الرحمة الالهية أكثر من القساوة. لقد اعتنقت الاجابة على حاجات العصر لكي تبرهن عن صحة عقيدتها أكثر مما تفتش عن تجديد الحرومات”.
لقد فتح هذا البابا المعروف ببساطته وهو ابن الريف، الكنيسة على العالم، وقد قصد الكرادلة معاصروه في انتخابه أن يكون “بابا المرحلة الانتقالية”، فإذا به كان ” البابا صاحب الرؤيا” التي اثمرت “مجمع تجدد شباب الكنيسة”، لا بل “مجمع الروح القدس” كما سماه اللاهوتي بالتازار، و”المجمع المفتوح على المستقبل” كما دعاه كاسبر. إن البابا الذي كان يرغب أن يكون “كاهن رعية ريفية”، حمل في عمق البساطة قوة الحداثة، فاطلق مجمعًا أحدث “زلزال الروح القدس” الذي هزّ الركود في التقاليد فحوّله الى تجدد وحيوية. لقد نقل الكنيسة من “مراقبة التقاليد الى شاهدة في العالم”. لقد ولّدت رؤيا هذا البابا القديس مجمعًا يمكننا تحديده “بأنه فعل معمودية التاريخ الذي يتكوّن من اتحاد الزمن مع الاحداث التي تحفرها البشرية في الثقافات والأماكن المتنوعة”، فصار “مجمع الكنيسة والعالم”؛ “الكنيسة كلها للمسيح، في المسيح وبواسطة المسيح؛ كلها للناس، بنت الناس ومن أجل الناس”، أكدّ قداسة البابا بولس السادس في خطابه يوم الرابع عشر من أيلول 1964. دخلت الكنيسة، الام والمعلمة، في معايشة كل أوضاع العصر لتنقل إليها حيوية الروح، وهذه الحيوية لا تهدأ ولا تنطفئ.
فحملها بطلته المشرقة، ونشرها في تحركاته الرسولية، العملاق رفيق القديس في القداسة، البابا يوحنا بولس الثاني. لقد خط برحلاته الرسولية، وإطلالاته الرعوية، وكتاباته التعليمية، وحضوره الانساني، وهو صديق العائلات، حبيب الشباب، جليس الاطفال، عائد المرض وأب الفقراء؛ ما كان قد وصفه السعيد الذكر يوحنا الثالث والعشرون في رؤيته المجمعية. أكمل رفيق القداسة بالفعل، ما كان الأسبق في الحبرية قد رسمه بالفكر. وجعل من الكنيسة حاضرة في وسط هموم الناس، تسمع إليهم وتسألهم، بكل لغاتهم وعلى تنوع مشاربهم؛ حافظ على ثبات التعليم وهو البابا المجدد في الاسلوب؛ كما جدّد سابقه الفكر وهو يعتمد المفاجأة في الأسلوب؛ فاجتمع الاثنان في القداسة، لأنهما جمعا اهتمام الكنيسة برسالتها على الأرض، أي، أن تحفظ وديعة الايمان وتحرّك عيش الايمان، حتى يبقى الله أب الجميع، ويكون الجميع أبناء حقيقيين لله.
يسرّ هيئة تحرير مجلة المنارة، أن تصدر عددها الخاص بالمجمع الفاتيكاني الثاني، في ذكرى مرور خمسين سنة على إطلاقه. ونشكر كل من أسهم في أصدار هذا العدد الخاص، من كاتبي المقالات الى المدققين فيها والعاملين التقنيين في إخراجها. كما ترجو أن تكون المناسبة محركة لتعدد النعم: بشفاعة باباوين قديسين جديدين، وبركة سنة يوبيلية مجمعية، وتطلّع لحيوية متجددة في عيش “فرح الانجيل” حتى “يتجدّد وجه الأرض”
هيئة التحرير
عيد الرحمة الالهية
الاحد في 27/4/2014