المشير العام الأب جورج الترس م.ل
قدس الأب العام، إخوتي الأحباء
مع بدايةِ الصومِ نلتقي معًا ككهنة حولَ الصليب، إنطلاقاً من رسالةِ بولس الأولى إلى أهلِ كورنثوس والتي جاء فيها: “وإنما شِئتُ أن لا أعرفَ شيئاً، وأنا بينكم، غيرَ يسوع المسيح، بل يسوع المسيح مصلوبًا” (1 كور 2: 2).
إنّنا وإذ نتوسّع أكثرَ في هذه الرسالة، نرى بأنَّ يسوعَ وبصليبه وعلى مَرِّ التاريخ، رافق جميعَنا، بكلّ عذاباتِنا وآلامِنا، وفي كُلِّ مرّةٍ كنّا نَعيشُ الألمَ نتذكّر صليبَ المسيح.
في حياةِ كلٍّ منّا اليوم صليبٌ بل صلبانٌ عديدة، بآلام لا تُعدّ ولا تُحصى، قد يكون الصليبُ قريباً أم بعيداً، أَعيشُه في بيئتي في عَمَلي وفي أماكنَ عِدّة.
قد يتظهّر الصليبُ في الآخَر من خلالِ تصرّفاتٍ تُزعِجُني وتُشكّل مصدَر قَلقٍ لي.
مَنْ منا لم يعرفْ الألمَ وصعوباتِ الحياةِ الشخصيةَ والعامةَ؟ هل وجدتُم من يَعيشُ الراحةَ التامةَ على الأرض؟ مَنْ مِنَّا لم يتألمْ من قرارٍ اتَّخَذَهُ أم ظرفٍ فُرضَ عليه وتعايَشَ معه؟ قد يتجلّى الصليبُ في أُناسٍ غيرِ صادقين.
انطلاقاً من الرسالة هذه نتحدّثُ بدايةً عن “يسوع المسيح مصلوباً”. نتطرّق بعدَها إلى الكاهنِ والصليب.
أولاً: يسوع المسيح مصلوباً
هل نفهمُ هنا أنّ بولس لم يتكلمْ سوى عن الصليب؟ مما تبقى من الرسالة ومن الرسائل البُولُسِية وما تركتْه لنا الفقاهةُ الأولى، نفهم أنَّ بولس والوَعَّاظَ الأوَّلينَ شدّدوا على شخص المسيح وعلى ألقابه، المسيح الذي أنْبأتْ به الكتب المقدسة. ابنِ الله، الربِّ القائم من الموت، الحيّ والممَّجد، كما ذكروا تعاليمَه ومعجزاتِه وقدرتَه التي تَحْمِل الحياةَ والخلاص، وحضورَه في الكنيسة كلِّها وفي المسيحيين. غير أنَّ كلَّ الكِرازةِ “وكلَّ حياة يسوع المسيح” تتركز على الحَدثِ الفُصْحيّ، منذ “الَّليلةِ التي أُسْلِمَ فيها” (11: 23) حتى الصعود. فالحياةُ المسيحية كلُّها تستخرج قوتَها الروحية من سرّ المسيح الذي ماتَ وقامَ من أجلنا… “المسيح فُصْحُنا ذُبِح” (5: 7).
فعلى حياتِنا المسيحيةِ أن تتغذّى دومًا من التأمل في السرِّ الفُصْحيّ. فالإيمانُ كلُّه يَدفعُنا لكي نَتجنَّدَ للمسيح الذي ماتَ وقام، ونتّحدَ به ونشارِكَ في عَملِه. فحياتُنا كلُّها في مسيرةٍ تستندُ الى الفعلِ الفُصْحيّ الذي هو عبورٌ من الموتِ الى الحياة.
لا تعرف المسيحيةُ تعليماً عن الألمِ يَقف عندَ الألم، وعن الصليبِ يقف عندَ الصليب، فالصليبُ ينتهي في القيامة. والمسيحيةُ التي هي تعليمُ حياةٍ وفداءٍ ورجاءٍ، تَنظرُ نظرةً جريئةً الى نهايةِ العمل البشريّ في المسيح المُمَجَّد. ولكن أهل كورنثوس يحاولون أن ينالوا الغلبةَ من دون المرور في طريق المسيح. إذاً، لن تكونَ القيامةُ من دونِ آلامٍ ولا نَصرَ من دون مِحَن. ذكر بولس هذا الطريقَ المعروضَ على كلّ تلميذ، في الإنجيل: (4: 7-13). فالحكمةُ المسيحيةُ الحقيقيةُ نَجدُها في اتحادٍ إراديٍّ في الصليب. ومَهما فَعْلنا، لا نَقْدِرُ أن نَعتادَ على هذا الوَحي “الذي أُخفِيَ على الدُهورِ” على الخلاصِ بالصليب.
فالمسيحُ نفسُه واجَهَ آلامَه لا كرواقيّ يحاول أن يُسيطرَ على الألمِ بَلْ كإنسانٍ عَرِفَ النزاعَ في بستانِ الزيتون، فواجه ألمَه وبدونِ سندٍ خارجيّ. وبولس بدوره إضطُهِدَ. ووَجَدَ إرميا النبي الشَّجاعةَ فيما يَعترضُه، في كلمةِ الله. كما وجدَ بولس العزاء والتشجيعَ في صليبِ المسيح (2 كور1: 9-:12). نَذكرُ هنا أيضاً أنَّ الربَ تراءى له فَشَجَعَهُ: “لا تَخَفْ، بل تَكلمْ ولا تَسكُتْ. فأنا مَعَك”. إذاً، يحق للرسول أن يُذكِّرَ أهلَ كورنثوس أنَّ تعليمَ الصليب يَقلُبُ الحساباتِ البشرية. فهو نفسُه اختبرَ الانتصارَ الفُصحيَّ عبرَ وسائلَ غيرِ مُنْتَظَرة. لم يَسْعَ إلى إقناعِهِم ببراهينَ بشريةٍ وحِيَلٍ بَلاغيةٍ، بَلْ جاءَ على نقيضِ كلِّ ما “يَلْمَعْ”. ففي الشكلِ، لم يكن دِبلوماسيًا في كِرازته، بل أبرزَ سرَّ الصليب. فكلامُ الرسولِ كان برهانَ روحِ القوة. نَجِدُ هنا مفهومَ الكلمة (في الكتاب المقدس): إعلانُ، عملٍ فاعلٍ يَلِجُ الى القلوب.
فالإنجيلُ يدعو التلميذَ الى التَجرُّدِ الذي يَفرضُه الصليبُ، لكي يَتْبَعَ طريقَ الحياةِ الحَقَةِ التي لا تَغُشّ. في هذه المسيرةِ التي يَتجاهَلُها الَّلامؤمنونَ يرى المسيحيُ نفسَه منذ الآن مُتَّحِداً مع “ربّ المَجْد”.
بالصليبِ صارَ هو الكاهنُ والذبيحة.
لم يكن المسيح مُجرَد ذبيحةٍ قُدِّمَتْ عن حياةِ العالم؛ لكنَّهُ كان هو الكاهنُ وهو الذبيحةُ في آنٍ واحد. فإذا كان قَدْ تمَّ ذبحُه على الأرضِ مثلًا؛ سيكون في هذا الوضعِ ذبيحةً وليس كاهنًا. ولكنْ على الصليب هو يَرفعُ يدَيْهِ ككاهنٍ وهو في نَفْس الوقتِ الذبيحُ المُعَلَّق. فالناظرُ إليه يَراه ككاهنٍ يُصلّي وفي نفسِ الوقتِ يراه ذبيحًا ويقولُ “فُصْحُنا أيضًا المسيحُ قد ذُبِحَ لأجْلِنا” (1كو 5 : 7). هو يشفع في البشريةِ أثناء تقديمه لذاتهِ كذبيحة. لذلك رآه يوحنا الحبيب في سِفْر الرؤيا مِثْلَ “خروفٍ قائمٍ كأنه مذبوح” (رؤ5: 6).
الصليبُ هو علامةُ حُبِّ الله غيرِ المحدودِ لنا “ليس لأحدٍ حبٌّ أعظمُ من هذا أن يُضَحّيَ الإنسانُ بِنَفسِه في سبيلِ أحبّائِهِ” (يو 15: 13). والتأملُ فيه يُلهِبُ النفسَ بِحُبِّ الله إذ نَكتَشِفُ محبَّتَه. لذلك كان موضوعُ كرازة بولس هو الصليبُ ولم يتركْ هذا الموضوعَ، فجوهرُ الحياةِ المسيحيةِ هو الصليبُ، والمسيحُ المصلوبُ الذي دَفَع ثمنَ خطايانا… “بمَوتِكَ يا ربُّ نُبشِّرُ” (البشارةُ بالصليبِ ليستْ كلامَ وَعْظٍ بل قَبولُ صَلْبِ الجَسَدِ وتَقديمِهِ ذبيحةً حَيَّةً، وقَبولُ الصليبِ الذي يَسمح به اللهُ بِشُكْرٍ) وهكذا أصبحَ الصليبُ أبلغَ رمزٍ من رموزِ المحبَّةِ، ولذلك نَجِدُ الصليبَ في كلِّ مكانٍ في الكنيسة. ومَنْ ينشغِلْ بحُبِّ المسيحِ الظاهرِ على الصليبِ فهو لنْ يلتفتَ لشيءٍ آخرَ مثلَ الخُصوماتِ، وهذه ناشِئَةٌ عن الأنا، بل إنَّ الصليبَ له قوةُ تأثيرٍ على النَفْسِ فينسَى الإنسانُ كلَّ ما عَداه. إذْ لا يؤثّرُ في الخاطئِ فَلْسفاتُ الكلامِ بل إنَّ الله أحبَّهُ وماتَ لأجْلِ أن يَغْفِرَ له. وصليبُ المسيحِ عَكْسُ الأنا تمامًا.
السؤالُ الذي نَطرَحُه على ذاتِنا: ما هو اهتمامي الحقيقيُّ اليوم؟ هل هو: أن نُصبِحَ نحن “أنتَ وأنا” المسيح؟
من دون حُبٍّ لا نُولدُ ولا نَكْبُرْ. إنَّ الافتقارَ إلى الحُبِّ هو النقطةُ الحاسِمَةُ، وهو أساس كلِّ مُشكلةٍ في الحياة، ونقطةُ البدايةِ في كلِّ قِصَّة. إنَّ التبشيرَ بحبِّ الله العميقِ لمخلوقاتِه هو دَعْوَتُنا، ومعنى حياتِنا. أنا لا أَعِظُ، أنتَ لا تَعِظُ، لكنَّنا مَعًا نُبشِّرُ بما في وَسَطِنا: المسيحُ مصلوبًا. نحن نُعلِّم: المسيحُ مصلوبًا.
ليسَتْ حكمتُنا ولا قوتُنا ولا ثقافتُنا ولا أعمالُنا تَشْهَدُ، بل جِراحُنا تَشْهَدُ. نعم، هؤلاء يَشهَدون للمسيح.
لا يَكفي أن نتْبَعَ المسيح، بل يَجبُ أن نَحْمِلَ الصليبَ مَعَهُ وعلى مِثالِه. هذا هو الشَرْطُ الأساسُ لاتّباعِه وهو لم يُخْفِهْ على أحد. لذلك قال، بعد أن وبَّخَ بطرس على تفكيرِه البَشَريّ “مَنْ أراد أن يتبَعني فليَكْفُرْ بِنَفْسِه ويَحْمِلْ صَليبَه ويَتْبَعْني”، وقد اختبرَ بولسُ الرسولُ هذه الحقيقةَ عندما كان يُبشِّرُ بأنَّ الخلاصَ ليسَ بأعمالِ الناموسِ بَلْ بصليبِ المسيح. ومن ظنَّ أنَّ باستطاعتِه أن يتبعَ المسيح من دونِ أن يحملَ الصليبَ فهو واهمٌ (مر 8: 34). ومَنْ فصلَ المسيح عن الصليبِ أَفرَغَ الرسالة من المُحْتَوَى وضَلَّ الطريقَ وأًخطأَ الهَدَف. إنَّ بطرس رأسَ الرُسُلِ يُثْنِينا بقوله: ” يا أحبَّائي لا تَعْجَبوا من التجاربِ تَقَعُ عَلَيْكُم، وكأنَها شَيءٌ غَريبٌ يُعرَضُ لَكم، لأنَّ ذاكَ يَكونُ لكم امتحاناً، بل إفْرَحوا لأنّكُم صِرْتُم شُركاءَ في آلامِ المسيحِ حتى يومِ ظُهورِ مَجْدِهِ تَفْرحُوا أيضاً وتَبْتَهِجُوا”. فالمسيحيُّ كالمسيحِ وعلى مِثالِه لا يُحِبُّ الصليبَ حُبّاً بالصليبِ والعذابِ، بل توبةً وتكفيراً عن الخطايا وتَقَرُّباً من الله ومِنَ القريب.
إنَّ رسالةَ المسيحية التي أعلنَها بولس لا تعتمدُ على بلاغَةِ الُّلغَةِ أو الصُوَرِ الصادِمَة كما هو الحالُ في السياسةِ أو التَسويق. إنَّ رأسَ الحَرْبَةِ في كِرازةِ بولس لَهُ جانبان: شخصُ يسوع المسيح وعَمَلُه المُفْتَدَى. يرتكزُ تعليمُ العَهْدِ الجَديدِ كُلِّه على حقيقةٍ تاريخيةٍ واحدةٍ: موتُ المسيحِ من أجل خطايا العالَمِ وقيامتُه.
ولكن كيفَ نَكونُ نورَ العالم؟ كيف نكونُ مِلْحَ الارض؟ كيف نَتَألَّقُ في الظَلامِ؟ كيف نَكونُ شهودَ رجاءٍ وفرح؟
يُعطينا القديس بولس أولَ إشارةٍ في رسالتِه إلى أَهْلِ كورنثوس. إنها ليستْ مسألةَ إقناعٍ بمكانةِ الُّلغَةِ أو الحِكمةِ البشرية، أو إثباتٍ أننا أقوى، وأكثرَ ذكاءً من الآخرين، أو أنَّ لدينا قدرةً أفضلَ من الآخرين على التعاملِ مع الذكاءِ البشري. بالتأكيد، يُمكِنُنا، ونحن نَفعَلُ ذلك، لكنْ هذا ليسَ مَصْدرَ قوةِ إعلانِ الإنجيل. تأتي هذه الطاقةُ من شخصِ المسيحِ نفسِه: “لم أَرْغَبْ في أنْ أعْرِفَ بينَكم سوى يسوع المسيح، هذا المسيحُ المصلوب” (1 كو 2 : 2) وحماقةُ الصليبِ هيَ التي تَأتي لمواجَهَةِ حِكْمَةِ العالم. سنَكونُ بسهولةٍ تامةٍ، أو هكذا يُعتَقَد، نَميلُ إلى اتَباعِ كنيسةٍ من شأنِها أنْ تَكونَ قوةً بين القوى، سنَميل بسهولةٍ إلى التَجَمُّعِ لتحقيقِ النّجاح. لكنْ المطلوبُ مِنَّا هو ألَّا نَتْبَعَ الأقوى والأسَهَل، إنه التَواصلُ مع المسيحِ المصلوبِ والقائم، إنه قياسُ أنَّ حكمةَ الله الحقيقية لا تَظهَرُ في القوّةِ البشريةِ بَلْ في الضُعفِ البشريّ، إنها كذلك. أن نُدركَ أنَّ هذا الضُعفَ ليس عارًا ولا عائقًا، بل على العكسِ هو القوّةُ التي يُمكِنُنا الاعتمادُ عليها.
ثانياً: الكاهن والصليب
السؤال الذي سَنَطْرَحُهُ، ما هي الصفاتُ التي يجب أن يتحلّى بها الكاهنُ ليكونَ على مثالِ يسوع المصلوب؟
سنتحدث هنا عن ثلاثِ صفاتٍ فيما يَتعلَّقُ بموضوعِنا وهي: الخِدْمَة، الرَحْمَة والتواضعُ.
أولاً: الخدمة
“إنَّ ابنَ الإنسانِ لم يأتِ ليُخْدَمَ بل ليَخْدُم ويُفدي بنفسَه جماعةَ الناس” (مر 10/45) وهذه الخدمةُ بلغتْ ذروتَها على الصليبِ بِبَذْلِ ذاتِه. حياةُ الكاهنِ الروحيةُ يجب أن يُحيِيَها هذا النَمَطُ مِنَ السلطةِ أي الخدمةُ المبذولةُ للكنيسة. خدمةُ الكاهن يجب أن تكونَ حرّةً صادرةً في سبيل الله. على مثال يسوع: الكاهنُ راعي النفوس، نفوسِ ليس فقط المُعمَّدين بل نفوسُ جميعِ الناس. فيسوع هو الراعي وعَمَلَ رعايتِهِ يَستمرُّ في الكنيسةِ بواسطةِ كَهَنَتِه. وهذه الرعايةُ تَفرضُ المحبةَ الرعوية التي تُحرّك الكاهنَ وتُوجِّهُ رِسالتَه، فهي هبةٌ مجانيةٌ من قِبَل الروحِ القُدُسِ وهي التزامٌ ودعوةٌ إلى جوابٍ حُرٍّ ومسؤولٍ من قِبَل الكاهن. وقوامُ هذه المحبةِ هو بذلُ الذاتِ بَذْلاً كاملاً للكنيسة. هذه الحياةُ المبذولةُ تَفرض على الكاهنِ أن يَبقى على صِلَةٍ بالثالوثِ الأقْدَسِ بالصلاةِ والتأمُّلِ وممارسةِ الأسرارِ وبخاصةٍ الإفخارستيا والتوبة. وتَجِدُ هذه المحبةُ عِبادتَها الكاملة وغِذاءَها في الإفخارستيا التي تُوحِّد الكاهنَ بالله وبإخوتِه الكَهنةِ وسائرِ أعضاءِ الجسمِ الَلاهوتيّ وبالكنيسةِ والعالم.
والكاهنُ هو قَبلَ كلِّ شيءٍ خادمُ كلمةِ الله ومَدعوٌ للتبشيرِ بالإنجيلِ وبدعوةِ الناسِ إلى طاعةِ الإيمانِ والتعمُّقِ في معرفةِ سرِّ الله والاشتراكِ فيه. وهو مدعوٌ بخاصةٍ إلى أن يَعيشَ ويُظهِرَ الوَحدةَ العميقةَ بين ممارسةِ خدمتِه وحَياتِه الروحيّةِ عندما يَحتفلُ بالأسرارِ والّليتورجيةِ … لأنَّ الإفخارستيا تَحوي كلَّ كنزِ الكنيسةِ الروحيّ أي المسيحُ نفسُه…
وكلُّ هذا يَتطلَّبُ من الكاهن صفاتٍ وفضائلَ كالقوةِ والنُبْلِ والأمانةِ والثَباتِ والفِطْنَةِ ورَحابةِ الصَدْرِ ودماثةِ الأخلاقِ والحَزْمِ والتنزُّهِ عن الاعتباراتِ الذاتيةِ والمصالحِ الشخصيةِ وطولِ الأناةِ والثقةِ بعملِ النعمةِ الخَفيَّةِ التي تتجلّى عند البُسَطاءِ والفقراء…
على الكاهن أن ينمِّيَ البُعْدَ الإنسانيَّ بالعيشِ مع الآخرين بالمحبةِ والخدمةِ والإرشادِ ومقاسمتِهم همومَهُمْ وشُجونَهُمْ بتواضعٍ وروحِ أخوّةٍ صادقة. تِنْشِئةُ الكاهنِ الدائمةُ تُساعِدُهُ على أن يَظلَّ بتوافقٍ مع يسوع الراعي الصالح. فَيَنْمُوَ في الإيمانِ ويَعيَ حقيقةَ هُوِيَّتِه كاملةً فَيَنْضُجَ كلَ يومٍ أكثرَ فأكثرَ إنسانياً وروحياً ورعوياً. يَفهم أنّه عضوٌ في جَسَدٍ، أخٌ بين إخْوَةٍ، مسؤولٌ عن حياةِ الجَسَدِ كلِّه. كما أنه بنوعٍ خاصٍ عضوٌ في كنيسةٍ محليةٍ، يعمل بمحبةٍ ولا يستسلمُ للوَحدةِ والعزلةِ التي تُولِّد الكآبةَ والمَصَاعِبْ. فالحياةُ الجَماعيةُ تُساعد على الخروجِ من الذاتِ وصرفِ القوى في خِدْمةِ الآخرين. هذا التثقيفُ المستمرُ يجب أن يتبعَ الكاهنَ في سائرِ أطوارِ حياتِه حتى شَيْخوخَتِه فَيَشْعُرَ إنه لا يَزالُ نافعاً للكنيسةِ وأنَّ حياتَه لم تَفْقِدْ مِعْناها مع ضُعْفِ قُواه.
بمقدارِ ما يَكون الكاهنُ مُتَّحِداً بالمسيح، وبدافعٍ من طبيعةِ خِدْمَتِه ذاتِها، عليه أن يَتَشَبَّعَ ويَتَحرّكَ بروحٍ رسوليٍّ عميقٍ، مستعدٍ في صميمِ قَلْبِه، أن يُنادِيَ بالإنجيلِ إلى أقاصي الأرض” ويُضافُ إلى ذلكَ خصوصاً أنَّ الكاهنَ، وهو ضِمْنَ الكنيسةِ رَجُلُ الوَحدةِ والشَركة، عليه أن يكونَ تُجاهَ جميعِ الناس، رَجُلَ الرسالةِ والحوار. هذه العلاقاتُ الأخويةُ يجب أن يُقيمَها أولاً مع إخوَتِه.
مسؤوليةُ البشارةِ الجديدة، تستلزمُ اليومَ هِمَّةً جديدةً وأساليبَ جديدةً ولغةً جديدةً لإعلانِ الإنجيلِ بِشارةً وشهادةً.
إنَّ المسيحَ يَبْذُلُ للكنيسةِ ذاتَهُ حُباً بها،
وقد أَحبَّ الكنيسةَ وبَذَلَ ذاتَه من أجْلِها ليقدِّسها ويُطَهِّرَها… ويَزُفَها إلى نَفْسِهِ كنيسةً مجيدةً لا عَيبَ فيها ولا تَجَعُّدَ ولا ما أشبَهَ ذلِكَ (أف 5 : 25 – 27). فالكنيسةُ هي بلا شك الجَسَدُ الذي فيه المسيحُ الرأسُ حاضرٌ وفاعلٌ، ولكنَّها هي العروسُ أيضاً الخارجةُ خروجَ حواء جديدة من الجَنْبِ المفتوحِ، جَنْبِ الفادي المُعَلَّقِ على الصَليبِ، ولِذا يقف المسيحُ “أمامَ” الكنيسةِ ويُغذِّيها ويُعْنَى بها” (أف 5 : 29) بِتَقْدِمَةِ ذاتِهِ لأجْلِها.
لقد بَلَغَ يسوعُ المسيح، وهو على الصَليبِ، قِمَّةَ المحبة الرعويةِ في تجرّدٍ ظاهرٍ وباطنٍ مِنْ كُلِّ شيءٍ، فأضْحَى يُنْبوعاً ومِثالاً لكلِّ الفَضَائلِ، وبخاصةٍ فضائلِ الطاعةِ والعفةِ والفَقْرِ التي على الكاهنِ أن يُمارِسَها ويُحقِّقَها ويُجسِّدَ بها مَحبتَه الرعويةَ لإخْوَتِه. على الكاهنِ، على حَدِّ ما جاء في رسالةِ بولس إلى أهل فيليبي، أن “يَتَخَلّقَ بِخُلُق المسيح” فيَتجرَّدَ من ذاتِه، ويَجِدَ في المحبةَ المُزْدانةَ بالطاعةِ والعِفَّةِ والفَقْرِ، طريقَ الاتّحادِ بالله والوَحدةِ مع إخوته (فيل 2 : 5).
ثانياً: الرحمة
من واجبِنا نَحنُ الكَهَنَة، أن نُحافِظَ على سِرِّ الرَحمةِ الإلهيةِ حَيًّا مِنْ خلالِ عِظاتِنا وتَصَرُّفاتِنا وخِيَاراتِنا الرعوية. ماذا تَعني هذه الرحمةُ بالنسبة لنا نحنُ الكَهَنَةُ؟ هنا يَسأل البابا فرنسيس، هل نَتأثَرُ أمامَ الخِرافِ على مِثالِ يسوع عندما رأى الجُموعَ تَعِبينَ رازِحِينَ كَغَنَمٍ لا راعيَ لها؟ فيسوع يَمْلِكُ “أحشاءَ” الله، وقَلبُه يَفيضُ بالحَنانِ تُجاهَ البَشَرِ ولاسيّما تُجاهَ المُهَمَّشينَ والخَطأَةٍ والمَرْضَى الذينَ ليسَ لديهِم أحدٌ ليَهتمَ بهم… وهَكذا هو الكاهنُ، إنَّهُ على صُورةِ الراعي الصالحِ، إنه رَجُلُ الرَحمةِ والشَفَقَة، قريبٌ مِنْ شَعْبهِ وخادمٌ للجميع، وكلُّ مَنْ جُرِحَ في حياتِه، بأيِّ شَكْلٍ كانْ، يُمكنه أن يَجِدَ عندَهُ الانتباهَ والإصْغَاء… وتَظهرُ هذه الرَحْمَةُ عندَ الكاهِنِ بشكلٍ خاصْ من خلالِ مَنْحِه لسرّ المصالحة: من خلال تصرّفاتِه، واستقبالِه، إصْغَائِهِ ونصائحِهِ… ولكنْ هذا الأمرُ يأتي خصوصًا من طريقةِ عَيْشِهِ الشخصيّةِ لهذا السِرِّ، ومِنَ الطريقةِ التي يَسمح فيها للهِ الآبِ بأن يَغْمُرَهُ في الاعترافْ… فعندما يَعيشُ الكاهن هذا الأمرَ في حياتِهِ وفي قَلْبِهِ يُمْكِنُهُ عندَها أن يَمنحَه للآخرين من خلالِ خِدْمَتِه.
أضاف البابا فرنسيس يقولْ: إنَّ الكاهنَ مدعوٌّ ليتعلّمَ كيفَ يكونُ صاحبَ قلبٍ يُحِبُّ ويُشفِقُ، علينا أن نُفَكِرَ بالكنيسةِ كـ “مستشفًى لجرحى الحربِ” حيث هناكَ حاجةٌ ماسةٌ لتضميدِ الجراحِ، حَيْثُ نَجِدُ العَديدَ من الناسِ الذين تجرَحُهُم المشكلاتُ الماديةُ والفَضائِحُ حتَّى داخلَ الكنيسة… أناسٌ تَجرَحَهَم أوهامُ العالم… وبالتالي علينا نحنُ الكهنةُ أن نكونَ هناكَ بالقُرْبِ مِنْ هؤلاءِ الأشخاص. فالرحمةُ هي قَبلَ كلِّ شيءٍ تضميدٌ للجراحِ، لأنَّ المجروحَ بحاجةٍ أولاً لتضميدِ جِراحِه لا للفُحُوصِ والتَحاليلْ، لِذا علينا أولاً أن نُداوِيَ الجِراحَ المفتوحة، والجراحَ التي لا يُمكنُ رؤيتُها إذْ إنَّ هناكَ أشخاصًا يَبتعِدونَ لأنَّهُمْ لا يُريدونَ أن يَرى الآخرون جِراحَهُمْ… هناكَ أشخاصًا يَبتعدونَ بِسَبَبِ خَجَلِهِمْ من جِراحِهِمْ، يَبتعدونَ عن الكنيسةِ بسببِ هذه الجِراح، بَيْدَ أنَّ كلَّ ما يَلْزَمُ هو نَظْرَةُ عَطْفٍ تُجاهَهُمْ! إخوتي هل نَعرِفُ جِراحَ بَعْضِنا البَعْضْ؟ هل نَشْعُرُ بها؟ هل نحنُ قريبونَ من بَعضِنا البَعْضْ؟
إنّ البابا فرنسيس يقول: “إنَّ الضعفَ عندما نعيشه معًا، يصبحُ قوةً تجعلُ العالمَ أفضل”. كلُ واحدٍ منَّا هو بحاجةٍ إلى الآخر. دعوتُنا اليومَ الى كسرِ اللامبالاة لإعادةِ اكتشافِ جمالِ اللقاءِ والحوار.
بَيدَ أنَّ الرّحْمَةَ الحقيقيةَ تتحَّملُ مسؤوليةَ الأشخاصِ وتَأخُذُهُمْ على عاتِقِها، تُصْغي إلَيْهِم باهتمامٍ وتَقتربُ من حالتِهم باحترامٍ وترافِقُهُم في مَسيرَةِ المُصالحة. فالكاهنُ الرَحومُ هو الذي يتصرّفُ تمامًا كالسامريّ الصالح… ولماذا؟ لأن قلبَهُ قادرٌ أن يُشفِقَ ويُحِبَ، إنه قلبُ المسيح!
وماذا يعني الألمُ الرعويُّ؟ هو أن نتألَمَ مع الأشخاصِ ومِنْ أجْلِهِم، كما يَتألَّمُ الأبُ والأمُ من أجْلِ أبنائِهِما. البابا فرنسيس يَطْرَحُ بعضَ الأسئلة التي تُساعدنا عندما يأتي إلَيْنا أحدٌ ما لِطَرحِ البعضِ من مشكِلاتِه: هل تَبْكي؟ أم أنَنا فَقدْنا معنى الدُموع؟ هل تَبكي من أجْلِ شَعْبِكَ؟ هل تبكي عندما يَمرَضُ طِفلٌ أو يَموتْ؟ هل تُصلّي أمام بَيْتِ القُربان؟ كيف تَختَتِمُ نهارَكْ؟ مع الربّ؟ أو مع التِلفازِ أو وسائلِ التواصُلِ الإجتماعيّ؟ كيف تتعاملُ مع الأشخاصِ الذين يُساعِدونَك على عَيْشِ الرَحمة؟ أي كيفَ هي علاقتُك بالأطفالِ والمسنين والمرضى؟ هل تعرفُ كيفَ تعطِفُ عليهِمْ أم أنَنا نَخْجَلُ من الاقترابِ مِنْهُم؟
في خلال لقاء البابا فرنسيس بكَهَنةِ روما يقول: لا تَخْجَلْ من “جَسَدِ” أخيكَ، لأنَّنا في النهايةِ سنُحاسَبُ على كيفيةِ اقترابِنا من كلِّ أخٍ لنا وتَعَامُلنا معه. فالكاهنُ والَّلاوي مَرّا قبل السامريّ الصالح بذلكَ الرَجُلِ الذي ضَرَبَهُ الّلصوصُ وتَركوه على قارعةِ الطريق ولكنَّهما لم يعرفا كيف يقتربانِ مِنْهُ. لقد كان قلبُهُما مُغْلَقًا أمّا ذلكَ السامريُّ فقد فَتَحَ قلبَه وتحركتْ أحشاؤُهُ وتَحوَّلَتْ هذه الشفقةُ الداخليةُ إلى عَملٍ خارجيّ وتَدَخُلٍ مَلموسٍ وفَعّالٍ لمساعدةِ ذلكَ الرَجُل. وفي نهايةِ الأزمانِ وحدَه الذي لم يَخْجَلْ من “جَسَدِ” أخيه المجروحِ والمُهَمَّش سَيَتَمَكَنُ من تأمُّلِ جَسَدِ المسيح الممجّد!.
ثالثاً: التواضع
في عالمِ اليومِ الذي يُعزِّز الكِبْرياءَ والغُرورَ وينمِّي الفَرديَّة بواسطةِ التسويقِ والدِّعاياتِ التي تدعو إلى المظاهرِ ووسائلِ التواصلِ الإجتماعيّ والموضة التي تدفع إلى الأضواءِ والشُهْرَةِ، يَدعونا يسوعُ أكثرَ من أيِ وقتٍ للتعلُّمِ منهُ الوداعةَ وتواضُعَ القلبِ وهو مَنْطقٌ يَسيرُ بعكسِ إتّجاه العالم.
يدعونا يسوعُ دائماً للتَشَبُّهِ بِهِ وهَذه هِيَ دعوةُ الله للإنسانِ لإستعادةِ صورَتهِ البهيَّةِ التي شوَّهَتْها الخطيئة. وخطيئةُ الكبرياءِ هِيَ أمُّ الخطايا وأصْلُ كلِّ شرّ. الكبرياءُ هو سببُ السقوطِ، وهوَ عندما نَسْتَبْدِلُ مشيئةَ اللهِ بمَشيئتِنا ونَضَعُ أنْفُسَنا مكانَ الله ومن الكبرياءِ تأتي كلُّ الخَطايا.
لم يَخجَلْ المسيحُ من أن يَضَعَ ذاتَه كخادِمٍ (يوحنا 13: 1-16)، حتى المَوْتِ على الصليبْ (فيلبي 2: 8). وفي إتّضاعِهِ، كان دائماً مُطيعاً للآب، الإتضاعُ الحقيقيُ يُنْتِجُ تقوىً وقناعةً وطُمَأنينَة.
لَقدْ وعدَ اللهُ أن يُعطيَ المُتَضِعينَ نِعمةً، (أمثال 3: 34؛ بطرس الأولى 5: 5). إنْ كُنَّا نُمَجِّدَ أنفسَنا، فإننا نُقاومُ اللهَ، ولكنْ إنْ كُنا نتّضِع، يَمنحُنا اللهُ المزيدَ من النعمة (لوقا 14: 11). بالإضافةِ إلى المسيحِ، نَجِدُ مثالاً للإتّضاعِ في الرَّسولِ بولس. فبالرُغمِ من المواهبِ العظيمةِ التي أعْطاهُ إياها الربّ، إلاّ أنَّ بولس رأى نفسه أنه “أَصْغَرُ الرُّسُلِ” وأيضاً “أولُ الخَطأة” (كورنثوس الأولى 15: 9؛ تيموثاوس الأولى 1: 15). ومثلُ بولس، فإنَّ المتواضِعَ الحقيقيَّ سَوْفَ يُمجَّد من خلالِ نعمةِ الله والصليب، وليس من خلال بِرِّه الذاتيّ (فيلبي 3: 3-9).
إنّ اللهَ متواضِعٌ، ويسوعَ إبنَ الله وصورتَهُ يَعكسُ لنا هذا التواضُعَ وهو على ما يقولُ مار بولس “لم يَحْسِبْ مساواتَه للهِ غنيمةً بل أخلى ذاتَه آخذاً صورةَ العَبْد”. يسوع يَدعونا للإقتداءِ بهِ بإخلاءِ ذاتِنا والإمتلاءِ مِنَ الله.
إنَّ يسوعَ عندما عاشَ على أرضِنا تميَّزَ بتواضعِهِ الفائقِ وذلكَ من خلال:
تركيزِه على مشيئةِ الآب لا على مشيئتِه.
تركيزِه على غَيرِه وليس على ذاتِه.
تركيزِه على الخِدمةِ وهو قد جاء ليَخدُمَ لا ليُخْدَم.
وبتواضُعِهِ يتَجلّى حبُّه لنا، إنّ المحبَّةَ لا تتكبَّرُ ولا تَنتفِخُ كما قال مار بولس، لا محبَّةَ حقيقيةَ من دونِ تواضُع. إنّ المتكبِّرَ يَضَعُ الأقنعةَ لإخفاءِ داخلِه ليَظهرَ بمظهرِ القويِّ الذي يؤثِّر بمَن حَوْلَه من خلالِ صورةٍ يُظهِرُها لخداعِ النّاسِ وجَذْبِهِم إليهِ ليجعلَ من نَفْسهِ محوَرَ إهتمامِ النّاسِ ومَرْجِعَهُم لخِدمتِه. أمّا المتواضعُ فهوَ الذي يَظهر على حالِه كما هو بشفافية، قابلاً لذاتِه، قانعاً بوَزْناتِه عاملاً بها كما هي لتحقيقِ مشيئةِ الله معتبراً اللهَ هوَ المِحوَرُ والمَرجِعُ وليسَ هوَ.
وإذا تأمَّلْنا بالمسيح المصلوبِ نرى أنَّ قوَّةَ اللهِ كانت مَخفيَّةً على الصليبِ بالمسيح المتألِّم. فقوّةُ اللهِ بمحبّتِهِ المختبئة بِصورةِ الضعف.
فالوداعةُ والتواضُعُ إذاً ليسا ضُعفاً بل هُما قوَّةُ الله وهذا هو مَنْطِقُ الصليب.
“فَمَنْطِقُ الصليبِ للهالكينَ جَهالةٌ أمَّا لنا فهو قوَّةُ الله”. من رَفَع نَفْسَهُ وُضِع ومن وَضَع نفسَه ارتَفَعْ … كلُّ جَبلٍ يَنخفضُ وكلُّ وادٍ يَرتفعُ … هذا هو منطقُ الله الذي يَدعونا لنتواضَعَ، ولِنكونَ العظماءَ في ملكوتِ السماوات.
إخوَتي:
شهاداتٌ حَيَّةٌ عدّةٌ عاشَها كثيرٌ مِنَ الباباواتِ والقدّيسينَ، حَمَلُوا صليبَهم نحوَ القيامةِ مع المسيح.
إذا توَقَّفنا لحظةً عند تعبيرِ “حَمْلِ آلامِ الصليبِ بفَرَحٍ” نلمُس عُمقَ الصليب في حياة كلٍ منّا، ونسألْ: كيف لنا أن نتألمَ بفرح؟ نفهَمُ الفرحَ هنا، بأنه ليسَ بوجودِ ألمٍ أو مرض. الفرحُ بلقاءِ المسيحِ بعدَ مسيرةِ الألمِ على الأرضِ وحَمْلِ الصليبِ بصَبرٍ وتأنٍّ. لعلَّ هذا التعبيرَ أصدقُ الكلامِ عن الصليبِ في حياتِنا وكيفيةِ التعايشِ مَعَهْ.
إنَّنا إذْ نَجِدُ في حياةِ الكنيسةِ الكثيرَ من القديسينَ الذين تَأَلموا وحَمَلوا الصليبَ بصَبرٍ لا مثيلَ له، فارتضَوا أن يكونوا رفقَاءَ المرضِ وليس العكس، عانوا وتألَّموا وقدَّموا كلَّ عذابِهمْ للمسيح.
كلُّ هذا دليلٌ على أنَّ الصليبَ على الأرضِ، خَلاصٌ مع المسيحِ في السماء. إنّنا إذ نتأمّل صليبَ الآخَرَ، نَحمِلُ صليبَنا في كلّ لحظةٍ ونتبَعُ يسوعَ المسيح إلى القيامة.
آبائي:
قد يَتجلّى الصليبُ في موقفٍ لا قدرةَ لنا على تجاوُزِه، وقد يتجلّى الصليبُ في وَطنٍ لم يَحِنْ أوانُ قيامته، قد يتَجلّى الصليبُ في كوارِثَ طبيعيةٍ لا قدرةَ لنا على مقاومَتِها، قد يتجلّى في مرضٍ نفسيٍّ أم جسديٍّ لا شِفاءَ منه، قد يتجلّى الصليبُ في شخصٍ ولكن مهما تعدَّدتْ أوجه الصليب، فإنّ نهايتَه في قيامةٍ عاشها يسوعُ المسيح بعد آلامِه، وها نحنُ في بدايةِ زمنِ الصَوْمِ، نَتَطلّعُ إلى قيامةٍ فيها نهايةُ ما نعيشُ في يوميّاتنا ومُجْمَلِ حياتِنا، قيامةٍ، فيها لقاءٌ مع الربِّ يسوع حيثُ لا عذابَ ولا ألمَ، قيامةٍ، نَنتظِرُها مع كلِّ صَرخةٍ من قَلبٍ يائسٍ موجوعٍ يَعيشُ على الرجاءِ، ويَتَرقَّبُ بِلَهْفَةٍ ما يُنهي دَرْبًا من المعاناةِ تُرجِمَ صليباً.
فالمسيح مَنْ تألّمَ على الصّليبِ حتّى يلِدَ الحياةَ الجديدةَ لبشريّةٍ مُتَجدِّدةٍ على الدّوامِ محوِّلاً فيها حياةَ الحُزنِ إلى الفرحِ والكآبةَ إلى أملٍ واليأسَ إلى رجاءٍ والخطيئةَ إلى نعمةٍ والموتَ إلى حياة.
فالحياةُ دربٌ طويلٌ مليءٌ بالمتناقُضاتِ وهذا الدّربُ يُشبِهُ دربَ الصّليبِ ومراحِلَهُ وعلى قَدْرِ ما نَسْلِكُ الدّربَ بأمانةٍ نستَحِقُّ الحياةَ ونَقفُ أمامَ اللهِ بكلِّ فخرٍ واعتزازٍ، لا لأجلِ مراكزَ حُزْنا عليها ولا أموالَ جمعْناها أو كدَّسناها ولا لأجلِ شهاداتٍ ولا لإنجازاتٍ إنّما لأجلِ أنّنا حَمَلْنا الصّليبَ بحبٍّ وفرحٍ لغفرانٍ ومحبّةٍ وحياةٍ ومُصالحةٍ وخلاصْ.
في خُلاصةٍ لمَوضوعِنا اليوم، فإنَّ الصليبَ نَعيشُهُ دائماً، ويَتَطلّبُ منّا ذلكَ قُدرةً كبيرةً على الصَّبرِ والتَحمُّلِ لأنَّ القيامةَ آتيةٌ بِقُوّة الربّ يسوع الذي قام من الموت والآلام وأعطانا حياةً جديدةً، آمين.