Almanara Magazine

من هو البطريرك الذي اعتقله المماليك في الحدث سنة 1283؟

الأب اغناطيوس سعاده م.ل

مقدمة

مع نهايات القرن الثالث عشر وبدايات الرابع عشر، أخذت تنقشع، تدريجيًّا، الغمامة السوداء التي عتّمت على أحوال الموارنة منذ عصورهم الأولى، وبدأت تنجلي ملامح وجههم، ككنيسة وكأمّة، بظهور كتابات خطيّة كشفت، وإن بصورة غير مكتملة، عن هذه الحقبة المارونيّة المديدة. كما ضُبطت منذئذ، بشكل شبه نهائي، سلسلة البطاركة والأساقفة، بالأسماء والتواريخ والأمكنة، ودُوّن الكثير من الأحداث التي تفاعلوا معها، في أعقاب انكفاء الصليبيّين واستتباب الأمر لدولة المماليك في لبنان وسوريا.

في هذا الإطار التاريخي والجغرافي، يندرج بحثنا حول الحادثة التي جرت، سنة 1283، في معقل الموارنة في حدث الجبة وجوارها، وفيها اعتقل بطريرك مقاوم بُخل علينا المؤرّخون القدامى باسمه؛ وحول اكتشاف بطريرك آخر معاصر كان له أثر بالغ في مسار الأوضاع التي رافقت تلك الحادثة.

1- شهادة مؤرّخ المماليك

إنّ أوّل من دوّن قصة اعتقال بطريرك في الحدث هو محيي الدين بن عبد الظاهر، مرافق السلطان قلاوون ومؤرّخ حروبه. ففي فصل مقتضب بعنوان: «ذكر إمساك بطرك الحدث في بلاد طرابلس». يصف المؤرّخ المملوكي المصري شخصيّة هذا الحبر المتحصن على رأس رجاله حتى إلقاء القبض عليه وانتهاء أمره. قال:

___________________________

* مجلة «المنارة» 1994

«اتفق أنّ في بلاد طرابلس بطركاً عتا وتجبّر واستطال وتكبّر. وأخاف صاحب طرابلس وجميع الفرنجة. واستغوى أهل تلك الجبال وأهل تلك الأهوية من ذوي الضلال. واستمرّ أمره حتى خافه كلّ مجاور، وتحصّن في الحدث وشمخ بأنفه. وما قدر أحد على التحيل عليه من بين يديه ولا من خلفه، ولولا خوفه من سطوة مولانا السلطان خرّب تلك البلاد وفعل أو كاد. فاتفق أنّ النواب ترصّدوه مرارًا فما وجدوه. فقصده التركمان في مكان وتحيّلوا عليه حتى أمسكوه وأحضروه أسيرًا حسيرًا. وكان من دهاة الكفر وطواغيهم. واستراح المسلمون منه وأمنوا شرّه. وكان إمساكه فتوحًا عظيمًا أعظم من افتتاح حصن أو قلعة. وكفى الله مكره([1]).

لا يأتي المؤرّخ على ذكر اجتياح جبّة بشري وتخريب احدث أو غيرها، بل يركّز على أسر بطريرك فيها دون ذكر اسمه أو طائفته؛ ومن المحتمل أنّه شاهده عندما أحضروه أسيرًا إلى دمشق – على وجه الترجيح -، فيسمّيه «بطرك الحدث». إلاّ أنّه يصفه بتعابير تتمّ عن قوّة شخصيّته التي أحكمت سيطرتها على المنطقة وصدّت جيوش بوهيمون السابع أمير الصليبيّين في طرابلس، وعن الكراهية لديانته، والشماتة به وبأفاعيله التي وضع حدًّا لها السلطان قلاوون بإرساله فرقة من التركمان تمكّنت، بعد محاولات عديدة من قِبَل نوابه، من أخذه بالحيلة. ولم يكن ذلك «هديّة» منهم للأمير الصليبي بل «رسالة» إليه وإنذار له، إذ بذلك خلت الساحة للمماليك للتحكم بالمنطقة العليا وتضييق الطوق على أعدائهم للانقضاض عليهم من الجبال في الوقت المناسب.

وتوحي تعابيره بأنّ الأمر حصل بعد سقوط الحدث بقليل وانهزام البطريرك مع عدد من رجاله إلى مكان حصين قد يكون في أحد الجبال أو المغاور المجاورة، وبأنّهم قضوا عليه بعد احضاره أمام السلطان حاسر الرأس إمعانًا في اذلال كرامته. غير أنّه لم يُفدنا بشيء عمّا جرى لجماعته من قبله ومن بعده.

فالمراجع الأخرى التي تعود إليها، في سياق هذه الدراسة، تكشف لنا، بكثير من التفاصيل، عن واقعة الحال، بالزمان والمكان، لتلك الحادثة المهولة وما سبقها، والتي كُتب حولها الكثير فاختلط فيها الواقع بالأسطورة والصحيح بالشَطَط.

2– بين ابن القلاعي والبطريرك الدويهي

يُعتبر المطران جبرائيل ابن القلاعي (+ 1516) أوّل مؤرّخ للموارنة، وذلك في «الزجليات» المشهورة، وأخصّها «المديحة على جبل لبنان» التي يقول في نهايتها أنّ رواية أخبارها «من التواريخ اتُخذت». ففي بعض الأبيات يتحدث عن بدعة سقط فيها اثنان من الرهبان، وعصيانهما السلطات المارونيّة الشرعيّة. ويذكر اسم بطريرك تورّط، هو أيضًا، في الهرطقة ورفض استقبال موفدي البابا، فرشقوه بالحرم مع جماعته. واغتنم السلطان المملوكي المناسبة، فأمر قادة عساكره بالزحف على المنطقة؛ فكان ذلك انتقامًا لله من الذين زاغوا من إيمان أجدادهم القويم. يقول:

«… سمع البابا بعصاوتهم                       وأرسل قصّاد توعظهم

البطرك ليس راد يقبلهم                         وكان اسمه لوقا من بنهران…

سمع بذلك السلطان برقوق                       وانفتح له باب مغلوق

أرسل العساكر تحت وفوق                       تحاصر في جبل لبنان…

أتى الواعظ بوعظهم                         ولا واحد خضع منهم

أرسل البابا وحرمهم                        واشتعلت فيهم النيران

وأما برقوق ملك الظاهر                 كتب للنواب والعساكر

جملة تركب وتحاصر                     وتنفق من مال السلطان»([2])

 لنا عودة مطوّلة إلى لوقا البنهراني هذا والدور الذي قام به سواء على الصعيد الماروني العام أم على صعيد نكبة الحدث. أما السلطان الذي ذكره صاحب «المديحة» فهو قلاوون وليس برقوق؛ فهذا الأخير عاش بعد سلفه بمائة سنة. والمعروف عن ابن القلاعي أنّه غالبًا ما يخلط بين الأشخاص والتواريخ التي تضيع في ذاكرته أمام الغاية التي يقصدها، وهي الدفاع عن إيمان الأجداد من خلال القالب الشعري العامّي الذي يسكب فيه أحداث الماضي ومرويته.

أما البطريرك اسطفان الدويهي (+ 1704)، الذي حرص على تدوين كلّ شاردة وواردة وصلت إليها يده، بدقّه وأمانة، فقد سجّل الحادثة وما سبقها ورافقها وتبعها من حملات عسكريّة مدمّرة، برجوعه إلى مخطوطة حُرّرت في تلك السنة بالذات. كتب الدويهي بالحرف الكرشوني:

«سنة أرفج [1283] مسيحيّة، وأنصد [1594] يونانيّة، إنّه في شهر حزيران سارت العساكر الإسلاميّة إلى فتح جبّة بشري، فقصدوا وادي حيرونا إلى جهة إهدن، كما هو محرّر في الشحيمة التي بدير مار آبون وانكتبت بهذه السنة بنفسها في قطين الرواديف التي تحت مزرعة الحدث. فحاصر العساكر اهدن حصارًا شديدًا في نهار الأربعين [أي أربعين نهارًا] بشهر حزيران. فملكوها ونهبوا وقتلوا وسبوا ودكّوا إلى الأرض القلعة التي كانت على الجبل الذي في وسط اهدن وهدموا الحصن الذي كان على الجبل العالي. ثمّ انتقلوا إلى بقوفا ففتحوها في شهر تموز وقبضوا على أعيانها وأحرقوهم كلّهم بالبيوت. وبعدما نهبوا وسلبوا أهلها دكّوها إلى الأرض. وفي 22 من شهر عاب [آب] انتقلوا إلى الحدث، فدخلوا [دخل] أهلها إلى العاصي وهي مغارة عميقة منيعة، فثبت عليها الحصار مدّة سبع سنين [؟]، ثمّ في الأمان تسلّموا [استسلم] أهلها، فأحرقوا اماراتها [عماراتها؟] بالنار وقتلوا وسبوا النساء والعذارى [الكلمة الأخيرة مشطوبة] والدراري [؟]. وذلك ما هو مؤرّخ في الشحيمة التي انكتبت في هذه السنة. وكان قاطن بدير مار يوحنا المعروف بمار آبون المطران إبراهيم الحدثي. وفي الشحيمة التي انتسخت عن المذكورة أعلاه سنة أفيه [1815] يونانيّة [1504] مسيحيّة… والشحيمتَين بعدهما محفوظتان في دير مار آبون المذكور. وقيل أنّ البرج الذي كان في حوقا عجز الجيش عن أخذه، فأشار عليهم ابن الصبحا من كفرسغاب بجرّ نبع بشرايّ وتركيبه عليه، فملكوه بقوّة الماء ودكّوه إلى الأرض»([3]).

وجاء في نسخة أخرى للمخطوطة عينها أنّ العساكر أغاروا أيضًا على حصرون وكفرسارون، فشمل القتل التدمير ستّ قرى من منطقة الجبّة. فيضيف:

«… وبعدما ضربوا بالسيف أهالي حصرون وكفرسارون في الكنيسة توجّهوا في الإثنين وعشرين من شهر آب إلى الحدث. فهرب أهلها إلى العاصي وهي مغارة منيعة فيها صهريج للماء، فقتلوا الذين لحقوهم وخرّبوا الحدث وبنوا برجًا قبال المغارة وأبقوا فيه عسكر يكمن عليهم ثمّ هدموا جميع الأماكن العاصية»([4]).

إنّ الكتابة التي عُلّقت على إحدى أوراق الشحيمة الأخرى في تلك الأيام بالذات، والتي أخذ عنها الدويهي – وهي اليوم مفقودة مع الشحية الأخرى التي انتسخت عنها –، لم تأتِ على ذكر بطريرك تحصّن في الحدث وحوصر وأُسر واختفى أمره، بل عن شعب التجأ إلى مغارة. فالنص لا يوحي بمقاومة ودفاع، بل بهروب وانسحاب. كما أنّه يذكر اسم المطران إبراهيم من الحدث الذي كان مقيمًا يومها في الدير، وقد شهد عن قرب مجزرة أهله وذويه، وفي رأي الدويهي أنّه هو صاحب التعليق على الشحيمة الأولى. وذلك ما يحمل على الاعتقاد بأنّ اعتقال البطريرك حصل بدون معركة، أي «بالتحيّل» والمباغتة، بعد تدمير البلدة وقتل أبنائها واحتماء عدد منهم في مغارة العاصي؛ بنوع أنّه لم يعرف به أحد في تلك الآونة المشحونة بالمآسي والموت الجماعي.

وهناك خطأ حسابي وقع فيه الدويهي – ربّما عن زلة قلم – عاد فحذفه في بعض النسخ، وهو أنّ حصار المغارة «ثبت عليها مدّة سبع سنين»؛ ولعلّه يقصد سبعة أشهر أو بالأحرى سبعة أسابيع. إذ لا يُعقل أنّ صاحب الشحيمة «التي انكتبت بهذه السنة نفسها» (1283)، يتكلّم عن سبع سنين تواصلت بعد تاريخ الكتابة، فضلاً عن استحالة اتساع المغارة لكلّ أهالي البلدة واستمرار كلّ من المحاصَرين والمحاصِرين معًا طوال هذه السنوات السبع.

ومن لمستغرب أيضًا كيف أنّ الدويهي لم يطّلع، من مصادر أخرى على الأقلّ، على وجود بطريرك من سلفائه أُسر في تلك الأثناء، في حين أورد اسمه في عداد بطاركة الموارنة في تلك السنة بالذات، كما سنرى بعد قليل.

3- بطريركان أم ثلاثة؟

إنّ أول من اكتشف مخطوطة ابن عبد الظاهر في مكتبة باريس الوطنيّة هو الأب فيليب السمراني، سنة 1934، فنشر صورة بالزنكوغراف للنصّ المذكور أعلاه، وعلّق عليه مطوّلاً بأنّ البطريرك الأسير هو دانيال الحدشيتي([5]).

وتبعه في هذا الرأي معظم المؤرّخين الموارنة، إلى حدّ أنّ أحدهم، الخورأسقف يوسف داغر، تلاعب بالنصّ الأصلي، فنقل مقاطع من موضعها إلى موضع آخر، فقدّم فيه وأخّر، وحذف واضاف، ثمّ نسبه إلى مؤرّخ متأخر عن صاحبه أكثر من مائة سنة، هو ابن الحريري([6]). فقال عن لسانه، دون إعطاء المرجع:

«لم يتمكّن المماليك أن ينتزعوا طرابلس من أيدي الصليبيّين إلاّ بعد أن أجهزوا على حلفائهم الموارنة. عندئذٍ زحفت جيوشهم الجرارة في أوائل 1282 على بلاد الجبّة. فقاد رجال الدفاع بطريرك يُدعى دانيال من قرية حدشيت بنفسه. وأوقف جيوش المماليك أمام اهدن أربعين يوماً ولم يتمكّنوا منها إلاّ بعد أن أمسكوه بالحيلة… لقد تجبّر البطريرك الحدشيتي واستطال وتكبّر واستغوى أهل تلك الجبال وتحصّن فيها وشمخ بأنفه، فقصده التركمان واحتالوا عليه فأمسكوه…»[7].

فلو أنّ داغر، الذي كان مشتركًا في «المنارة» يومها، تمعّن جيدًا بمقال السمراني، لأدرك أقلّه الاسم الصحيح لصاحب النص، وأنّه لا يذكر اسم البطريرك ولا موطنه، ولا يقول أبدًا أنّ موارنة بلاد الجبّة كانوا حلفاء الصليبيّين وهم خصومهم الألدّاء، كما أنّه لا يشير إلى إيقاف جيوش المماليك أمام إهدن التي لم يحصل الزحف عليها في أوائل 1282، بل في حزيران من السنة التالية، وأن الحدث جوصرت ودمّرت في شهر آب، حسب إفادة الدويهي الذي اطّلع تمامًا على تاريخ ابن الحريري، وهو من أهم مصادره في «تاريخ الأزمنة»[8]؛ وهو لا يأتي فيه على ذكر دانيال الحدشيتي ولا على ذكر غيره من البطاركة.

وعرف كتاب داغر انتشارًا واسعًا في الأوساط المارونيّة. فتبنّى الأب بطرس ضو قوله عن ابن الحريري، وحدّد الحادثة في سنة سنة 1281[9]. وكذلك الأباتي بطرس فهد الذي أحال القارئ أيضًا إلى دراستين لشابين من حدشيت يصرّان فيهما على أنّ البطريرك المقاوم هو ابن بلدتهما[10]. وكذلك ذهب العديد من أصحاب المقالات والمحاضرات والخطب.

وهكذا دخل اسم البطريرك دانيال الحدشيتي التاريخ كرمز للمقاومة المارونيّة المسلّحة في وجه الغرباء المعتدين في كلّ زمان. والحقيقة هي أنّ هذا البطريرك أمضى حبريّته كلّها في دير سيدة إيليج في ميفوق يخدم كنيسته، كسلفائه الأحبار القدّيسين، بأعمال التقشّف والصلاة في قلاّيته المتواضعة المطلّة على بيت القربان في الكنيسة، ومات فيها شيخًا طاعنًا في السنّ قبل الاغارة على جبّة ببضعة أشهر. وقد ذكره الدويهي بعد وفاة البطريرك شمعون الثاني:

«ثمّ تولّى البطريركيّة دانيال من قرية حدشيت تابع بشراي.  وفي 1280 جاءه مكتوب التثبيت من البابا نقولا الثالث وأنّ الميرون يصير من زيت الزيتون ومن دهن البلسم لا غير، كما حرّر القس يوحنا الراهب من قرية حجولا في نهاية الكتاب عن تقديس الميرون: «وكان النجاز منه في سنة 1592 يونانية [1281 م]، بأيام الأب المختار البطريرك دانيال من حدشيت». وصورته إلى الآن في القرية المذكورة في كنيسة مار رومانوس. وفي سنة 1283 سار سيف الدين قلاوون في عسكر الإسلام إلى افتتاح جبة بشراي، فملكها بالسيف واشتغلت قلوب أهلها في الحرب والخسائر، فتغلّب لوقا من بنهران التي في ذيل الجبة على البطركية بعد دانيال»[11].

والملفت هنا أنّ الدويهي يستعمل تعبيرًا لم يألفه من قبل، بقوله عن لوقا أنّه «تغلّب على البطركية»، في حين يستعمل، بالنسبة إلى سائر البطاركة، تعابير عادية مثل: تولّى، تخلّف، استخلف، اعتقب، صُيّر، وقعت القرعة على، وغيرها، مما يوحي بأنّه عرف، بصورة غامضة، أنّ شيئًا ما غيرَ طبيعي حصل بعد وفاة الحدشيتي أوصل لوقا إلى البطريركيّة.

ويبرز اسم بطريرك ثالث في تلك الآونة لم يهتدِ إليه الدويهي، وهو يلقي أضواء جديدة على التاريخ الماروني في تلك الأزمنة من الاضطرابات الدينيّة والسياسيّة والعسكريّة. غير أنّ اكتشافه، منذ سنة 1742، لم يُعره أحد اي اهتمام، وذلك لالتباس وقع عند مكتشفه في تحديد هويّة هذا البطريرك وزمنه. واستمرّ ذلك حتى سنة 1921، حيث توضّحت الأمور على حقيقتها.

وبالواقع، فقد عثر المطران اسطفان عواد السمعاني، في المكتبة المادينشيّة في فلورنسا، على إنجيل خطّي مزيّن برسوم دينيّة، يعود إلى سنة 586 وعُرف باسم «إنجيل رابولا»، عليه اسم البطريرك إرميا من قرية دملصا في وسط بلاد جبيل، وقد علّق على إحدى أوراقه بخطّ يده، باللغة السريانيّة، تاريخ رسامته الأسقفيّة، وظروف انتخابه بطريركًا، وسفره إلى روما في أعقاب هذا الانتخاب. يقول البطريرك الدملصاوي ما ترجمته:

«في سنة 1590 يونانيّة [1279 م.]، في اليوم التاسع من شهر شباط، أتيت أنا الحقير إرميا من قرية دملصا المباركة إلى دير سيدتنا القديسة مريم بميفوق في وادي إيليج من بلاد البترون إلى السيد بطرس [دانيال بطرس الحدشيتي] بطريرك الموارنة، ورسمني بيديه المقدّستين مطرانًا على دير كفتون المقدّس القائم على ضفة النهر، وبقيت هناك أربع سنوات بأيام الرهبان سكان الدير، وهم (…) وبعد انقضاء السنوات الأربع طلبني أمير جبيل والأساقفة ورؤساء الكهنة، وألقوا القرعة، فأصابتني وصيّروني بطريكًا في دير حالات المقدّس، ثمّ أرسلوني إلى روما المدينة العظمى، وتركت أخانا المطران تادروس يدبّر الرعية ويسهر عليها»[12]

والإنجيل المذكور كان يومها في دير إيليج، حيث انتقل البطريرك إرميا ودوّن هذه الافادة للتاريخ. وبعد تنقلات عديدة، استقرّ المخطوط في فلورنسا، وهو يحمل الرقم واحد في فهرس مخطوطات مكتبتها[13]. أما المطران عواد السمعاني، على رجاحة علمه، فقد أشكل عليه الاسم، فظنّه إرميا العمشيتي، لتجاور القريتين دملصا وعمشيت. ولمّا اصطدم بالتواريخ المتباينة، عمد إلى تصحيحها في الحاشية، فأنقصها مائة سنة لتُوافق زمان العمشيتي، فشوّه التاريخين معًا: فسنة 1590 لليونان جعلها 1490، وسنة 1279 للميلاد صارت 1179؛ وهذا لا يصحّ حتى في العمشيتي الذي دخل روما سنة 1215 لحضور المجمع اللاتراني الرابع.

فتنبّه للخطأ الأباتي طوبيا العنيسي، فميّز بين البطريركين اللذين يفصل بين سفر كلّ منهما إلى روما 67 سنة؛ وبذلك صوّب الخطأ الذي وقع فيه مكتشف المخطوطة، كما وقع فيه ابن القلاعي قبله بمائتين وخمسين سنة. وأدرج اسم إرميا الثاني في «لائحته» باللاتينيّة[14]، وأسقط اسم لوقا النهراني نهائيًّا من سلسلة بطاركة الموارنة. ثمّ وضع اسم شمعون الثالث خلفًا لإرميا الثاني الذي توفي سنة 1297، بعد أن شهد أفول نجم دولة الصليبيّين في الشرق بسقوط عكّا بيد المماليك سنة 1291.

لماذا أُرسل البطريرك إرميا إلى روما عقب انتخابه؟ يبدو أنّ هناك أمرًا خطيرًا قد حصل، فاستدعى ذهابه على الفور لمقابلة البابا مرتينوس الرابع، لم يفصح عنه البطريرك بما علّقه باقتضاب كلّي على الإنجيل، حيث سجّل تاريخ أسقفيّته باليوم والشهر والسنة، واكتفى، بالنسبة إلى بطريركيّته وسفره، بالإشارة إلى «أربع سنوات» بعدها، قد تكون ناقصة شهرين أو ثلاثة، ودون أن يذكر شيئًا عن سلفه دانيال وتاريخ وفاته.

ماذا حصل للموارنة في تلك السنة؟

من الصعب معرفة ما إذا كان انتخاب إرميا في حالات قد جرى رأسًا بعد وفاة الحدشيتي في ميفوق، فسارع لوقا إلى إعلان ذاته بطريركًا ضدّه في الحدث، أم العكس هو الصحيح. فالمراجع صامتة حول هذا الموضوع. وإنّما يُفهم من كلام ابن القلاعي – وهو يخلط بين بطريركيَن يحملان الاسم نفسه -، أنّ إرميا كان مضطهدًا من شعبه، أي أنّ هناك جماعة من أبناء كنيسته أعلنت العصيان والانشقاق، فسقطت في الحرم الكبير المحفوظ الحلّ منه لرئيس الكنيسة الجامعة في روما. وتدعيمًا لسلطته الشرعية المهدّدة، فهو يحتاج إلى اعتراف الحبر الأعظم به وتثبيته في مقامه. فتصفه «الزجليّة-المديحة» في لوحة مؤثّرة وهو يشدّ الرحال في الليل على متن مركب للصليبيّين مع شمّاسه، بزيّ شحاذ شبه عريان وحافي القدمين، في حضنه الإنجيل وكتاب صلاة الفرض. وما ان دخل على البابا، وهو على هذه الحال من البؤس والقهر، حتى عرفه القصّاد الذين التقوه في لبنان للعمل على هداية المنشقّين العصاة.

«… سافر البطرك بهاك الليل             لا لابس ولا راكب خيل

ولا ودّع من تلك الجيل                   ولا وصّى له في إنسان

شماس كان معه من هابيل         وفي حضنه كتاب الإنجيل

وشحيم صغير لخفّ التحميل             تراه الناس حافي عريان

دخل لرومية بزيّ شحاد                   وخاطب البابا والأسياد

عرفونه تلك القصاد                       وقالوا بطرك جبل لبنان

وبكي البابا لمن نظره                      ونزع غفّارتو وستره

وسأله من أين خطره                     ومن مين تشلّح وهو عريان»[15]

فأخرج البطريرك من جبّته الرثّة كتاب الإنجيل وقال للبابا إنّ ما حلّ به هو بسبب امانته لهذا الكتاب، واعلن خضوع شعبه لقداسته. فتأثّر الحبر الأعظم حتى البكاء، ثم حضر قدّاسه ليتأكّد من صدق إيمانه، فشاهد «شيلة» القربان تقف في الهواء فوق رأس البطريرك أثناء رفعة الأسرار؛ فأمر بانزالها حالاً، فنزلت واستقرّت على المذبح.

هذه الأعجوبة التي يذكر البطريرك الدويهي أنّه، أثناء دراسته في روما، شاهد لوحتها الزيتيّة فيها، على أنّها لإرميا العمشيتي، يُستدل من رواية ابن القلاعي أنّها لإرميا الدملصاوي. ذلك أنّ الدويهي لم يعرف أصلاً بهذا البطريرك الذي سافر هو الآخر إلى روما بعد سمّيه وسَلَفه بسبع وستين سنة. والله أعلم.

ولم تدم زيارته للأعتاب الرسوليّة طويلاً. فالوثيقة التاريخيّة الأخرى التي تعود إلى أواخر شباط 1283، ترينا إياه شاهدًا مع إثنين من أساقفته، في حصن أنفه، على حادثة حصلت بين خلفائه الصليبيّين:

كان الخلاف قد استحكم بين أمراء الفرنجة على الساحل. فأقدم بوهيمون السابع أمير أنطاكيّة وطرابلس على خلع غي الثاني لامبرياك أمير جبيل. فعمد غيّوم دي بوجو، المعلّم الأعظم لجمعيّة الهيكليّين إلى تحريض هذا الأخير على الاستيلاء على طرابلس ووعدَه بالمساعدات العسكريّة. ففشل غي في ثلاث محاولات بسبب خيانة الهيكليّين له؛ فاعتُقل واعترف أمام الكاتب العدل للكنيسة الرومانيّة بتفاصيل كلّ ما جرى، وذلك بحضور عدد كبير من الشهود، بينهم «الأب المكرّم الأخ إرميا بطريرك الموارنة، ورفيقاه الأخ يوحنا مطران رشعين، والأخ إبراهيم مطران مدينة عرقا»، وقد حُرّر هذا «الاقرار» في «حصن أنفه من قومسيّة طرابلس بتاريخ 27 شباط 1282 للتجسّد»[16].

ويلاحَظ أنّ التأريخ المذكور إنّما يعود غلى التقويم المعتمد رسميًّا في ذلك العصر عند الصليبيّين حيث كانت السنة تبدأ في 25 آذار. فيكون، حسب التقويم الشرقي، في 27 شباط 1283، قبل البدء بغزوة الجبّة بحوالي ثلاثة أشهر. وعلى ضوء نصّ هذا «الاقرار»، نفهم أنّ أمير جبيل الذي دعا إلى انتخاب البطريرك إرميا في حالات إنّما هو بوهيمون السابع، أمير أنطاكية وطرابلس، وقد بسط ولايته عل جبيل، بعد اعتقال أميرها غي الثاني لامبرياك واقتياده إلى جهات طرابلس.

4- لغز البطريرك لوقا البنهراني

نكاد لا نعرف شيئًا ثابتًا عن هويّة هذا الحبر الذي أزعج الفرنجة والمسلمين معًا في منطقة بشري، وأحدث انشقاقًا في صفوف الكنيسة المارونيّة. وقد احتار في أمره الباحثون القدامى والمتأخرون، فذهبوا فيه كلّ مذهب: فالبطريرك ارميا الدملصاوي، وهو الوحيد الذي يملك كلّ الحقيقة عن أمره، يصمت عن أية إشارة إليه في مخطوطة رابولا. وابن عبد الظاهر، الذي يسمّيه «بطرك الحدث»، يقذفه بأبشع النعوت؛ وكلامه عن «كفره، وطواغيه، وضلاله، وشرّه، ومكره»، إنّما هو من قاموس أدب المشاحنات الدينيّة بين المسلمين والمسيحيّين في تلك العصور.

وابن القلاعي، وهو أول من ذكر اسمه كاملاً، لا ينكر عليه مارونيّته، بل يدّعي عليه بالهرطقة والانشقاق، وبالتسبّب في اجتياح منطقة مارونيّة بكاملها وتخريبها. أما البطريرك اسطفان الدويهي فارتبك بأمره كثيرًا، وإفاداته فيه مترجرجة. فهو، فيما يؤكّد في كتاب «السلسلة» أنه استولى على البطريركيّة بالتغلّب، في زمن محدّد ومعروف، نراه، في كتاب آخر، يقول: «انّ البطاركة مثل لوقا من بنهران والبطرك جبرائيل من حجولا ونظرائهما بتلك السنين ما استطعنا أن نقف لهم على خبر في كتاب ولا نعرف بأيّة سنة كانوا لعدم وجود تاريخ وانشغال الناس في تلك الأيام بالحروب»[17].

وفي موضع ثالث يبرّئه من تهمة الهرطقة الابولينارية ومن السقوط في الحرم مع جماعته، ومن مسؤوليّة ما حدث في منطقة الجبّة على ما وصمه به ابن القلاعي، فيقول: «… من حيث يبان أنّ البطرك لوقا تبع بدعة ابوليناريس واعتقد أنّ اللاهوت عوض الروح العقليّة في السيد المخلّص، فانفتن البلاد بسببه وانقسم جوقين. وإذ لم يعتبروا، طعنهم البابا في الحرم، والملك الظاهر برقوق، لسوء أفعالهم، أرسل النواب والعساكر تستعبدهم وتحرق بلادهم…»[18]؛ «… فان هذه البدعة لم تنشأ في بلاد الشام ولا تمسّكت بها طائفة فيها… وأما البطرك لوقا فما كان في زمان أمن وسلام حتى يصحّ القول أنّه استنبط آراء جديدة. وعلى فرض أنّه قال هذا، فلم يقلّه عن معرفة»[19].

هذا التقلّب في إفادة الدويهي إنّما مردّه التطوّر المستمرّ الذي كان يحصل في تفكيره التاريخي بمقدار ما كانت تقع يده على مستندات جديدة تحمله على تعديل رأيه بين كتاب وآخر، ذلك بعد أن تكون مصنفاته المخطوطة قد أخذت طريقها إلى الانتشار على أيدي النسّاخ الكُثُر على ايامه؛ فلم يعد بإمكانه استعادتها لمراجعة النصوص فيها، فبقيت على ما هي عليه دون تصحيح. من هنا التناقض الظاهر في النصوص المدوّنة.

أما العلاّمة يوسف السمعاني فكتب في مطلع شبابه عن البطريرك دانيال، وبعده عن لوقا نفسه، وفيه الكثير من المغالطات التاريخيّة. قال: «في عصره سيف الدين قلاوون افتتح جبّة بشري. وسنة 1286 صُيّر لوقا من بنهران التي عند ذيل الجبّة. وقام 11 سنة، فأودعوا [ادّعوا] عليه البعض أنّه تبع بدعة ابولناريوس وتيقّن بأنّ اللاهوت كان بمقام النفس العقليّة في السيد المسيح. وقيل أنّه انحطّ عن كرسيه بأمر البابا ألكسندروس ولكن هذا لا اصل له، كما يبيّن واضحًا مار اسطفانوس الدويهي بطريرك أنطاكية. فمات سنة 1297، ثمّ استخلفه سمعان»[20].

أما المؤرّخون المتأخّرون فمعظمهم نقل كلام الدويهي بحرفيّته، ومنهم من أنكر وجوده أصلاً وأنّه «لم يوجد إلاّ في مخيلة ابن القلاعي الخصيبة»[21]. ومنهم من حدّد زمانه في أواسط القرن الثاني عشر كمبتدع ومناهض للصليبيّين في أعقاب تفظيعهم بموارنة الجبال: «فاعتقلوا منهم، واقتادوهم مع نسائهم وأولادهم إلى طرابلس حيث أعدموهم. وكان ذلك منطلقًا لأزمة خطيرة انفجرت بين شطر كبير من الموارنة والفرنجة بلغت ذروتها بعصيان هذا الشطر على رومة، وعلى رأسه البطريرك لوقا البنهراني في جبّة بشري وذلك سنة 1145»[22].

وذهب أحدهم إلى أنّه كان حليف الصليبيّين، سنة 1180، وأنّه «حاول أن يغتصب السدّة البطريركيّة فلم ينجح»[23]. والبعض جعل منه، دون أن ينفي مارونيّته الأصليّة، داعيةً المشيئة الواحدة: «فقام الرؤساء والشعب عليه وعقدوا مجمعًا حطّوه فيه عن مقامه البطريركي، وأقاموا مكانه البطريرك جبرائيل حجولا سنة 1290»[24]. وغيرهم ذكر أنّه «أقام في إيليج بعد الحدشيتي»[25]. والبعض الآخر عيّن مكان اقامته «في بنهران شتاء، وفي سيدة ديرونا في بلاّ صيفًا، وفي الربيع كان يسكن في دير مار قوزما ودميانوس بجوار برحليون»[26].

وأخيرًا، ادّعى الكثيرون أنّه لم يكن من بطاركة الموارنة، بل هو أحد بطاركة اليعاقبة. غير أنّ تواريخ هذه الطائفة تردّ هذا الادّعاء، إذ لم يرد اسمه في لوائح أحبارها، وأنّ أحدًا من بطاركتها لم يُقم في لبنان؛ حتى أنّ نوح البقوفاوي، الذي كان مارونيّ الوالدين ثمّ اعتنق اليعقوبيّة وصار بطريركًا عليها (1493-1509)، أقام في دير الزعفران قرب ماردين، وهناك كتب قصيدة بالسريانيّة بعنوان: «حنين إلى جبل لبنان»، يتشوّق فيها إلى موطن أجداده وملاعب صباه، «إلى بلدي الحبيب الذي أهواه… عن يمين طرابلس فوق ذروة الجبل… إلى مسقط رأسي في بقوفا… وإلى قنوبين واهدن وأيطو»[27].

ويشتدّ اللغز غموضًا حول حياته السابقة وأعماله وتواريخها: ولادته، كهنوته، أسقفيّته، إضافةً إلى ملابسات اغتصابه المقام البطريركي، ودوافع تورّطه في معاندة الفرنجة والمسلمين وهم في حالة حرب مع بعضهم البعض، وأخيرًا كيفيّة نهايته بعد اسره وزمانها ومكانها بالضبط.

أما بلدته بنهران، الواقعة في الكورة بين بلدات بحبّوش ومتريت وبرحليون وعبدين، فهي اليوم مزرعة شيعيّة من أربعين منزلاً وفي وسطها دير قديم، وعلى أطرافها دير آخر على أراضٍ تخصّ البطريركيّة المارونيّة قد يكون أحدهما مركز كرسيه الأسقفي لا البطريركي؛ فالفترة الضيّقة جدًّا التي أمضاها كبطريرك لم تمكّنه، وهو يحرّض على المقاومة في الحدث، حتى من زيارة بلدته القريبة من مواقع خصومه الصليبيّين، على الساحل. وإنّ أهالي البلدة الشيعة يروون بالتواتر اسم ابن قريتهم هذا الذي مضى عليه أكثر من سبعمائة سنة.

أمّا بالنسبة إلى الدور الذي قام به على رأس المقاومة، فالقرائن تدلّ على أنّه لم يكن كلّ موارنة الجبّة مع لوقا، وأنّ مؤرّخ المماليك قد بالغ في إعطائه هذا الدور، وإلاّ لكانت دُمّرت المنطقة بكاملها في الاجتياح الذي حصل. فهناك أكثر من خمس عشرة قرية، بما فيها حدشيت مسقط رأس البطريرك دانيال، وبشري وكفرصغاب والمزارع المجاورة والمقابلة على كتفي وادي قنّوبين، وبنهران مسقط رأس لوقا؛ كلّ هذه البلدات بقيت خارج الصراع الماروني الداخلي، والسياسي العسكري مع الآخرين، فلم يتعرّض لها المماليك بأي أذى، ولم تشمل النكبة سوى ست قرى لا غير.

ستبقى، ولزمن طويل، شخصيّة البطريرك لوقا البنهراني محاطة بالألغاز ما لم تظهر في غفلة من الدهر، فوق الأرض أم تحت الارض، وثيقة عتيقة تكشف لنا عن هذه الجوانب المظلمة من حياته وأعماله. فهو، إذا كان قد شُطب اسمه من سلسلة البطاركة الموارنة، فذلك لاعتبارات قانونيّة، وربّما عقائديّة، كونه بطريركًا دخيلاً ومغتصبًا للكرسي بوجود بطريرك «شرعي» هو إرميا الدملصاوي.

غير أنّ كلّ ذلك لا يمنع المتتبّع للأحداث، بما لديه من معلومات ضئيلة جدًّا، من أن يبدي تهيّبه أمام شخصيّة الرجل ونفوذه، وجرأته العنيدة في مواجهة عدوّين قويين بجيوشهما النظاميّة الجرّارة، يتسابقان للسيطرة على الجبال، الأول توعّده من طرابلس فما قدر عليه، والثاني جاءه من الشام وما زال حتى تمكّن منه؛ وهو واقف مع قلّة من رجاله تلك الوقفة الانتحاريّة اليائسة التي قادته إلى الاستشهاد دفاعًا عن قضية وعقيدة آمن بهما حتى الموت.

5- طروحات الدكتور كمال الصليبي

للمؤرّخ المعروف كمال الصليبي رأي خاص بموضوع بحثنا، وبأحوال الموارنة بصورة عامة. وقد باشر بعرضه منذ سنة 1957، في المجلات والمصنفات التي وضعها بالعربيّة والفرنسيّة والانكليزيّة. ثمّ طرحه بكلّيته، بعد أن أجرى عليه إعادة نظر نقدية كاملة، في كتاب أصدره منذ خمس عشرة سنة، يعالج فيه، كما يقول في المقدمة: «أوضاع الجبل اللبناني وجواره في فترة «العصور الوسطى»، أي الفترة التي تبتدئ في بلاد المشرق مع ظهور الإسلام، وتنتهي بزوال دولة المماليك في بلاد الشام ومصر على أثر الفتح لهذين القطرين في أوائل القرن السادس عشر. والمعروف أنّ هذه القرون الستة [هي في الواقع تسعة قرون] من تاريخ لبنان هي أكثر الفترات غموضًا، وذلك بسبب ضآلة المعلومات الثابتة المتوفّرة لدينا… والقصة… لا بدّ أن يكون فيها نقص قليل أو كثير في الحقائق المثبوتة، والرأي في هذه الحقائق هو بطبيعة الحال قابل للجدل، وكذلك الاستنتاجات المبنيّة عليها. وجلّ ما يجوز لي أؤكّده للقارئ هو انّي حاولت الجهد في تصفية ذهني من رواسب الأساطير المتضاربة حول الموضوع قبل الإقدام على معالجة أي جانب منه، وانّي حاولت أيضًا أن أثبت كلّ ما وقفت عليه من الحقائق التاريخيّة بشأنه دون أيّ تحوير أو تحريف مقصود»[28].

تجاوبًا مع موقف المؤلّف الذي نحترم بأنّ ما يتفرّد بعرضه من آراء واستنتاجات هو «بطبيعة الحال قابل للجدل»، تضطرنا الأمانة العلميّة إلى مناقشته موضوعيًّا بعضًا من طروحاته المارونيّة حول القرنين الثاني عشر والثالث عشر حصرًا، والتي تتصل، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بموضوع بحثنا، وقد بدت لنا فيها مغالطات وتناقضات، في الشكل والأساس، في النقاط الآتية:

أ- قابلية الجدل: من هنا نبدأ. فالدكتور الصليبي، بعد ترحيبه بفتح باب الجدل والنقد حول ما يطرحه «في نقل صورة لبنان التاريخيّة من نطاق الاسطورة إلى نطاق الحقيقة»، سرعان ما نراه يعود، في سياق إبداء الرأي أو الاستنتاج الشخصي، إلى إقفال هذا الباب كلّ مرّة يُعلن أنّ هذا الرأي أو ذاك «لا يقبل الجدل»، وأنّه «واضح»، «ثابت»، «أكيد»، «بطبيعة الحال»، «لا بدّ أنّه»، وغيرها من التعابير التي تنمّ عن موقف رافض للجدل، ولا يوحي بالتشجيع على المضيّ في مناقشة واقعيّة تهدف إلى جلاء الحقيقة المجرّدة وخدمتها، الأمر الذي يعطّل الخطاب العلمي في مسائل ليس البتّ فيها بهذه السهولة التي يتصوّرها المؤلّف الكريم.

 ب- ضآلة المعلومات: ثمّ أنّه، من جهة ثانية، يعترف تكرارًا بـ «ضآلة المعلومات الثابتة المتوفّرة لديه» حول هذه العصور التي يعالجها وهي «من أكثر الفترات غموضًا». ويذكر المصادر المارونيّة فيحذّر من قيمة بعضها التاريخيّة، وبعدها يُغرق صفحتين من المقدّمة عينها بلائحة رديفة «يستحيل حصرها وعدّها» – على حدّ قوله – بأسماء جمهرة من المؤرّخين والجغرافيّين والرحالة من مختلف المِلل والنِحل أتوا على ذكر لبنان بالعموم. ولا ندري سببًا لكلّ هذه الجريدة من الأسماء، طالما أنّه لم يذكر مرجعًا لأحد من أصحابها، لا في المقدّمة، ولا في المتن، ولا في الحواشي – باستثناء قلّة ضئيلة جدًّا منهم -، عندنا يعلن، وبصورة لا تقبل الجدل، عن رأي أو موقف معيّن. ومعظم استشهاداته في هذه المجالات تتركّز على «تاريخ بيروت» لصالح بن يحيى، وقد تبنّى شعارًا له يقول: «لا أريد متغاليًا في السلف يصفهم بأزيد مما فيهم، لا ولا حسودًا فينعتهم بما ليس فيهم»، كما جاء في مطلع الكتاب.

ثم يتجاوز ضآلة المعلومات الثابتة وضحالتها «ليثبت كلّ ما وقف عليه من الحقائق التاريخيّة»، ويقفز فوق ظلام تلك الحقب المديدة، فيطرح مقولة شاملة ومعمَّمة عن أحوال الموارنة منذ وُجدوا، استنتج منها، حتى النهاية، كلّ أسباب نزاعاتهم فيما بينهم ومع بطاركتهم في لبنان، وعلى طريقة علاقاتهم مع المسلمين والصليبيّين في تلك العهود.

ج- موارنة سواحل وموارنة جبال: وينتهي المؤلّف، في تحليله للأحداث من حيث انطلق، أي بالتمييز القاطع بين موارنة القرى الجبليّة وموارنة الساحل اللبناني. فهؤلاء استأنسوا بالصليبيّين وتعاونوا معهم إلى أبعد الحدود، فيما تحذّر أولئك منهم، لا بل دخلوا في نزاعات مسلحة معهم. يقول: «فأخذ موارنة القرى القريبة من الساحل يتقرّبون من الفرنجة في المدن ويتعاملون معهم ويتأثّرون بهم… أما موارنة المناطق العالية من الجبل، ومعظمهم من أبناء العشائر، فبقوا متحفظين تجاه الفرنجة، كما كانوا متحفّظين تجاه المسلمين… فكانوا بين فترة وأخرى يتحدّون الفرنجة ويثورون عليهم»[29].

ويرى بكلّ وضوح، على الرغم من غموض تلك الحقب وضآلة المعلومات، أنّ هناك موقفين متعارضين للموارنة بالنسبة إلى الاتحاد مع كنيسة الغرب، من خلال تعاملهم مع الصليبيّين أو رفضهم لهذا التعاون، وذلك منذ السنة الأولى لوصول هؤلاء إلى الشرق وتأسيس بطريركياتهم اللاتينيّة فيه، مع انصرام القرن الحادي عشر: «فأخذ بطاركة الموارنة، منذ ذلك الوقت، يتقرّبون من بطاركة «اللاتين» في أنطاكية والقدس، ويظهرون الميل الشديد إلى الدخول في طاعة الحبر الأعظم… وكان أوّل من أظهر هذا الميل البطريرك يوسف الجرجسي… في دير سيدة يانوح في جبة المنيطرة… ومن الواضح أنّ الموارنة كانوا على خلاف فيما بينهم بشأن الدخول في طاعة الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة… ولا بدّ أنّ الموارنة المتحفظين تجاه الفرنجة – وهم كما ذكرنا أبناء العشائر في جبة بشري ومرتفعات بلاد جبيل والبترون – كانوا هم بالذات الفريق الرافض لفكرة الاتحاد هذه»[30].

إنّ ما يستوقفنا هنا ليس الخلاف على موضوع الاتحاد مع روما بحدّ ذاته، بل هو التناقض البارز بين سطر وآخر، بتشديد المؤلّف، من جهة، على «الواضح» و«اللابدّ» من أنّ أصحاب الرفض كانوا من «مرتفعات بلاد جبيل» وغيرها، وبتأكيده قبلها بأسطر قليلة على أنّ أوّل من سعى إلى الاتحاد «بميل شديد» إنّما هو البطريرك الذي كان مقيمًا في جبة المنيطرة، هي «مرتفعات بلاد حبيل»، أي في وسط جبهة أهل الرفض بالذات. وهذه المغالطة تتكرّر، وكأنّها اللازمة، كلّ مرّة يجري الكلام فيها على مواقف البطاركة اللاحقين من هذه المسألة؛ وهو يسمّي ذلك «حقائق تاريخيّة» وقف عليها وأثبتها.

ويرى أنّ الاتحاد تعثّر وانهار أكثر من مرّة، ثمّ تجدّد في غضون هذين القرنين، وفي تواريخ متقاربة. ففي سنة 1139، إلتقى رؤساء الموارنة موفد البابا ابنوشنتوس الثاني في طرابلس: «فأقسموا على الطاعة للحبر الأعظم والقبول بمذهبه، ووقّعوا وثيقة بهذا المعنى»[31]. وكان ذلك على عهد البطريرك غريغوريوس الحالاتي، كما تقيّد المصادر المارونيّة ذاتها. ثمّ ما عتّموا أن عادوا إلى الفتن والانشقاقات حتى حلول سنة 1180، حيث هبط الوحي عليهم من جديد: «فأصابهم تحول عجيب في قلوبهم»، حسب مقولة غليوم الصوري المعروفة. فقام بطريركهم، المجهول الاسم، مع بعض أساقفته، إلى املريق بطريرك أنطاكية اللاتيني، وجدّدوا الولاء في حضرته. ويعلّق المؤلّف على شهادة مؤرّخ الصليبيّين هذه بقوله: «والواضح من هذه الافادة الدقيقة أنّ الموارنة الذين عادوا يؤكّدون الطاعة للكنيسة الكاثوليكيّة قرابة عام 1180م. ما كانوا إلاّ فريقًا من الطائفة من سكان القرى القريبة من ساحل «فينيقية»… وكان البطريرك الماروني، القاطن في قرية يانوح من جبة المنيطرة، على رأس هذا الفريق، وكذلك بعض أساقفة الطائفة الموالين له»[32].

إنّه ليصعب حقًّا، على القارئ أن يرى الوضوح والدقة في هذه الافادة. فيانوح، مقرّ البطريرك الماروني، ليست، أولاً، من «القرى القريبة من ساحل فينيقية»؛ وهي في رأي المؤلّف، ثانيًا، كمعقل الرافضين منذ أيام البطريرك الجرجسي والفرنجة الأوائل. فكيف يُعقل، والحالة هذه، أن يذهب بطريركها، بدافع «تحوّل عجيب في قلبه» وفي قلوب بعض أساقفته وشعبه، فيوقّع اتفاقًا في مسألة ترفضها جماعته، ثمّ يعود ليقيم، طيلة حوالى ربع قرن، في وسط هذه الجماعة المعادية له ولمعتقده الجديد حتى العنف؟

فماذا جرى بعد هذا التاريخ؟

ويتابع المؤلّف: «فقامت الفتن بين الفريقين على الأثر. واستمرّت هذه الفتن مدّة طويلة. وتدخّلت الكنيسة الرومانيّة أخيرًا بشكل مباشر لحسم الأمر. وكان البطريرك الماروني آنذاك إرميا العمشيتي (1198-1216). وكان البابا قد أرسل قاصدًا إلى بلاد المشرق عام 1202م… فالتقى هذا القاصد كهنة الطائفة المارونيّة وأعيانها في طرابلس في العام التالي، ودعاهم إلى الاجماع على طاعة رومية. وبعد عشرة أعوام من ذلك التاريخ، وجّه البابا اينوشتوس الثالث دعوة خطّية إلى البطريرك إرميا العمشيتي لحضور المجمع اللاتراني»[33].

كلّ ذلك حصل كردّة فعل على لقاء املريق سنة 1180، أي بعد ما يزيد على العشرين سنة. غير انّ المؤلّف الكريم لم يزوّدنا بشيء عن انعكاسات هذه الفتن المتفاوتة التواريخ على مواقف البطريرك المجهول الاسم، وبعدَه على مواقف البطريرك العمشيتي المقيمَين في يانوح ايّاها، وهذا الأخير يلبّي دعوة الحبر الأعظم إلى مجمع مسكوني يُعقد في روما هذه المرّة، ثمّ يعود إلى الاقامة في وسط جماعة المفتنين. فمن يحميه منهم وهو بعيد عن حلفائه الفرنجة؟ ثمّ نتساءل، من جهة أخرى، عن الرابط الذي يجمع بين حدثَين يفصل بينهما عشرة أعوام، أي بين ذهاب الكهنة والأعيان إلى اجتماع طرابلس، وبين دعوة يوجّهها الحبر الأعظم إلى بطريرك آخر لم يحضر سَلَفه ولا أحد من أساقفته هذا الاجتماع؟

ثمّ أنّ الدكتور الصليبي ينقض، فيما بعد، ما سبق ورآه «واضحًا» من كلام غليوم الصوري عن عودة «فريق من الطائفة»، لا كلّها، بقوله: «حوالى 1180م./575 هـ. – دخول الكنيسة المارونيّة نهائيًّا في طاعة أحبار رومية»[34]. فأيّ التأكيدين هو الأصدق وكلاهما للمؤلّف نفسه، وفي الكتاب عينه، مع فارق في الصفحات؟ هذا، ومسلسل الانشقاقات، بعد التأكيد على زوالها «نهائيًّا» في تلك السنة، لم ينتهِ عنده بعد، بل نراه على تفاقم وازدياد.

د- تنقلات البطاركة وأسبابها: وتترادف المغالطات والمتناقضات والفجوات إلى ما لا نهاية في كلام المؤلّف على أعمال كلّ من البطريركَين إرميا وخلفه الشاماتي. فيؤكّد عن الأول: «تمكّن البطريرك إرميا العمشيتي، بفضل العلاقة المباشرة التي قامت بينه وبين الحبر الأعظم، من ضبط الكنيسة المارونية في اتحادها مع رومية مدّة حياته. وما ان توفّي عام 1230، حتى عادت الفتن تشقّ صفوف الطائفة»[35].

لقد أثبت هنا نجاح العمشيتي في ضبط الاتحاد حتى وفاته التي مدّدها المؤلّف إلى سنة 1230؛ وكان قبلها بصفحة – إذا كنّا فهمنا كلامه ولغته – قد حدّد حصولها في العالم 1216. ثمّ نراه يقفز فجأة ليحدّثنا عن تهجّره من يانوج إلى ميفوق تحت ضغط انتشار الفتن التي امتدّت إلى لحفد على أيامه، كما تهجّر بعده البطريرك الشاماتي في عدد من القرى للدوافع عينها.

ويبدأ الفقرة التالية، حول هذه النقطة بالذات، بلفظة «ولربّما»، وهي تعني، في اللغة وقواعدها، التقليل من الأمر وعدم التأكّد منه، وينهيها بلفظة «والواضح»، التي تعني انتفاء أي غموض أو ريب في الموضوع. فيقول: «ولربّما كان بدء خروج أهالي جبة المنيطرة ولحفد على البطاركة في أواخر عهد إرميا العمشيتي بالذات، مما اضطر هذا البطريرك إلى التخلّي عن مقامه الأصلي في يانوح في وقت ما، والانتقال منه إلى دير سيدة ميفوق في بلاد البترون [حاليًّا في بلاد جبيل]، حيث توفّي. وخلفه البطريرك دانيال الشاماتي في ميفوق. فاضطر هذا بدوره إلى الانتقال من هناك إلى دير مار قبريانوس في كفيفان، ثمّ إلى دير مار يوحنا مارون في كفرحي، وكلا القريتين من بلاد البترون، ثمّ إلى دير مار جرجس الكفر من قرى جبيل. والواضح أنّ هذه التنقلات من قِبَل البطريرك إرميا ومن بعده البطريرك دانيال، كانت بسبب انتشار الفتن بين الموارنة في زمانهما»[36].

إذا كان هذا هو «الواضح»، فالغامض كيف يكون؟ وإذا كانت هذه ثمرة «تصفية الذهن من رواسب الاساطير والتزوير»، ونتيجة «نقل الصورة… من نطاق الاسطورة إلى نطاق الحقيقة»، والتعهّد أمام القارئ بعدم إجراء أي «تحوير أو تحريف مقصود»، والترفّع عن «نعت السلف بما ليس فيهم»، فالمسألة لا تخلو من الخطورة، فضلاً عن انعدام المنطق في التحليل والتأويل والتعليل.

فالدكتور الصليبي، بعد أن طمأن القارئ إلى نجاح البطريرك العمشيتي في ضبط وحدة كنيسته مدّة حياته فمات قرير العين بعد سنة من رجوعه من روما، يعود بعد أربعة أسطر لا غير، ليمسح قوله فيؤكّد على «وضوح» انتشار الفتن في غروب أيام هذا البطريرك، «وخروج أهالي جبة المنيطرة ولحفد عليه». فقام الشيخ الجليل من قبره وحمل عصاه راحلاً إلى ميفوق، ليموت فيها بعد أربع عشرة سنة من موته الأول. ثمّ انهزم خلَفُه الشاماتي من ميفوق متخفيًّا بين قرى جبيل والبترون، وأهلُ الفتن يترصدونه ويضيّقون عليه المقام.

إنّ هذه التنقلات من قِبَل البطريركين المذكورَين، كما من قِبَل العديد من سلفائهم وخلفائهم، هي واقع تاريخي معروف. أما الخلاف فعلى تفسير الدوافع والأسباب؛ وعلى المؤرّخ الثقة أن يظلّ قريبًا من مصادره ومتفهمًّا للواقع على الأرض لدى استخلاص النتائج. فحينئذ فقط تكون «حقائق تاريخيّة»، وإلاّ فهي فرضيّات وأوهام نُجلّ الكاتب الكريم عن الانسياق وراءها.

وعليه، فالدكتور الصليبي، الذي ركّز، في هذه السنوات الأخيرة، في أبحاثه التوراتيّة، على معطيات علم الجغرافيا أكثر منه على التاريخ، قد أخطأ هنا العلمين معًا. فهو على ما يبدو، يجهل واقع منطقتَي جبيل والبترون، مسرح الأحداث التي يرويها.

ففي كلامه على انتقال البطريرك العمشيتي من يانوح إلى ميفوق، فرارًا من وجه أهالي لحفد، قد وضع البطريرك، دون أن يدري، بين أشداق خصومه. فبين يانوح ولحفد جبال ووديان وغابات وصخور وعدد من القرى، وموقعها على المنحدر الجنوبي المواجه لجرود كسروان على كتف أفقا ونهر إبراهيم، فيما تقع لحفد على الجانب الشمالي المعاكس تمامًا والمواجِه لمنطقة البترون. والتلة الفاصلة بين لحفد وميفوق يكاد يقطعها الراجل في نصف ساعة، وليس بينهما أية أماكن طبيعيّة حصينة يحتمي وراءها البطريرك الهارب من وجه أبنائه. وكذلك القول عن البطريرك الشاماتي وانسحابه من ميفوق إلى كفيفان، ومن هذه الأخيرة إلى كفرحي فالكفَر، حيث عاد البطريرك من جديد إلى بلاد جبيل، مقلع أهل الفتن والانشقاقات. فلماذا، إذن، لم يلقوا القبض عليه، وقد أصبح في متناول أيديهم، ويقيموا بديلاً عنه ممن يدين لهم بالولاء وتنتهي القصة؟ بل لماذا لم يلجأ البطريرك إلى قريته شامات فيكون، على الأقلّ، بين أهله وذويه؟ أو إلى الساحل، الفينيقي، الأقرب إليه، فيغدو في حمى حلفائه الفرنجة؟

فالبطريرك يوحنا الجاجي، مثلاً، عندما داهمه الخطر من المماليك في ميفوق، غادرها إلى قنوبين. والبطريرك اسطفان الدويهي لجأ من وجه آل حماده من قنوبين إلى كسروان والشوف. أما هنا، فما الذي يفصل بين هذه القرى التي تنقّل فيها البطريركان العمشيتي والشاماتي هربًا من المفتنين؟

إنّ مطلق اجتهاد يمكن أن يُعطى لتعليل نقلات البطريركين بين هذه القرى المجاورة يظلّ معقولاً ومقبولاً إلاّ هذا الاجتهاد الذي طالعنا به الكاتب الكريم وأعطاه صفة «الوضوح». وهو، في كلّ حال، لم يفسّر لنا كيف ولماذا عاد البطاركة، بعد الشاماتي، إلى الاستقرار في ميفوق طيلة قرن كامل، أي حتى انتقال يوحنا الجاجي إلى قنوبين سنة 1440 هربًا من وجه المماليك الذين أتوه من طرابلس، فيما الانتفاضات تتواصل، في زعمه، وتضرب الموارنة وتشقّ صفوفهم؟ إنّها الأحجية التي لم نتمكّن من الاهتداء إلى فَكّ شيء من مغلقاتها.

تُرى هل نحن أمام رواية أدبيّة مشوّقة ومثيرة، على حساب الواقع التاريخي والجغرافي، تتعاقب فصولها وعناوينها وأدوار أبطالها بانتظام وإحكام مدروسَين حتى النهاية؟ أم أمام أحداث متقطعة وعابرة من تاريخ شعب يقرأه المؤلّف المحترم كما لا يقرأه أحد؟ أم أنّه لا يُعيد قراءة ما كُتب؟ وما هكذا يُقرأ التاريخ ويُكتب، ولا هكذا تُحلَّل الأحداث وتُعلَّل، ولا هذا، بالتالي، هو تاريخ الموارنة. وليست العبرة في أن تكون الفكرة واضحة في الذهن لتضحي مقياسًا للحقيقة. وضوح الذهن إنّما هو إشعاع نور الحقيقة، وشرط الحقيقة أن تكون مدعومة بالوثائق الثابتة. فإذا كان المؤلّف يملك مثل هذه الوثائق – وهو يؤكّد على ضآلتها وغموضها -، فنتمنّى عليه أن يبادر إلى نشر ما يملك، خدمةً للتاريخ، وللحقيقة، وللموارنة، بدلاً من الاسترسال في إطلاق أحكام وأوهام في أمور هي على جانب كبير من الأهميّة والخطورة. فتضحي مقولته، والحالة هذه، الوجه الآخر «لتزوير التاريخ» الذي قصدَ تصحيحه في كتابه.

هـ- نكبة الحدث وقصة لوقا البنهراني: إلى هنا كان المؤلّف قد ركّز طويلاً على موارنة الساحل ومرتفعات بلاد جبيل، وأشار بسرعة خاطفة إلى موارنة مرتفعات بلاد البترون وجبّة بشري في عدائهم للفرنجة ورفضهم الولاء لكنيسة روما، وتغاضى بصورة شبه شاملة عن أحوال موارنة القرى المتوسطة من هذه المناطق.

ونصل، أخيرًا إلى نكبة الحدث في منطقة بشري ودور البطريرك لوقا البنهراني فيها. ونحن نعترف للمؤرّخ الكريم بفضله في التشديد هنا، كما في أبحاث أخرى، على أنّ بطريرك المقاومة في الحدث هو لوقا وليس سواه. إلاّ أنّ «عقدة» انشقاقات الموارنة ورفضهم محاولات الاتحاد، كلّ كذا سنوات مرّة – مع أنّه كان قد حسم هذه المسألة بتحديدها نهائيًّا في السنة 1180 -، لا تزال تتحكّم بذهنه وقلمه، ومن منطلقها يعلّل الذي جرى في قرية الحدث. وهنا وجه الخلاف بيننا وبينه. يقول:

«وبلغ الانشقاق في الطائفة المارونيّة ذروته عام 1282، عندما توفي البطريرك دانيال الحدشيتي… في ميفوق. فقام الموارنة الخارجين [الخارجون] عن طاعة رومية (وكذلك عن طاعة الفرنجة) بانتخاب المدعو لوقا البنهراني… بطريركًا عليهم. واتخذ البطريرك لوقا من قرية الحدث في جبة بشري مقرًا حصينًا له، وأخذ يناهض الفرنجة في طرابلس، على ما يظهر، ويقطع عليهم دروب الجبل. فسارع صاحب سنيوريّة جبيل إلى استدعاء الاساقفة الموارنة الوالين لرومية والفرنجة، وحثّهم على انتخاب المدعو إرميا الدملصاةي بطريركًا على الطائفة. وأرسل البطريرك إرميا الثاني هذا على الفور إلى رومية ليأتي بتثبيت لانتخابه من قِبَل الحبر الأعظم. ثمّ عاد واستقرّ في حالات من قرى الساحل التابعة لجبيل. وأغار جماعة من التركمان على جبة بشري، في العام التالي، فخرّبوا الحدث وقبضوا على البطريرك لوقا البنهراني كما سيأتي، فانتهى أمره بذلك. واستمرّ منافسه إرميا الدملصاوي وحده بطريركًا على الموارنة في حالات. غير أنّ الانشقاق في صفوف الطائفة لم ينتهِ على الأثر بل استمرّ حتى خروج الفرنجة نهائيًّا من بلاد المشرق»[37].

حبّذا لو أنّ المؤلّف أفادنا بشيء عن صفة هؤلاء الموارنة الذين انتخبوا لوقا في الحدث، وهل منهم أساقفة وكهنة وأعيان؟ فما نعرفه، على الأقلّ، عن المطران إبراهيم الحدثي، هو أنّه كان معتزلاً في دير مار آبون طوال فترة الاجتياح، ولربّما يكون هو نفسه «المطران إبراهيم» الذي كان، قبلها ببضعة أشهر، شاهدًا إلى جانب البطريرك إرميا والمطران يوحنا، على صكّ «الاقرار» في حصن أنفه. وفي مطلق الأحوال، إنّ حادثة لوقا لا تتعدّى كونها فريدة وقائمة بذاتها لا تندرج في مسلسل هذه الانشقاقات والفتن التي كرّر الكاتب تردادها حتى الملل، دون أي إثبات علمي موثّق. كما نتمنّى عليه أيضًا لو تفضّل علينا بالمرجع الذي اعتمده للجزم مرّتين على التوالي في أنّ إرميا الثاني «استقرّ في حالات». فما نعرفه عن هذا البطريرك، وبخطّ يده، أنّه «صُيِّرَ (أي انتُخبَ بالقرعة) بطريركًا في دير حالات المقدّس» لا أكثر ولا أقلّ. وفي يقيننا أنّه أقام، كسائر سلفائه وخلفائه، وفي ميفوق. وإلاّ فأين وكيف وصلت يده إلى مخطوطة إنجيل رابولا المحفوظة في هذا الكرسي البطريركي، ليعلّق عليها يومها خبر رسمته وانتخابه وسفره إلى روما؟

ويشوب الاضطراب اللغوي الجملة الأخيرة من هذه الفقرة، بالنسبة إلى «حتى» ومحلّها من الإعراب في ذهن المؤلّف؛ فهو لم يحدّد لنا بالضبط أيمتى وكيف طويت صفحة النزاعات الدينيّة بين الموارنة.

وأنّ ما يدعو بالأكثر إلى التساؤل، حول هذين القرنين من التاريخ الماروني، هو الاصرار والتكرار، دونما أي مستند تاريخي قديم ومتأخّر، على وجود «موارنتين» في لبنان على نزاع مستمرّ فيما بينهم، ومع جيرانهم، ومع الكنيسة الكاثوليكيّة، بإظهار فريق منهم كشعب انعزالي يتحرّك أبدًا بدافع العصبيّة القَبَليّة. وليست المسألة بهذه السهولة في التفريق المصطنع بين موارنة مرتفعات وموارنة شطوط. أما موارنة الأوساط، وهم يشكّلون ثلث الأهالي على الأقلّ، فلا كلام عنده على مواقفهم ومواقعهم من هذه الصراعات بين إخوانهم من فوقهم ومن تحتهم وعلى جانبَيهم، فبدوا وكأنّهم منزلة بين منزلتين. أَليس لهؤلاء الموارنة الوسطيّين من وجود ودور وتاريخ بين وثائق المؤلّف وفي ذهنه؟ فكيف ولماذا أغفلهم إلى هذا الحدّ؟

إنّ الوقائع على الأرض تنقض مثل هذا الطرح. فمعظم بطاركة تلك الحقب – والتاريخ شاهد – إنّما كانوا من مواليد الجبال والأوساط واقاموا مقرّاتهم بين شعبهم في الجرود وفي المناطق الوسطى؛ وليس أوّلهم ولا آخرهم دانيال الحدشيتي، ولا قبلهم جميعًا يوسف الجرجسين ناهيك بالأعداد التي لا تُحصى من الأساقفة والكهنة والرهبان الحبساء. ولا نظنّ المؤرّخ الكريم يجهل كم هو عدد القرى التي خرّبها الزحف المملوكي على منطقة جبة بشري بالقياس إلى تلك التي سلمت من الاجتياح. إنّ ذلك لواقع تاريخي وجغرافي يدعو إلى التوقف عنده، وإلى التفكير والتحليل.

إنّ الأزمات التي تعرّض لها الموارنة، في بعض فترات تاريخهم المديد، بما فيها أزمة حدث الجبة، إنّما هي سنّة مكتوبة على كلّ شعب وأمّة ومؤسّسة. وليس على مفسِّر التاريخ والأحداث، إذا لم يكن مشدودًا إلى مراجعه الثابتة، أن يربطها، ضرورةً، بسابقتها، فتنحرف عن حقيقتها وقصدها.

وكان الدكتور كمال الصليبي، في صحوة من تفكيره التاريخي، قد كتب مقالاً قبل صدور كتابه هذا بأربع سنوات لا غير، أدّى فيه شهادة حقّ في البطريركيّة المارونيّة، أنهاها بهذه الكلمات:

«وليس هناك في العالم العربي اليوم مؤسّسة واحدة غيرها ذات زعامة شعبية استمرّت منذ ذلك الزمن البعيد ورافقت مختلف العصور التي تتالت… فوقفت على تقلبات الأحوال على مرّ أربعة عشر قرنًا، وأصبحت مستودعًا حيًّا لخبرة تاريخيّة عربية فريدة من نوعها»[38].

خاتمة: المغاور تتكلّم

تنادى فريق من الشباب المثقف، منذ سنوات قليلة، لغزو المغاور والتنقيب تحت الأرض عن حلقات مفقودة لأحداث قديمة وقعت فوق الأرض. فكان لمنطقة جبة بشري، وبخاصة مغارة «عاصي الحدث»، النصيب الأبرز من الاكتشافات. فعثروا، تحت التراب، على أجسام بشريّة لا تزال سليمة منذ أكثر من سبعمائة سنة، وعلى كومات من بقايا عظام رميمة، وأدوات منزليّة وملابس، وعلى وثائق ومخطوطات وغيرها، تتّصل بصميم نكبة الحدث، سيكون لها مجال في عدد لاحق من «المنارة»، بقلم أحد روّاد هذه المغاور في لبنان، يروي لنا فيه ما حدّثته به مغارة «عاصي الحدث» عمّا جرى في الحدث سنة 1283.


[1] – ابن عبد الظاهر: تشريف الايام والعصور بسيرة الملك المنصور، القاهرة 1961، ص 47.

[2]– بطرس الجميّل: زحليات ابن القلاعي، بيروت 1982، ص 94.

[3]– البطريرك اسطفان الدويهي: تاريخ الأزمنة: مخطوطة الكريم التي يرتقي نسخها إلى أيام المؤلّف، ورقة 115؛ أما طبعة فهد، جونيه 1976، ص 261، فتختلف عن تلك ببعض الكلمات التي لا تؤثّر على جوهر الموضوع.

[4]تاريخ الأزمنة، طبعة توتل، عدد خاص في مجلة ص 145-146؛ راجع أيضًّا: تاريخ الطائفة المارونيّة، طبعة الشرتوني، بيروت 1890، ص 115.

[5]– الأب فيليب السمراني: «السلطان منصور قلاوون في لبنان وسوريا»، في مجلة «المنارة» 1934، ص 203-207.

[6]– يرجّح الأب لويس شيخو أنّه سوري من القرن الرابع عشر أو الخامس عشر، واسمه احمد بن علي ابن الحريري، وله في المكتبة الشرقيّة بيروت رقم 78، مخطوطة «منتخب الزمان في تاريخ الخلفاء والعلماء والاعيان»، وهو الآن تحت الطبع في دار عشتار، بيروت.

L. Cheikko: Catalogue raisonné des mss. de la Bibl. Orientale, (s.d.) pp. 258-259.

[7]– الخورأسقف يوسف داغر: بطاركة الموارنة، بيروت 1957، ص 34.

[8]– لقد ضبط الأب توتل الاستشهادات التي ذكرها الدويهي عن ابن الحريري في طبعته النقدية «تاريخ الأزمنة». ومن حسن الصدف أنّ الصفحة 115 التي تتحدّث عن حصار الجبّة لم يُضبط فيها اسم ابن الحريري كمرجع للدويهي.

[9]– الأب بطرس ضو: تاريخ الموارنة؛ المجلّد الثالث، 1976، ص 472 و478.

[10]– الأباتي بطرس فهد: بطاركة الموارنة وأساقفتهم من 686 إلى القرن 12، بيروت 1985، ص 195.

[11]– البطريرك اسطفان الدويهي: سلسلة بطاركة الطائفة المارونيّة، طبعة الشرتوني، بيروت 1901، ص 26؛ مخطوطة الكريم 123، ورقة 87، وهي منسوخة سنة 1705 أي بعد وفاة الدويهي بسنة واحدة.

[12]S. Evodius Assemanos: Bibl. Mediceæ Laurentianæ codicum mss. Catalogus, Roma 1742, p. 17.

[13]– طبع هذا الإنجيل بالعربية مع مقدّمات وشروح الأب بطرس ضو: تاريخ الموارنة، المجلد السابع، 1987. والنص المذكور في ص 98-99، يقع على هامش الصورة العاشرة التي تمثل إقامة ابن أرملة نائين من الموت.

[14]T. Anaissi: Collectio documentorum maronitarum, Livomo 1921, pp. 28 et 205.

[15]– الجميّل: المرجع السابق، ص 96-97.

[16]– Cfr. Michaud: Hist. des Croisades, Paris 1841, t. 5, pp. 416-421.

[17]– الدويهي: تاريخ الطائفة المارونيّة، ص 38.

[18]– الدويهي: الشرح المختصر، المجلّد 2، طبعة فهد، بيروت 1974، ص 178.

[19]– الدويهي: تاريخ الطائفة المارونيّة، ص 379.

[20]– يوسف السمعاني: سلسلة بطاركة مدينة أنطاكية، طبعة نطين الدرعوني، روما 1881، ص 40، وفي النص اللاتيني، ص 37.

[21]– حاشية من الأباتي بطرس فهد على كتاب البطريرك الدويهي: الشرح المختصر، مجلّد 2، ص 179.

[22]– الأب بطرس ضو: تاريخ الموارنة، المجلّد 3، ص 475.

[23]– داغر: المرجع السابق، ص 30.

[24]– بياحيوس: سوريا المقدّسة، أخذًا عن ميخائيل الشبابي: تاريخ الكنيسة الأنطاكيّة السريانيّة المارونيّة، المجلّد 2 القسم الأول، بعبدا 1904، ص 210؛ ويعلّق الشبابي بأنّ «هذه التهمة لا مسند لها».

[25]– مقدمة الشرتوني على كتاب سلسلة البطاركة الموارنة للدويهي، ص 5.

[26]– الأب أنطوان ضو: «مراكز البطاركة الموارنة»، في «المنارة» 1985، ص 77.

[27]– راجع المطران جورج صليبا: «كنيسة أنطاكية السريانيّة الأرثوذكسيّة»، في «المنارة» 1986، ص 14.

[28]– كمال سليمان الصليبي: منطلق تاريخ لبنان، بيروت 1979، ص 15-16.

[29]– المرجع المذكور، ص 89.

[30]– المرجع امذكور، ص 89-92.

[31]– المرجع المذكور، ص 91.

[32]– المرجع المذكور، ص 92.

[33]– المرجع المذكور، ص 93.

[34]– المرجع المذكور، ص 181.

[35]– المرجع المذكور، ص 93-94.

[36]– المرجع المذكور، ص 94.

[37]– المرجع المذكور، ص 94-95.

[38]– كمال الصليب: «البطريركيّة المارونيّة في تاريخ الشرق العربي»، في «نور وحياة» 1975، ص 45.

Scroll to Top