على مَشارفِ حقلِ الكُنوز
تمهيد
“من كُنوزِ الكِتاب المُقدّس” عبارةٌ إخترناها بعنايةٍ لتكون عنواناً لسلسلة المقالات التي سنضعها بين أيدي القرّاء الأعِزّاء السّاعين في سبيل تنمِية إلفتهم مع الابن المتجسّد وتعميق معرفتهم به والمُجتهيدين الى تتميم مشيئة الاب السماويّ بِمَعُونةِ الروح القدس. ففي كُلِّ مَقالٍ سنقارب بشكلٍ شُموليٍّ أكاديميٍّ رعائيٍّ مُبَسّط لكن عميق كنزاً من الكنوزِ المَكْنونَةِ في حنايا النصوص الكتابيّة (على سبيل المِثالِ لا الحصر: نُبؤةٌ، حدثٌ، رمزٌ، مشهديةٌ…).
رُبَّ سائلٍ يسأل: “ما الفائدة من مَقَالاتٍ كهذه؟ وما الجديد المُمكنُ أن تأتي به؟ فالمعلومات المتوفرة في منصات التواصل الإجتماعي وصفحات العالم الرقمي ومحتويات الكتب حول الكتاب المقدّس كافيةٌ ووافية. فالناس اليوم لديها مشاغل كثيرة واهتمامات مُلِّحة وسلّم أولويات مُغاير…
بالطبع إنه لسؤال مُحقّ وإنتقاد منطقيّ الى حدٍّ ما. لكن إلتزامنا بِموجبات إيماننا تَدعون الى حفظ وصايا (يوحنا 14/15) الذي إختارنا وأرسلنا لنثمر ثمراً يتمجد به الآب السماوي (يوحنا 15/8-16)؛ والى “الحِفاظ على وديعة الإيمان” وتسليمها سَليمةً الى الأجيال القادمة. إننا نَفعلُ هذا حُبّاً بالآب الذي أحبَّنا أولاً (1 يوحنا 4/19) محبةً عظيمةً (يوحنا 3/16). إننا نَفعلُ هذا إكراماً للإبن الوحيد الذي أخبرنا عن الآب (يوحنا 1/17) وأوصى التلاميذ بعد قيامته من بين الأموات وقبل إرتفاع عنهم قائلاً: “… إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم… وعلّموهم أن يعملوا بكل ما أوصيتكم به… (متى 28/20). من هنا تأتي مَقالاتُنا عن كُنوزِ الكِتابِ المُقدَّس كمُساهمة متواضعة لكن صادقة في الجهود الجبّارة التي يقوموا الكثيرون من فاعلي الخيرِ في مجالاتٍ عِدَّة للتخفيف من مُعَاناة مُجتمَعِنا في هذهِ الظروف القاسية. مُساهَمتُنا هذه نابِعَةٌ مْنِ تقديرِنا لتلك الجهود ومْنِ عُمقِ قناعتنا بضرورة المُشاركة بها. قَناعةٌ يُزَيِّنها اليَقينُ القَويّ بأن كلام الله المكنون في الأسفار المقّدسة هو مليء بالكنوز العظيمة التي تنتظر من يكشف عنها فيفرح بها ويتنعم بمكنوناتها. سعيدٌ هو الإنسانُ الّذي يُشرِكُ الآخرين بِخيراتِ هذه الكنوز وبِأفراحِ هذه النعمة…
هَلمُّ نقاربُ تِلك الكنوزِ وعقولنا مقتنعة كل الإقتناع بأن لا قدرة لنا وحدنا على إستيعاب عظمة غناها وإدراك عمق أبعادِها؛ نحن بحاجة الى مَعونَةِ الكلمة الذي كان في البدء لدى الله (يوحنا 1/2-3). فهو القادر أن يفتح عيوننا ويشرح لنا “الكتب” (لوقا 24/27 و31-32) لِأنَّها تشهدُ له (يوحنا 5/39) وهو مُتمِّمها ومُكمّل معناها (متى 5/17). وهو الذي صلّى لِأبيه ضارعاً مِن أجلنا: “قَدِّسهم بالحَقِّ إن كلمتك حقّ” (يوحنا 17/17)؛ وهو الّذي بلّغنا هذه الكلمة ليكون فرحه فينا تامّاً (يوحنا 17/13-14).
هَلمُّ نقاربُ تِلك الكنوزِ وقلوبنا مُتَّقِدة في صدورنا تائقة لإستقبال الروح القدس المؤيد المنبثق من الآب (يوحنا 15/26). فهو “روحُ الحَقِّ” القادر، عند مجيئيه، أن يُرشدنا الى الحقّ كلّه (يوحنا 16/13). لأنه “هو دليل الحكمة ومرشد الحكماء، وفي يدِهِ نحن وأقوالنا” (الحكمة 7/15-16). وهو البارقليط الذي يُمجّد الإبن ويأخذ مِمّا للإبن ويخبرنا به… وجميعُ ما للآب هو للإبن (يوحنا 16/14-15). فالآب نفسه أحبّنا لأننا أحببنا الإبن (يوحنا 16/17)… الآب نفسه يضع فينا روحه القدّوس (حزقيال 26/27)، وهو الذي يهبنا “روح الحكمة… لنعرفه حَقَّ المعرفة” (أفسس 1/17)، وهو يعطينا كلّ ما نسأله بإسم إبنه الوحيد (يوحنا 15/16). هذه المعرفة تولّد فينا الحكمة التي تُثمر إلفة مع الله وهي كنزنا كما أكّد المؤلف الملهم: “إن كلَّ الذهب إزاء الحكمة قليل من الرمل، والفضة عندها تحسب طيناً… الحكمة هي كنز للناس لا ينفذ” (الحكمة 7/9-14).
رَنينُ كَلمة… وحَنينُ مَلكوت…
مِن المُدهِشِ هنا أنَّه في كلِّ مرةٍ نَسمع فيها كَلمة كنز يحمِلُنا وقعُ رنينها ويرحلُ بنا على جَنبات أجنحة صَدى بُعْدٍ حَضاريٍّ/فلكلوري عابرٍ لمَحدوديّة الأمكنة ولضوابط الأزمنة… ومُتَجذّرٍ في مكونات كل حضارة بشرية. فلا شيء يُفتن المُخيلة ويُحفّز الحماس ويثير الإهتمام مثل قصص الكنوز المفقودة المدفونة في مَغاورِ الجُزُرِ البعيدة… قصص تُروى حول مواقدِ النّار في ليال الشتاء الباردة. ولطالما سحرت نفوس الناس أساطيرُ السُفنِ الغارقة في حمولاتها الثمينة في لجج البحار وأعماق المحيطات… ولطالما كانت صناديق الذهب والأحجار الكريمة والجواهر المدفونة في غياهب الغابات وكهوف الجبال موضوع خلاّب سحر قلوب الكبار والصغار من أولاد البشر ودغدغ أحلامهم وحَفَّزَ مُخيلاتهم وشَحذَ هِمَمَهُم وجعلهم ينطلقون في رحلاتِ بحثٍ ومغامراتٍ غريبةٍ سعياً وراء إستكشاف تلك الكنوز المخبؤة، أسطورية كانت أم حقيقيّة، علّهم يكتسبون سعادة مرجوّة، او شهرة منشودة، أو إشباع ما تشتهي قلوبهم. في محاذاة هذا كُلّه هناك ثوابت علميّة وقرائن منطقيّة تجزم بأن هناك الكثير من الحقائق المختبئة خلف الأساطير، كما أن هناك الكثير من الأساطير النابعة من حنايا حقائق إكتشفها الفكر البشري ومن مخيّلة الإنسان الذي يجسّدها في الأدب والفنون وما شابه… يُجَسِّدُها راجياً أن يجد أجوبة عن أسئلةٍ مَطروحةٍ حول اللامنظور واللامحسوس. صحيحٌ إنَّ بعض ما عرضناه أعلاه ينطبق علينا (نحن الذين نؤمن بالإبن المتجسّد) كوننا ما زلنا بشراً نتشارك مع باقي الناس الإنغِماس، الى حدٍّ ما، في ديناميكية التّفاعل مع موضوع الكنوز، لكننا نختلف عنهم كون كنزنا يختلف كليّاً عن كنوزهم لِأنَّهُ مكنونٌ في ملكوتِ الآب السماويّ نَحصلُ عليه بإستحقاقاتِ الكلمة المُتجسِّد الّذي وهبَنا النِعمة أنْ نَصيرا أولاد الله (يوحنا 1/12). وسعينا وراء كنزنا يختلف أيضاً عن سعيهم وراء كنوزهم لِأنَّهُ مُسْتَنِدٌ الى حنينٍ يَحُثُّنا للفرحِ في إنتظار عودةِ الابن الوحيد والى شَوقٍ يشُدُّنا لِسعادةِ السُكنى معهُ. فَهو الّذي وعدنا قائلاً: “فِي بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَةٌ، وَإِلاَّ لما قُلْتُ لَكُمْ. أَنَا ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُمْ مَكَانًا، وَإِنْ مَضَيْتُ وَأَعْدَدْتُ لَكُمْ مَكَانًا آرجِعُ وَآخُذُكُمْ إِلَيَّ، لِتَكُونُوا حَيْثُ أَكُونُ أَنَا” (يوحنا 14/2-3). … كَنزنا هو التَّنَعم في المَلكوتِ الأبديّ الّذي أعده لنا الآب الأزلي ليُشرِكَنا بِحياتِه ويَشمُلنا بِمحبَّتِه… هو ملكوتٌ تمتد أبعاده من رحاب جنة عدن، حيث ذكريات البِداية، (تكون 1/26-27، 2/15-16) الى ساحات المدينة المقدّسة حول عَرشِ، مألِ حنين النهاية، (رؤيا 22/1-5). هذا الملكوت هو كنزنا الأعظم وهو المكان الأكمل حيثُ يجب أن نكنز كنوزنا وهنا سيكون حتماً قلبنا كما أكّد لنا رَبُّنا يسوع (لوقا 12/33-34). وما أعظم قلب الإنسان إنه الشيء الوحيد الذي طلبه الله من الإنسان: “يا بني هَبني قلبك” (مزمور 119/11)… : أقوال مُقدّسةٌ ومقدّسةٍ على مثال الذي صنع بها العوالم وبارك بواسطتها الإنسان وأقام عهداً أبديّاً معه (تكوين 1 و 2)… أقوالٌ دُوِّنَت في أسفارٍ مُقدَّسةٍ تسموا فوق حَتميّة جمادِ الكلمة وتَفوقُ لامحدودية رَحيلِ المَعنى المُعطى لها…
حَتميّةُ جمادٍ… ولامحدوديةُ رَحيلٍ…
مُنذُ الأزلِ كانت الكَلِمةُ قُدرةَ كينونةٍ كامنةٍ في كَيانِ الآب السماوي إلى أنْ نَطقَ بها فَمه القدّوس في فجرِ الخلقِ فَخرَجت ضمن مَشهديَّةِ ظهورٍ ثُلاثيُّ الأبعاد، رامِزَةً لجوهر إلهنا السرمَديّ ومُعبِرَةً عَنْ عَظمة حُبِّه الفَيّاضِ اللامتناهي لنا:
في ظُهورِها الكِتابيّ الأوّل، خرجت الكلمة من فمّ الربّ بشكلِ أمرٍ مُبدعٍ “ليكُنْ نور…فكان نور… ليكُنْ جَلدٌ…فكان كذلك. لتجتمع المياه…فكان كذلك. لتنبت الأرض نباتاً… فأخرجت الأرض نباتاً. لتَكُنْ نيّرات في السماء… فكان كذلك. لِتَعُجّ المياه ولتَكُنْ طيورٌ تطير…فكان كذلك… ورأى الله أنَّ نتائجَ هذا الظهور المُبدع حَسنةٌ للغاية (تكوين1/1-25).
في ظُهورِها الكِتابيّ الثاني، إعتَلَنَت الكلمةُ بِعظمةٍ حين خاطبَ الله ذاته القدوسة قائلاً: “لِنصنعِ الإنسانَ على صورتِنا كمِثالِنا وليتسلّط على أسماك البحر وطيور السماء والبهائم وجميع الحيوانات التي تدّب على الأرض (تكوين 1/26-27). ثمرةُ هذا الظهور كانت الانسان المخلوق (ذكراً وانثى) على صورةِ الله ومثالِه… أحبَّ اللهُ هذا الإنسانَ حُبّاً لا محدوداً ومَيَّزهُ عن سائرِ المَخلوقاتِ وأقامَ معه عهداً أبدياً، وأنَعمَ عليه بِقدرةٍ على إكتشافِ حقائقَ وجوديّة ومَكنَّهُ، بِفضل الروح القدس، أنْ يَكتُبَ أسفار الكتاب المقدس.
في ظُهورِها الكِتابيّ الثالث، خَرجت الكلِمةُ من عند الله بشكلِ بَركةٍ مُثمرةٍ معطاءَةٍ. فبحسب سفر التكوين، بارك الله الخليقة قائلاً:”إنمي وأكثري…” (تكوين 1/22). بعدها، بارك الله باكورةَ البشرية (آدم وحواء) وأشركهم معه في مهمة تدبير الخليقة قائلاً: “إنموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها وتسلطوا على أسماك البحر وطيور السماء وكلّ حيوان يَدبُّ على الارض(تكوين 1/28).
كان هذا في بدايات الخلق، أمّا في ملء الزمن “الكلمة صار بشراً وسكن بيننا فرأينا مجده مجداً من الآب لابن وحيد ملؤه النعمة والحقّ… والكلمة هو الله، هو كان عند الله وبه تكوّن كلّ شيء… الكلمة هو الابن الوحيد، الذي في حضن الآب، أخبرنا عن الآب (يوحنا 1/1-18) الذي أحبنا حُبّاً عَظيماً (يوحنا 3/16). ضمن هذا البعد التكويني الكتابيّ نَجدُ جوهر كنوز الكتاب المقدّس ونتعرّف على عمق أبعادِها ونشعر بعظمة معانيها.أمّ على صعيد الانسان، المخلوق على صورةِ الله كمثاله، تبقى الكَلمة إمكانية كينونة هائمة بين مكونات الكائن البشري باحثة عن صيرورة تُخرِجُها من نخاريب الخيال ومكنونات الفكر. لكِنَّها تتحرَّرُ سارحةً في رحابِ اللّغةِ وشعابِ المعرفة وآفاقِ التواصل حين تَخطُّها الأصابعُ مفرداتً وجملاً على أوراقِ صفحاتٍ مُنَمقَةٍ، أو تَنقشُها الأيدي عِباراتٍ مُزخرفَةٍ على جَنباتِ حجارةٍ مَلْسَاء، أو تَرصفُها الأناملُ ملفاتٍ رقميةٍ محفوظةٍ في ذاكراتِ عالمٍ افتراضيٍّ… مفاعيلُ هذا التحرّر تجعل الكلمةَ محكومةً بحتميَّةِ جماد الشكل ولا محدودية حركة الرحيل:
حَتميَّةُ الجَمادِ هذه لا تنبع من تَجمُّدِ بُعْدِ الكلمة المنظور والملموس، أي الشكل أو الأشكال المعطاة لها خاصة المخطوطة منها على صفحاتِ مَجلاتٍ مَصيرُها الإصفرار أو ضمن كُتُبٍ تَحضِنُها حنايا ألواحِ حيطانِ المكتبات مُحاوِلَةً حِماية هَشاشَتِها من سَطوة الزوال المُناسَبِ إليها على وقَعِ تسلسلِ السنين ومرور العصور…
حَتميَّةُ الجَمادِ هذه تَشملُ وتأسرُ أيضاً، بأثارِها السلبيَّةِ، شَكْلَ الكلمةِ المَنقوشَةِ على واجِهاتٍ حجريَّةٍ مُخْضِعَةً إيَّاها للتآكلِ والتفتُتِ بفعلِ عواملِ الطبيعة أو بأفعال البشر الشريرة (حروبٌ، تَخريبٌ للبيئة…)، وتشمل أيضاً شكل الكلمة المرصوفة ضمن ملفات رَقميّة مُعرِّضَةً إيَّاها لإحتمالاتِ الخللِ والأعطالِ النَّاجمةِ عن فيروسٍ خبيثٍ أو حادثٍ مأساويٍّ ما…
مَفاعيلُ حَتميَّة الجَمادِ هذه تُعانِقُ مَفاعيلَ حَركةِ رَحيلِ الكلمةِ في غَمرةِ غدرانِ اللُّغةِ وأبعادِ عَوالمِ المَعرِفة… ففي بعضِ الأحيانِ، يَضعُ هذا العِناقُ الكَلِمةَ وجهاً لوجه مع تَحديّاتِ تَعدُّدِ المَعاني المُعطاةِ لها والمُتنوِّعَةِ بِتنوّعِ الأفرادِ أو الجماعاتِ التي يستعملونها أكان ذلك نُطقاً أم سَماعاً أم قراءةً…كُلُّ هذا يُعرِّضُها لِخطرِ الإبتعادِ عن المعنى الأصليّ والإنتِقاص من قيمته، وبالتّالي الى تَشوّهات مُضِرَّة…
وفي أحيانٍ أخرى، يرميها في ظلماتِ الكَذب والنميمة وتشويه السمعة والتَنمّر… حينها ينعكس إتِّجاهُ رحيلِ الكَلِمة في رحابِ التَحَرُّرِ: فَبدلاً من أنْ يُثمِرَ هذا الرحيلُ إبداعاً في التعبير عن الأفكار والمشاعر، ويُظهِرُ حقائقَ مُهِمَّة بواسطةِ طُرُقِ القراءة، ويُزهِرُ صلواتٍ في نُفوسٍ خاشِعَةٍ، نَراهُ يُخلِّفُ ضَياعاً يُشوِّه جَمَالَ الكلمة ويُشرِّدُها في غَياهِبِ الشَّرِ مُهَشَّمَةً ومُهَشِّمَة، مُهَانَةً ومُهينة، مَجروحَةً وجارِحة…
من البديهيّ والمُؤكَّد أنَّ التوّصيف المُدرج هنا غير كافٍ للتَحدُّث عن حَتميَّة جمادِ الكلمة التي هي رمزٌ لبُعدِها المحسوس لأنَّه من غير الدقيق وغير العادل علميّاً إعتماد عناصر التوّصيف هذا فقط، أو التّركيز على نقاطِ ضعف هذا الرمز بل يجب الأخذ بعين الإعتبار مَكامِنَ قوَّتِه أيضاً ووفرة غِناها، عندها يكونُ التوّصيف عادلاً. من الجدير بالذكرِ هنا أنَّ كلَّ توّصيفٍ مهما عَظُمَ لا يفي كلمة الله (الإبن المتجسّد) أو كلام الله (الأسفار المُقدَّسة) حَقَّهما تعريفاً وشرحاً لأنهما يعلوان كلَّ فهمٍ ويتخطَّان قدرات كلَّ لغة.
بعدٌ آخر يُزيِّنُ إختيارنا لِعبارةِ “من كُنوزِ الكِتابِ المُقدَّس” كعنوان لسلسلة مقالاتنا ويزيده غِنَىً وجمالاً هو التأمّل بالدعوةِ التي وجَّهَها إلينا الإبن الوحيد وسعينا لتلبية موجِباتِها: “لا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً عَلَى الأَرْضِ، حَيْثُ يُفْسِدُهَا السُّوسُ وَالصَّدَأُ، وَيَنْقُبُ عَنْهَا اللُّصُوصُ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزاً فِي السَّمَاءِ، حَيْثُ لَا يُفْسِدُهَا سُوسٌ وَلا يَنْقُبُ عَنْهَا لُصُوصٌ وَلا يَسْرِقُونَ… فحيثُ يكون كنزك يكونُ قلبك” (متى 6/19-21). هو بُعدٌ يُعبِّرُ عن عَظمَة المُساهَمَة الّتي تُقدِّمُها فِكرةُ الكنز ورمزيّتها سواء على صعيدِ جَماليَّة صياغةِ نصوص الأسفار المُقدَّسة وإغناء مَضامينها بمعانٍ لاهوتيّةٍ وكِتابيةٍ فريدة، أو على صعيدِ التَحدُّثِ عن حقائق سماويّة مُلهَمَة وعرضِ كنوزِ تَعاليمها لِقرّاء مضَامينِ نصوص الكِتابِ المُقدَّس. هذه الدعوة السماويّة مَقرونةً بالسعيّ الجديّ لتتميم مُقتَضَياتِها ساهَما مُساهمَةً كبيرة في تَعزيزِ صَوابية إستعملِنا لِعِبارَةِ “على مَشارِفِ حَقلِ الكُنوز” للدلالة رمزيّاً على النِقاطِ التي سَنعرِضُها في المَقاطعِ التالية والتي نَعتبِرُها تمهيداً مفيداً للمقالات اللاحقة:
حَقلُ كُنوزٍ… قِصةُ حُبٍ…
حَقلُ الكُنوزِ بالنسبة لنا هو الكِتابُ المُقَدَّس الّذي يُعتَبَرُ كتاباً مميّزاً ليس كسائرِ الكُتُبِ. فهو أكثرُ المَطبوعاتِ إنتشاراً في العالم وأوسعها مبيعاً.[1] بموازاةِ الكَمِّ الهائِلِ من الترجمات لأسفارِهِ، أُلِّفَت ملايين الكُتُب والمنشورات، ونَشأت عَشراتُ العُلومِ الّتي تَدور في رِحابِ عَالَمِ الكِتابِ المُقدَّس والّتي تَنهَلُ مِنْ مَعينِ مَضامين أسفاره المُلهَمَة والمُلهِمَة.
الكِتابُ المُقدَّس هو أعظَمُ الكُتُب تأثيراً في حياة البشرية جمعاء فمنذ رَصفِ حُروف آياتِه الأولى حَتّى يومنا هذا، طَبَعَتْ مضامين نُصوصِهِ حياة شعوبٍ كثيرة، وألَهَمَتْ قِيَمَهُ دَساتير أُمَمٍ عديدة، وقَدَّست كَلِماتُه عَدداً عظيماً من الأفراد والجماعات.
مَضامين الكِتابِ المُقدَّس دُوِّنَت ونُظِّمَت في مَجموعةِ أسفارٍ تَروي حَقيقةً دَهريَةً كُتِبَت تحت هديّ وإشرافِ الروح القدس بأيادي عشرات المؤلفين على مرِّ مئات السنين في مناطق متعددة وفي ظروف متنوعة:هذه الحقيقة هي إعتلان حضورِ الله الثالوثي والسريّ لشعبِ العهد القديم[2]… وتَجلّي حقيقة وديناميكية عَمَلَ الإبنِ الأسراريّ في قلوبِ وحياة المُؤمِنين بإسمه في العهد الجديد[3]…
الكِتابُ المًقدَّس هو كتاب العهدِ الأبديّ الذي أقامه الله مع أحَبَّ المخلوقاتِ الى قلبِهِ الالهيّ الحَنون: الإنسان. كِتابٌ حَوَتْ أسفارُهُ كَلاماً عن الوحي الإلهي… كَلامُ وَعدٍ في قديم الأزمان بمجيء المُخلّص… كَلامٌ بَشَّرَ بِكلِمَة الله المُتَجَسّد في ملء الزمن… كَلامٌ دعى الى حِفظِ تَعاليمه وعيشها والتبشير بها في كُلِّ بِقاعِ الأرض. بتعبيرٍ أدقٍّ وأشمل، نصوص الكِتابُ المًقدَّس هي في نفس الوقت، مُقَدَّسة ومُقدِّسْة لأنَّها تتضمنُ كَلام الله القُدّوس[4] الّذي “بعدما كلّم الآباء قديماً بالأنبياء مَرّاتٍ كثيرة وبِطُرقٍ مُتَنوِّعة، كَلَّمنا في آخر الأيام هذه بإبنٍ… هو شعاع مجده وصورة جوهره (عبرانين 1/1).
نُصوص الكَتابِ المُقدَّس هي مُقَدَّسَةٌ ومُقَدِّسَة ٌلأنَّها تحتوي كلام الإبن الوحيد الذي صلّى الى أبيه القدّوس ضارعاً من أجل الذين حفظوا كلامه: “قَدِّسهم بالحَقِّ إنَّ كلمتك حَقٌّ” (يوحنا 17/11-17)، وللذين حفظوا كلامه، قال الإبن: “إذا أحبَّني أحدٌ، حَفِظَ كلامي، فأحَبَّهُ أبي ونأتي إليه فَنَجعلُ عِنده مقاماً… الكلمة التي تسمعونها ليس كلمتي بل كلمة الآب الذي أرسلني (يوحنا 11/23-44).
الكَتابِ المُقدَّس يروي قِصةَ مَحبَّة الآب اللامحدودة (يوحنا 3/16) الّتي جاشت في قَلبِه الأبويّ الحنون وفاضت من لدُنِه الإلهي يوم “خلق الإنسان على صورته كمثاله” (تكوين 1/27، 2/18). إنها قِصة مَحبَّة الإبن المُتفانيَة والخَلاصيّة[5] الّذي إتَّخذَ طبعنا البشريّ ليُجدِّد هذه الصورة التي شوهها الإنسان بأفعال شريرة… إنها قِصة مَحبَّة الروح القدس المرافقة والهادية (يوحنا 14/16-18) الّذي يُؤيّد ويُعَلّم ويُذكّر بهذه المَحبَّة الإلهيَّة التي تقود الى بيتِ الآب مَسْكِنِ عائلة الله Familia Dei النهائي.
على مَرِّ السنين، تفاعل الناس مع الكَتابِ المُقدَّس: منهم مَنْ قَدَّسَ مضامين أسفارِه عائدين إليها خاشِعين مُصلّين، أو تأبين مُستَغفِرين، أو باحثين سابرين غور أسرارها… منهم مَنْ إِحتَقَر نُصوصَه مُشكِّكين بمِصداقيَّة محتوياتها، ناكرين قُدسيَتها ومُزدَرين الحقيقة المَكنونة في حنايا آياتها… بالنسبة إلينا، سَتكون هذه النُصوص إطار مَقالاتِنا القَادِمَة الّتي سَنُقارب في سياقها باقة من كنوز الكَتابِ المُقدَّس. ونَخْتُم مَقالَنا هنا بإحدى أَجْمَلِ بواكير هذه الباقة: الأرض…
بُعدٌ كَتابيٌّ-لاهوتيٌّ للأرض…
لِكُلِّ بقعةٍ مِنْ بِقاعِ الأرض قيمَة ثَمينة مُتَعدِّدَة الأبعاد وعَزيزة على قُلوبِ مَالِكيها أو المُنتَمينَ إليها؛ .فهي كَريمَةٌ في عُيونِهم لدرجة انَّهُم يبذلون مُهَجَهُم لِلإعتِناءِ بِها، ويُضّحون بِدمائِهم للزوّدِ عنها. فهي بالنسبة لَهم أرضُ أجدادِهم ومَرتع حياتِهم وميراث أولادِهم. هذه وغيرها من الأبعادِ القَيِّمة تَنطَبِقُ على مَفهومِ الأرضِ في الكِتابِ المُقدَّس مع ضَرورةِ إضافة بُعدٌ أَخَرٌ مُهِمٌّ جِداً، ألا وهو المعنى الكِتابيّ-اللاهوتيّ للأرض: بحسب الِكتابِ المُقدَّس، الأرضُ هي مِنْ أولى أعمالِ الرَبّ الإله… بِكَلمةٍ منه خَلقَها وزَيَّنَها بالمَخلوقاتِ الجميلة وأضاءَها بالنيّراتِ الباهرة… من تُرابِها أخذَ حفنةً وجَبَلها ليَصنَعَ الإنسانَ على صورتِهِ كمِثالِه (تكوين 1 و2)… لكِن لمّا “فَسدَتِ الأرضُ أمام الله” (تكوين 6/11-12) بسبب “سقوط” الإنسان (تكوين 3) وكَثرة مَساوِىء النَّاسِ (تكوين 5/1) لَعَنها الله (تكوين 3/17) وغمرها بالطوفان (تكوين7)، وأمطَرَ عليها كَبريتاً ونَاراً (تكوين 19/24-25)؛ لكِنَّهُ بِحَسبِ مَحبّتِهِ الفيَّاضة ورَحمَتهِ اللامتناهية عادَ وباركها (تكوين 8/21-22). كان ذلك في فَجرِ البِداياتِ، امّا في سالِفِ الأيام، فلقد إِستَضافَت الأرض “مجد الرب” في البريَّةِ (خروج 13/21-22)… وعلى الجبل (خروج 24/16-17)… وفي “خيمة المَسكِن” (خروج 40/34-38)… وفي قُدسِ ألأقداس بالهيكل (الملوك الأول 8/10-11)… وعاش شعب التوراة مراحل وحي الله لهم وإختبروا مفاعيل حضوره بينهم في بِقاعِ بِلادِ ما بين النَّهرين وأرضِ كنعان ووادي النّيل…
“ولمّا تَمَّ الزَّمانُ” (غلاطية 4/4) تَبارَكتِ الأرضُ بِتَجَسُّدِ الكَلِمَةُ الأزَليّ (يوحنا 1/13-14) الّذي ولد في مِذْوَدٍ متواضعٍ بإحدى نواحي مَدينة بَيتَ لَحمَ (لوقا 2/7)… وعندما أصبَحَ “في نَحوِ الثلاثينَ من العُمرِ”، بَدَأَ يسوع رِسالتَهُ يَتَجوَّل في مُدُنِ وقرى ألأراضي المُقَدَّسة… وحين “جاءَت ساعتَهُ ليَنتَقِلَ مِنْ هذا العالم إلى الآبِ” (يوحنا 13/1)، سار دربِ الآلام صعوداً نحو الجُلْجُثِة وإمتزجت دماؤه وعرقه بترابها، وفي نهايةِ المطافِ صُلِبَ على هضبةٍ مِنْ هِضابِ تلك الأرض ودفن في قبرٍ محفورٍ في سفحها… وعندما يَموتَ الإنسانُ يَعودُ إلى الأرضِ التي منها جُبِلَ… وهكذا تَكونُ الأرضُ مكان لُقيا الله والإنسان… فمنها بَداءت البداية واليها تَهفو النِهاية…
[1] . فلغاية أيّامنا هذه، بَلغَ عَددُ اللُّغاتِ الّتي تُرجِمَ إليها الكِتاب المُقَدَّس 698 لغة. أما العَهدُ الجَديد وحدَهُ، فلقد تُرجِم الى 1548 لغة.
[2] The Trinitarian presence of God among his people is a Mystery not a Secret.
The Sacramental Function of the Only Son within and through the Sacraments. [3]
[4] أحبار 11/44-45 ؛ أحبار 19/2 ؛ يشوع 24/19 ؛ 1 صموئيل 6/20 ؛ مزمور 99/9 ؛ رؤيا 4/8
[5] تأمل في فحوى هذه الآيات:
* قبل عيد الفصح، كان يسوع يَعلمُ بأنَّ قد أتت الساعة… وكان قد أحَبَّ خاصَتَهُ الّذين هُم في العالم، فَبلغَ الحُبُّ لَهُم الى أقصى حُدودِه” (يوحنا 13/1).
* كما أحَبَّني الآب، فكذلك أنا أيضاً أحببتكم”. (يوحنا 15/9).