الأب يونان عبيد م.ل.
- ما هي الرحمة؟
الرحمة هي التوقّف أمام الألم.هذا بالضبط واقع المسيح الرحوم الذي يتوقّف دوماً أمام الألم. إن الفرق الحقيقيّ بين المسيحيين والمسلمين واليهود وباقي الديانات، ليس هو بين الذي يؤمن وبين الذي لا يؤمن، إنما هو بين الذي يتوقّف والذي لا يتوقّف أمام جروحات الآخرين.
إذاً، النظر، التوقف، واللمس هي الأفعال الثلاثة التي يجب أن تُحفر في ذاكرتنا، ونعمل على عدم نسيانها أو تجاهلها. هذه هي حال “السامريّ” الصالح الذي رأى وتحنّن وضمّد جروحات ذلك المسكين المتروك بين “حيّ وميت”. وفوق كل ذلك شعر بأنه هو أيضاً مجروح في داخله.
إن يسوع قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ويسلّم روحه على الصليب، اهتمّ بقلق اللص، وتوقّف عند ألم المجدلية وحبها في الساعات الأولى للقيامة. وفي سياق حياته العلنية، وأمام الحالات المرضية التي كانت تُعرض عليه، كان الفادي يتأثّر ويتحنّن، وكنا نراه يلمس من لا يُلمَس (الأبرص)، ويخالف الشريعة، ويعمل ما لا يُعمل، كأن يأخذ الولد الميت، وينهضه ويردّه الى أمّه. بعد كل ذلك، نسأل: ما العمل لنرى ونفهم؟ ما العمل لنلمس ونُلمَس بدموع الآخرين؟ وما العمل تجاه من قَسَتْ عليهم الأوضاع وأنهكتهم في بلادنا، بغضّ النظر عن دينهم وأوضاعهم السياسية؟ والجواب: أن نكون رحومين، لا متفرّجين ولا غير مبالين. لأن النظرة بدون قلب رحوم، تُحدث ظلماً وظلاماً. لذا من واجبنا، وبحكم إنسانيتنا ومسيحيتنا، أن نتبنى موقف الرحمة الذي يريده يسوع: “كونوا رحماء” (لو 6/36).
- لِمَ سنة الرحمة؟
أراد قداسة البابا فرنسيس أن تكون السنة اليوبيلية للرحمة، مقدّسة للغايات التالية:
- كي يختبر كلّ منّا حبّ الله، الذي يعزّي، ويسامح ويعطي الرجاء، مستندين الى كلام يسوع: “كونوا رحماء، كما أن الله أباكم رحوم” (لو 6/36).
- كي نشعر بالفرح، لأن يسوع، الراعي الصالح، يفتش عنّا نحن الضالين.
- كي نلمس حرارة حب المسيح، وبخاصة عندما يحملنا على كتفيه ليقودنا الى بيت الآب.
- كي نُلمَس برحمة يسوع، ونصبح شهوداً لها.
- كي نلتزم بزمن الرحمة: فنضمّد جراح المتألمين والبائسين ونقف الى جانبهم.
- كي نلمس علامات قرب الله منّا دون كلل.
- كي نرشد الجميع دون استثناء الى طريق المغفرة والمصالحة.
- كي نملك قلباً مستعداً وجاهزاً لممارسة أعمال الرحمة الجسدية، المذكورة في الفصل الخامس والعشرين من إنجيل متى، وأعمال الرحمة الروحية التي هي موضوع تأمّلنا. فنحن نعرف أننا لا نقدر على تغيير جميع المظالم في العالم، لكننا نعرف أن لدموع الآخرين حقّاً علينا.
- ممارسة أعمال الرحمة الروحية
- نصح من هُم فريسة الشكّ: يشدّد الكتاب المقدّس على أهمية النصح: “مشورة الحكيم كينبوع مياه” (سير 21/13). “ويضيء الحكماء كضياء الجَلَد” (دا 12/3). في هذا المجال يسعى الكثير من الناس ليكونوا نجوماً في عالم الأضواء ويشعروا بنجوميتهم بصورة آنية. لكن طريقة الله مُغايرة. فهو يريدنا أن نكون نجوماً دائمين، شرط أن نتحلّى بالحكمة ونقود الكثيرين الى طريق الله. وإذا شاركنا مع الآخرين، بإمكاننا أن نكون نجوماً حقيقيين نشعّ جمالاً في نظر الله. ولنسأل: ما هو المفهوم الصائب لمشورة صالحة؟ ويُجيب عن هذا السؤال الواقعي والحقيقي “ابن سيراخ” الذي يُركّز على الضمير السليم ويقول: “تمسّك بمشورة قلبك، فإنه ليس لك آمنُ منه. لأن نفس الرجل كثير اً ما تخبر أكثر من سبعة رُقباء يرقبون من موضعٍ عالٍ. وفوق كل ذلك تضرّع الى العليّ ليهديك بالحقّ الى الطريق المستقيم” (37/13-15). بينما المفكّر الفرنسي “باسكال” يميل بوضوح الى قوّة العقل في زمن الشكّ أو في حالة عدم التقدّم في إيجاد الحلّ. هنا تلعب الحرية دورها لإبداء المشورة والوصول الى تمييز الحقيقة. ولتأكيد كلامه، يقترح ثلاثة مبادئ: الأول، يجب أن نعرف متى نشكّ. الثاني، أن نضمن التأكيد. ثالثاً، أن نخضع للواقع حيث يجب.
ولإسداء النصح للمشكّكين، نقترح نصائح إنسانية، ونصائح انجيلية:
- نصائح انسانية:
إن الهدف من النصح الإنسانيّ يقوم على إقلاع الشخص عن الشكّ أو الخطأ، وليس إشاعة عيوبه أمام الآخرين. ولتحقيق ذلك يلزم ما يأتي:
- استخدام أسلوب الإنسان الحكيم
- استعمال الشدّة من غير عنف، والليّن من غير ضعف
- اختيار الأسلوب الملائم: ترغيب، ترهيب، ثناء، إعطاء أمثلة…
- التلميح دون تصريح. أحياناً يكون التلميح بالنصيحة، أفضل من التصريح، وهذا يعني النصح بطريقة غير مباشرة، وتجنّب النقد المباشر وأسلوب الأمر
- الكلمة الطيبة والإبتسامة هما مدخل لقبول النصيحة
- نصائح انجيلية:
نأخذها من خطبة الجماعة في انجيل متى (18/15-20) وتتضمّن أربع خطوات
الأولى: تعلّم الشريعة أن كل شيء يقوم بشهادة اثنين أو ثلاثة (تث 17 : 6، 19 : 15). والمسيح يأخذ بهذا المبدأ لأنه مبدأ حكيم. فالنظرة من واحد، نظرة شخصية، وهي تصبح نظرة أكثر اتزاناً، إذاً كانت نظرة شخصيْن أو ثلاثة. الحالة التي يطرحها المسيح هي: إذا خطئ شخص في الكنيسة الى شخص آخر، على هذا الشخص أن يبادر ويذهب ليعاتب الخاطئ. لأن العتاب يطرح المشكلة على أمل الوصول الى إنهاء الخلاف. لكنّ الخاطئ لم يقتنع.
الثانية: هي توسيط شاهديْن أو ثلاثة من الكنيسة. لكنّ الخاطئ يرفض قبول شهادتهما.
الثالثة: هي أن يُرفع الأمر الى الكنيسة لكي تصدر حكمها وتبلّغ الخاطئ. لكنّ هذا الأخير يرفض الحكم أيضاً.
الرابعة: هي أن يعتبر الشخص المساءُ إليه، الخاطئ، كوثني وعشار، ويعامله على هذا الأساس، فيُفصَل الخاطئ عن الجماعة (راجع 1قو 5 : 4 و 11). ولكن على المسيحي الواعي أن يتعامل مع هذا الشخص الضال بالطريقة التي يتعامل بها مع أي خاطئ لكي يردّه الى المسيح، ويعامله باللطف والرحمة والغفران.
ملاحظة حول الحرم الكنسيّ: لقد طبّقت الكنيسة هذا الأمر بطرق مختلفة في التاريخ. واليوم نرى الكنيسة نفسها، تنتقد قرارها في المواقف التي أبعدت بعض أبنائها عنها. إن تطبيق الحرم يكون في حالة واحدة هي: عندما يشكّل الخاطئ خطراً على الجماعة كلها. في كل الأحوال، إن همّ ردّ الخاطئ الى المسيح يجب ألاّ يغيب عن فكر الجماعة. أمّا العقاب والقسوة فقد يحافظان على نقاء الجماعة، لكنهما يُبعدان الخاطئ عن المسيح. يبقى أن مبدأ المحبة والغفران والرحمة، هو المبدأ المفيد والبنّاء على جميع الأصعدة. إن الحفاظ على الجماعة مهمّ، لكنّ تحرير الخاطئ من شرّه مهمّ أيضاً. والحلّ الأمثل يكمن في تربية الجماعة على مبدأ الرحمة، وتحمل الخاطئ على التوبة والرجوع الى المسيح، وتمنحه الصفح والمغفرة. وما نقوله هو من وحي المسيح والرسول بولس. فالشريعة ليست وسيلة للدينونة، بل وسيط للرحمة أيضاً.
وخلاصة القول، يدعو المسيح الى نصح المشكّكين وإصلاحهم وردّهم الى جماعة الكنيسة مشدداً على فعل الرحمة.
- تعليم الجهّال: يروي سفر أعمال الرسل سؤال الرسول فيليبس للوزير الجالس في مركبته يقرأ النبي أشعيا فيقول له: “أتفهم ما تقرأ؟” فيُجيب: “كيف أفهم ولا أحد يشرح لي؟” (اع 8/30-31). هذا السؤال يعني أنه عندما نقدّم الإنجيل للجهّال، علينا أن نبدأ من مركز اهتمامهم. وعندما لا نُفهَم، علينا أن نطلب مؤآزرة العارفين، فلا ندع كبرياءنا يقف في طريق فهم كلمة الله وتنوير الجهّال. في المقابل نرى يسوع مربي الضمائر يقول: “لا تسمحوا بأن يدعوكم أحد: يا معلّم، لأن معلّمكم واحد…” (متى 23/8). وقد دُعي المسيح بـ “المعلّم” أكثر من خمس وأربعين مرّة، وقد استحقّ هذا اللقب وأحبّه ولم يرفضه: “تدعونني معلماً وحسناً تقولون، لأني أنا كذلك”. (يو 13/13). انطلاقاً من هذا الكلام نتجاسر ونقول: إن يسوع هو المعلّم العالم المملوء حكمة وفهماً ودراية، والقائد القدوة، يعلّم بحياته ويفعل ما يعلّمه، والمربّي الهادف في تعليمه. لا يرغب في التعليم لأجل التعليم، بل كان هدفه التربويّ تلاميذه. وقد صرف الوقت معهم بهدف تغيير نفوسهم وطباعهم وسلوكهم، وبهدف أن يخلق فيهم إنساناً جديداً. وأخيراً كان يسوع المتكلّم الواضح، والحريص على أن يُفهم سامعيه كل ما يقوله. يقول القديس بولس: “ليس عندنا نحن إلاّ إله واحد هو الآب الذي منه كل شيء، ونحن له، وربّ واحد هو يسوع المسيح الذي به كل شيء ونحن به” (1قور 8/6). نستخلص من كلام بولس أن يسوع المسيح يعلّم الذين لا يعرفون شيئاً.
يبقى علينا نحن المؤمنين أن نسير على خطى يسوع المعلّم، ونعتمد خطّة ملّحة تقوم بنقل الناس من الجهل الى اكتشاف الحقيقة، وإعطاء المعنى الوجودي لحياتهم. في هذا المجال تمنّى البابا فرنسيس توضيح ما يجب تعليمه للذين يجهلون كلياً الإيمان المسيحي، وقد ركّز على “قلب الإنجيل”، “حيث يتألّق جمال حبّ الله الخلاصي المعلن في يسوع المسيح الذي مات وقام من بين الأموات” (فرح الإنجيل 36).
إن تعليم الجهّال من الناحية التطبيقية، هو فعل رحمة بامتياز لأنه يتطلّب: الإتّضاع والقناعة، والنشاط والأمانة. هذه الصفات مجتمعة بإمكانها أن تحقّق عند الجهّال أربع نتائج:
- التساوي بين الناس: إن الأيام والظروف باعدت بين الناس فجعلتهم طبقات، فكان لا بدّ من الإهتمام بالجهّال لتخفيف التفاوت بين البشر المتساوين في المبدأ والغاية.
- رفع الإنسان الجاهل الى مستوى أبناء الله: معلوم أن إلهنا خلقنا لنكون أبناءه، وأن المسيح تأنّس ليجعلنا إخوته وشركاءه، وليردّ الجهّال الى طريق النور والحقّ.
ج) قلب المفاهيم السائدة في المجتمع: كان المجتمع وما زال فريسة القوّة والمال والجنس، ولا أهمّية لباقي المفاهيم الأدبية والروحية. ولئن أمر يسوع تلاميذه لآداء رسالة التعليم، فلكي يقلب هذه المفاهيم، ويقوّي منسوب المعرفة عند الجهّال.
د) إرجاع الإنسان الى حدوده: منذ القدم والإنسان المعتدّ بمكانته ومعرفته، يزدري الجاهل. فجاء المسيح الخادم وفاعل الخير وأعطانا القدوة كي نتحلّى بالحرص والغيرة، لنردّ للإنسان الجاهل والمزدرى كرامته الإنسانية.
- تحذير الخاطئين: ان يسوع هو حقاً ضدّ الخطيئة، وجاء الى العالم ليقهرها، لأنه يعرف أنها أحد الأسباب الرئيسية للشرور التي تلحق بالإنسان. لكنه في المقابل، أحبّ الخاطئ وطلب منّا أن نحرّره بالحب والمغفرة، شرط ألاّ يعود الى الخطيئة . إن مسألة النصح الأخوي هي حاضرة نسبياً في العهد الجديد وتتميّز بالواقعية. فعلى النصح الأخوي ألاّ يأخذ منحى “الدينونة”، بل خدمةَ الحقيقة ومحبة القريب، لأن هذا “الأخ الخاطئ”، هو قريب، وليس عدواً. يقول الرسول يعقوب: “إن ضلّ أحدكم عن الحقّ وردّه أحد إليه، فليعلم أن من ردّ خاطئاً عن طريق ضلاله، خلّص نفساً من الموت وستر كثيراً من الخطايا” (5/19-20). هناك شرطان للنصح الأخوي: الأول، أن يُمارس بحزم إنما بدون قساوة وتجريح وتحقير: “وأنتم أيها الآباء، لا تثيروا غضب أبنائكم، بل ربّوهم حسب وصايا الربّ” (اف 6/4). ويقول الرسول بولس في مكان آخر: “إن كل تأديب يبدو في ساعته باعثاً على الحزن، لا على الفرح. إلاّ أنه يعود فيما بعد على الذين عانوه بثمر البرّ والسلام” (عبر 12/11). أما الشرط الثاني للنصح الأخوي فهو التمييز، الذي يتطلّب إيجاد اللحظة الملائمة، والحفاظ على مكانة الخاطئ والعمل على طمأنته لا على إدانته، باعتبار أننا نحن أيضاً خطأة وبحاجة الى نصح وإرشاد. وفقاً لهذيْن الشرطيْن، تكون عملية النصح الأخوي لأخينا الخاطئ، فعل رحمة يحمل معه ثمار البركة والسلام.
فحص ضمير (استيحاءً من “الإبن الشاطر”):
إذا خطئ إليك أحد، أتنتظره وتراقب طريق عودته، أم تتركه وشأنه؟
إذا عاد نادماً، أتستقبله بسيف النقمة أم تسامحه ولا تتركه يتابع إعتذاره؟
هل تعيد إليه المكانة الأولى التي كانت له في قلبك؟
إذا وُجدتَ في حالة خطيئة وابتعاد عن الذي يُحبّك، فكيف تتصرّف؟
أتستمّر في عنادك وترفض الرجوع عن خطيئتك؟
هل تعرف أن ندامتك لا تسبّب خلاصاً لك فقط، بل تُفرّح الذي يُحبّك؟
إن توجيهات الرب يسوع في التعامل مع الذين يُخطئون، هي موجّهة الى المؤمنين، من أجل حلّ النزاع داخل الجماعة أو الكنيسة، وتصلح لأن تكون خطّة لمصالحة من يختلفون معنا حتى نعيش في وحدة وانسجام. ما يجري أحياناً أنه عندما يخطئ إلينا أحد، نتصرّف عكس ما أمر به يسوع، ونتحوّل عنه بجفاء وقساوة، ونسعى الى الإنتقام، ونشر الإشاعات المغرضة. إن ما يطلبه منّا الربّ، يقوم على أن نذهب أولاً الى ذلك الشخص، مهما بدا ذلك صعباً ومتعثراً، ثم نغفر له “لا سبع مرات، بل سبعين مرّة سبع مرّات” (18/22). وهذا معناه ألاّ نضع حدّاً لعدد المرات التي نغفر فيها، بل علينا أن نغفر دوماً لكل من يأتي إلينا تائباً بالنسبة الى يسوع.
نصائح يقدّمها البابا فرنسيس الى التائب في كرسي الإعتراف:
- التشديد على أصالة حياته أمام الله، بما يفكّر، وبما يشعر
- إعطاء الإعتبار لذاته والإقرار بخطيئته بكل صدق وشفافية
- على الخاطئ ألاّ يترك ذاته يفاجأ بتدخل الله في حياته
- الشعور بعدم الإكتفاء، والفراغ والتعاسة
- إبعاد روح التكبّر، والتصرّف “بقلب منكسر”
نصائح قداسته للكاهن المعرّف:
- التفكير بخطاياه
- الإستماع بحنان
- الصلاة للربّ كي يعطيه قلباً رحوماً مثل قلبه
- عدم رمي التائب بالحجر الأول، لأنه هو أيضاً خاطئ وبحاجة الى مغفرة
- السعي الى التشبّه برحمة الله
- التأمّل في مثل “الابن الشاطر”، لاكتشاف حب الله ورحمته الغزيرة
- تعزية المحزونين: الحزن هو واقع انساني شامل، فلا حياة تخلو منه. إنه رفيق الدرب من الولادة حتى الممات. لذا نحن مدعوون الى الوقوف أمام معضلة الحزن والى جانب المحزونين لنعزّيهم ونساعدهم ونسعدهم يقيناً منّا أن تحرير المحزونين من كابوس الحزن ودموع الكآبة والقهر واليأس، هو فعل رحمة.
حسب العهد القديم، عرفت أورشليم اختبار التخلّي الكامل عن الله وحرمها حلفاؤها كل أنواع التعزية من حلفائها، فقالت: “يهوه تخلّى عنّي، والربّ نسيني” (اش 49/14). ولئن أحسّ بنو اسرائيل أن الله قد تركهم في بابل، فإن أشعيا يؤكّد أن الله لا ينساهم أبداً، كالأم التي لا تنسى رضيعها: “عزّوا عزّوا شعبي يقول إلهكم” (اش 40/1): “يهوى عزّى شعبه ورأف بمحزونيه” (اش 49/13). وهكذا يكون الرب قد أصرّ على تعزية شعبه لأنه، الراعي الصالح، والأب الحنون، والعريس، والأم الرؤوم.
- الراعي الصالح: “يرعى قطيعه كراعٍ، ويجمع الخراف بذراعه، وفي أحضانه يحملها ويقود المرضعات برفق” (اش 40/11). غالباً ما يُشبّه الله براعٍ قدير، وفي الوقت نفسه رقيق ورحوم. إنه الراعي العظيم الذي يهتم بأضعف فرد في شعبه، ولا سيما تجاه الحزين والمنكوب.
- الأب الحنون: أطلق اسرائيل على الله تسمية أب، لا عن طريق البرهان والقياس، بل عن اختبار عاشه مقارنة مع مفاهيم الشعوب المجاورة. فالفكرة الأساسية للأبوّة هي سيادة جوده، وعناية فائقة تتطلّب خضوعاً وثقة. لكن ملء الأبوّة تحقّق بأنه أبو يسوع المسيح ، الابن الوحيد والحبيب.
- العريس: الله هو راعي شعبه وأبوه، ولكنه أيضاً عريسه. كل ذلك بفضل اختبارات الحياة معه، وابراز حرارة المحبة الإلهية: “لا تخجلي يا أورشليم… لأن بعلك هو صانعك… وفاديكِ هو قدوس اسرائيل الذي يُدعى إله كل الأرض”. (اش 54/4-8).
- الأم الرؤوم: هي صورة تؤكّد محبة الربّ لشعبه، كالأمّ التي ترحم ابن أحشائها: “وأعزّيكم كما تعزيّه أمّه” (اش 66/13). نشير الى أن كلمة “الرحمة” مشتقّة من رَحِم المرأة، المكان الذي تتكوّن في داخله كل حياة بشرية. من هذا المفهوم يُظهر الأنبياء الله كأب في أحشاء أمّ. وفي حب الله يلتقي شعور الأب مع حنان الأم، كما يقول سفر المزامير: “إذا تركني أبي وأمّي فالربّ يقبلني” (27/10). لهذه الأسباب أعطى الربّ شعبه وعده وحبّه، كما أعطى الشريعة والأنبياء، والكتب التي تساعد على تخطّي الأحزان والعيش في الرجاء.
نصل الآن الى يسوع الذي سُمّيَ بـ “عزاء اسرائيل” (لو 2/25)، وعُرِف بالمعزّي (يو 2/1)، معلناً تطويبته الشهيرة: “طوبى للمحزونين لأنهم يُعزّون” (متى 5/5). في هذا الكلام يتحدّث الإنجيلي عن الحزن، أعني الشدّة الداخلية ونوعية عيشها، بينما لوقا يذكر البكاء أي المظهر الخارجيّ. والمعنى المقصود، أن المحزونين هم سعداء لأن الرب هو عزاؤهم. والمحزونون، هم المؤمنون الذين في غمرة محن الحياة وشدائدها، يضعون ثقتهم في محبة الله، ومنه وحده ينتظرون الرجاء والنجاة من أحزانهم. إذاً دور المسيح هو دور تعزية. هو المعزّي الأول، وسيرسل لنا الروح القدس المعزّي الآخر.
لئن كان متى يشدّد على الوضع الباطني، ولوقا على المظهر الخارجي، فكلاهما يدعونا الى النظر في كيفية عيشنا المعاناة والألم، ومساندة القريب في شدّته. وهذا ما فسّره بولس بقوله: “تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح، أبو الرأفة وإله كل تعزية. فهو الذي يعزّينا في جميع شدائدنا لنستطيع، بما نتلقّى من عزاء من الله، أن نعزّي الذين هم في أية شدّة كانت… فإذا كنّا في شدّة، فإنما شدّتنا لعزائكم وخلاصكم. وإذا كنّا في عزاء فإنما عزاؤنا لعزائكم” (2 قو 1/3-6).
والخلاصة أن يسوع لا يريد أن يطوّب مظهراً خارجياً، ولا حالة نفسية ولا وضعاً اجتماعياً، بل أن يبشّر بتدخّل الله وارساله المعزّي ومجيء الملكوت. وفي الوقت ذاته يقدّم الشجاعة للمتعبين بالخطيئة أو بالمرض. وعلى الكنيسة، أن تحذو حذو يسوع وبولس، لتشهد أن الله يعزّي الفقراء والمحزونين. لكن التعزية الإنسانية نراها في سفر الرؤيا عندما يقول الكاتب: “ويمسح الله كل دمعة من عيونكم” (7/17). فهنيئاً للمحزونين التائبين عن خطيئتهم. هنيئاً للمحزونين جرّاء الشرّ المنتشر في العالم. هنيئاً للمحزونين بسبب الإضطهاد الذي يعانون منه وهم واثقون بأن الكلمة الأخيرة هي لله المخلّص. هنيئاً للمحزونين بسبب خطايا شعب الله المؤمن وقد انحرفوا عن طريق عودتهم الى القداسة. هنيئاً للمحزونين من أجل هموم الكنيسة ورسالتها الصعبة في إرشاد الناس وخدمتهم، وفي رأب صدع الإنقسامات فيها، وفي تعزية المتألّمين من أعضائها… هنيئاً لهم لأنهم يعزّون. والله وحده هو المعزّي بروحه القدوس. لأن الألم والحزن والتوبة تسمح للروح القدس بالعمل في القلوب ليتحوّل الإنسان الى صورة المسيح تمجيداً لله.
نرفع الى الله شكوانا وآلامنا وصعوباتنا، واثقين بأن آلام هذا العالم لا توازي المجد المعدّ لنا في السماوات.
- مغفرة الإساءآت: “اغفر لنا ذنوبنا كما نحن نغفر لمن أساء إلينا” (متى 6/12).
حقاً إنه لأمر صعب أن نطلب المغفرة عن ذنب اقترفناه. وأمر أصعب وأكثر مشقّة، أن نغفر لمن أساء إلينا. لأننا جميعنا بحاجة الى أن نغفر ونستغفر. فلو لم نكن خطأة وبحاجة الى الصفح أكثر مما الى الخبز، لما كان يسوع وضع على لساننا هذه الطلبة. فبالمغفرة نعود الى الله والى القريب والى نفسنا، ونعيش أخوة أحبّاء. كل ذلك لأن مغفرة الإساءآت تُعدّ فعل رحمة روحي، يُقوّي روابط المحبة والسلام.
إن تاريخ الكتاب المقدّس هو تاريخ الإعلان عن الله بأنه “قادر على المغفرة”: “أنا الرب إله رؤوف رحيم… أغفر الإثم والمعصية والخطيئة، ولكني لا أعفي المذنب من العقاب” (خر 34/7). إنه تأكيد يتخطّى شريعة الغاب “العين بالعين والسنّ بالسنّ” (خر 21/24). هذا ما أنجزه يسوع عندما قال: “سمعتم أنه قيل: “أحبب قريبك وأبغض عدوّك، أما أنا فأقول لكم أحبّوا أعداءكم وصلّوا لأجل الذين يضطهدونكم، فإن أحببتم من يحبّكم فأي أجرٍ لكم” (متى 5/44-46). ذكر العهد القديم محبة القريب (لا 19/18)، لكنه ما فرض محبة الأعداء. أما موقف يسوع فكان مُغايراً: لا أعداء للمسيحي الذي يعتبر كل واحد قريبه، مقتدياً بالآب السماويّ الذي لا يميّز بين الأخيار والأشرار حين يُشرق شمسه أو يرسل مطره. وأعطى يسوع مثليْن عن الذي يحبّ من يحبّه، ويُحيّي فقط من يُحييه. في هذه الحال، بماذا يختلف هذا المؤمن عن جابي الضرائب، الخاطئ؟ أو بماذا يختلف “اليهودي” أو المسيحي عن “الوثني”؟ إن قاعدة الحب القويّ للعدوّ، تتجاوب مع حبّ الله المميّز ليسوع الذي “أحبّ أخصّاءه الذين هم في العالم، أحبّهم منتهى الحبّ” (يو 13/1). فالحبّ هو الذي يعطي عمل يسوع معناه، ويعطي آلامه غايتها. وأحداث الفصح هي آخر تعبير عن هذه المحبة التي تحمل الخلاص للإنسانية.
من الناحية البشرية لا يمكن أن ننكر أن حبّ العدوّ هو بالتأكيد ما يُلزم ويُحرج في كلمات يسوع، التي تُعتبر بحق العلامة الفارقة للمسلك المسيحي. ولذا فإن محبة العدو هي وصية من “صنع” مسيحي. لأن من لا يحبّ من يبغضه، لا يُعدّ مسيحياً. إن حبّ الأعداء هو شريعة رئيسية، وجوهر سامٍ للفضيلة. ولهذا السبب، يعتبر القديس توما الأكويني أن المغفرة “للأعداء”، تخصّ كمال المحبة. وهنا تبرز أهمية المغفرة لتحقيق عمل الرحمة الحاضر في صلاة “الأبانا”: “اغفر لنا ذنوبنا، كما نحن نغفر لمن أساء إلينا” (متى 6/12، لو 11/4).
إن لسرّ المصالحة أهمية تقريرية. يقول البابا فرنسيس: “كثيرون يقتربون من هذا السرّ، وبخاصة الشباب،… ليعيشوا زمن صلاة مكثّف، ويكتشفوا من جديد معنىً لحياتهم، كون سرّ المصالحة يتيح لنا أن نلمس بأيدينا عظمة الرحمة والسلام الداخلي. لأن الكهنة المعرّفين يشكلّون علامة حقيقية لرحمة الآب”.
أمثولات عملية:
- الله رحمة لأنه محبّة: إلهنا رحمان وأبو المراحم، كثير الرأفة والرحمة، والكتاب المقدس في عهديْه، لا يملّ من التذكير، “بأن الله يفيض رحمته على كل ذي جسد…” (سيراخ 18/11-14)، وهذا ما يميّزه عن الإنسان، الذي لا يتوّقف عن إطلاق صرخة النجدة: “إرحمني يا ربّ كعظيم رحمتك” (مز 51/1)، ولا عن الإشادة بمراحم الله: “لأن الى الأبد رحمته” (مز 106/1)، كونه يعرف شقاء الإنسان ويتحسّس بؤسه: “نظرت الى مذلّة شعبي… ونزلت لأنقذهم” (خر 3/7).
- يسوع الرحيم: اتّسمت حياته وكل تصرفاته بالرحمة الإلهية. والمفضّلون لديه هم جموع الفقراء والمساكين، المراهقون والمثقلون، العرج والبرص والصم. فيه يجد الخطأة صديقاً، فلا يخشى معاشرتهم ومؤآكلتهم والإقامة في منازلهم. ولأنه أشفق على الجميع، قصده الجميع لاسيما البائسون صارخين إليه: “رحماك يا ربّ” (متى 4/24). ومعه تصل الرحمة الى ملئها وكمالها لأنه جاء الى العالم ليخلّص الخاطئين، ويظهر لهم رحمته وطول أناته.
- خطايا وهدايا: أن يتصالح الإنسان مع ذاته، يعني أنه ينظر الى حياته وجهاً لوجه، أو قلباً لقلب، ويتعامل مع حياته تحت نظر المسيح وعنايته. إذ لا خجل بين الإنسان وذاته فكم بالأحرى بينه وبين المسيح. ان المصالحة مع الذات صدق مع المسيح. يقول أحد آباء الكنيسة: “ما هي أجمل هدية أقدّمها للمسيح؟ فأجاب: خطاياي!” فمصالحة الذات هي ألاّ يحرم الإنسان مسيحه من هديته هذه. حبّذا لو أن المؤمنين ينتبهون الى هذه الحقيقة، فيجدون في خشبة الإعتراف الوصول الى خشبة الصليب.
- تحمّل الأشخاص المزعجين بصبر: يقول سفر الأمثال: “البطيء الغضب خير من البطل، والرجل الذي يسيطر على ذاته هو خير من قاهر المدن” (أم 16/32). “بالصبر يتمّ إقناع الحاكم، واللسان الليّن يكسر العظام”. (أم 25/15). بينما يشوع بن سيراخ يقول: “إن الصبر لأفضل من الإدّعاء” (7/8). على الرغم من هذه الحِكَم، يبقى أيوب القدوة المثالية للصبر: “الرب أعطى والرب أخذ، فليكن اسمه مباركاً” (2/10). وكان يأبى أن يتخلّى عن الله، مع أنه لا يفهم لماذا يحدث له كلّ ذلك. وعلينا نحن أيضاً أن نثق بالله ونصبر على المحن عندما لا نفهم لماذا حلّت بنا.
في العهد الجديد، يُشيد الرسول يعقوب “بصبر أيوب”، ويؤكّد أنه تعبير عن رحمة الله: “هنيئاً للذين صبروا. سمعتم بصبر أيوب وعرفتم كيف كافأه الرب. فهو رؤوف رحيم” (5/11). ان الصبر، مثله مثل الحب، هو من ثمار الروح، يفتخر بها بولس لأنه يولّد الثبات والرجاء الذي لا يخيب. لذا، نرى رسول الأمم في نشيد المحبة يُعلن أنها “تصبر وتحتمل” (1قو 13/1-13). وهذا يعني أننا نحن أمام أمور عملية، لا أمام نظريات لا تمتّ الى الحياة بصلة. في المقابل علينا أن نسلّم بأن “الصبر هو فنّ”، وبخاصة عندما نتحمّل بصبر، وبحرية، وبحبّ، تصرّف أشخاص مزعجين، محدودين. عندئذٍ يتحوّل صبرنا الى فعل حب. ويكون الصبر فناً، عندما نحيل الأمر الى ذواتنا، ونكتشف أن في تصرفاتنا ما يسيء الى الآخرين عن معرفة أو غير معرفة، لأن الله بالمسيح تحمّلنا بصبر، من خلال حبّه غير المشروط لنا: “وليكن بعضكم لبعض ملاطفاً رحيماً غافراً كما غفر الله لكم في المسيح” (اف 4/32)، إن الموقف الأساسي في المسيحية هو غفران لبعضنا البعض. المسيح غفر ونحن نغفر. كان حنوناً رحيماً، ونحن نكون رحماء على مثال الآب السماويّ. (لو 6/36).
يعتقد الكثيرون ان إيمانهم بالله يحميهم من المتاعب. فعندما تحلّ بههم كارثة، يشكّون في صلاح الله وعدله. لكنّ رسالة أيوب تؤكّد أنه لا يجب أن نيأس من الله لمجرّد أن أمورًا رديئة قد حدثت. فالإيمان بالله ليس ضمانًا للنجاح الشخصي، كما ان عدم الإيمان ليس علّة حتميّة للمتاعب في هذه الحياة. فلو كان الأمر كذلك، لآمن الناس بالله لمجرّد أن يحصلوا على ما يبتغون. ان الله قادر أن ينجينا من الألم، ولكنه قد يسمح للألم أن يحدث لأسباب لا نستطيع أن ندركها. ولو كنّا نعرف على الدوام لماذا نتألّم، لما كان ثمّة مجال لإيماننا أن ينمو.
وفيما يشعر الكثير من الناس بالمرارة، بسبب ضيقات متنوعة، يُطلب منّا أن تكون مواقفنا من الأمور السلبية مشابهة لموقف يسوع، أي:
- التذكّر دومًا أن خطة الله صالحة. فالله يعرف ما هو الأفضل لنا. ومن الضروري أن نبقى مركّزين على خطة الله، وليس على ضيقاتنا ومشاكلنا.
- الإبتهاج والشكر، ان الله لا يتوقّع منّا أن نكون شاكرين من أجل الشرور والمعاناة أو من أجل عواقبها الأليمة في حياتنا، بل انه يريدنا بدلاً من ذلك أن نشكره ونبتهج، لأنه سيستخدم آلامنا لتحقيق مقاصده.
- رفض الاستسلام والتمسّك بالصبر: “فأنتم تعرفون ان امتحان إيمانكم في المحن، يلد الصبر، فليكن الصبر حافزًا لكم على العمل الكامل، حتى تصيروا كاملين من جميع الوجوه، غير ناقصين في شيء” (يع 1/ 3 – 4). إن كنّا نواجه ضيقًا ما، يجب ألاّ نسأل: “لماذا أنا؟”، بل لنسأل بدلاً من ذلك “ما الذي تريده منّا يا ربّ أن نتعلّمه؟ فلنتمسّك بالرب ونستمر في عمل الصواب، “لأننا بجاجة الى الصبر حتى نعمل لمشيئة الله ونحصل على وعده” (عبرا 10/ 36). ولذا علينا ألّا نستسلم لأن هناك قصدًا وراء كل مشكلة قد تكون لصالحنا.
- الصلاة لله من أجل الأحياء والأموات: بالصلاة نصل الى قمّة أعمال الرحمة الروحية السبعة، لأنها عطية من الله من خلال علاقته بالإنسان. فالصلاة هي لقاء عطش الله بعطشنا. والله يشعر بالعطش بقدر ما نحن عطاش إليه. إن الصلاة المسيحية هي علاقة معاهدة بين الله والإنسان في المسيح، وهي بالتالي، أصل كل أعمال الرحمة.
لكي نفهم معنى الصلاة وعلاقتها بالحياة، اتخّذ التقليد المسيحي كقاعدة سلوك، شعار القديس بنديكتوس: “صلِّ واعمل”، هذا الشعار طبع الروحانية التنسّكية والروحانية الشاملة. ممّا دفع القديس اغناطيوس دي لويولا ان يعلّق ويقول: صلّوا وكأن الأمر متعلّق بالله، واعملوا وكأن الأمر متعلّق بكم”. فإن عمل الرحمة يؤكّد على أهميّة “شركة القديسين” في الكنيسة، التي تشمل شركة أعضاء الكنيسة الذين هم في حالة حجّ على الأرض، وينضمّ إليهم الطوباويون في السماء، والمصنّفون “قديسين” بفضل معموديتهم. لأن فكرة الصلاة لأجل الأموات ليُحَلّوا من خطاياهم هي فكرة مقدّسة. فصلاتنا لأجلهم، من شأنها لا أن تساعدهم فحسب، بل أن تجعل شفاعتهم فينا مستجابة. ولذا فإن الإتحاد بين الأعضاء الموجودين على الأرض، وإخوتهم الذين رقدوا في سلام المسيح، لا يشوبه أي انفصام، لا بل إنه يتوثّق بتبادل الخيرات الروحية. وإذا كان سكان السماء يرتبطون بالمسيح ارتباطاً وثيقاً، ويشفعون فينا لدى الآب، فهذا يُعدّ اهتماماً أخوياً وعوناً لضعفنا. يقول بولس: “إذا تألّم عضو تألّمت معه جميع الأعضاء، وإذا أكرم عضو فرحت معه سائر الأعضاء” (1قو 12/26). في أية حال، على الصلاة من أجل الأموات أن ترتكز أولاً وآخراً على الإيمان بالقيامة، كيلا تكون صلاتنا سطحية ودون جدوى. كل ذلك، لأن الحبّ هو أقوى من الموت.
نفهم ممّا تقدّم أنه عندما نصلّي من أجل إنسان حيّ، نضعه تحت نظر الله الرحوم والمحبّ، ونتوسّل لهذا الشخص عطية الله وبركته، كي يجد طريق الحياة. وأيّاً كانت النتيجة، على هذا الإنسان أن يقول ما قاله يسوع: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”. إن صلاة التوسّل تحضّرنا لنكون جاهزين لنقبل إرادة الله ونعيش بموجبها، وأيّا كانت: “والثقة التي لنا عند الله هي أننا إذا طلبنا شيئاً موافقاً لمشيئته، إستجاب لنا” (1 يو 5/14).
خلاصات عملية:
- اليقظة والمصالحة والصلاة: إن أعمال الرحمة الروحية السبعة، تُختصر بثلاثة عناوين:
- اليقظة: تشمل نصح المشكّكين، وتعليم الجاهلين، وتحذير الخاطئين.
- المصالحة: تتضمّن تعزية المحزونين، والمغفرة للمسيئين وتحمّل المزعجين.
- الصلاة لأجل الأحياء والأموات المؤمنين.
- الطوبى للفقراء: إن أعمال الرحمة تشكّل شهادة ناطقة للحبّ تجاه الفقراء، لأن الله منحهم “رحمته الأولى”. وفي السياق نفسه نرى البابا فرنسيس في الإرشاد الرسولي “فرح الإنجيل”، “يشدّد بكثير من الحزم على المحبة الأخوية، والخدمة المتواضعة والسخيّة، وعلى العدالة والرحمة تجاه الفقراء” (194). ويطلب من الناس “الميسورين” أن يضعوا بعضاً من خيراتهم في خدمة المعوزين، الذين لهم مكانة خاصة في قلب المسيح الذي “صار فقيراً” (2قو 8/9). كما أنه يَطمئنّ الى إن كل المنهكين بالألم، والمقهورين بالفقر، لن يكونوا فريسة الإهمال، لأن الله يحملهم في قلبه: “طوبى للفقراء، لأن لهم ملكوت السماوات” (لو 6/20)، ويتماهي بهم: “كنت جائعاً وأطعمتموني”. وإن الرحمة تجاههم هي مفتاح السماء. وعلى تفضيل الله للفقراء أن يحمل في طيّاته نتائج إيجابية في حياة إيمان المسيحيين المدعوين لأن “يكونوا على فكر المسيح يسوع” (فيل 2/5). لهذا السبب قال قداسة البابا: “أريد كنيسة فقيرة لأجل الفقراء. إننا مدعوون الى أن نكتشف المسيح فيهم، أن نعيرهم صوتنا للدفاع عن قضاياهم، لكن أيضاً بأن نكون لهم أصدقاء، وأن نصغي إليهم” (فرح الإنجيل 198).
- أشكال الفقر في أعمال الرحمة: إن أعمال الرحمة الجسدية والروحية الأربعة عشر، يمكن أن توزّع على أربعة اشكال من الفقر، هي:
- الفقر الإقتصادي: نقص في التغذية، الإفتقار الى المسكن، البطالة، والحالات المرضية.
- الفقر الثقافي: الأمّية، غياب التنشئة، المستقبل المجهول، والفرز الإجتماعي.
- الفقر الإجتماعي والعلائقي: الوِحدة، والإنطواء على الذات، وفقدان أحد أفراد العائلة، والتهميش حتى الإلغاء.
- الفقر الروحي: الشعور بالفراغ الداخلي، الحزن، اليأس، اللامبالاة، تهميش البعد الديني.
- تذكّر تحذير يسوع: “إن كان برّكم لا يفوق برّ الشريعة والفريسيّين لن تدخلوا ملكوت السماوات”. والبرّ هنا هو الأمانة الجديدة لشريعة الله. إن يسوع يرفض منطق الكتبة والفريسيّين، لأنهم ظلّوا خارج الملكوت. ومن سار على خطاهم كان له مصيرهم. هذا البرّ الزائد” الذي يطلبه يسوع من تلاميذه ما هو سوى تكثيف لنوعية الحياة تجاه الله. فالمطلوب ليس إتمام الشريعة في أدقّ تفاصيلها فحسب، إنما في تحقيقها من خلال عطايا وخدمات على مثال حبّ الله الفائض، الذي ظهر في يسوع. ولذا على الرحمة أن تتخطّى البرّ.
- إعطاء الأولويّة للآخر. هذا ما قام به يسوع وهذا ما يختصر نشيد رسالة فيليبيّ (2 : 6-11): أخلى يسوع ذاته متخّذاً صورة عبد في سبيل إيصال الخلاص للآخرين. لم يجعل مساواته لله تمنعه من تحمّل الصعوبات والألم والموت وأعطى الأولوية للقريب. قد نعتقد أن المحتاج هو الفقير مادياً أو المجروح جسدياً، فنبقى على مستوى الحاجة الخارجية. هناك احتياجات من كل الأنواع: مادية، معنوية، روحية، إجتماعية ونفسية، فالأولوية تكون دوماً للآخر المُحتاج من خلال الرحمة. لأن كل واحد من البشرية هو، بنوع أو بآخر، محتاج الى الحنان والرحمة.
وانطلاقاً ممّا تقدّم، يُطلب من المؤمن أن يجعل على هذه الأرض من بيوت الفقراء، أهراءه، حتى تترفّع نفسه عن الكنوز الأرضية ويتعلّق قلبه بالسماويات. فالله يمنحنا دائماً فرصة، علّنا نعطي ثمراً. فسنة الرحمة ليست سنة راحة، إنها زمن العمل على الذات، وزمن التقدّم نحو الأفضل.
فلنفحص ضميرنا ونسأل: هل نعي أن هذه الفرصة هي اليوم وليست السنة المقبلة؟
هل نتأخّر في زرع بذور الرحمة في قلوبنا؟
لماذا لا نطلب القوّة من إله الرحمة الذي يهبها لنا؟
في كل الأحوال علينا أن نأخذ القرار ونسمح لله أن يعمل فينا.
للتفكير:
هل الرحمة صارت عملة نادرة؟
قد تعاني بعض الدول من نقص في العملات الأجنبية لأسباب عديدة، وفي المقابل كلها تعاني من نقص حاد في عملة اسمها الرحمة، التي تُعدّ نقداً نادراً حتى في المؤسسات الإنسانية والدينية المُلزمة بالعطاء، كما لو أن شمس الرحمة شارفت الغروب.
ليت الرحمة تصير عنواناً لحياتنا، فنرحم الآخرين ونهتم بحاجاتهم. يا ليتنا نرحم أنفسنا أيضاً.
نعم! أحبائي، هل صارت الرحمة عملة نادرة؟ وإذا قيل إن العملة الجيّدة تطرد العملة الرديئة، نقول نحن: إن عملة الرحمة ستطرد عملات الشرّ والأنانية والقسوة وغيرها. ودعونا نتطلّع الى عالم ومجتمع وكنيسة تسود فيها الرحمة. فهل هذا يُعدّ حلماً؟
على أي حال، يدعو الرب كل إنسان الى الإسهام في الملكوت. لأنه مع الرب لا تصنيف بين أولّين وآخرين. لكنّ التصنيف الحقيقي، يكمن في تلبية نداء الدعوة الى الرحمة أو عدم تلبيتها. فالتعاطي مع الرحمة لا يرتبط بتوقيت. لأن ما يهمّ الرب هو أن ننهي حياتنا معه، لأنه يُعطي الأجر للذّين بدأوا وأنهوا حياتهم في خدمة المحتاجين.
المدعوون كثيرون، أما الراحمون فقليلون. دعوة الرب الى المشاركة في ممارسة أعمال الرحمة مفتوحة للجميع، لكنّ المشاركة الحقيقية تقتصر على الراحمين الذين يؤمنون بالربّ، ويسعون الى عيش القداسة من خلال الرحمة. عندئذٍ يتحوّل الحلم الى واقع.
صلاة:
إمنحنا يا ربّ نعمتك لتكون كل أعمالنا إنعكاساً لرحمتك، وتكون أفكارنا متجذّرة بما هو لك. فلا نحيد عن طريق خلاصك. آمين.