الدكتور أنطوان طعمة
مقدّمة: السير معًا مع مريم إلى يسوع
سأل معلّم التعليم المسيحي في مدرسة خاصة كاثوليكية مميزة من مدارس ضواحي بيروت، كنت مسؤولاً تربويًا فيها، تلاميذ الصف الأساسي الثالث: “ما معنى الحجّ ؟” ونقل لي باعتزاز جواب ابنتنا البكر كرمة عن سؤاله، فقالت يومها: ” الحجّ هو السير معًا مع مريم إلى يسوع”. اخترت الدخول من هذا التعريف البسيط – العميق المنطبع في ذاكرتي إلى معالجة موضوع هذا المقال بعنوان: “مريم والروحانية الزوجية”، في ضوء الاختبار الذي أعيشه، مع زوجتي منى، منذ ما يقارب الأربعين سنة، في حركة فرق السيدة، وهي حركة مسيحية، تصف نفسها بأنها حركة روحانية زوجية، على الرغم من كونها تضمّ مؤمنين ناضجين ملتزمين، عاملين في خدمة الكنيسة والمجتمع. إن مفهوم الحج الداخلي هو الذي وضعنا في مسيرة مع جماعة، ودفعنا الى الخروج من الاكتفائية والانعزال، بحثا عن أفق للنموّ في عيش الحب الزوجي. يقول أندره كاب في كتابه المميّز عن الحجّ الى لورد “مريم طريق ينبوع حيّ ” نقله الى العربية الخوري الصديق أنطوان سركيس : “إن الله لا يستطيع أن يتوجّه الى الإنسان المنطوي على نفسه. فإله الطريق والحجّ لا يمكنه أن يماشي ذهنيّة إنسان يعتبر أنّه وصل…” (ص50) ويضيف الكاتب: ” في شخص مريم، هو الله يأتي ليولد مجدّدًا في عالمنا. وفي شخص مريم، هي الأرض تستقبل إلهها: إنّ مسعى الحجّ يقود الإنسان نحو هذا التسليم وهذه الدعوة، وهو أشبه بعودة الابن الضالّ…” (ص53). وعن الحرية التي تقول نعم يضيف: “مريم هي الأرض التي تبدو في حالة حوار مع ذاتها الأخرى، هي حرية تقول نعم… والإنسان مدعو أن يؤكّد بكلّ كيانه ما هو بكلّ بساطة أصله البيولوجي: إنّه لا يصنع ذاته، بل يقبل ذاته المعطاة له. والفتح الوحيد الذي عليه أن يحرّره، هو ثمرة تغلّب على الأنانية والانطواء.إنّه لا يستولي على كيانه، لكنّه يتقبّله كلّ يوم” (63). وأودّ أن أستحضر، منذ البداية، مقارنةً لأحد كبار آباء الكنيسة الشرقية هو القديس غريغوريوس النيصي يجمع فيها بين مريم والكنيسة والنفس المؤمنة على أن كلاًّ من الثلاث مثل “حشا مريم” يستقبل الله ويمتلئ منه، ليلده ويحمله إلى العالم والآخرين. وهل من غاية لوجود حركة فرق السيدة أسمى من أن تكون، على مثال شفيعتها مريم، مساحة امتلاء من روح الله القدوس، وجعله خميرة حيّة محيية في عيش الأزواج المنتمين إليها، كما في عيش إخوتهم من البشر الآخرين، وبخاصة على صعيد العائلة، خلية كل مجتمع وكل حياة ؟! لا أخال أحداً يجهل أهمية العائلة ودورها في إعطاء الحياة واحتضانها وإنمائها، وفي المقابل شراسة ما تتعرض له الحياة الزوجية والعائلية من التحديات والمخاطر والشرور.
يقول غاستون باشلار: “كل معرفة هي جواب عن سؤال”. أما الأسئلة التي يمكن طرحها انطلاقًا من عنوان المقال فكثيرة، فضّلت ترتيبها واعتماد تصميم يجمع بين جزئي العنوان بدينامية وتفاعل، فيأتي موزّعًا على ثلاثة أقسام هي الآتية:
- الروحانية الزوجية: جذورها وأبعادها ومفهوم فرق السيدة لها ودور مريم فيها.
- الروحانية الزوجية بين عيش الحب الزوجي مع المسيح، على مثال مريم، وعيشه بعيدًا منه.
- الروحانية الزوجية: ترجمتها إلى مسيرة منهجية عملية، تحت نظر مريم، قابلة للتقويم والقياس.
أولاً- الروحانية الزوجية: جذورها وأبعادها ومفهوم فرق السيدة لها ودور مريم فيها
نشأة فرق السيدة
لا بدّ لمن يريد أن يعرف كيف نشأت حركة فرق السيدة وكيف وعت هويتها والغاية من وجودها، من التوجّه إلى أدبيات هذه الحركة وبخاصة إلى “الدليل إلى فرق السيدة” حيث نقرأ: ” وُلدت حركة فرق السيدة ولادة في غاية البساطة: في العام 1938 أراد أربعة أزواج مسيحيين ملتزمين أن يعيشوا حبهم الزوجي في ضوء إيمانهم، فتوجهوا إلى كاهن شاب في باريس يُدعى الأب هنري كافاريل ليرشدهم في ما يبحثون عنه، فأجابهم: ” تعالوا نبحث معاً”. وأثمر البحث ولادة ” شرعة فرق السيدة ” التي تمّ الإعلان عنها يوم عيد الحبل بلا دنس في 8 كانون الأول 1947″.
تعريف فرق السيدة
وجواباً عن السؤال “ما هي فرق السيدة”، يرد في مستهل الدليل نفسه التعريف الآتي: “الأزواج المسيحيون المتحدون برباط سر الزواج مدعوون الى السير على خطى المسيح في طريق الحب. إن فرق السيدة، هذه الهبة من هبات الروح القدس، تقدم للأزواج في العالم كله فرصة لمساعدتهم على عيش الروحانية الزوجية والنمو فيها” (ص 5). وحول تكوين الفرقة يوضح الدليل: “الفرقة مؤلفة من أزواج (5 إلى 7) وكاهن مرافق ومستشار روحي. والفرقة أكثر من جماعة بشرية، لأنها مجتمعة باسم السيد المسيح، وفي هذا الاجتماع يهب الروح القدس نفسه للمجتمعين” (ص 4)
الروحانية الزوجية
ونلاحظ أن الغاية المنشودة من اجتماع الأزواج في فرقة لا تكتفي بمرتجى سهل المنال كمساعدتهم في عيش حياتهم الزوجية، بل تذهب إلى أبعد: “لمساعدتهم في عيش الروحانية الزوجية والنمو فيها”.
ما هي هذه الروحانية الزوجية؟ يرى الأب هنري كافاريل أن “الروحانية الزوجيّة هي فنّ عيش المثال الإنجيلي الذي دعا إليه المسيح تلاميذه، في قلب الحياة الزوجية. وفي أساس الروحانية الزوجية دعوة خاصة من المسيح. ودعوتنا كأزواج تكمن في أن نسير معاً إلى المسيح، الواحد والآخر، الواحد مع الآخر، الواحد بمساعدة الآخر” (ص13). أما المعنى العميق للروحانية الزوجية فيتجلّى في مدّ جسر للتكامل بين الحبّين الإلهي والبشري. يقول الأب كافاريل: “إن الحب الإلهي يجد ملء التعبير عنه في الحب البشري حين تكون الحياة اليومية مملوءة انتباهًا واهتمامًا متبادلين بين الزوجين الواحد نحو الآخر، بتعاضد وأمانة مطلقين، وتفاهم واحترام متبادل، وتناغم قلباً وعقلاً. حين تنطبع مهام الحياة العادية البسيطة بطابع الحب، يكون الله حاضرًا في قلب الزوجين وتكون الروحانية الزوجية حقيقة وواقعًا معيشًا” (ص12).
فرق على اسم مريم
ونستكمل التعرّف الى حركة فرق السيدة بالتساؤل: لماذا فرق على اسم السيدة؟ وما دور مريم في عيش الروحانية الزوجية؟ يقدّم “الدليل…” الجواب الآتي: “حركة فرق السيدة موضوعة تحت رعاية السيدة لأنّ مريم تقودنا الى المسيح الذي هو مركز الحياة الروحية لأعضاء الفرقة. فمريم، بخضوعها لمشيئة الله، وبالطواعية للروح القدس والتجاوب معه، تشكّل المثال الأكمل” (ص12).
وتلفت فرق السيدة الى أهمية التكامل القائم بين هذين السرين من أسرار الكنيسة: الزواج والكهنوت. ويفضل الأب كافاريل في هذا الصدد الكلام على تكامل بين دعوتين: الدعوة الزوجية والدعوة الكهنوتية، حيث الدعوة تعبير عن السر” (ص12).
وتتجلّى الروحانية الزوجية في صورة حبّ المسيح لكنيسته والاتحاد بها والموت من أجلها، فنفس كل من الزوجين المؤمنين مدعوة إلى أن تكون” كنيسة بيتية” تلد الأبناء للإيمان، وعروساً متيمة بعريسها تلد له البنين روحياً وجسدياً. ويعبّر القديس أوريجانوس تعبيراً بليغاً عن الولادة الروحية بالكلام على “حشا القلب”، متسائلاً: “ماذا ينفعني إذا وُلد المسيح من العذراء مريم ولم يولد في أحشائي…؟!” . والروحانية الزوجية شركة في ملء الحياة الثالوثية: “الله لم يكن الله لو كان وحيداً: “لا يحسن أن يكون الإنسان لوحده” (تك 2،18 )، “خلقه رجلاً وامرأة” (تك 1،27) . ويقول جان نويل بزانسون: “الإنسان ليس إنساناً فعلاً إلاّ إذا كان في علاقة، لأن الله علاقة”. ولعلّ أعمق خبرة امتلاء من المسيح هي تلك التي عاشتها مريم إذ حملته في أحشائها وكيانها. فهي كما يراها بعض القديسين “بيت القربان المتنقل”. وقد استحقت مريم أن تكون الصورة المشخصنة للكنيسة الأم التي تلد المؤمنين إلى حياة الإيمان.
ثانيا- الروحانية الزوجية: الخيار بين عيش الحب الزوجي مع المسيح وعيشه بعيداً منه
الحبّ الزوجي بين المسلّمة والوجه الإشكالي
تبدو الروحانية الزوجية، كما هي مطروحة في العنوان، مسلّمة لا جدال فيها، تخفي الوجوه الإشكالية للحب الزوجي بين الروحانية والمادية، وبين الإلهي والبشري، وبتعبير آخر، بين عيشه مع المسيح وعيشه بعيدا منه. جواباً على قول رفيق السلاح “لا يمكننا في آنٍ معاً أن نكون لله ولزوجتنا، فإما أن يغار الزوج من الله وإما أن يغار الله من الزوج…”، يقول الأب كافاريل: “لا، لا يمكن أن يغار الله من الحب البشري الذي خلقه هو نفسه، إنه متحالف ومتواطِىء معه”.
مذ كان الزواج كانت محاولات عدّة، وبأساليب مختلفة، لفكّ الارتباط بين الالهي والحب البشري، وإقصاء المسيح عن الحب الزوجي.
لقد خلق الله الإنسان حرّا، وترك له مسؤولية الاختيار بين الخلاص والحياة من جهة ، والهلاك والموت من جهة أخرى. وفي سفر تثنية الاشتراع يضع الله الانسان – والعائلة – أمام طريقين، ويطلب منه الاختيار: “انظر! إني قد جعلت اليوم أمامك الحياة والخير، الموت والشر… وقد أشهدت عليكم، اليوم، السماء والأرض، بأني قد جعلت أمامكم الحياة والموت، البركة واللعنة. فاختر الحياة لكي تحيا، أنت ونسلك، محبّا الرب الهك، وسامعا لصوته، ومتعلقا به، لأنّ به حياتك وطول أيامك…” (تثنية الاشتراع 30 :15-19-20 )
الحرية اذاً اختيار، فماذا يختار الانسان: الخير أم الشر؟ الحياة أم الموت؟ وماذا لو زيّنت للإنسان رغائبه ومصالحه أن له في اختيار طريق الشر والهلاك سعادة وحياة ؟!!
يقول دوستيوفسكي: “اذا لم يكن الله موجودا فكل شيء مباح”. إن غياب الله أو تغييبه أو شطبه من حياتنا، وحياة عائلتنا ومجتمعنا، يعني بالنسبة لفئة من الناس التفلت من الالتزام بمنظومة قيم، يمثلها الله الذي كشفها لنا في شخص يسوع. في التخلي عن الله، يبحث الانسان عن الأسهل والأمتع، والأكثر فائدة للمصلحة الشخصية، فيكسر ميزان الخير والشر، ويعيش في النسبية البرغماتية، حرصا على إرضاء رغباته الفردية. فعلى صعيد العائلة مثلا، تصبح الأمانة الزوجية التي لا رجوع عنها، ولا شرك فيها، عبئاً وقيدا وسجنا، فتغدو الاستباحة هي الحلّ، إرضاء للرغبة واللذة الآنية. و”اللذة مقبرة الرغبة” كما يقول فرويد نفسه، لأنها على موعد مع الخيبة والسرور العابر، بعيدا من الفرح الحقيقي الذي يدوم. و”نعم” الزواج النهائية التي يُبنى عليها الحب، تتحوّل الى نعم موقّتة مزاجية، وينفتح الباب واسعا لاستسهال الطلاق، والمساكنة وزواج المثليين … أيّ قوّة تقدر أن تلجم جموح العائلة الباحثة عن الراحة، وتكديس المال، والبذخ، وحبّ الظهور؟ أيّ مكان يبقى في قلبها للحب والشركة ؟ وأيّ مكان فيها للفقراء؟ شتان ما بين مثل هذه العائلات وعائلة مريم في الناصرة حيث دخل الله تاريخ البشرفقيرًا بسيطًا متحررًا من كل امتيازمساويًا لبسطاء مجتمعه!!
أما الوجه الآخر لإشكالية عيش الحب الزوجي بعيدا من المسيح، فيمثّله كثيرون في مجتمعنا تزوّجوا زواجاً مسيحياً، ويمارسون واجباتهم الدينية نوعاً ما، ويفاخرون بانتمائهم الى الدين المسيحي، وإلى طائفة من طوائفه، ويرفعون شعارات القيم المسيحية: من محبة وخدمة وتضحية ومسامحة وتواضع وطاعة، ونظافة كفّ، وأمانة زوجية… يحاضرون في هذه القيم ويعظون، ولكن حين يكونون معنيين مباشرة بالمسامحة أو الخدمة، أو الوقوف ضد الرشوة أو الغش، أو التمييز الطائفي والديني أو التحزّب الأعمى…وغيرها من المواقف، يتشاطرون ويكثرون من الفتاوى لتبرير تصرّفاتهم.
الأمثلة كثيرة على الازدواجية التي نعيشها بين القول والفعل، بين المبادىء النظرية والسلوك الفعلي واليومي… (قبول المال غيرالنظيف، حب الوجاهة والمناصب، البذخ…)
ولكن لا بدّ من التمييز بين من تعودوا العيش في الازدواجية بين القول والفعل حتى الانفصام من جهة، وبين الذين يريدون عيش حبهم الزوجي مع المسيح، في شراكة عميقة ومصالحة بين القول والفعل، ولكنهم يرزحون تحت عبء محدوديتهم، وما يثقل كاهلهم من ظروف وضغوط خارجية وداخلية. فبين ما نحن وما أن نريد أن نكون عليه، هوّة تتسع وتضيق.
إنّ الله الذي خلقنا، من دون إرادتنا، لا يمكنه أن يخلصنا، من دون إرادتنا. فنحن مطالبون دائما أن نختار، ونحسن الاختيار. من منا لا يذكر كيف مضى الشاب الغنيّ حزينا، لأنّه لم يقدر أن يترك كل شيء ليتبع يسوع؟ ومن منا لا يذكر صرخة مار بولس العظيم، في موقفه الوجداني من عبء الخطيئة، وضعف الإرادة البشرية: “الخير الذي اريده لا افعله، والشر الذي لا أريده إياه أفعل …ما أشقاني من إنسان! فمن ينقذني من هذا الجسد الذي مصيره الموت ؟” (روما 7،19و24) . نحن مدعوون دائما الى أن نحسن التمييز والنقد الذاتي لنكون مسيحيين ذوي إيمان ناضج .
عيش الحب الزوجي مع المسيح
اخترنا التوقّف على سبع من صفات من التزموا عيش حبّهم الزوجي مع المسيح، على مثال مريم:
- العرفان والاعتراف بالفضل: الحبّ، كما الحياة، هبة من الله، والله هو المبادر، ونحن ما علينا سوى استقبالها بتواضع وابتهاج، مثل مريم: الفعل المؤسّس لوجودنا في صيغة المجهول( وُلدنا / خُلقنا)، أُعطينا قبل ان نعطي، أُحببنا قبل ان نحب، فلنعترف بمحدوديتنا، نحن لسنا نبع الحب وفجره، نحن نستقي من الله، نبع الحب اللامحدود، وما أعظم ان نعترف بهذا الفضل، من دون عقوق وجحود وكبرياء! والزوجان المسيحيان يعترفان بان يسوع اساس حبهما، وان حضوره السري في زواجهما هو نبع حبهما، وضمانة امانته، لأنهما على صورة الله ومثاله، وعلى صورة حب المسيح لكنيسته. وإذا كان الزوجان يعيشان حبهما مع المسيح، فجزء كبير من هذا الفضل يعود الى أمانة من نقلوا إليهما وديعة الإيمان الحي، من أهل وآباء روحيين، ويتعيّن عليهما ان ينقلاها، بدورهما، الى الأبناء والأحفاد. لقد رفعت الكنيسة الحب الزوجي الى رتبة السر، لأن الله محبة، وقد طبع محبته في قلب الزوجين، ليفيض حنانا وعطاء وسعادة: أليس في مخططه ان يكون الحب خصبا، حاضنا للحياة، ومنمّيا لها في العائلة، خلية كل مجتمع وجماعة ؟! وقد استخدم الأب كافاريل للحديث إلى فرق السيدة عن علاقة الله الخالق بالزوجين كلام الشاعر الفرنسي شارل بيغي:
“أيها الزوجان المسيحيان، يقول الله، أنتما مفخرتي وأملي،
“على صورتي ومثالي” خلقتك أيها الثنائي البشري، ورأيت ان ذلك جيّد جدّاً
فيا أيها الثنائي البشري، يا خليقتي المحبوبة ويا شاهدي المميّز، أتفهم لماذا أنت أعزّ الخلائق على قلبي؟ أتفهم عظم الأمل الواسع الذي أعلّقه عليك؟”
2- نعم الزواج في تبادل الرضى تحت نظر الرب والكنيسة : على مثال نعم مريم النابعة من ثقة القلب المؤمن، نعم الرضى المتبادل تعبير عن التزام حرّ، نهائي، لا رجوع عنه، لأن جذوره متأصّلة في الحب الإلهي الثابت، اللامحدود، ( ما ابعدنا عن الموقّت والنسبي! ): حرّيتان مستقلتان، مختلفتان كلّ الاختلاف، جنسا وطباعا وتربية، تأتلفان بالحب، وترتبطان طوعا، في تعاون على الحلو والمر، في السرّاء والضرّاء والفقر والغنى . ويلتزم الزوجان بخصوبة الزواج، وبثمار حبهما، التزاما لا استقالة منه ، طبعا اذا شاء الرب ان يرزق الثمار. في هذا الحب الثابت الذي يوائم بين اتحاد المحبّين، واحترام حقّهما بالاختلاف، جواب من قداسته على ما يسمّيه “هشاشة الروابط في إطار العائلة، الفضاءالذي فيه يتمّ تعلّم العيش معا في الاختلاف والانتماء الى الآخرين وحيث يتولّى الأهل نقل الإيمان الى الأولاد”( الرقم66)
3– بذل الذات وفرح الخدمة والعطاء على صورة حب المسيح لكنيسته، وبذل ذاته من أجلها، وعلى مثال مريم الشابة المبادرة الى خدمة اليصابات نسيبتها المتقدمة في السن. كما يُمتحن الذهب في النار، يُمتحن الحب الحقيقي بالتعاطف، والمحبّة المتبادلة، والخدمة، ومغالبة الأنانية بفرح العطاء للشريك وللأولاد، “ما بيربى جسم تا يفنى جسم”… قبل الزواج، كان كل من العروسين مدللا عند أهله، مخدوما و”غنوجا” : سبحان الحب كيف يحوّل المتزوجين الجدد الى “ستات بيوت”، ورجال بيوت، يتعبون ويضحّون، ويتحملون مسؤوليات، ما كانوا يتوقعون انهم قادرون على تحمّلها. هي نعمة الحب المؤتمن على احتضان الحياة ونموّها.
- الزواج مسيرة بناء مستمر مع يسوع الذي هو الطريق. إنّه مشروع حياة، يوحّد بالحب ارادتين خيّرتين. فالزواج يُبنى، وهو يحتاج تحضيرا جدّيا، وحين ينعقد، وتنطلق المسيرة، يظل بأمسّ الحاجة الى التقويم المستمر،والمراجعة النقدية. ليس الزواج إذا مسالة حظّ ونصيب، وليس قفصا ذهبيا، ولا خشبيا. تعلّمنا في حركة فرق السيدة التي ننتمي اليها، انّ الحياة الزوجية والعائلية بحاجة الى سهر، بكلّ ما لهذه الفضيلة في تراثنا الإنجيلي، والسرياني الرهباني، من وزن: “من كان واقفا فليخف أن يسقط”. لوحدة الزوجين والعائلة ملائكة، يحرسونها، ويضمنون سلامتها: الصلاة على أنواعها من زوجية وعائلية، وتأملية، وطقسية، بأمانة وانتظام، والصلاة على ارتباط عميق بمعاشرة كلمة الله، والاغتذاء منها يوميا. الصلاة، في اختبارنا، ميزان حرارة سلامنا في العائلة، فإذا ارتفعت نبرة الصوت، وتلوّنت بالغضب، عرفنا للحال انّ نقصا في الصلاة تسلّل الى حياتنا. أما الملاك الثاني فهو الحوار الهادئ العميق، تحت نظر الرب، مرّة في الشهر، على الأقل، ومع الأولاد، كلما دعت الحاجة، وهو موعد خلاصي للعائلة، وضروري للنمو، كالماء والهواء والخبز. وأكتفي بذكر ملاك حارس ثالث، هو المسامحة. الخطأ إنساني بامتياز، وهو في صلب جبلتنا البشرية. إذا نظرنا إليه من منظار تربوي، وجدناه من انجع مصادر التعلّم: من اخطائنا نتعلّم التواضع، والإقرار بالخطأ، والاعتذار عنه، ونكتشف ان الله يقبلنا، بنعمة منه،على علاتنا، ويغمرنا برحمته وغفرانه، رغم قلّة استحقاقنا، وتكرار أخطائنا. ونتعلّم أيضا ان نكون اكثر تفهّما مع الآخرين حين يخطئون، فنستحق ان نصلّي الى الله قائلين:”واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، كما نحن نغفر لمن خطئ الينا”. أجل، تعلمنا من مار بولس، اذا غضبنا ،” الاّ ندع الشمس تغرب على غضبنا”.
في احتفال باليوبيل الذهبيّ لزوجين من الأزواج الذين اشتركوا مع الأب هنري كافاريل في تأسيس حركة فرق السيدة، قال مقدّم الاحتفال عن الزوجين المحتفى بهما: “ها هما يحبّ أحدهما الآخر كما في اليوم الأوّل لارتباطهما”. ولكنّ الأب كافاريل وقف ليعلّق مستنكراً ! “ليست هذه علامة طيّبة… فالحبّ الزوجيّ لا يراوح مكانه…إنّه ينمو ويتغيّر ويتطوّر”. أجل الحبّ الزوجيّ ينمو، ويذهب إلى العمق، ويُبنى باستمرار، حتّى لا يسقط في أفخاخ الضجر والروتين والتصدّعات والتوتّرات، والانغلاق على الذات.
5- الحب الزوجي والعائلي متجدّد باستمرار لا يدع الضجر يسلبه حيويته وابداعيته. أكثر الانتقادات التي انصبّت على العائلة هي تلك التي اتّهمتها بإعادة إنتاج القديم التقليدي البائد، وقمع الحرية والنزعة الاستقلالية، والميل الى الخروج على الدروب المطروقة المألوفة. إنّ الحبّ العائلي الذي أساسه يسوع حبّ متجدّد باستمرار، لآن يسوع لم يتركنا أيتاما، بل أعطانا الروح القدس مانح المواهب وصانع الوحدة في التنوّع. في صلاتنا الزوجية اليومية نخاطب المسيح ربّنا قائلين: “روحك روح حياة يحمينا من موت العادة والجمود”. دعونا نأخذ الانتقادات على محمل الجدّ ونضعها في الغربال. لقد حاولنا صادقين ان نربي أولادنا على الأصالة من دون أصوليّة. لا بدّ من التمييز، في تقاليدنا وتراثنا، بين جزء مائت مضى، والمائت يستحقّ ان يموت ويشبع موتا، ففي جبالنا يشحّلون الشجر لتحريره من عبء المائت، وإعطاء الجزء الحي فرصا للنمو. وفي جبالنا يتقنون فن التطعيم والتهجين واستجلاب الجديد وإضافته الى التراث. بفضل الجمع بين الأصالة وحبّ الجديد، كثر عندنا الروّاد والمبدعون في شتى المجالات ، حتى في أساليب بلوغ القداسة. هل نترك عائلاتنا لموت العادة والجمود، بعيدا من اصالة التجدّد والإبداع؟ عين مريم الساهرة أنقذت فرح العرس في قانا، وثقتها علّمت الآخرين الإصغاء الى يسوع، وعمل كل ما يأمرنا به لخيرنا.
6- الحبّ الزوجي العائلي منفتح وذو بعد كنسي. لا يمكن أن تتحوّل العائلة جزيرة مغلقة على نفسها. فيسوع خلّصنا من أنانياتنا المتوحّشة، وأقامنا جماعة في شركة، وأعضاء بعضنا لبعض في جسده السرّي، حيث الإنسان لايكون انسانا إلا مع آخرين، ومن أجل آخرين. تعلّمنا في حركتنا وفي جماعاتنا العيلية ان نسير معا، ونتعاضد ونتعاون، ونتقابس المعرفة لننضج في الإيمان. من ثمار الارتباط الكنسي حرارة الشركة “لم يكن بينهم محتاج”، يقول سفراعمال الرسل،وفي الامس القريب كانت قرانا تعيش قيم العونة، حيث الفرح واحد والألم واحد والهم واحد. ومن أبرز تجليات البعد الكنسي همّ البشارة والشهادة الذي يشترك فيه كلّ المعمّدين، بخدمة الكلمة أو بخدمة المحبة والضيافة. واللافت أن من يحمل البشارة لم يكن يستحي بالقليل الذي يعرفه، لأن الروح يعضده ويلهمه، والقليل ينمو بالعطاء ويصبح كثيرا. ولا بد هنا من التذكير بدعوات بطاركة كنائسنا الشرقية وأساقفتنا المتكررة الى التزام خدمة الخير العام، في المجالات السياسية والاجتماعية والتربوية وغيرها، والى عدم الانسجان في المصلحة الفردية الأنانية. وقداسة البابا فرنسيس دعانا جميعا وأرسلنا قائلا: “إذهبوا، بلا خوف، إلى الخدمة”، خدمة المهمّشين والشيوخ المتروكين، والناس المجروحين، وقال بكل وضوح انه لا يريد كنيسة ذات طابع “إكليريكي”، بل كنيسة جماعة المؤمنين، حيث للعلمانيين مكانتهم، وبخاصة المرأة، مضيفا، بدعابته المحببة، أن لفظة “كنيسة ” مؤنّثة. إنه يدعونا الى كنيسة لها وجه مريم.
7– العائلة والأزواج حاملو بشرى الرجاء مثل مريم الواقفة برجاء تحت الصليب وصباح القيامة ويوم العنصرة. في مرحلة حرجة من تاريخ وطننا وشرقنا وعالمنا، مرحلة يكثر فيها التذمّر والتشكّي والتشكيك، وفيها “الأنانية تكبرومحبة الآخرين تقل” كما وصفها قداسة البابا فرنسيس، أذكّر ببشارة مريم وبالبشرى السارة في الإنجيل وبنداء يتردّد في معظم صفحاته “لا تخافوا”. بهذا “الرجاء الجديد للبنان” خاطبنا القديس يوحنا بولس الثاني، و” كنيسة الرجاء” كان النص الذي افتتحنا به نصوص مجمعنا البطريركي الماروني. وإلى فرح الانجيل ورجائه يدعونا قداسة البابا مار فرنسيس قائلا: لاتدعوا التشاؤم العقيم يسلبكم فرح الرجاء.المشكلة أننا نعلّل النفس بالآمال – وننسى الرجاء – ونبحث عن ضمانة في الخارج وفي المحسوس، بينما الخلاص في الداخل في شخص، هو يسوع، نبع إيماننا ورجائنا ومحبّتنا وتعاضدنا: هو أعطانا، من على الصليب، أمّا نستظل حمايتها ونستقوي بشفاعتها، وهي تدلنا اليه وتوصينا ان نحفظ كلامه، ونعمل به، فلا يخيب رجاؤنا أبدا.
ثالثا- الروحانية الزوجية: ترجمتها إلى مسيرة منهجية عملية، تحت نظر مريم، قابلة للتقويم والقياس
في خطى مريم الأم والمثال
في عود على بدء، بات بمقدورنا الآن أن نفهم أفضل لماذا اختارت فرق السيدة السير الى يسوع، والى الروحانية الزوجية، في خطى مريم الأم والمثال، ولماذا قدّمت لأعضائها أخلاق مريم وفضائلها وسلوكها مدرسة للنمو في النعمة والمعرفة، وتحقيق مواعيد العهد الزوجي. ويمكن تلخيص فضائل مريم استنادًا الى الدراسات بالعشر الآتية: محبّة الله، محبّة القريب، الإيمان، الرجاء، العفّة، الطاعة، الصبر، وتأمّل القلب…وإنه لمن المفيد أن نعود الى كتاب أندره كاب الذي سبقت الإشارة إليه في المقدّمة: “مريم طريق ينبوع حيّ“، لندخل الى أعماق بعض هذه الصفات المريمية. يقول: “مريم عروس الروح القدس. إنّه “معلّم المستحيل”، ليس بمعنى أنّه يتدخّل على طريقة الساحر الكلّي القدرة، لإيجاد حلّ للقضايا المطروحة، لكنّه يضع الطاقات المخبّأة في أعماق الكائنات والأشياء، في حالة اتّصال بالقوّة المخصبة الآتية من إله يسكن المخلوقات التي يحملها في الوجود ويجذبها إليه” (33). ولا يكون تحقيق الذات الكامنة إلاّ عبر المرور بالصليب: “نجحت (مريم) بصورة نهائية أن تصبح أرضا صالحة لاستقبال الله في قلب العالم، أن تلد الله اليوم. وهذا الأمر يقتضي السهر عند أقدام الصليب، لأنّ الله-المحبّة يعطي ذاته في قلب عالم من الأنانية والحقد، حيث الحبّ ليس محبوبا، عالم الحبّ فيه مرفوض ومقتول لأنه يزعج ويوبّخ، عالم الحبّ فيه مصلوب ومسمّر على خشبة” (35). ويضيف هذا الكلام البليغ عن أمومة مريم: “كانت مريم وحدها على أقدام الصليب تتقبّل عطيّة الله. إنّها هنا لأنّها الأمّ، وهي الأم لأنّها هنا. فهي التي حملت حياة الله الذي يموت، هذه الحياة التي هو وحده ينبوعها. فالصليب مزروع فيها كما السيف”(36). ونقرأ كلاما معبّرا عن فقر مريم: “مريم هي مثال الفقراء وأمهم، هي انعكاس الله، وأمّه. كلّ شيء في غاية البساطة، كلّ شيء يشكّل وحدة: الإنسان متعطّش الى اللامحدود” (44). ويضيف أيضا: “مريم هي حاملة سرّ الخلاص، والفقراء يتعرّفونها، والله يعترف بها. إنّ الفقراء والله يولدون للحبّ في شخص مريم، الأرض المطبوعة على روح الاستقبال والأمومة، الأخت الصغيرة التي لا تنفكّ تبتسم عند الفجر” (45). وعن نعم مريم المطلقة، يقول: “هذا هو فقر مريم الكامل، إذا كان الله قد تجسّد فيها، فهذا يعني أنّ أيّ ظلّ للرفض لم يكن ليلطّخ نقاوة تقدمتها، إنها ال نعم التي تلبّي نداء الحبّ”( 48).
من مدرسة مريم تخرّجنا، وبروحها تخلّقنا وتطبّعنا. في ختام ترتيلة بعنوان “الأخوّة الشاملة” كتبت كلماتها من وحي نص للأخت الصغيرة مادلين، مؤسّسة رهبنة أخوات يسوع الصغيرات، لحّنها الصديق جوزف لويزي وأدّاها الفنان نادر خوري، أقول:
مريم الأمّ مثال للحضور ولزهد بالقشور والغرور
في خطاها يتصفّى القلب من شهوة الجاه ومن حبّ الظهور
مسيرة تربوية عملية لعيش الروحانية الزوجية
للتعريف بالمنهجية التربوية العملية، ونقاط الجهد الست، التي اجترحتها فرق السيدة لعيش الروحانية الزوجية، اخترنا اسلوب الشهادة ورواية الخبرة، تعبيراً منّا عن العرفان بالجميل للفضل الذي غمرتنا به هذه الحركة. ليس سرّ الزواج سحرًا أو عقدًا، إنه، كما أوردنا سابقا، عهدٌ ومسيرة حياة، وبناء مستمر مع الرب برفقة مريم. كم من زواج بُنيَ على حبٍ صادق مشتعل، ولكنه تراجع، لأن شعلته بدأت تنطفىء مفتقرة إلى الوقود! كم من حب حقيقيٍ صادق نخرته سوسة الكسل والضجر، والأنانية والاكتفاء بالأفراح الآنية الخادعة! إن ما حمى زواجنا من التراجع والانطفاء والانهيار هو هاجس الروحانية الزوجية، والبحث عن التقدم الروحي، لأن الحب يُبنى، ويحتاج إلى مزيد من التجذّر في العمق، ليصمد في وجه الأخطار والعواصف. من أجل ذلك، اخترنا السير معا، مع مريم، الى يسوع الطريق والحق والحياة.
دخلنا هذه الحركة بعد سنة من زواجنا، وكنا في فرنسا. وفي هذه الغربة، اكتشفنا معنى الأخوّة، وعمق الصداقة باسم المسيح: لم نختر أعضاء فرقتنا، فالمسيح اختارنا لنكون معاً. ونحن ننتمي الآن الى فرقتنا في لبنان، منذ أكثر من 35 سنة. في هذه الحركة، حرصنا معا على تلاوة نشيد مريم ” تعظّم نفسي الرب…” كلّ يوم، وفي ختام كلّ اجتماع للفرقة، أو نشاط جامع للحركة. لقد ارتبط هذا النشيد بهوية الحركة، كارتباط النشيد الوطني بالوطن. وفي حياة الحركة، تمرّسنا بعيش نقاط الجهد، للنمو في الروحانية الزوجية، فتعلّمنا:
- أن نصلي معاً الصلاة الزوجية والعائلية، فالصلاة صلة عميقة تدوزن إيقاعاتنا المختلفة. صارت الصلاة متنفّساً لنا، وسوراً وحصناً أميناً لعائلتنا، ومصدراً لسلامنا ومقياساً له. كان يقول لنا أحد كهنتنا المرافقين: نصلي فنقول لمريم: السلام عليك يا مريم…وهي بالطبع ستردّ علينا هذا السلام أضعافا مضاعفة.
- أن نقرأ كلمة الله، يومياً، ونعاشرها ونتآلف معها، ونقرأ حياتنا في ضوئها.
- أن نجلس معاً، مرة في الشهر على الأقل، لنتحاور تحت نظر الرب: نبدأ بصلاة أو بقراءة روحية، ثم ننتقل إلى تقويم حياتنا الزوجية والعائلية على اختلاف أبعادها: العاطفية والاجتماعية والروحية والاقتصادية والمهنية. نعبّر عما يثير إعجابنا من إيجابيات عند الآخر، وعمّا يؤلمنا ويزعجنا من سلبيات عنده، في ممارسة لنقد بنّاء، لأن غايته بنيان الآخر لا تصفية الحسابات معه، ولأنه يجري تحت نظر الرب. في طقوس هذا الحوار، تعلمنا الإصغاء والجرأة في التعبير عن المسكوت عنه، وتدرّبنا على المسامحة والاعتذار، والتعلم من الخطأ، وقبول الاختلاف، وتعاهدنا على ألاّ ننام ونحن على خلاف.
- أن نختار قاعدة حياة لسنتنا أو لشهرنا، من أجل العمل على ذاتنا، والانتصار على جمودنا وكسلنا، أو تحجّرنا في بعض المواقف والعادات، واختبرنا نوعاً من الجهاد المستمر بروح نسكية.
- أن نخصّص وقتا يوميّا لمناجاة الرب من القلب إلى القلب، في تأمّل يعرف سرّه الروحانيون والصوفيون ومريم، كما ورد سابقا.
- أن ندرس موضوعاً شهرياً يتعلق بالحياة الزوجية والعائلية، أو الروحية والفكرية: ندرس الموضوع كزوجين، ثم نتبادل وجهات النظر حوله في الفرقة. وبفضل هذه الموضوعات وبمساعدة المستشار الروحي الضامن للتوافق بين رأي الكنيسة وآرائنا، كنا نبني، على مر السنين ثقافتنا الروحية. وفي آخر الاجتماع، نحرص على إجراء تقويم لأدائنا في الاجتماع، بهدف تصويب ما يجب تصويبه وترسيخ ما كان إيجابيا.
- أن نتوج مسارنا نحو التنشئة بالرياضة الروحية الصامتة (48 ساعة)، وهي رياضة سنوية، وأحياناً نصف سنوية.
ان نقاط الجهد الست التي ذكرناها، والتي تقوم عليها تنشئتنا الروحية، شكلت رافعة لحياتنا الزوجية والعائلية، خصوصاً في استنادها إلى كتب من تأليف الحركة، ومجلة شهرية، ونشرات، وخلوات تعليم وتنشئة في عطل نهاية الأسبوع.
أما المفارقة الكبرى فتكمن في أمرين:
الأول: أن نمونا في الحياة الروحية كان محرّكاً، ومصدر نمو للصداقة البشرية بيننا، وهي تتجلى في فرح اللقاء والعشاء معاً، وفي التعاون الأخوي، روحيا ومعنوياً ومادياً. لقد نسجنا في ما بيننا علاقات متينة لا نرى مثلها في الحياة الزمنية العادية.
والأمر الثاني أننا لم نكن في الحركة لنحتفظ بما نتعلمه لأنانيتنا. فالحياة أخذ وعطاء…سرعان ما طلبت منا الحركة أن نتجنّد لتنشئة الآخرين، فرافقنا فرقا مبتدئة (متوسط مدة كل مرافقة سنة ونصف). وكلّفتنا الحركة إعطاء شهادات وأحاديث ومحاضرات. عجيب أمر التنشئة: لا نملك إلا ما نعطيه! ما نحتفظ به لأنانيتنا يتحول إلى مستنقع. وفي العطاء، على مثال مريم، نتحوّل إلى جدول، وجوده مساوٍ لعطائه. إن أفعل سبيل وأفعل طريق للتنشئة هو توظيف القليل الذي نملكه، في سبيل تنشئة الآخرين.
فرق السيدة في لبنان والعالم
صحيح أن فرق السيدة حركة روحانية زوجية لا حركة عمل، ولكنها مؤلفة من عاملين ملتزمين في خدمة الكنيسة، على صعيد الرعية والأبرشية، في لجان تحضير الزواج، مساعدة الأزواج الذين يعانون من صعوبات في حياتهم الزوجية. وأعضاء فرق السيدة ملتزمون في اللجان الأسقفية على اختلافها، ولبعضهم مسؤوليات رفيعة في خدمة الشأن العام. لفرق السيدة خبرات عميقة ومتراكمة في مجالات العائلة والتربية والشأن المسكوني، تضعها في خدمة الكنيسة والمجتمع.
إن فرق السيدة موجودة أيضا في بلدان عربية مثل سوريا ومصر والأردن، وفي بلدان الخليج بين المسيحيين اللبنانيين والسوريين وسائر المسيحيين العرب العاملين في الإمارات العربية. أما على الصعيد العالمي، فحركة فرق السيدة منتشرة في بلدان كثيرة من العالم، وقد انطلقت من فرنسا إلى بلدان أوروبا، ثم إلى القارات الأخرى. تضمّ الحركة آلاف المنتسبين، تجمع بينهم روحانية واحدة،ّ ومنهجية مشتركة يتمّ التعبير عنها من خلال الفرقة المسؤولة عالمياً والمرشد العام، ومن خلال نشرة مشتركة ودورات تدريب وتنشئة. ولعلّ التعبير الأبهى عن الهوية المشتركة للحركة يتجلّى في التجمّع العالمي، مرة كل ست سنوات، في أحد المقامات المريمية (لورد، فاطمة…). في مثل هذه التجمعات، يشعر المشارك بحضور الروح الواحد في كنيسته الجامعة، على اختلاف البلدان واللغات والأعمار، والخدمات: من العلماني الملتزم إلى الكاهن المرافق والأسقف والكاردينال.
خاتمة: دعوة ورسالة لتحقيق ملء قامة المسيح
كانت العائلة وستبقى النواة التأسيسية في الكنيسة والمجتمع. إن الرب المتجسّد دخل تاريخ البشر من عائلة الناصرة، من غير امتيازات، وقد نسج علاقات الحب مع الآخرين، انطلاقاً من عائلة صغيرة محدّدة، توسعت لتحتضن الجنس البشري بأكمله. يوجّه المسيح الى عائلاتنا دعوة ورسالة: الدعوة لتكون العائلة على صورة مريم، شريكة في استقبال الحياة واحتضانها وإنمائها، والسبيل الى ذلك ما عرضه الأب كافاريل ورفاقه من الأزواج المؤسّسين ، ويُختصر في ما نعيشه، في فرق السيدة، من روحانية زوجية:
“معاً في فريق عودوا إلى نبع حبكم وكيانكم، إلى سرّ زواجكم، والى من وعدكم بأنه معكم. لا تخافوا، عودوا إليه معاً، وتعاونوا روحياً وماديا على النموّ في تحقيق ملء قامة حبكم الزوجيّ. عندكم رافعة روحية فعّالة، تحميكم من المراوحة في مكانكم، ومن التراجع والكسل، ركائزها هي نقاط الجهد الست التي تعرفونها…
أما الرسالة فهي الالتزام بالبشارة، على صورة مريم التي لا تحتفظ لنفسها بيسوع احتفاظا أنانيا، بل تجعل همّها أن تعطيه للآخرين: فنحن لا نملك إلا ما نعطيه، كلما تعاطينا المسيح وحملناه لغيرنا، ازددنا امتلاء منه. إن فرح العطاء أكبر من فرح الأخذ.
نتخيل أنفسنا كثنائي في مسيرة على درب عمّاوس … وعمانوئيل -إلهنا معنا- يسكن حبنا الزوجيّ، ويجعل من قلبنا مذبحاً افخاريستيا،ً ومن منزلنا الزوجي كنيسة بيتيّة ترضي قلب الرب. ولكن سرعان ما نسمع السيد المسيح ينادينا، ليرسلنا إلى خدمة إخوتنا، في الفرقة وفي الرعية وفي الوطن. الموعد معه على دروب إسعاد الآخرين، والمحتاجين منهم على الأخصّ. إذا كانت مريم أمنا وعينها ساهرة علينا، وإذا كان إلهنا معنا فمن علينا؟