الخوري ميشال صقر[1]
دكتور في اللاهوت البيبليّ
مقدمة
تُظهر الأسفار المقدّسة في العهدين القديم والجديد، والتقليد المكرّم، دور أمّ المخلّص في تدبير الخلاص. لقد شاركت مريم فعلاً بالخلاص بالرغم من تشابهها الخارجيّ بنساء عصرها: فاسمها الذي يعني في اللغة الآرامية “أميرة” أو “سيّدة”، كانت تحمله أختُ موسى (خر 15: 2) وهو متداولٌ في أيام يسوع، الأمر الذي يشهد عليه عدد المريمات المذكورات في العهد الجديد. وقد ارتبط ذكرها بولادة المسيح وبمرافقتها له أثناء تدبيره الخلاصيّ، وهذا ما شهدت له الإيقونات القديمة المسيحيّة للعذراء، إذ تمثّلها دائمًا لنا حاملةً ابنها يسوع. وبذلك قد أضحى إكرام العذراء في الكنيسة نابعًا من عمق اتّحاد شخصيّتها بشخصيّة المسيح الفادي، حتى ليمكننا القول إنّ اكرام العذراء هو اكرام للمسيح نفسه.
1- مريم العذراء في العهد القديم
كثيرة هي الرموز الكتابية القديمة التي طبّقها الآباء القديسون الأقدمون على العذراء مريم في دورها الخلاصي مع ابنها الفادي. إنّ أهمّ صورة في العهد القديم رمزت إلى مريم هي “حواء” لذلك سنعرض في البدء موضوع التضادّ حواء/مريم. أما النصوص التي تذكر العذراء ذكرًا صريحًا مباشرًا فهي نادرة. لكنّ الأبحاث بيّنت أنّ الأنبياء الـمُلهمين تغنَّوا بها منذ القديم، كما أنّ الكتب الحكميّة تحدّثت عنها، وقد طبّق الآباء القديسون الأقدمون، عبر الأجيال، كلّ الرموز الكتابيّة التي سنعرضها هنا على العذراء مريم القديسة، أم الحكمة المتانّس.
1. 1- حواء ومريم
يقول المجمع الفاتيكانيّ الثاني في الفصل الثامن من الدستور العقائدي “نور الأمم” عدد 56 ما يلي: “إنّ العقدة التي سبّبَها عصيانُ حواء حُلَّت بطاعة مريم؛ وما ربطته العذراء حوّاء بقلّة إيمانها، حلّته مريم العذراء بإيمانها؛ وبمقارنتهم مريم بحواء، يسمّي آباء الكنيسة مريم “أم الأحياء” ويصرّحون مرارًا أنّه على يد حواء كان الموت، وبمريم كانت الحياة”.
إنّ حواء (تك 3: 9-20)، المرأة الأولى، هي أم جميع الناس؛ لقد عصت أمر الله، وصارت سببًا للخطيئة واللعنة والموت، وبذلك هي رمز للعذراء مريم، المرأة الثانية الجديدة، أمّ المخلّص، التي بطاعتها بدأ وتمّ الخلاص في العهد الجديد، وبها صارت النعمة والحياة. أمّا قصاص الله للحيّة قائلاً لها: “وأجعلُ عداوةً بينكِ وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، فهو يسحقُ رأسَكِ وأنتِ تصيبينَ عَقِبَه” (تك 3: 15) فيدلّ على أنّ عداوةً موجودة بين المرأة ونسلها من جهة، وبين الحيّة (أو الشيطان) ونسلها من جهة أخرى؛ لكنّ نسل المرأة سيسحق رأس الحيّة، بالمقابل، إنّ الحيّة ستصيب عقبه، مما يعني أنّ الحرب ستتواصل ولكنّ النسل سيفوز. كلّ هذ التعابير جعلتنا ننظر إلى العذراء مريم وابنها سيدنا يسوع المسيح: فمعهما تمّ الانتصار على الشيطان؛ وعلى الكنيسة والمؤمنين أن يُكملوا مسيرة الانتصار هذه.
1. 2- في كتب الشريعة والتاريخ
+ شجرة الحياة: (تك 3: 22) شجرة الحياة في وسط الفردوس هي رمزٌ للعذراء التي أعطت العالم الثمرة المباركة المحيية، ليأكل العالم منها ويحيا إلى الأبد.
+ القوس في الغمام: (تك 9: 8-17) قوس القزح بعد الطوفان هو علامة العهد بين الله ونوح: رمزٌ للعذراء، علامة العهد الجديد، أم المخلّص والدة ابن الله.
+ علّيقة موسى: (خر 3: 1-6) كانت العلّيقة تتوقّد بالنار وهي لا تحترق بحضور مجد الله فيها: رمزٌ للعذراء التي حلّ فيها الله واتّلد انسانًا وبقيت عذراء.
+ تابوت العهد: (2صم 6: 9-12) تابوت العهد الحاوي لوحي الوصايا العشر وجرّة المنّ وعصا هارون، علامات العهد القديم بين الله وشعبه، رمز للعذراء التي حلّ فيها ابن الله متانّسًا بنوع عجيب.
+ غمامة إيليا: (1مل 18: 41-46) هذه الغمامة العجيبة أسقت الأرض العطشى بندى السماء وهي رمز للعذراء التي روّت أرضنا العطشى بالماء الحي، ابنها ربنا يسوع المسيح.
+ برج داود، برج العاج: (نش 4: 4) إنها القلعة التي كان يأوي إليها داود فينجو من أعدائه، ويجد الدفء، فيسترجع الشجاعة والاقدام. فكما العنق يربط بين الرأس والجسم، كذلك البرج يحمل أوامر الرأس لكافّة عمليات الحرب. أمّا العاج فهو رمزٌ للثراء والهناء وقد كانت قصور الملوك مزيّنة بالعاج (مز 45: 9)، وقال عريس نشيد الأناشيد لحبيبته “عنقكِ برجٌ من عاج” (نش 7: 5).
+ هيكل سليمان، المصنوع من الذهب وأرز لبنان: (1مل 8: 22-30) الهيكل في أورشليم هو علامة حضور الله مع شعبه، وبذلك هو رمز للعذراء التي حلّ فيها “الله معنا” عمّانوئيل، وسكن وصار إلهًا انسانًا مثلنا، لأجلنا. ومن المعروف أنّ هيكل سليمان كان مصنوعًا من أرز لبنان (1مل 6: 15) ومغشًّى من الداخل بالذهب الخالص (1مل 6: 22)، وبذلك رمزٌ لمريم المكان الـمُـصفّى كالذهب والأرز، اللائق بسكنى الله.
+ أمّ سليمان (1مل 2: 12-25) التي زارته كي تتوسّط لأدونيا فيتزوّج أبيشاج الشونميّة، هي رمز لمريم، لأنّ سليمان ذهب لاستقبالها وضع لها عرشًا قرب عرشه ولم يردّ مطلبها، تمامًا كما يكرّم المسيح أمّه ولا يردّ لها طلبًا.
1. 3- في كتب الحكمة
إنّ سفر نشيد الأنشيد هو أنشودة حُب بين حبيبَين، يتغنّى كلٌّ منهما بالآخر. لكنّ الحبيبة التي هي كالوردة أو “كالسوسنة بين الأشواك” (نش 2: 2) هي رمز لمريم البريئة من الخطيئة بين بني آدم. ولقد اتّخذت الكنيسة من مدائح الحبيب لحبيبته تراتيل تكرّم فيها العذراء قائلةً: “كلُّك جميلةٌ يا حبيبتي ولا عيب فيكِ؛ هلمّي معي من لبنان أيّتها العروس” (نش 4: 7-8) وقد تُليَت بخاصّة بمناسبة عيد انتقال العذراء إلى السماء بالنفس والجسد وكأنّها كلمات يسوع الذي يكرّم أمّه ويدعوها من لبنان إلى السماء.
وهناك موضوع “الحكمة” وفيه رأت الليتورجيا صورة لمريم ولابنها فدعَتها في الطلبة “يا كرسيّ الحكمة، تضرّعي لأجلنا”. ولكن، كما كانت الحكمة في فكر الله، ووُلدت حين لم تكن الغمار وقبل أن تُغرَس الجبال والتلال (أمثال 8: 22-31)، كذلك مريم العذراء اختارها الله أمًّا لابنه وزيّنها بكل المحاسن والفضائل، لدرجة أنّها أصبحت “امرأة فاضلة، قيمتُها فوق اللآلئ، وتُمدَح لأنّها متّقية للرب” (أمثال 31: 10-31).
مِثلُ هذه الرموز وغيرها الكثير (سي 24: 1-34): الأرز في لبنان، والسرو في حرمون، والنخل في السواحل، والورد في أريحا، والزيتون، وبخور اللبان، والكرمة، إلخ.، تعني مريم بالدرجة الأولى لأنّها تدعو الجميع للشبع من ثمرها؛ فالذين عملوا بإرشادها لا يخطاؤون.
1. 4- في كتب الأنبياء
من أهمّ أقوال الأنبياء الحديث عن المسيح المنتظَر. فالملك آحاز (سنة 740 ق.م.) الشرير والمتّكل على آلهة آشور لا على الرب، أعطاه الرب آيةً في ولادة ابنه الملك حزقيّا الذي كسّر التماثيل الوثنية وتغلّب على آشور؛ وكان النبيّ آشعيا تنبّأ قائلاً له: “فلذلك يؤتيكم السيد الرب نفسه هذه الآيةَ ها هيَ العذراءُ تحبَلُ وتلِدُ ابناً وتدعو اسمَهُ عِمَّانوئيل”. وبالفعل، أصبح “الرب مع” شعبه ليس فقط من خلال ولادة الملك حزقيّا في العهد القديم إنّما بولادة المسيح المنتظَر من العذراء مريم. حتى انّ تحديد مكان ولادته قد تمّ مع النبيّ ميخا (سنة 721 ق. م.) وقد ربطَه “بوالِدة” أي بامرأة ستلد ولدًا سيّدًا منذ الأزل، فيعود الازدهار لأرض اسرائيل: “أنتِ يا بـيتَ لحمَ أفراتةَ، صغرى مدن يهوذا، منكِ يخرجُ لي سيّدٌ على بني إِسرائيل يكونُ منذ القديم، منذ أيّام الأزل. لذلك يترك الرّبُّ شعبَهُ إلى حين تلِدُ الوالدةُ، فيرجعُ الباقون من بني قومه إلى أرض بني إِسرائيل” (مي 5: 2-3).
وهناك موضوع آخر تحدّث عنه الأنبياء هو “ابنة صهيون” المدعوّة للابتهاج والفرح لأنّ ملكها آتٍ إليها (زك 9: 9)، وقد أعطاها الربُّ مطر الخريف (يوء 2: 23)، وسيعود السلطان الأول إليها (مي 4: 8)، ولأنّ الرب ألغى الحكم عنها وأبعد عدوّها (صف 3: 14). فابنة صهيون تعني في العهد القديم شعب الله الذي عاصمته الدينيّة والسياسيّة هي أورشليم، مدينة ملكيصادق المعاصر لابراهيم، والتي قد يطابق موقعها مع جبل موريّة حيث قدّم ابراهيم ذبيحته (2أخ 3: 1)، والتي اتّخذها داود من يد اليبوسيين (2صم 5: 6)، وفيها، بخاصةٍ على جبل صهيون، اختار الله له مسكنًا (مز 78: 68؛ 132: 13). فابنة صهيون التي كانت تنتظر، عبر تاريخها الأليم، ولادة رجائها المسيحانيّ المفرح، هي رمزٌ لمريم أم المسيح المنتظَر؛ والدراسة المعمّقة لنصَّي صف 3: 14-17 ولو 1: 28-31 تُظهر ذلك بكلّ وضوح.
2- مريم العذراء في العهد الجديد
يعطي العهد الجديد، بخاصة من خلال الأناجيل، الصورة الحقيقية عن شخصية العذراء التاريخية، وعن دورها الخلاصي، باشتراكها الوثيق في سرّ ابنها وربّها يسوع المسيح، منذ بشارتها بالحبل الإلهي حتى تكليلها بالمجد سلطانة على السموات والأرض.
2. 1- نسب يسوع بحسب القديس متى (متى 1: 1-17)
بالرغم من أنّ متّى يشدّد على شخصية يوسف في قصص الطفولة (متى 1 – 2)، في حين يشدّد لوقا على شخصية مريم (لو 1 – 2)، نجد في نص نسب يسوع أنّ لوقا يغفل عن ذِكر مريم. أمّا متّى فيقولُ إنّ “يعقوب وَلَدَ يوسف زوج مريم التي منها وُلِدَ يسوع وهو الذي يُقال له المسيح” (متى 1: 16). إنّ هدف النسب هو انخراط الشخص في الذكرى العائليّة، فيسوع دخل في تاريخ إسرائيل. بحسب متّى، كلّ النساء اللواتي ذُكرن في السلالة (تامار، راحاب، راعوت وأرملة أوريّا) حضّرن لمجيء مريم بسبب حمْلهنّ غير الاعتيادي والمألوف. والفعل المجهول “وُلِدَ” يعني أنّ يوسف لم يلد يسوع كما وُلد هو من يعقوب، فمريم هي عروسة الروح القدس التي منها وُلد المسيح، وهذا ما سيقوله صراحةً متى في الآية اللاحقة (1: 18).
2. 2- البشارة (لو 1: 26-38)
يُظهر لنا هذا النص مريم كفتاة من مدينة الناصرة، عذراء في مقتبل العمر، مخطوبة لشاب من بيت داود اسمه يوسف. دعاها الرب لتكون أمًا عذراء لابن الله المتأنّس. يتّفق لوقا مع متى على أنّ حبل مريم هو من الروح القدس الذي يظلّلها. بعد التعريف بمريم وبمحتوى البشارة، يأتي الجواب “أنا خادمة للرب” ممّا ينمّ عن طاعة واستسلام لإرادة الله، الذي يقود سفينة حياتها، غير آبهة بالصعاب المستقبليّة.
2. 3- الزيارة لإليصابات ونشيد مريم (لو 1: 39-55)
تُظهر لنا الزيارة مريم بموقف الخادمة والـمُحِبّة. لم نسمع أنّ امرأة حاملاً تذهب مشيًا على الأقدام لتخدم غيرها! إنّها مِثل الهيكل المقدّس الذي، عندما يحلّ فيه الله، يقدّس الجميع؛ وهي مثل تابوت العهد الجديد، تزور اليصابات وتقدّسها في بيتها. إنّ مريم هي أول بيت قربان متحرّك بالنسبة إلى المسيحيين! أمّا نشيدها فينمّ عن ثورة تحريريّة بدأها الله مع شعبه حين خلّصه من فرعون وأطعمه في الصحراء وعضده حين ردّه من السبي؛ وها هو يُكمل الآن عمله الخلاصيّ بواسطة مريم المتواضعة والمسيح المولود منها. فالمتواضع الحقيقي هو الذي يعرف أن يرى عمل الله في حياته، فيشكره ويسبّحه ويتهلل بمجده.
2. 4- ميلاد يسوع بحسب متى (متى 1: 18-25)
يركّز هذا النص على شخصية يوسف، فيُظهره لنا شابًا صدّيقًا اختار مريم خطيبةً له. دعاه الرب ليكون مربّيًا لابن الله المتأنّس، وحارسًا لمريم البتول والدته القديسة. فمريم ويوسف، بعد ان اختار أحدهما الآخر لحياة زوجيّة طبيعية حلوة مقدّسة بحسب الشريعة المقدسة، دعاهما الرب دعوة خاصة، وطلب إليهما حياة جديدة. لم يكن من السهل عليهما تقبُّل هذا الأمر من دون تدخّل مباشر من الله بواسطة الملاك. فلبّيا الدعوة بفرح وسخاء وحرية تامة، وبقيا عروسَين طاهرين بتولين مدى العمر، لا تربطهما إلاّ محبة وخدمة متبادلة كاملة، تجسّدت في شخص الابن الالهي العجيب، الذي جمعهما وصار محطّ لقائهما الأوحد، جسمًا وروحًا مدى الحياة.
2. 5- ميلاد يسوع بحسب لوقا (لو 2: 1-7)
يُظهر هذا النص فقر العائلة المقدسة وقبولها بأحقر الأمكنة للولادة كي تحمي ابن الله. لـمّا ولدت مريم يسوع “أضجعَتْه في مذود لأنّه لم يكن لهما موضع في المضافة”. فالمقصود بالمذود هو إمّا “ردهة” خان إذ كان عادةً في الخان زريبة، وإمّا مضافة أحد المنازل. أمّا تقليد المغارة فقد ظهر في القرن الميلادي الثاني مع المؤرّخ يستينس، وأخذ رونقه مع القديس فرنسيس الأسيزي.
2. 6- زيارة الرعاة (لو 2: 8-20)
إنّ للرّعاة سمعةً سيّئة في المحيط اليهودي، فكانوا متَّهَمين بالسرقة وبعدم الاستقامة؛ إنّهم في وضعيّة اجتماعيّة منحطّة. وهكذا كانوا من أوّل المستفيدين من البشرى السارة. لقد أتى المسيح ليبشّر الفقراء وليفرّج عن المظلومين (لو 4: 18). ولم تكن رؤيتهم لمريم ويوسف وللطفل إلّا مشهدًا طبيعيًا لـِما أُخبروا به من قِبل الملاك، لكنّ لوقا يشدّد على أنّهم أصبحوا شهودًا على ولادة المخلّص وأوّل المبشّرين في لائحة لوقا الكبيرة.
2. 7- التقدمة للهيكل (لو 2: 22-40)
يُظهر لنا هذا النص العائلة المقدّسة مكرّسةً لخدمة الرب. لقد عاش يوسف ومريم طاعةً مثاليّة لشريعة الرب التي أوجدت قانون نَذْر البكر، فاتح الرحم، للرب في الهيكل، وفرضت بالتالي عزل المرأة مدّة أربعين يومًا عن الصلاة القانونيّة الجماعية. فطهارة مريم هي كاملة وواضحة من خلال بتوليّتها الدائمة التي لم تفقدها بولادة المسيح، إنّما بفضل حبلها من الروح القدس، أصبحت بتولاً وأمًّا. مع الطاعة والطهارة، نجد أيضًا فقر التقدمة، زوجَي يمام أو فرخَي حمام، إذ إنها ليست كتقدمة الأغنياء. كما تكشف نبوءة سمعان عن سرّ الصليب من خلال عبارة “السيف” الذي سيجوز في داخل الأمّ لدى رؤيتها ابنها معلّقًا عليه.
2. 8- زيارة المجوس (متى 2: 1-12)
استغرقت معرفة المجوس بالمولود الجديد ومسيرتهم تجاهه وقتًا أطول من الرعاة. وقد اصطدمت رغبتهم برؤية الملك الجديد باضطراب أورشليم عند سؤالهم عنه فيها. لكن، عندما وصلوا إلى البيت، يقول الإنجيل إنّهم رأوا “الطفل مع أمّه مريم” (متى 2: 11). من خلال سجودهم للطفل، يهيّء المجوس لإيمان الوثنيين الذي سيتمّ لاحقًا؛ وليست هداياهم سوى إشارة لحجّ الأمم الاسكاتولوجي إلى أورشليم الجديدة (رؤ 21: 24)، حيث سيقدّمون أفضل ما عندهم. في كلّ هذا المشهد، تبدو مريم نجمة التبشير الجديد الذي يفتح الباب واسعًا لجميع الأمم لبلوغ الخلاص.
2. 9- الهروب إلى مصر والعودة (متى 2: 13-23)
وجد هيرودس في يسوع منافسًا له على العرش، بخاصةٍ انّ المجوس سألوا عن مكان “ملك اليهود”. فمملكة يسوع ليست من هذا العالم، لكنّ اضطهاد هيرودس له جعله يعيد اختبار شعب الله الذي ذاق الأمرَّين من فرعون وخرج من مصر إلى أرض الحريّة. فهيرودس يلعب دور فرعون، وأطفال بيت لحم يمثّلون أبكار المصريين الذين ماتوا، ويسوع هو موسى الجديد، أمّا يوسف ومريم فيمثّلان فقراء الشعب الجديد والجماعة المسيحانيّة الكنسيّة التي اختبرت الهجرة والفقر لكنّها أيضًا لمست فعليًّا تدخّل الله لحمايتها من أخطار اضطهاد التنين.
2. 10- الوجود في الهيكل (لو 2: 41-52)
إنّ عادة ذهاب العائلة المقدسة سنويًّا إلى أورشليم دليلٌ على إيمانها وممارستها لما تفرضه الشريعة، وبذلك هي مثالٌ لجميع عائلات اليوم. يُظهر لنا هذا النص يسوع في بيت أبيه، في هيكل أورشليم، بعمر الثانية عشرة، ويوضح بعض سرّه لأمّه مريم وهي بعد لا يُمكنها فهمه. إنّ ضياع الطفل ووجوده في اليوم الثالث يحضّر لموته وقيامته في اليوم الثالث. ويُلفتنا موقف الأم لدى رؤيتها ابنها في الهيكل إذ قالت له: “يا بُنيّ لـِمَ فعلتَ بنا ذلك؟ فأنا وأبوك كنّا نبحث عنك مُتلَهّفَين” (لو 2: 48). تُظهر بذلك مريم اهتمامًا عاطفيًا انسانيًّا طبيعيًّا لابنها، فهي مثالٌ في التربية لجميع الأمّهات بخاصةٍ من خلال الاهتمام بشؤون الأولاد ومساءلتهم عن أوضاعهم.
2. 11- موقف مريم ممّا يُقال بيسوع (لو 2: 19 و51)
“كانت مريم تحفظ هذه الأمور وتتأمّلها في قلبها” (لو 2: 19 و51). تظهر مريم في إنجيل الطفولة كمثال للمتأمّل في سر الكلمة وكحافظة لكلّ الأمور بتواضع في قلبها. يشبه هذا الموقف موقف يعقوب عندما أُخبر بأحلام إبنه يوسف (تك 37: 11)، وموقف دانيال بعد أن رأى حُلم الحيوانات الأربعة (دا 7: 28). إنّ حِفظ الأمور في القلب يعني عملاً تفكيريًّا في العقل وتأمّليًا في الذكرى؛ إنّه موقف حكماء اسرائيل الاعتياديّ أمام أحداث التاريخ.
2. 12- عرس قانا الجليل (يو 2: 1-11)
إنّ العرس الأرضي في قانا الجليل رمزٌ للعرس السماويّ في الآخرة بين الله والبشريّة. وشفاعة أمّ يسوع الفعّالة هنا هي علامة لشفاعتها لجميع المدعوّين إلى عرس الحمل. وبذلك تكون مريم صورةَ حوّاء الجديدة، أم المؤمنين، فتعطيهم أول آية أعلن فيها الرب مجده، وآمن به تلاميذه، عوضًا عن حواء القديمة التي أعطتنا الموت والخطيئة.
2. 13- مريم أثناء حياة يسوع العلنيّة
أثناء حياة يسوع العلنيّة نجد ثلاثة أحداث تتحدّث عن مريم. هنا فقط نجد لمريم أثرًا في إنجيل مرقس.
عندما دهش الجموع من تعليم يسوع ومعجزاته قالوا “من أين له هذه الحكمة.. أليست أمّه تُدعى مريم واخوته يعقوب ويوسى وسمعان ويهوذا؟” (مر 6: 3؛ متى 13: 55). هذا يدلّ على أمومة مريم ليسوع. أمّا القول إنّ الأربعة اخوة هم اخوة يسوع فهذا خطأ لأنّ ليعقوب ويوسى أمًّا هي غير أمّ يسوع (مر 15: 40؛ متى 27: 56)، وإنْ كان لها أولاد آخرون لماذا سلّمها ابنها على الصليب ليوحنا؟
في مكان آخر، نجد أنّ مريم كانت مرافقة لرسالة يسوع، وقيل له إنّها في الخارج مع أخوته (متى 12: 46-50؛ مر 2: 31-35؛ لو 8: 19-21). فكان جواب يسوع أنّ عائلته الجديدة تتمثّل بمن يسمعون كلمة الله ويعملون بها. دون أن يقلّل من قيمة العائلة الطبيعيّة، وسّع مفهوم العائلة إلى معنىً روحي أشمل وأسمى هي عائلته الجديدة: تلاميذه والكنيسة. فمريم تحتلّ هنا المركز الأول لأنّها هي أكثر مَن سمعت كلمة الله وعملت بها.
وعندما قيل ليسوع “طوبى للبطن الذي حملك أردف قائلاً: “بل الطوبى لمن يسمع كلمة الله ويحفظها” (لو 11: 27). وبذلك، من دون أن يسيء إلى “البطن” (أي إلى مريم أمه)، يعتبر يسوع أنّ العائلة ليست الطريقة الوحيدة لتتميم وصايا الله، بخاصّةٍ انّ الاتّباع الجذري للمسيح ممكن أن يولّد شجارات في العلاقات العائليّة وهذا ما تحدّث عنه عندما قال: “جئتُ لأفرّق بين المرء وأبيه، والبنت وامها… فيكون أعداء الإنسان أهل بيته” (متى 10: 35-36).
2. 14- عند اقدام الصليب (يو 19: 25-27)
اتّحدت مريم مع ابنها بكلّ أمانة حتى الصليب حيث كانت واقفة مع التلميذ الحبيب. تألّمت لآلامه وأصبحت، بإرادة يسوع، أمّ جميع المؤمنين في شخص يوحنا. تظهر مريم في إنجيل يوحنا مرتبطةً بموضوعَي الساعة والتلاميذ. ففي عرس قانا الجليل وعند الصليب نجد إشارةً إلى موضوع “ساعة” يسوع، فمن جهّة “لم تأتِ ساعتي بعد” ومن جهة أخرى “منذ تلك الساعة استقبلها التلميذ في بيته”. فموضوع الساعة المعروف في إنجيل يوحنا يشير إلى موضوع تمجيد يسوع أي إلى ساعة موته وقيامته. وبالمقابل نجد أيضًا أنّ مريم متّصلة بالتلاميذ: ففي عرس قانا آمن التلاميذ بيسوع إثر الآية التي جرت، وعلى الصليب أخذ التلميذ مريم إلى بيته؛ وهكذا تكون مريم عند يوحنا، بالإضافة إلى كونها حواء الجديدة، أصلَ النسل الجديد؛ ودورها هو في أن تكون أمًّا لهذا الشعب الجديد: أمومة روحية تتخطّى الزمان والمكان.
2. 15- مريم المصلّية (رسل 1: 14)
يُظهر كتاب أعمال الرسل مريم العذراء حاضرة بين جوق التلاميذ الأطهار ومع النساء الأخريات، في العلّية، يوم العنصرة، “مثابرين على الصلاة بقلبٍ واحد”. فكان حلول الروح القدس عليها تجديدًا لـِما اختبَرتْه يوم البشارة حين قال لها الملاك “الروح القدس يحلّ عليكِ”. فمريم هي المرأة الأولى المتجدّدة بالروح القدس الذي يفيض مواهبه على المؤمنين لبنيان الكنيسة.
2. 16- ابن الله مولود من امرأة (غل 4: 4)
في نص فريد لبولس في رسالته إلى أهل غلاطية (غل 4: 4) يتحدث عن أنّ مريم هي “امرأة” العهد الجديد التي منها وُلد ابن الله. في سياق حديثه عن التحوّل من حالة “القاصرين-العبيد” تحت حكم الشريعة إلى حالة “أبناء” الله الأحرار الذين فيهم روح الله، يأتي ملء الزمن ليحقق ولادة تاريخية لابن الله من امرأة معطيًا بذلك الفداء للعالم أجمع. فبنظر بولس، مريم هي أساس ضروري للخلاص، إذ بدونها تدبير الله لا يتحقق!
2. 17- مريم الملتحفة بالشمس (رؤ 12)
يُظهر سفر الرؤيا العذراء مريم، حواء الجديدة، كملكة للسموات والأرض وكسلطانة للرسل المرموز إليهم بإثني عشر كوكبًا، أم المخلّص والكنيسة، مُضطَهَدةً من التنين، هي ونسلها الذين يحفظون وصايا الله، ومَحميّة منه بواسطة الملاك ميخائيل.
3- لمحة حول بعض الأعياد المريميّة بحسب السنكسار الماروني
يقول السنكسار الماروني في عيد ميلاد العذراء (8 أيلول)، إنّ الله استجاب لصلاة والدَيها الطاعنين في السن، يواكيم وحنّة العاقر، ورزقهما هذه الابنة العجيبة التي هي كنجمة الصبح المبشّرة باشراق شمس العدل.
في عيد تقدمتها للهيكل (21 تشرين الثاني) يقول السنكسار إنه بعمر الثلاث سنوات قدّمها أبواها للرب عن يد زكريا الكاهن لأنّ امّها حنّة كانت عاقرًا وطلبت ولدًا لتنذره إلى الرب. وهكذا سكنت مريم قريبة من هيكل أورشليم، متفرّغة للصلاة والشغل اليدوي، تعلّمت القراءة وانكبّت على مطالعة الكتب المقدسة، تنام قليلاً وتكدّ كثيرًا، وكانت تخاطب الملائكة وتناجي الله. بقيت في الهيكل 11 سنة حتى بلغت الخامسة عشرة من عمرها وعادت إلى الناصرة حيث قبلت البشارة.
وفي عيد القدّيسين يواكيم وحنة (9 ايلول و22 تشرين الثاني) يقول السنكسار إن يواكيم كان من الناصرة من ذرية داود وحنّة من بيت لحم سبط يهوذا، عائشيَن بالصلاة والتأمل، لكن، حزينَن لأنهما لم يُرزقا ولدًا. ولما وُلدت العذراء قدّماها للهيكل بعمر الثالثة. لما صار يواكيم ابن 80 سنة توفّي بشيخوخة صالحة أما حنّة فعاشت حتى حظيت بمشاهدة الطفل يسوع ثم رقدت بسلام عن 79 سنة.
خلاصة
تلك هي صورة العذراء، كما ترسمها لنا الكتب المقدسة الـمـُلهَمة في العهدين القديم والجديد: إنها بحلول ابن الله المتأنّس قد أتمّت رموز جميع الاقدمين، وصارت مثالاً لكنيسة المسيح المؤمنة، والأم القدوة والشفيعة لجميع المؤمنين. إنّ دورها في تاريخ الخلاص يرتبط بابنها ومن هنا شفاعتها الفعّالة: إنّ حبّها الأموميّ يجعلها تصغي إلى البشر وهمومهم ومخاطرهم. فبحسب القديس امبروسيوس إنّ مريم هي صورة الكنيسة أي إنّها مثالها في الإيمان والمحبّة والاتّحاد الكامل بالمسيح. وليس إكرامها في الكنيسة على مرّ العصور إلاّ علامة مميزّة من علامات حبّ المؤمنين للفادي المخلّص وأمّه “المشارِكة في الفداء”.
المراجع
بشاره يوسف، والفغالي بولس، العذراء مريم، منشورات الرابطة الكهنوتيّة، جونية 1990.
توريان ماكس، مريم أمّ الربّ ورمز الكنيسة، دراسات لاهوتيّة، دار المشرق، بيروت 1986.
خوند يوحنا، الحاج امبروسيوس، والقزّي جاك، الكتاب المقدّس تعليم وحياة، منشورات طريق المحبّة الجزء 10، بيروت 1984.
دوبره لاتور أوغسطين، خلاصة اللاهوت المريميّ، دراسات لاهوتيّة، دار المشرق، بيروت 1991.
مجلّة البشرى، عدد 28، عنوان العدد “إمرأة العهد الجديد”، بيروت 2009.
معجم اللاهوت الكتابيّ، دار المشرق، بيروت 1991.
[1] مسؤول التنشئة في ابرشية جبيل المارونية، حائز على شهادة دكتوراه في الكتاب المقدس من الجامعة الغريغورية في روما. يدرّس مادة العهد الجديد في جامعة الحكمة والجامعة الانطونية في لبنان وفي جامعة سيدة صهيون في سان باولو البرازيل. له مؤلّفات عدة حول القراءة “البراغماتيكية” للكتاب المقدس.