طرح الرب يسوع هذا التساؤل وهو يُعلّم بالأمثال، ليقرّب أسمى الحقائق من فكر الإنسان بأبسط الصور. لقد شكل الإيمان ولا يزال حركة سعي في العيش وموضوع بحث في الفكر، لما تؤثر فيه المعطيات الإنسانية والظروف الخارجية.
يُروى أنّ قافلة كانت متجهةً شمالاً، جاءها صوت من السماء يدعو أصحابها قائلاً: “إذا أكملتم توجهكم شمالاً فموتًا بالسيف سوف تموتون هذه الليلة، أما إذا تحوّلتم جنوبًا فستصلون إلى واحة الفرح وهناك تحتفلون”. سمع الجميع الصوت. البعض تهكّم واعتبر أنه “ليس سوى هلوسات الصحراء”؛ والبعض الآخر وقف متسائلاً، تائهًا بين الرغبة في المتابعة والخوف منها. قليلون قالوا: “لنرَ الأمر إذا ما كان صحيحًا!” فالأولون، المتهكّمون غير المؤمنين، تابعوا سيرهم نحو الشمال وسقطوا بحدّ السيف على يد اللصوص. الآخرون، أصحاب الفكر، العقلانيون، بقوا رازحين تحت ثقل الشك يتساءلون حول صحة الصوت. جاء المساء، فوقعوا فريسة الوحوش وهلكوا. أما الأخيرون، الذين أخذوا بتوجيه الصوت، فوصلوا واحتفلوا. البشارة تنفع الذين يسمعونها، والسماع لكلام الله يقتضي الطاعة له بإيمان. ومسيرة الإيمان بدأت بالسمع ثم بتحريك المسار على محتوى البشارة، حتى وصلت بالأخير إلى لمس الحقيقة وهي الثمرة. إنها قصة الإيمان التي تستوقفنا هذه السنة، كما أرادها قداسة الحبر الأعظم البابا بندكتوس السادس عشر، لنتأمل فيه ونتعمّق بمحتواه ونعيش مقتضياته.
يسّر إدارة مجلة المنارة أن تخصص هذا العدد الأول من سنتها الجديدة لتسبر غور هذا الموضوع، مستكشفة خفاياه، مستطلعة حركته، متطّلعة إلى ثماره، راجية أن تفيد قرّاءها الكرام في مسيرتهم ليستدلوا، في ضوء الكلمة طريق واحة الفرح ليحتفلوا.
1- الإيمان زرع، عطية إلهية يزرعها الرب في قدس أقداس النفس، في عمقها، في قلب الإنسان. ينمو هذا الزرع في البيئة حيث يعيش الإنسان. يتأثر بالظروف التي يمر بها والأحداث التي يواجهها. وبالتالي يصبح الإيمان تلك العطية التي تحرّك الإنسان فتثمر حياة، كما حصل للذين حوّلوا مسارهم على وقع صوت السماء فاحتفلوا. لكن فلنحذر أمرين:
* الأول: البساطة والعفوية لا تشكلان حصرًا قيمة الإيمان. لأن مسلك الإيمان لا يتعارض مع مسلك العقل والإدراك. يفترض الإيمان التفكير حتى يوجّه حياة المؤمن نحو الخلاص. يؤكد لنا إيماننا المسيحي أن الله الفائق الطبيعة والسامي فوق كل المخلوقات قَبِلَ وشاء أن يُظهر ذاته للإنسان عبر مسار التاريخ، وبشكل خاص، من خلال شخص ابنه المتجسد يسوع المسيح؛ هو غير المنظور وغير المعروف جعل من ذاته منظورًا ومعروفًا، جعل من ذاته عرضة لعقل الإنسان ومعرفته ليدلّه على طريق الخلاص.
* الثاني: ادّعاء معرفة كل الأمور كشرط أساسي للإيمان، يُخرج الإيمان عن طبيعته الصحيحة. لأن معرفة كل شيء تعني امتلاك الحقيقة المطلقة، وهذا غير ممكن للفهم البشري. إن الإيمان بكل حق، لا يتوقف عند الانغلاق على الذات في امتلاك الحقيقة المطلقة؛ إنما العكس، الإيمان هو الانفتاح على حقيقة السرّ، التوجه نحو الحقيقة العظمى، أي الله. وهذا ما حصل حقًا للذين سلكوا بحسب الصوت الآتي من السماء ففرحوا واحتفلوا.
2- الإيمان جواب حي، آني ودائم، على نداءات الله وإيحاءاته؛ ولذلك يرسم لنا مسيرتين يقتضيهما لثمار غنية.
* الأولى: حركة توبة، تغيير القلب؛ وهي مسيرة التوجّه نحو الله. ترتكز في محطاتها على الثقة بإيمان الذين سبقوا فعاشوا هذا الإيمان. هي مسيرة جماعية، كنسية، يواكب فيها المؤمنون بعضهم البعض، في حالة تضامن، وهم يبحثون عن الله.
* الثانية: حركة معرفة، المعرفة الاختبارية، حيث يصبح الإيمان جوابًا متواصلاً في العيش على نداء الرب. إنه جواب في الحاضر، جواب معاش، يحوي علامات الرجاء، ويقتضي أفعالاً يتشارك فيها المؤمن باقي أعضاء جسد يسوع السري، إخوته في الكنيسة. ففي الإيمان لا براهين حسيّة، ولا حسابات دقيقة؛ لا يوجد سوى الدوافع إلى الإيمان، وهي خبرات شخصية يعيشها المؤمن، خبرات لحضور الله في حياته. لذلك أكد بولس الرسول أن كلمة الله تأتي لتسند الإيمان، فالإيمان من السماع، سماع كلمة الله. وهذا ما صنعه الذين مشوا على وقع ما سمعوا فاحتفلوا.
لا كلمة قادرة على استنفاد شخص الآخر بكليّته وتوفيه حقّه في إظهار حقيقته، لأن الحرية الشخصية تتجلى كنبع دافق من التعابير، والله، وهو الحاضر الأسمى، هو هو لا يتغيّر، إنه الآخر بامتياز، يحضر ولا يذوب في الخلائق؛ وبقدر ما قرب منا في حضوره بيسوع العمانوئيل انكشف لنا أكثر فأكثر اختلافه غير الموصوف. إنه أكثر مما نعرفه، حاضر معنا على طريقته الخاصة، يتجلى في بعده وقربه في الوقت عينه؛ لذا تعجز كل كلمة عن التعبير الملائم عنه، لهذا فالإيمان يتقدّم وينمو في تخطٍ مستمر لكل الكلمات التي نقولها عليه.
إيماننا فعل يضعنا في حالة تواصل دائم مع الله؛ والله نفسه يلاقينا بكلمته التي هي وحدها قادرة على التعبير عما هو، وإظهار حبه الكامل وترجمة حضوره الفاعل؛ ونحن بتواصلنا مع هذه الكلمة الالهية يكتسب إيماننا قوة وصلابة، فتتحول حافزًا للمضي نحو الأكثر ودافعًا للاجتهاد في سبل الأكمل؛ نصبح بالتالي متعطشين إلى المعرفة الأكبر التي توصلنا إلى بناء عهد يدوم.
هيئة التحرير