الخوري بول ناهض[1]
بالحقيقة لا نعرف أموراً كثيرة أكيدة عن هذا الموضوع! وما نعرفه لا يكفي للإحاطة بجوانبه كافة: ماذا جرى في البدء؟ ومتى ابتدأت الكتابة البيبلية؟ مَن كتب أولاً؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة تبقى مغامرة محفوفة بالمحاذير التاريخية حتى وإن كنا نقبل اليوم وبغير تردّدٍ العهدَين القديم والجديد كنَصَين مرجعَين مكتمِلَين لإيماننا المسيحيّ.
يفترض بحثنا عن نشأة البيبليا أن نتذّكر الدائم ماهية الكتاب المقدس: إنه مكتبةٌ دينيّة تخصّ الديانتين اليهودية والمسيحية. وبالأساس هي مكتبة تحتوي ثقافة الشعب اليهودي وتاريخه قبل أن يقبلها هذا الشعب كتاباً مقدّساً له ومن ثمّ تتبناها الكنيسة الى جانب العهد الجديد مرجعها الدينيّ الأول. بمعنى آخر، لم تكن البيبليا أولاً كتاباً مقدّساً بل إن هذه التسمية جاءت نتيجة تقبّلٍ من شعب الله له وبعده من الكنيسة الناشئة.
والأكيد في هذا الأمر إن البيبليا هي نتاج تاريخ طويل من التكوين. ومحاولة فهم هذا التاريخ التكوينيّ للكتاب المقدس إنما يبقى أمراً دقيقاً وصعباً. فبعد عشرين قرنٍ من القراءة البيبلية وخمسة قرون من الدراسات النقدّية للنص لم نتوصل بعد إلى خلاصات أكيدة نالت إجماع العلماء البيبليين.
نحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على المحطّات الكبرى لهذا البحث عن تكوين الكتاب المقدس علّه يساعد القارئين على خوض غمار قراءة البيبليا وفهم إرادة الله من خلالها. وقسمه الى ثلاثة أقسام:
1- نشأة العهد القديم
2- نشأة العهد الجديد
3- قانونية الأسفار البيبلية
1– نشأة العهد القديم
إن تنوع أسفار العهد القديم وتعدّد لغاته وما ينقله إلينا من أخبار وأحداث منذ بداية الكون حتى فجر العصر المسيحي، كلُّ ذلك يشير إلى أنه وليد مسيرة طويلة من التأليف والقراءة وإعادة القراءة. وهذه الحقيقة قد تزعج المؤمنين الذين يفضلّون لو كانت الكتب المقدّسة تعليماً مباشراً مُنزلاً في الشأن الإيماني والأخلاقي في سبيل نيل الخلاص.
طبعاً إن العهد القديم يقول لنا إرادة الله إنما يقولها في سياقِ تاريخٍ تتجاذبه خطايا الشعب من جهةٍ وقداسة الله من جهة أخرى. لذلك نجد فيه كثيراً من الأحداث الإنسانيّة كالعنف وسائر أنواع الرذائل وكل إلغاء لهذه المقاطع أو تفاوضٍ عليها إنما يسيء إلى حقيقة طبيعة العهد القديم ويجعل منه نصّاً مفصّلاً على قياس كلِّ واحد منا.
يُبيّن تعدد الفنون الأدبية وتنوع تعابير العهد القديم أن الكتابة البيبلية إنطلقت بطرقٍ متعدّدة وبظروفٍ مختلفة وعلى مراحل وحقبات تاريخيّة منفصلة. إذ تختلف كتابة نصٍ حكمي عن كتابة نصٍ شعري، أو سردٍ تاريخيّ عن شرائع وأحكام قانونيّة، أو مثلٍ عن نصّ رؤيوي…
وقد لعب الملوك في الشرق القديم دوراً مهماً في انطلاقة الكتابة وانتشارها وذلك لرغبتهم في تخليد اعمالهم واسمائهم. ولم يختلف الأمر في اسرائيل اذ يمكننا ان نقرأ في أسفار الملوك الاول والثاني احداث الازمنة الملكية في اسرائيل حتى يوياكين آخر ملوك اليهود. كما ان اسفار صموئيل، عزرا، نحميا والمكابيين تنقل الينا احداثاً تاريخية مهمّة.
غير اننا نقرأ ايضاً في اماكن عديدة من الكتاب المقدس وعلى شكل لازمةٍ تاريخيّة توثيقية: “وما بقي من أخبار الملك فلان… واعماله مدونٌ في سفر أخبار الأيام لملوك يهوذا…” (كما ورد مثلاً في 2 مل 15/6 ، 15). لا نعرف شيئاً عن هذا السفر ويبدو أنه قد فُقِد على أثر الحروب العديدة التي أجتاحت إسرائيل أو قد اهترأ مع مرور الزمن. هذا الأمر يؤكّد ان الكتابة التاريخيّة كانت امراً شائعاً في الاوساط اليهوديّة حتى خارج الكتب المقدسة وبعيداً عن التأثير الملوكي.
وهنا تُطرح علينا اسئلة عديدة حول زمن الكتابة والحقيقة التاريخية. في أيةِ حقبة من الزمن جرت هذه الاحداث المنقولة خطياً؟ هل حدثت فعلاً كل هذه الوقائع المدوّنة؟ هل الأشخاص هم واقعيون؟ ومتى تمّت كتابة هذه الاسفار؟ وهل تمّت مباشرة بعد الاحداث ام بعد زمن طويل؟ من هم الكتّاب والمؤلفون؟
قد لا نستطيع ان نعطي إجابة واضحة ومقنعة على هذه الاسئلة، انما يجب ان نزيل بعض الافكار السطحيّة الساذجة في هذا السياق:
- عدم التسرّع في تأكيد تاريخيّة وواقعية الاحداث البيبلية بحجّة ان الكتاب ملهم بحيث يصبح كل شيء فيه مطابقاً للواقع بإسم الالهام. ما هو ملهم في الكتاب المقدس ليست الاحداث، تاريخيةً كانت ام لا، بل ما يقوله هذا الكتاب عن الله وخاصةً ما يقول الله لنا فيه. يدفعنا إيماننا الى أن نقبل اختبار اسرائيل لعلاقته مع الله وكل التعاليم الناتجة عن هذا الاختبار كنصٍّ كتابيٍّ مُلهَم.
- أما طريقة الكتابة فهذا امر آخر. فالذين كتبوا البيبليا هم اناسٌ لهم حيثياتهم الثقافية والتاريخية والدينية والاجتماعية وهم متأثرون حتما ببيئتهم وعاداتهم وتقاليدهم وقد كتبوا ودَونوا انطلاقاً من معرفتهم الخاصّة بطرق واساليب الكتابة وخاصة التأريخ الذي يختلف كليّاً عما توصّل اليه علم التاريخ الحديث في ايامنا الحاضرة. وهذا ما يمنعنا من الحكم على ما كتبَ اولئك الكتّاب إنطلاقاً من قواعد كتابتنا للتاريخ ومفاهيمها الحالية.
- فكرة أخرى يجب رفضها وهي ان نعتبر ان كتابة الأحداث معاصرة للأحداث ذاتها. من السذاجة القول ان احداث سفريّ التكوين والخروج مثلاً قد كتبت مباشرة عند وقوعها. الأحداث المدَونة جرت في زمن لم تكن الكتابة بعد قد اختُرعت. لذلك لا يمكننا اعتبار سفر التكوين اول كتاب حتى لو كان وارداً في بداية البيبليا. لا يمكن أن يكون ما ورد في هذين السفرين كتابة تاريخيّة واقعيّة، بل ان محتواهما هو نتيجة سعيٍ وبحثٍ غير تاريخيين. هو محاولة للإجابة عن اسئلة البشر في كل زمانٍ ومكان عن أصل التاريخ والكون والشعوب. كل ذلك بخصائص ومميزات خاصّة بهذين السفرَين تبتعد كلّ البُعد عن خصائص علم التأريخ الحديث.
- أمرٌ آخر قد يضرب مصداقية وجدية بحثنا عن جواب علمي هو ان نعزو الكتابة فقط الى ما وصل الى الكاتب من روايات بواسطة النقل الشفهي. يبدو الأمر صحيحاً للوهلة الاولى اذ ان التقليد الشفهي سبق، في كل الثقافات، الحضارةَ الكتابية انما في الموضوع البيبلي يجب ان نميز أمرين اثنين:
أ- هناك اختلافٌ جذريٌّ بين الحفاظ شفهياً على روايات الماضي والمحافظة عليها خطياً او كتابة. فالتقليد الشفهي ينقل الينا الأحداث بطريقة شعرية منظومة وفيها سجع حيث تكثر الصور والتشابيه فيصبح حفظها امراً سريعاً وسهلاً. وهذا ما نجده في محطات عديدة في العهد القديم كنشيد موسى في خر 15 أو نشيد دبّورة وباراق في قض 5.
ب- أما عملية الأرشفة الكتابيّة فتختلف عن الأرشفة الشفهيّة، حيث يخضع النقل الكتابي لعملية تكثيف اي ان ما يحتاجه السرد الشفهي من وقت طويل لنقل حدثٍ ما، لا يتطلّب كتابةً الا لبضعة كلمات. هذه الكلمات القليلة تكون كافية لنقل حقائق قد يحتاج الراوي شفاهةً الى ساعاتٍ لسردها على سامعيه. وما عزز هذا التكثيف الخطّي في الحضارات القديمة الكلفةُ الباهظة للوسائل المعتمدة للكتابة وندارتها كورق البردي وجلود الحيوانات. لذلك يمكننا القول انه بقدر ما يكون النص كثيفاً او قصيراً بقدر ما يكون قد تطلّب إعداداً طويلاً وعملاً مُضنياً كي يلبس الحلّة النهائية التي وصل بها الينا دون ان ننفي أن يكون له اصل شفهي.
إنطلاقاً من كل هذه الحقائق، يمكننا تحديد زمن بدء الكتابة البيبلية مع دخول اسرائيل في حضارة الكتابة والتدوين اي في القرن الثامن او التاسع قبل المسيح على أبعد تقدير. قبل ذلك كل ما لدينا انما هو بعض الاشعار والملاحم والصِيَغ الطقسية وروايات اسطورية مشتركة مع حضارات الشعوب المحيطة بشعب الكتاب المقدس.
من جهة أخرى، وبرغم محتواها التاريخيّ تبقى البيبليا كتاباً دينياً نتج عن نيّة لدى الكاتب دينية وليست تاريخية. والسؤال هو كيف نفهم هذا الانتقال من نصٍّ تاريخيٍّ الى كتابة مقدسة.
اذا وضعنا جانبا الاسفار التي تتكلم عن البدايات كالتكوين والخروج ويشوع وتعمقنا في سفر القضاة حيث احداثه تجري على ارض اصبحت ملكاً للشعب اليهودي نجد دوراً مهمّاً للمعابد الصغيرة المنتشرة في المناطق اليهودية (شيلو، بيت أيل…) والتي نشأ فيها الايمان اليهودي وتعمّق. هناك حيث يُعبَّر عن هذا الايمان من خلال طقوسٍ وليتورجيات ساهمت هي ايضاً في فهم اصول الشعب اليهودي دينياً وعرقياً. وكان لا بدّ من نقل هذه الطقوس من الشفهي الى الكتابيّ لتعزيز ادارة الشؤون الرعوية للجماعة اليهودية. فقد ورد مثلاً في 1صم 10/25، أنه عند قيام الملوكية في اسرائيل “عرض صموئيل (بصفته قاضياً) على الشعب أحكام الملك وكتبها في سفر ووضعه أمام الرب” اي في المعبد. يظهر جليّا اذاً وجود موقع آخر للكتابة البيبلية غير البلاط الملكي بحيث نقرأ روايات شعبية عن شخصيات لعبت دوراً مهمّاً في حياة الشعب اليهودي مثل شمشون، وجدعون،…
من جهةٍ أخرى وبعيداً عن المعابد ورغبات الملوك في تدوين انجازاتهم، هناك نشاط كتابيّ مهم تمحور حول الهيكل وكان ابطاله الكهنة. هؤلاء شكّلوا المرجعية الوحيدة لبني اسرائيل في زمن السبي وما بعده أي عند رجوعهم الى اراضيهم بعد قرار قورش. وما سهّل هذا النشاط التدوينيّ الإمكانيات الماديّة والثقافية الكبيرة المتوفّرة التي كانت تميّز بيئة الهيكل.
يبقى ان نشير الى مكوّن آخر في البحث عن تكوين العهد القديم الا وهو التيار النبوي والذي نعتبره المؤثر الاساس على كل لاهوت العهد القديم وكتاباته. يقوم الانبياء برصد تصرفات الملوك ويذكّرونهم بامانتهم للعهد ويدعون الناس الى التمسك بايمانهم وعدم التلوث بالوثنية وينتقدون تصرفات الكهنة والظلم الاجتماعي التي يضرب الطبقات الشعبية الفقيرة. غير اننا نجهل انطلاقة هذا التيار النبويّ بشكلٍ وافٍ وخاصة مصدر تنشئة الانبياء الدينية، والسياسية والاجتماعية والثقافية. لكن ما نعرفه عنهم يكفي لكي نؤكّد على دورهم الطليعي في كتابة العهد القديم وتأثير افكارهم على ما ورد فيه وخصوصاً في نقل ما كُتب من اطاره التاريخي الى اطار آخر يفهمُ التاريخَ والاحداث التاريخية من خلال ارتباطها بايمان اسرائيل المبني على العهد والعلاقة الحيوية مع الله الواحد. لذلك نستطيع القول انه ومع الانبياء يتحوّل النص الادبي التاريخي الى تاريخِ خلاصٍ اي الى كتابٍ مقدس.
نوجز الاجابة على سؤالنا الأول عن نشأة العهد القديم بأنّ في اسرائيل اربعة مراجع تختصر الكتابة البيبلية:
- رغبة الملوك في تخليد ذكراهم.
- دور القضاة في تثبيت فكرة تدخل الله الى جانب اسرائيل.
- تعزيز الحياة الطقسية وعيشها وضبط مقوماتها من قبل الكهنة.
- قراءة التاريخ على ضوء الايمان اليهودي هو مشروع الانبياء البيبليين.
بعد هذا العرض، لا بدّ من ان نتوقف على نتائج الدراسات العلمية والطروحات فيما يخصّ كيفية تدوين العهد القديم وما هو اتجاه الاقتراحات في العالم البيبلي المعاصر؟
ما قلناه الى الآن يستند طبعاً الى قرون طويلة من القراءة المسيحية النقدية للعهد القديم، قراءة أدّت الى طرح تساؤلات عديدة منبثقة عن النص البيبلي بحّد ذاته. وقد توصل العلم البيبلي الى بعض النتائج التي تشدّد على غنى وحدة النص النهائية على رغم طابعه المركّب. هذا الطابع التركيبي يكشف كم هي طويلة مسيرة تأليف وتدوين العهد القديم ووجود تقاليد ونصوص عديدة استقى منها المؤلفون كي يجمعوا كل ما لديهم في نصٍّ ادبيٍّ دينيٍّ نهائي، وهذا ما نسميه “نظرية التقاليد” ؟
إكتفى المسيحيون، ولقرون طويلة، بقراءة العهد القديم قراءة مسيحانية مرتكزة على فكرة ان المسيح هو مفتاح فهم النص دون أن يطرحوا اسئلة تسمح بفهم كيفية تأليفه الى ان قام علماء في القرن الخامس عشر واظهروا حقيقة التناقضات الموجودة في متن الكتاب والنصوص المُكررة واموراً اخرى لا يقبلها المنطق ولا الفكر البشري. وقد كان الشك قد بدأ يُطرح عن موسى وامكانية ان يكون وحده هو كاتب التوراة كما كان متعارفاً عليه. فكيف يكون موسى هو الكاتب لنص موته ودفنته كما هو وارد في تث 34: “ثُمَّ صَعِدَ موسى مِن بَرِّيَّةِ موآب، إِلى جَبَلِ نَبو، إِلى قِمَّةِ الفِسْجَة، تُجاهَ أَريحا. فأَراه الرَّبُّ الأَرضَ كلها: مِن جِلْعادَ إِلى دان، نَفْتالِيَ كلها وأَرضَ أَفْرائيمَ ومَنَسَّى، وأَرضَ يَهوذا كُلَّها، إِلى البَحرِ الغَرْبِيّ، والنَّقَبَ وناحِيَةَ وادي أَريحا، مَدينَةِ النَّخْل، إِلى صوعَر. وقالَ لَه الرَّبّ: “هذه هيَ الأًرضُ الَّتي أَقسَمتُ لإِبْراهيمَ وإِسحقَ ويَعْقوبَ قائِلاً: لِنَسْلِكَ أَعْطها. قد أِرَيتُكَ إِيَّاها بِعَينَيكَ، ولَكِنَّكَ إِلى هُناكَ لا تَعبُر”. فماتَ هُناكَ موسى، عَبدُ الرَّبِّ، في أَرضِ موآب، بِأَمرِ الرَّبّ. ودَفَنَه في الوادي في أَرضِ موآب، تُجاهَ بَيتِ فَغور. ولم يَعرِفْ أَحَدٌ قَبرَه إِلى يَومِنا هذا. وكانَ موسى اَبنَ مِئَةٍ وعِشْرينَ سَنةً، حينَ ماتَ، ولم يَكِلَّ بَصَرُه ولم تَذهَبْ نَضرَتُه. فبَكى بَنو إِسْرائِيلَ على موسى، في بَرِّيَّةِ موآب، ثَلاثينَ يَومًا، إِلى أَنَ اَنقَضَت أَيامُ الحُزنَ على موسى. أَمَّا يَشوعُ بنُ نون، فمُلِئَ روحَ حِكمَة، لأَنَّ موسى وَضَعَ علَيه يَدَيه، فأَطاعَه بَنو إِسْرائيل، وعَمِلوا كما أَمَرَ الرَّبُّ موسى. ولم يَقُم مِن بَعدُ في إِسْرائيلَ نَبِيٌّ كموسى الَّذي عَرَفَه الرَّبُّ وَجْهًا لِوَجْه، في جَميعِ الآياتِ والخَوارِقِ الَّتي أَرسَلَه الرَّبُّ لِيَصنَعَها في أَرضِ مِصرَ بِفِرعونَ وجَميعِ رِجالِه وكُلِّ أَرضِه، وفي كُلِّ يَدٍ قَوَّية وكُلِّ مخافةٍ عَظيمةٍ صَنَعَها موسى على عُيونِ إِسرْائيلَ كُلِّه.”
كادت هذه التساؤلات الشرعية أن تؤدّي الى رفض هذا العهد القديم “المقدّس” مصدر الوحي الإلهي والحقيقة الكاملة للإيمان اليهودي والمؤسِس للعهد الجديد في المسيحية. لذلك كان لا بدّ من دراسة معمّقة لكلِّ هذه الامور واعادة تثبيت مصداقية التعاليم الكتابية. وهذا ما اخذه على عاتقه علم “التفسير النقدي” في النصف الاول من القرن السابع عشر وقد أُرسيت قواعده ومبادئه في النصف الثاني من القرن نفسه.
إنّ المبدأ بسيط وغير معقد: العهد القديم بمختلف اسفاره وخاصة الاسفار الخمسة الاولى هو نتاج تراكمِ نصوصٍ متنوعة المصدر والحقبات الزمنية. ولكي نخرج من صعوبة التناقضات والتباينات الموجودة فيه لا بدّ من تحديد هذه المصادر التي استخدمها الكتّاب في مؤلفاتهم.
بدأ البحث الراهبُ ريشار سيمون (Richard Simon) عندما اعلن في كتابه “تاريخ العهد العتيق النقدي” (1678): “لا يمكن ان يكون موسى هو كاتب ما ورد في الاسفار المسندة اليه”. ثم في سنة 1753 حدد جان استروك (Jean Astruc) تقليدَين وبالتالي مجموعتي نصوص تسمّي احداهما الله “ايلوهيم” والأخرى “يهوه”. وكرّت بعده سبحة الابحاث وتشعّبت ووُلدت نظريات جديدة نلخصّها جميعها بهذ الرسوم الثلاثة:
نظرية التقاليد: وجود سابق لوثائق ونصوصٍ قديمة مختلفة المصدر والزمن أدت عند جمعها الى ولادة النص النهائي للتوراة. ت 1 ت2 ت3 ت4 (تقاليد شفهية أو خطية) نص 1 نص 2 (نصوص مختلفة المصدر) النص النهائي |
نظرية الزيادات: تقاليد عديدة جُمعت في نصٍ أساسيٍّ وقد زيدت اليه نصوصٌ أخرى أكملته ليصبح بشكله النهائي: ت 1 ت2 ت3 ت4 (تقاليد شفهية أو خطية) نص أساسي زيادة 1 زيادة 2 زيادة 3 النص النهائي |
نظرية المقاطع: تقاليد قديمة عديدة تجتمع حول موضوع ديني محدّد: ت 1 ت2 ت3 ت4 ت5 ت6 (تقاليد شفهية أو خطية) مقطع أول مقطع ثاني مقطع ثالث مقطع رابع النص النهائي |
لقد صمدت نظرية التقاليد بعد ان نسقّها يوليوس فلهوزن (Julius Wellhausen) سنة 1880 محدِّداً النصوص العائدة لكل تقليد من التقاليد الأربعة: يهوي، إلوهي، كهنوتي واشتراعي. وقد طبعت نظرية التقاليد هذه سنواتِ القرن العشرين حتى بداية السبعينيات حيث بدأت تظهر في الأوساط العلمية البيبلية انتقادات كثيرة لها أعادت طرح السؤال من أساسه: كيف نشأ العهد القديم؟
لذلك نشهد منذ ثمانينات القرن الماضي لانعقاد مؤتمرات بيبلية عديدة وانتاج نظريات مختلفة تتعلق بالموضوع ونلخّص نتائج الأبحاث الحديثة في الرسم التالي:
قبل السبي كتاب العهد خر 20/22-23/19 تقاليد روائية قديمة مجموعة فرائض وأحكام تثنية الإشتراع تث 12-26 ——————————————————————————————————— في السبي نص كهنوتي ——————————————————————————————————— بعد السبي زيادات إشتراعية على سفر تثنية الإشتراع تجميع كهنوتي للأسفار الأربع الأولى تثنية الإشتراع (النص الكهنوتي في السبي + تقاليد قديمة + شرائع كهنوتية) النص النهائي للتوراة (بداية القرن 4 ق-م) |
تُظهر الدراسات الحالية أن الحقبة التي أسست لإنطلاقةٍ جديّة للكتابة البيبلية هي حقبة السبيّ وما بعده إذ وجدت الجماعة الإسرائيلية نفسها مضطرة أمام خطر التأثيرات الوثنية في السبيّ وفقدانها لإستقلاليتها السياسية أن تُعيد قراءة كل الأحداث الماضية على ضوء مدى أمانة الشعب للعهد وتحفيز المسبيين على التمسك بالرجاء والإتكال على إله الآباء الأمين دوماً لوعوده.
2- نشاة العهد الجديد
لا يمكن للعهد الجديد أن ينافس العهد القديم فيما يخصّ عدد الأسفار والفترة الزمنية الطويلة التي أوجبت اكتمال تدوينه. إنما يظهر عند قراءته أن نشأته تطلبت أيضاً سنوات طويلة نظراً لتعددية الكتب التي تؤلفه وتنوّعها. وهو كالقديم، يختلف فيه الترتيب الزمني لصدور أسفاره عن تسلسل ورودهم في الإنجيل. وإذا كنا نقبل هذا التسلسل ذلك أنه يبدأ بعرض ما يؤسس لكلّ ما يتبعه أي حياة يسوع الناصري الذي يشكلّ محور بشارة الذين سيتكلمون وسيكتبون عنه شهادة للأمم. غير أنّ معرفتنا لترتيب تأليفها الزمني الحقيقي لتأليفها ضرورة ملّحة لأنها تكشف لنا حقائق أساسية عن طبيعة ومعنى رسالة المسيح وخاصةً عن كيفية تطوّرالرسالة التبشيرية للرسل.
يقول لنا لوقا في بداية سفر أعمال الرسل: “ولَمَّا قالَ ذلكَ، رُفِعَ بِمَرأىً مِنهُم، ثُمَّ حَجَبَه غَمامٌ عن أَبصارِهِم. وبَينَما عُيونُهم شاخِصَةٌ إِلى السَّماءِ وهُو ذاهِب، إِذا رَجُلانِ قد مَثَلا لَهم في ثيابٍ بِيضٍ وقالا: “أَيُّها الجَليِليُّون، ما لَكُم قائمينَ تَنظُرونَ إِلى السَّماء؟ فيسوعُ هذا الَّذي رُفِعَ عَنكُم إِلى السَّماء سَيأتي كما رَأَيتُموه ذاهبًا إِلى السَّماء” (أع 1/10-11).
يعطينا هذا المشهد الإنجيلي معلومة غنية وهي أن الكنيسة الأولى عاشت لسنواتٍ طويلة على أمل عودة الرب الوشيكة وهذا ما يعبّر عنه بولس في 1 تس 4/15 -18: ” فإِنَّنا نَقولُ لَكم عن قَولِ الرَّبّ: إِنَّنا نَحنُ الأَحياءَ الباقينَ إِلى مَجيءَ الرَّبِّ لن نَتَقَدَّمَ الأَموات، لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَه، عِندَ إِعْلانِ الأَمْر، عِندَ انطِلاقِ صَوتِ رَئيسِ المَلائِكة والنَّفْخِ في بُوقِ الله، سيَنزِلُ مِنَ السَّماء فيَقومُ أَوَّلاً الَّذينَ ماتوا في المسيح، ثُمَّ إِنَّنا نَحنُ الأَحياءَ الباقين سنُخطَفُ معَهم في الغَمام، لِمُلاقاةِ المسيحِ في الجَوّ، فنَكونُ هكذا مع الرَّبِّ دائِمًا أَبَدًا فلْيُشَدِّدْ بَعضُكم بَعضاً بِهذا الكَلام”.
يبيّن هذا الإعتقاد بعودة الرب السريعة ما كانت تؤمن به الجماعة المسيحيّة الأولى: هي جماعة تُدرك أنّ مستقبلها ليس في هذه الأرض، فهل من الضروري أن تكتب تاريخها خاصة وإنّ هذا التاريخ سيكتمل سريعاً أي بعودة المسيح الوشيكة وهم لا يزالون أحياء؟
تساعدنا هذه الحقائق التي عاشتها الكنيسة الأولى على فهم الترتيب الزمني لصدور الأسفار الإنجيليّة. فهذه الكنيسة الناشئة عرفت تفاصيل حياة يسوع، أقواله وأعماله، ولكن، خلال النصف الأول من القرن المسيحي الأول، ما كان يهم المؤمنين هو محتوى الإيمان بالقيامة والخلاص لكل مؤمن. لذلك، وبغض النظر عن قرب عودة الرب، كانت الجماعة تعيش إيماناً عُبِّر عنه في بعض الصِيغ الروحية وفي احتفالات طقسية توجتها الإفخارستيا التي تُعلن قيامة الرب. فالأناجيل وقبلها الرسائل، تحتوي على العديد من هذه الإعلانات الإيمانيّة أو عبارات الإيمان وأناشيد روحيّة مما يعني أن الجماعة المسيحيّة الأولى كانت مؤمِنة ومُصَلية ومحتفِلة وهذا ما شكلّ أساساً للحياة المسيحية.
إلى جانب هذه الأناشيد والعبارات الإيمانية كانت قد انتشرت أقوال (لوغيا) للمسيح تعلن مواقفه من الأمور التي كانت تهمّ المؤمنين وتعاليمه فيما يخصّ الملكوت. وغاية هذه الأقوال في الأساس هو إلقاؤها في الوعظ الشفهيّ قبل أن تصبح مدوّنة.
ثم أتت رسائل القديس بولس وسائر الرسل التي كانت تنتقل من جماعة إلى أخرى حاملة تعليم الرسل وواضعة المقاييس اللاهوتية والأخلاقية بحسب الحالات التي تطرأ من جرّاء احتكاك المسيحيين الأوائل بالعالم الوثني والإبتعاد التدريجي عن الإيمان اليهودي والمسائل اللاهوتيّة الناتجة عن هذين الأمرين: هل يُسمح مثلاً أن يأكل المسيحي لحم ذبائح الحيوانات عند الوثنيين؟ هل من الضروري أن نخضع لشريعة الختان كي نصبح مسيحيين إذا لم نكن أصلاً يهوداً؟
لذلك يمكننا القول إن الرسائل هي حقاً أولى الكتابات المرتّبة في العصر المسيحي.
من ناحية أخرى، يصعب علينا كثيراً أن نحدّد في أي وقت بدأ المسيحيون الأوائل يعون ضرورة كتابة التاريخ وبالتالي القبول بأن عودة الرب ليست بالأمر الوشيك. هناك فرضيات عديدة قد تتداخل الواحدة في الأخرى:
- يمكننا التفكير ببساطة بمرور الوقت وتأخّر عودة المسيح في حين أن الأموات يخلفون الأموات. وهذا ما سيّغير النظرة للأمور ويعود بالجماعة إلى بعض أقوال المسيح عن مجيئه عندما يقول مثلاً أنه لا يعرف الساعة ولا النهاية كما جاء في مر 13/32: “وأَمَّا ذلكَ اليومُ أَو تِلكَ السَّاعة فما مِن أَحَدٍ يَعلَمُها: لا المَلائكةُ في السَّماء، ولا الِابنُ، إِلاَّ الآب.”
- موقف آخر للمسيح عن ضرورة ذهابه يرويه يوحنا في انجيله: “لا يَزالُ عِنْدي أَشْياءُ كثيرةٌ أَقولُها لَكم ولكِنَّكُم لا تُطيقونَ الآنَ حَملَها. فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث” (يو 16/ 12-13). هنا، يتضح أن الكثافة التاريخيّة يتطلبها الإيمان نفسه. الخلاص يفترض الوقت ليس فقط كي تناله كلُّ البشرية ولكن أيضاً حتى تُعرف الحقيقة بأكملها.
- ونشير أيضاً إلى أمر أخير قد يكون مساعداً لعملية الوعي التاريخي عند المسيحيين الأوائل وهو الإضطهادات. كانت الكنيسة في سنيّها الأولى تعيش زمن سلام ولو بشكلٍ نسبي تعّكره خلافات داخلية غير مُقلقة. ولكن اضطهادات الرومان العنيفة والمنّظمة التي أشعرتها بخطر الزوال كانت كافية كي تدفع بهذه الجماعة الى الوعي بأنّ الزمن سيطول وهذا ما يؤكّده مثلاً رؤ 6/10-15: “فصاحوا بِأَعْلى أَصْواتِهم: “حَتَّامَ، يا أَيُّها السَّيِّدُ القُدُّوسُ الحَقّ، تُؤَخِّرُ الإِنْصافَ والاِنتِقامَ لِدِمائِنا مِن أَهلِ الأَرض! فأُعطِيَ كُلٌّ مِنهم حُلَةً بَيضاء، وأُمِروا بِأَن يَصبِروا وَقتًا قَليلاً إِلى أَن يَتِمَّ عَدَدُ أَصْحابِهم وإِخوَتهِمِ الَّذينَ سيُقتَلون مِثلَهم. وتَوالَت رُؤيايَ فرَأَيتُ الحَمَلَ يَفُضُّ الخَتمَ السَّادِس، فحَدَثَ زِلْزالٌ شَديد واسوَدَّتِ الشَّمسُ كمِسْحٍ مِن شَعَر، والقَمَرُ قد صارَ كُلُّه مِثلَ الدَّم، كَواكِبُ السَّماءِ قد تَساقَطَت إِلى الأَرضِ كما تُساقِطُ الِّتينَةُ ثِمارَها الفِجَّة، إِذا هَزَّتها ريحٌ عاصِف، والسَّماءُ قد طُوِيَت طَيَّ السِّفْر، وكُلُّ جَبَلٍ وجَزيرَةٍ قد تَزَعزَعَت، ومُلوكُ الأَرضِ والعُظَماءُ والقُوَّادُ والأَغنِياءُ والأَقوِياءُ وكُلُّ عَبدٍ وحُرٍّ قد تَوارَوا في المَغاوِرِ وفي صُخورِ الجِبال وهو يَقولونَ لِلجِبالِ والصُّخور: “أُسقُطي علَينا وغَطِّينا عن وَجهِ الجالِسِ على العَرشِ وعن غَضَبِ الحَمَل. فقَد جاءَ اليَومُ العَظيم، يَومُ غَضَبِهما، فمَن يَقْوى على الثَّبات؟”. المسيحييون مدعوون إذاً أن يصبروا في الإضطهادات ملتمسين بشكل دائم عودة الرب يسوع. هذا الصبر سيُترجم بعملية الكتابة الإنجيليّة.
إذاً كما رأينا، أن أموراً عديدة ساهمت في توعية الجماعة المسيحية الأولى على أهميّة التاريخ والزمن ودفعتها ليس فقط إلى عيش الكثافة التاريخيّة بل إلى كتابة التاريخ أيضاً.
حتى وإن كنا نقبل اليوم البيبليا كإضافة العهد الجديد على العهد القديم، يجب أن لا ننسى أنه بالنسبة للجماعة الأولى لا شيء كان يفرض أن تُزاد كتابة جديدة على القديمة. كانت الكتب المقدسة عند المسيحيين حتى القرن الثاني هي نفسها كتب يسوع أي ما سميناها فيما بعد العهد القديم. وحتى كتب العهد الجديد تعود بتواتر إلى القديم لتستند عليه كمرجع إيمانيّ صحيح. لم يَرد في أسفار الجديد أي رفض لما جاء في القديم.
لم تتأخر هذه الأسفار الجديدة أن تظهر بعدما تأكّد للمسيحيين أن عودة الرب متأخرة. بدأوا يدوّنون إلى جانب ما ذكرناه سابقاً من أناشيد وأقوال مسيحانيّة، روايات الآلام والأحداث التي رافقت قيامة الرب وظهوره لتلاميذه. ولهذا الخيار سببان:
- من جهة أولى، إن هذه الأحداث، آلام، موت وقيامة المسيح، شكّلت المحور الأساس في الإيمان المسيحي لذلك يجب أن تدّون سريعاً حتى في التفاصيل الصغيرة إنطلاقاً من شهادات موثوقة.
- من جهة ثانية، تقوم الليتورجيا على حدث موت – ذبيحة الإبن وقيامته. لذلك من الواضح أن تكون آلام الرب، بدءاً من عشائه مع تلاميذه حتى الصلب، نقطة الإرتكاز في الكتابة الإنجيلية الأولى. وهذا ما تظهره بشكل جليّ الرسائل، وخاصة 1 قور 11/23-27: “فإِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم، وهو أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: “هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم .اِصنَعوا هذا لِذِكْري” وصَنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكَأسِ بَعدَ العَشاءِ وقال: “هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري، فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي. فمَن أَكَلَ خُبْزَ الرَّبِّ أَو شَرِبَ كَأسَه ولَم يَكُنْ أَهْلاً لَهما فقَد أذنَبَ إِلى جَسَدِ الرَّبِّ ودَمِه”.
بعد ذلك وأمام تناقص شهود العيان مع مرور الوقت وموت آخر رسول ومع توسِّع الجماعات المسيحية إلى حوض البحر الأبيض المتوسط، كان لا بدّ من كتابة قصة كاملة متتابعة عن الأحداث التي جرت كما يصفها الإنجيلي لوقا انطلاقاً من شهود عيان دون أن ننسى أن هدف الإنجيليين الأول ليس كتابة قصة تاريخيّة بل هو التبشير بإله حيّ لا يزال يعمل في وسط الجماعة.
3- قانونيّة الأسفار البيبلية
يبقى أن نشير أخيراً وبإيجاز إلى كيفية تحديد قانونية الأسفار البيبلية أي تقرير لائحة الكتب التي اعتبرتها الجماعة اليهودية ومن بعدها الكنيسة ملهمة وبالتالي مصدر الإيمان الأساسي.
فيما يخصّ كتب العهد القديم سارت الكنيسة على خطى الجماعة اليهودية التي أقرت في إجتماع يمنيا حوالي سنة 70 لائحة كتبها الملهمة مختارةً الأسفار المكتوبة أصلاً بالعبرية ورافضة تلك المكتوبة باليونانية. وقد ترجم القديس هيرونيموس مجموعة اللائحة العبرية نهاية القرن الرابع ميلادياً كما أقرتها جماعة يمنيا والتزمت الكنيسة البروتستانتية فيما بعد بالترتيب الهيرونيموسي.
أما الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية فقد اختارت ما يُسمى بلائحة الإسكندرية أي الترجمة السبعينية والتي احتوت إلى جانب الأسفار العبرية تلك المكتوبة باليونانية. هذا فيما خصّ قانون العهد القديم.
أما لائحة أسفار العهد الجديد فقد شهدت ولسنواتٍ طويلة مناقشاتٍ حول قبول بعض الكتب في اللائحة أو رفضها الى أن بُتّ الموضوع وبشكلٍ نهائيٍّ المجمع التريدنتيني (1560) مُعتمداً على ثلاثة مقاييس لتحديد قانونية الكتب الملهمة:
- أن تكون خرجت من أقلام الرسل أو تلاميذ الرسل ومرافقيهم وبالتالي قريبة زمنياً من حدث القيامة بحيث لا تؤرّخ بعد النصف الأول من القرن الثاني.
- أن تكون قد استعملت دون غيرها في الرتب والإحتفالات الطقسية للكنيسة الأولى.
- أن تكون شكّلت مرجعاً متواتراً للآباء الأولين في كتاباتهم وتفاسيرهم الإنجيلية.
وُلِد الكتاب المقدّس من لقاء كلمة الله مع اختبار الإنسان لذلك نجد فيه تعليماً صافياً يناسب كلّ العصور مسكوباً بقالبٍ متغيّرٍ بحسب الأزمنة والأمكنة. هو كتاب وُضِع ليُقرأ، ليُصلى وليكون مُحّفِزاً للشهادة تطبيقاً لما ورد في الإرشاد الرسولي “كلمة الرب” في شرحه المراحل الأساسيّة للقراءة الربيّة: نقرأ (lectio)، نتأمل (meditatio)، نصلّي (oratio)، نشاهد (contemplatio)، ونعمل (actio). حينها تُصبح حياتنا بحدّ ذاتها إنجيلاً آخر.
المراجع
- “كلمة الرب”، إرشاد رسولي، البابا بندكتوس السادس عشر، الفاتيكان، 2010
- P. Gibert, Vérité historique et esprit historien, Cerf, Paris, 1990
- J.-L. Ska, Introduction à la lecture du Pentateuque, Ed. Lessius, Bruxelles, 2000
- 4- O. Artus, Le Pentateuque, histoire et théologie, Cahiers Evangile, 156, 2011
- R. Brown, Que sait-on du Nouveau Testament, Bayard, Paris, 2000
الخوري بول ناهض
[1] . كاهن في أبرشية انطلياس المارونية، دكتور في الكتاب المقدس.