Almanara Magazine

قاديشا الهوية الخلدة 1

الخوري هاني طوق

ان قاديشا ليست مجرد إرث للبشرية جمعاء، او مساحة جغرافية مزروعة في عمق وادٍ في بلد سمّي من ٦٠٠٠ سنة لبنان، نسبة الى الأبيض الذي يكلل جباله طيلة أيام السنة، ورائحة البخور التي تعبق من غاباته وارزه الخالد المعطر، في مشرق معلق على صليب الألم والأهواء والثورات والديكتاتوريات والتعصب والروحانيات والتدين.

ان وادي قاديشا او الوادي المقدس يشكل احد ابرز المواقع المسيحية الرهبنانية النسكية في العالم. شكّل عبر التاريخ ملجأً لطالبي الحرية والسلام بسبب وعورة أراضيه وصعوبة الوصول اليه، كان ولا يزال بقعة من التراث الحيّ القائم على الصلابة والتحديّ والمقاومة والصمود في وجه أعتى الهجمات الدينية والسياسية والمادية والعولمة.

لقد سكنه الإنسان منذ آلاف السنين واستطونه المسيحيون منذ القرون الأولى،لذلك نجد علامة السمكة والتي شكلت لفترة ثلاثة قرون رمز المسيحيين في العالم الروماني محفورة على عدد من الصخور والتي أكد عدد من علماء الآثار إنها تعود الى القرون الأولى.

بعد إعلان ميلانو سنة ٣١٣ وخروج المسيحية من الدياميس والإعتراف بها كديانة مع بقية الديانات، وبدايات الإرتدادات الكبيرة وإنتشار المسيحية وبداية نفوذها، وإنغماسها باللعبة السياسية حيث أصبح الأمبراطور هو أسقف الخارج، والبابا أسقف الداخل وحيث امتزج أمن وسلام الأمبراطورية بالإتفاق ما بين الأديان أولاً وما بين المذاهب المسيحية فيما بعد، أخذ عدد كبير من المسيحيين يستعيدون روح الحرية والتي تجزرت في لاوعيهم على فترة ٣٠٠ سنة وكرّدة فعل على الإنغماس في روح العالم، بدأوا يفتشون عن دياميس في مجاهل الأرض يستعيدون فيها هذه العلاقة الصافية بين الذات الإنسانية والذات العليا.

أخذوا يتخلون بملئ حريتهم وإرادتهم من أمجاد هذا العالم ومراكزه طالبين الزهد، والتعبد والإنعزال والتنسك إما في المغاور البعيدة وإما في البراري ، وإما في الصحاري القاسية حيث إمكانية الحياة شبه معدومة متمسكين بهذا الإيمان الذي هزّ كيانهم واقتلعهم من جذورهم وبددهم في مجاهل الأرض أبطال في النقاوة والقداسة والحرية والسلام. شكل هذا الوادي احد اهم الدياميس في الشرق الأوسط وعاصمة المسيحيين والنساك. ويعود أقدم بناء فيه الى سنة ٣۷٥ وهو دير سيدة قنوبين الذي أمر في بناءه الأمبراطور ثيودوسيوس (٣۷٨-٣٩٥). وقنوبين كلمة يونانية أصلها “كينوبيوس او كينوبيون” ومعناها “العيش معاً” او “الحاة المشتركة” .

وبحسب التقليد المحلي يفيد بأن ٣٠٠ راهب كانوا يعيشون في الدير وفي المناسك المحيطة به مع مئات من النساك والعباد والرهبان المنتشرين في المغاور على ضفتي الوادي، والذين ينتمون الى مختلف الكنائس والمذاهب والأديان. فهناك تجد آثاراً للحبشيين ولليعاقبةالسوريين الأنطاكيين، وللأورثوذكسيين، وللأبدال اي المتوحدين المسلمين طالبين العزلة والوحدة مع الله. إلا ان أتى الموارنة عل أثر الإضطهاد الكبير عليهم في سوريا الثانية من قبل السريان اللاخلقيدونيين اولاً ومن قبل المسلمين الفاتحين الجدد ثانياً.

سلكوا (via apia ( اي الطريق الروماني الذي يربط الساحل اللبناني بالعمق السوري وطرق الحج الفينيقي المرتبطة بأسطورة أدونيس وعشتروت، وموته وإنبعاثه عند اول الربيع مع تفجير الينابيع وعودة الحياة الى الطبيعة. فعلى طريق الحج الفنيقي بنى الرومان طرقهم الحديثة، وعلى طريق الرومان مش الموارنة السريان الخلقيدونيين خوفاً على إيمانهم وحريتهم وعشقهم للمغاور والجبال والوديان حيث يمتزجون بالطبيعة فيصبحون جزء منها يحافظون عليها فتحافظ عليهم.

فالوادي والمارونية توأمان لا ينفصلان، هنا تكونت كنيستهم،هنا أدركوا انهم شعب له هويته وتراثه ولغته، وحضارته وأعياده ومستقبله. هنا تعرضوا للقتل مئات المرات واستمروا، دمرت قراهم، سحقت عظامهم، دنست صوامعهم، هنا ذبحوا علقوا بين الأرض والسماء ولكنهم استمروا فبنوا أكثر وأكثر، ورفعوا صلواتهم الممزوجة برائحة التراب والعرق والموت والألم والرجاء، برائحة الحنطة والكرمة والتين والبلوط، برائحة البخور والصلوات ورنينن الأجراس.

من دير مار انطونيوس الذي ما زال منذ ألف سنة الى اليوم يعج بالرهبان دون إنقطاع الى دير سيدة قنوبين الشاهد على الحياة النسكية منذ القرن الرابع، الى دير سيدة حوقا، اول إكليريكية في الشرق الى دير مار اليشع، اول سفارة بابوية ومهد الرهبانيات المارونية الى مئات الصوامع والمناسك والمغاور الى أرز الرب هذه الغابة الدهرية، التي تكلّل الوادي من فوق كتاج على راس ملك. هذا الأرز الذي ذكره الكتاب المقدس ۷٢ مرة والذي قال عنه حزقيال “هو الشجرة التي غرسها الله بيده” هو أساس هيكل اورشليم، مع داوود وسليمان، هو السفن الفينيقية التي حملت البضائع والأرجوان الى كل المتوسط، هو الصمغ الأساسي في تحنيط الفراعنة، هو الخشب الدهري الذي ذكرته أقدم الملاحم في التاريخ كملحمة غلفامش وحارس الغابة الشهير همبابا. هو الخميرة الباقية الشاهدة على ٥ آلاف سنة من الحضارة والبقاء.

يشكل الوادي اليوم ارثاً عالمياً طبيعياً على لائحة التراث العالمي، ومزار للحجاج من مختلف الأديان والاعراق، ففي قاديشا تصبح كل آلام الإنسانية آلامك، وكل أفراح الإنسانية أفراحك، وكل الحجاج إخوة لك، كلهم يتوقون الى التجدد والى العلى.

من هناك تعانق كل العباد وكل الحجاج والمصلين وكل البيئيين والمردين، من هناك تعانق كل خبرات الإنسانية المنتشرة المنثورة في بقاع الأرض قاطبة. من هناك نلتحق بالأثوسيين في جبلهم الساجد ابداً وتصرخ مع التيبتيين في عاصمتهم ومع المسلمين في مكّتهم مع الهندوس في نهرهم ومع الطاووين في غاباتهم ومع الارواحيين في رقصاتهم ومع اليهود في اورشليمهم ومع الكاثوليك في فتيكانهم ومع الأرثوذكسيين في بزنطية.

هناك تكسر كل الحواجز وتتعانق بفرح مع كل البشر، تمحى الإختلافات والأعراق والأديان والمذاهب والعائلات لتصبح الطبيعة الهيكل الأكبر حيث يتجلى وجه الله والكل يراه حسب هواه وحسب دعوته.

هناك كان أول ناقوس قرع في الشرق، في القرن الحادي عشر.

هناك قال المستشرقون: إن البابوات في الغرب عصيهم من ذهب وقلوبهم من خشب أمّا البطاركة الموارنة فعصيهم من خشب وقلوبهم من ذهب.

هناك حيث مشى  مئات الرّهبان والعباد حفات الأقدام لأن الأرض أرض مقدسة، على ما قال الله لموسى في جبل حوريب”إخلع نعليك من رجليك لأن هذه الأرض أرض مقدسة”(خر1-2 :3 )

هناك أيضاً قاوم المؤمنون سنين الإضطهاد والحصار والألم والجوع،فحوّلوا الجبال إلى سهول والوديان إلى أرضٍ خصبة. هناك آلاف  الكتّاب والمصّلين كتبوا ونسخوا  المخطوطات وإلى اليوم أيضاً ما زالت صلواتهم ترد صداها في فليب الأب داريو اسكوبار ، والأب يوحنا خوندو والطيب الذكر الأب أنطوان طربيّ.

وهناك أيضاً إلى اليوم راهبات انطونيات اعتزلوا العالم وعشقوا الوادي،وهم يستقبلون سنوياً آلاف الحجّاج والزّوار وبالإضافة إلى الأيّام النّسكية الّسنوية والتي تجذب أكثر فأكثر الكثير من الشّبان الرّاغبين في إزعاج ضجيج حياتهم ببعض السكون والصلات.

هناك حيث الشجر والحجر والمياه والطبيعة يسبّحون الله، هناك حيث نصرخ مع يسوع المسيح: “طوبى لفاعلي السّلام فانهم أبناء الله يدعون”(متى ٩:٥)

قاديشا قلب المسيحية النابض في هذا الشرق، منه انطلقت فكرة الوطن اللبناني منذ ٤٠٠ سنة، به كانت أول مطبعة في الشرق سنة ١٦١٠ م  إليه أتى آلاف المرسلين والقناصل سكنه البطاركة الموارنة على فترة ٤٠٠ سنة من سنة ١٤٤٠ الى سنة١٨٤٠  دفن فيها ٢٣ بطريركاً، عقد فيه ٣ مجامع كبرى ، وجد فيه أقدم الممياء في الجبل اللبناني على يد مجموعة من الإختصاصيين في سبر أغوار المغاور (٨٠٠) سنة.

هو اليوم أكثر من كل يوم بحاجة إلينا لا لنبني فيه او لترميمه، بل للحفاظ عليه كما هو. هو اورشليم الموارنة في العالم كله، حيث لا يجمعهم إلا عنصران اساسيان يتخطان المكان والزمان.

الوادي المقدس من ناحية ، وشخص البطريرك من ناحية أخرى العابر للبلدان على مثال بابا روما، حيث معه تصبح روما ليست فقط عاصمة الإيطاليين بل كل الكاثوليك في العالم من كل الأعراق والأجناس، لا بل كل المضطهدين في الأرض عندما يرفع البابا لواء الحرية والوقوف الى جانب الفقراء والدفاع عن المظلومين وعن الأقليات.

سيداني سادتي عذراً على الإيطالة ولكن ما جئت أنقله غليكم اليوم هو هويتي هو تراثي وتاريخي، هو حاضري ومستقبلي هو جذوري واجدادي، تنوع بيئي رهيب فهو يحمل ۷٩ عائلة من النباتات والأشجار، ٩١٢ نوع، ٥٦٨ من النباتات المعمرة و٢۷ نوعا من الأشجار الحرجية، عمت يلامس البحر وعلو يلامس أعلى قمة في الشرق الأوسط ( قرنة السوداء) او قرنة الشهداء٣٠٨٩ متر.

تراث حيّ منقول من جيل الى جيل تشبث بأرض لا غنى عنها بالرغم من كل شيء لتكون على مثال المعلم: منارة في العلم والثافة والإنفتاح والحوار والإعتدال وبذور شرق قائم على التعدد وقبول الآخر.

إن ذهب المسيحيون من الشرق أصبح كله ظلاماً ولكن ليس وحدهم فهناك الكثير من ذوي الإرادات الصالحة في مختلف الأديان، بحاجة إلينا ونحن أيضاً بحاجة إليهم لإعادة بناء شرق مشرق بسلام مع نفسه ومع الغرب بأكمله.

Scroll to Top