المطران ميخائيل ضوميط (†)
نشره وكتب حواشيه الخوري دانيال زغيب
مقدَّمة النَّاشر:
كنَّا قد نشَرنا، في السَّابق، مقالاً للمطران ميخائيل ضوميط([1]) عنوانه: “في القدَّاس”، على صفحات مجلَّة المسرَّة([2])، وذلك لِما لصاحب السِّيادة منْ فضلٍ على الكنيسة المارونيَّة في مجال العلوم اللِّيتورجيَّة. وها نحن ننشر، هنا، مقالاً آخر له، كان -في الأساس- محاضرةً ألقاها في العام 1967.
إنَّ موضوع الفرْض الإلهيّ هو منَ الموضوعات الهامَّة في حياة الكنيسة وحياة أبنائها، لأنَّه الصَّلاة الَّتي ترفعها الجماعة المؤمنة في تواصلٍ والصَّلاة الَّتي رفعها الابن نفسه إلى أبيه السَّماويّ؛ ولأنَّه الصَّلاة الَّتي تؤدِّيها الكنيسة، أي الكهنة والرُّهبان والرَّاهبات والعلمانيُّون، استجابةً لطلب المسيح عندما قال لتلاميذه: “صلُّوا ولا تَملُّوا” (…). وما ينقص الكنيسة، في عصرنا اليوم الموسوم بكثرة العمل والنَّشاط، هو الانكباب على الصَّلاة المتواصلة، بخاصَّةٍ في الرَّعايا والأديار والمؤسَّسات الكنسيَّة. ومن أهمِّ توصيات المجمع البطريركيّ المارونيّ، بشأن “الصَّلاة الطَّقسيَّة الخُورُسيَّة“، التَّوصية الآتية: “يوصي المجمع البطريركيّ المقدَّس كلَّ أبناء الكنيسة، كهنةً ورهبانًا وشعبًا، بضرورة الاحتفال بالصَّلوات الطَّقسيَّة، جماعيًّا، في كنيسة الرَّعيَّة كما في كنيسة الدَّير، وذلك وفقًا للكُتُب الطَّقسيَّة وبطريقةٍ خشوعيَّةٍ واحتفاليَّة (…). وتأتي صلوات السَّاعات لتُدخِل المؤمنين في حالة “الصَّلاة الدَّائمة” واللِّقاء المستمرِّ بالمسيح، فتثبِّتَهم في العبادة الحقَّة وتُغذِّي روحانيَّتهم وهم في مسيرتهم نحو الملكوت”([3]).
يأتي هذه المقال الَّذي كُتِب منذ أكثر من خمسٍ وأربعين سنة، والَّذي يُنشَر للمرَّة الأُولى، ليُذكِّر الكنيسة بأهمِّيَّة أنْ تستعيد صلاتها الجماعيَّة الَّتي سقطَتْ من الممارسة اليوم، في حياة شعبها ومؤمنيها. فلم يَعُدِ النَّاس يلتقون ليُصلُّوا معًا، كلَّ يومٍ مساء، كما كانت العادة في ما مضى. واقتصر لقاؤهم الرَّعويّ على ليتورجيَّا القدَّاس فقط، أيَّام الآحاد والأعياد. وما كان يميِّز المسيحيِّين الأوائل أنَّهم “كانوا مواظبين على تعليم الرُّسل، والمشاركة، وكسْر الخبز، والصَّلوات” (أع 2: 42). هذا ما يفتقده المؤمنون اليوم، وما يحثُّنا المطران ضوميط، في مقاله هذا، على أنْ نرجع إليه.
كتب المطران ميخائيل ضوميط مقالَه هذا بشكلٍ مشوِّقٍ وواضحٍ ومُبسَّط. لذا، يمكن للقارئ الكريم أنْ يعتبر هذا المقال مدخلاً سهلاً و”دسِمًا” في الوقت عينه، لكي يَفقَهَ أهمِّيَّة صلاة الفرْض أو الصَّلاة الخورسيَّة([4])، بحسب التَّسمية المفضَّلة اليوم، في حياته الشَّخصيَّة وفي حياة الكنيسة جمعاء. وسوف نعمد إلى الإشارة، في الحواشي، إلى ما صَدَرَ من دراساتٍ ومقالاتٍ وكتُبٍ بشأن هذا الموضوع، في هذه الآونة من الزَّمن.
وإليكم نصّ المطران ميخائيل ضوميط كاملاً، وهو يحمل العنوان الآتي: في الفرْض الإلهيّ من خلال دستور المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني “في اللِّيتورجيَّة المقدَّسة”.
نصّ المقال:
تناول المجمع الفاتيكانيّ الثَّاني قضيَّة “الفرْض الإلهيّ” في الفصل الرَّابع من دستوره “في اللِّيتورجيَّة المقدَّسة”. ولا عجب في ذلك، فالفرْض الإلهيّ([5]) هو أهمّ ما في الطُّقوس بعد القدَّاس([6]) والأسرار([7])، لأنَّه، من ناحية، صلاة الكنيسة الرَّسميَّة، ومن ناحيةٍ أخرى، صلاة كلِّ يومٍ لجميع مَنْ تكرَّسوا لله في الكهنوت أو في الحياة الرُّهبانيَّة على اختلاف صِيَغها.
وقد استوحى المجمع توجيهاته في موضوع الفرْض الإلهيّ -شأنه في سائر أعماله- مِنَ الوقائع الرَّاهنة والحقائق الثَّابتة المتعلِّقة بالموضوع، وهدَفَ في هذا الباب، مثله في غيره، إلى التَّجديد عن طريق الرُّجوع إلى الأُصول.
إنَّ الوقائع الرَّاهنة، الَّتي لا سبيل إلى إنكارها، هي أنَّ عامَّة الملتزمين بتلاوة الفرْض لا يجدون فيه ما يجب أنْ يجدوه -ومِنْ حقِّهم أنْ يجدوه- منْ قوتٍ روحيٍّ لنفوسهم، وأنَّهم لتَراكُمِ الأشغال، النَّاجمة عن وظيفتهم عينها، أخذوا يستطيلونه، وأنَّهم لجهلِهم لغتَه أخذوا يجدونه لغزًا مُغلَقًا، وأنَّهم لتَيَقُّظِ العقل المعاصِر إلى استبعاد الخوارق، أخذوا يجدون رواياته غريبة. وليسَت هذه الوقائع محصورةً في البيئة اللاتينيَّة، وقد تكون في غيرها أوفر وأعمّ.
أمَّا الحقائق الثَّابتة فهي أنَّ الشَّعب المسيحيّ وبنوعٍ خاصّ النُّخبة فيه الَّتي تكرَّسَتْ للعبادة، لم تخلُ حياتهم يومًا منْ صلاةٍ نظاميَّةٍ جمهوريَّة، تتضمَّن طلبات ومدائح وتلاوات، من الكتاب المقدَّس وغيره من الآثار الرُّوحيَّة، وأنَّ الاستغناء عن هذه الظَّاهرة القديمة الشَّاملة في الحياة الرُّوحيَّة، إنْ خطَرَ على بال أحد، يكون خروجًا فاضِحًا على التَّقليد الكنسيّ الأصيل.
على هذا الصِّراط وبين هذَين الحدَّين سار المجمع في ما أملى من مبادئ وقواعد بشأن الفرْض الإلهيّ. ولم يحد المجمع كذلك، في باب الفرْض، عن القاعدة الَّتي اعتمدها في مقدِّمة دستوره في اللِّيتورجيَّة([8])، وهي حصْر ما يقول بالطَّقس اللاتينيّ، ما لم يتَّضِح بطبيعة الحال أو بصريح العبادة أنَّه يتناول أيضًا الطُّقوس الشَّرقيَّة. وعليه أصبح علينا فيما نعرض ما فصَّله المجمع، أن نجتذئ منه ما يمكن القول فيه أنَّه يتناول الشَّرقيِّين بطبيعة الحال، مُضيفين إليه ما يمكن الأخذ به من باب الاسترشاد بالأصلح.
***
وأوَّل ما يلفت النَّظر عنوان الفصل. إعتمد المجمع في هذا العنوان، وفي سائر أقواله، لفظة “الفرْض”. وقد كان يودّ بعض الشَّرقيِّين أنْ يتجنَّبوا لفظة “فَرْض” لما توحيه منْ إلزام، ويكتفوا بلفظة “مدائح” لأنَّها واردةً في التَّقليد الشَّرقيّ، ولأنَّها تعبِّر عن المقصود دون ربطه بالإلزام. لكنَّ الآباء اللاتين، والكلام عمَّا يعنيهم هم قبْل غيرهم، آثروا البقاء على لفظة “فرْض” الشَّائعة عندهم، ولو تضمَّنَتْ معنى الإلزام، لأنَّ هذا المعنى عينه، هو من ميزات الصَّلاة الكنسيَّة الطَّقسيَّة الرَّسميَّة، بخلاف غيرها منَ الصَّلوات الفرديَّة، وإنْ تَنوَّعَتْ قوَّة الإلزام حسَب تنوُّع الأشخاص وصفاتهم.
وبعد هذه الملاحظة الأُولى يمكننا أنْ ننتقل إلى المبادئ الَّتي يمكن اعتبارها شاملةً الغربيِّين والشَّرقيِّين معًا.
المبدأ الأوَّل([9]): إنَّ الفرْض الإلهيّ هو صلاة الكنيسة الرَّسميَّة، ومَنْ تلاه صلَّى باسم الكنيسة، وضَمَنَ لصلاته، ولو منفردًا أو على غير صفة، قيمةً لا تتمتَّع بها الصَّلاة غير الرَّسميَّة فرديَّةً كانت أم جمهوريَّة. ويُستنتَجُ من هذا المبدأ، من النَّاحية الرَّعويَّة، أنَّ صلاة الفرْض يجب أنْ تُفضَّل، للمؤمنين أنفسهم، على سائر الابتهالات والعبادات “المبتكَرة”، قديمةً كانت أم حديثة. وفي الواقع، لم تظهر هذه العبادات ولم تنتشر إلاَّ بعد أنْ تفشَّى جهْل الفرْض وعمَّ إهماله، وإنْ حصل عليه بعضها من موافقة السُّلطة الكنسيَّة لا يُقاس بما للفرْض مِنْ مكانةٍ في نظَر الكنيسة.
المبدأ الثَّاني: إنَّ الفرْض الإلهيّ هو معين التَّقوى الصَّحيحة والقوت الرُّوحيّ للنُّفوس الوَرِعة. ويجب أن تتلاءَم في تلاوته الفهم والنَّطْق. وهذا المبدأ الَّذي اعتمده المجمع يدعو إلى إعادة النَّظَر في القاعدة القانونيَّة القائلة بأنَّ النُّطْق وحده، ولو على غير فهم، كافٍ بذاته لوفاء الإلزام، كما يدعو إلى تقييم الرُّوحانيَّات المتشعبَّة بالنِّسبة إلى هذه القاعدة القديمة. ولا يسعُنا في هذا المجال إلاَّ أنْ نعترف، والأسى في القلب، بأنَّ الرُّوحانيَّة الشَّرقيَّة الأصيلة قد ضاعَتْ وطُمسَت من شعورنا الدِّينيّ، بعد أنْ أُهملَتْ تلاوة الفرْض على مسامع الشَّعب وأُغلِقَ فهمه على الملزمين به، وبعد أنْ اقتصر منه على أفقر أجزائه، واستغني فيه عن كلام الله([10])، وعُزِل عن الدَّورة الطَّقسيَّة([11]) الدَّائرة على تَسَلسُل الأسرار الخلاصيَّة. وإنْ كنَّا اليوم نبحث عن أساليب جديدة نلقِّن بها شعبنا كلام الله -الصِّغار منه والكبار- ألا يمكن أنْ يكون بعْث تلاوة الفرْض على مسامعه أحد هذه الأساليب وإحداها؟ وإنْ كنَّا نريد أنْ نعود إلى الرُّوحانيَّة الشَّرقيَّة الأصيلة أليس الرُّجوع إلى الفرْض هو السَّبيل الأقوَم والأيسر؟
المبدأ الثَّالث: إنَّ تلاوة الفرْض الإلهيّ وزِّعَت، من أقدم الأجيال، على ساعات اللَّيل والنَّهار بغية تقديس كلِّ لحظات العمر. وانطلاقًا من هذا المبدأ، يوصي المجمع بتلاوة ساعات الفرْض في أوقاتها، ما لم يحل دون ذلك ظروفٌ قاهرة. ولَمَّا كان قد أصبح من المتعذِّر على غير المتخصِّصين للعبادة النُّهوض في اللَّيل لتلاوة صلاة اللَّيل (Matines) فإنَّ المجمع يدعو إلى تعديل هذه الصَّلاة بحيث تتلاءم مع أي وقتٍ كان في اللَّيل أو في النَّهار. ويجيز تلاوتها في أي وقتٍ تيسَّر ذلك نهارًا أو ليلاً (بند 89، عدد 2). وعليه فإنْ جاز أنْ تُتلى ساعات الفرْض مع بعض التَّقديم أو التَّأخير دون الإخلال بالإلزام القانونيّ فليس معنى ذلك أنَّ ما يجيزه القانون هو القاعدة المثلى، لأنَّ القانون لا يفرض إلاَّ أضعف الإيمان، ولا تتوفَّر الفائدة المتوخَّاة منَ الفرْض ما لم يتلَ على قدر الإمكان في أوانه. وإنَّه لمن الحكمة أن تؤخَذ هذه النَّاحية بعين الاعتبار إذا جرى البحث حول مدى الإلزام الَّذي ينبغي فرْضه على غير المتخصِّصين للعبادة.
***
هذه هي المبادئ العامَّة الَّتي يمكن القول إنَّها تشمل الغربيِّين والشَّرقيِّين معًا، وهناك قواعد تتناول الطَّقس اللاتينيّ بنوعٍ خاصّ، لكنَّ استعراضها لا يخلو من فائدة، أقلَّه من باب الاسترشاد بالأصلح.
- إنَّ البند 89 يجعل بين ساعات الفرْض بعض التَّمييز، فأساس الفرْض، في نظر المجمع، صلاة المساء وصلاة الصُّبح([12])، والسِّتَّار (Complies) هو تتمَّة لصلاة المساء تتلاءم مع آخر النَّهار. أمَّا صلاة اللَّيل([13])، الَّتي يجب أنْ تبقى للليل في نظام الخورس الرَّسميّ، فيحسن تعديلها حتَّى تلائم أي ساعةٍ من ساعات اللَّيل أو النَّهار. أمَّا سائر السَّاعات، فينبغي أن تهمل منها السَّاعة الأُولى ويمكن أن يُكتفى من السَّاعات الصُّغرى أي الثَّالثة([14]) والسَّادسة والتَّاسعة، بواحدة، تلائم تلاوتها وقت الصَّلاة.
وكما جعل البند 89 تمييزًا بين السَّاعات، أقام البند 95 تمييزًا بين المصلِّين. المصلُّون، في نظر المجمع، فئتان: فئةٌ ملتزمةٌ بتلاوة الفرْض برمَّته تقتصر على القانونيِّين (Chanoines) والمتوحِّدين (Moines, moniales) الَّذين غاية مسلكهم الصَّلاة والعبادة، وفئةٌ ملتزمةٌ بتلاوة الفرْض وفقًا لقوانين محدَّدة، وهي تشمل سائر الرُّهبان والإكليريكيِّين، ذوي الدَّرجات الصُّغرى، وهؤلاء يمكنهم، بالاستناد إلى التَّمييز السَّابق ذكره، تلاوة صلاة اللَّيل المعدَّلة في أي ساعةٍ مِنْ ساعات اللَّيل أو النَّهار، والاكتفاء من السَّاعات الصُّغرى بواحدة.
وبيَّن أنَّ هذَين البندَين يعرضان نتائج يمكن ردّها إلى المبادئ الآتية:
- إنَّ أساس الفرْض هو صلاة المساء وصلاة الصُّبح، وهذان الجزءان هما أقدم أجزائه وأكثرها شيوعًا، لا سيَّما في الكنائس الرَّعائيَّة أو الكاتدرائيَّة. أمَّا باقي الأجزاء فهي تتميمٌ للبناء، يقوم به المتخصِّصون للعبادة. وعليه إذا كان من المفيد، في النَّهضة الطَّقسيَّة، أنْ تُستعاد تلاوة الفرْض على مسامع الشَّعب، فحَسبُ المؤمنين منها صلاة المساء أوَّلاً، أقلَّه في عشايا الآحاد والأعياد.
- وقد دعا المجمع إلى ذلك في مرسومه عن الكنائس الشَّرقيَّة الكاثوليكيَّة عدد 22. ثمَّ صلاة الصُّبح قبْل قدَّاس الأحد، وحسب الإكليريكيِّين على وجه العموم ما لا يتعذَّر أو يُعقل حمله على أُناسٍ يصرفون جهودهم إلى جانب العبادة في أعمال الرِّسالة.
- إنَّ الإلزام بتلاوة الفرْض هو في الأصل جمهوريٌّ ديريّ([15])، ولم يوضَع المختصر (Breviarum) إلاَّ لتيسير القيام بالصَّلاة للمسافرين. ثمَّ شمل الإلزام، من باب التَّوَسُّع في المستحبَّات، جميع الإكليريكيِّين في الدَّرجات الصُّغرى. هذا في الغرب. أمَّا الشَّرقيَّون، ولا سيَّما البيزنطيُّون، فإنَّهم يزعمون أنْ لا إلزام عليهم، لأنَّه ما مِنْ مجمعٍ فيهم سنَّ مثل هذه الشَّريعة. وهذا صحيح. ولكنْ ممَّا لا شكَّ فيه أيضًا أنَّ الصَّلاة الجمهوريَّة كانت عادة جارية في الكنيسة -إلى حدِّ أنَّهم خلطوا بينها وبين القدَّاس- وأنَّ للعادة الجارية المستمرَّة الشَّاملة قوَّة القانون، وأنَّه إذا كان على المؤمن بعض الواجب في الاشتراك بالصَّلاة فهذا الواجب إلزامٌ للإكليريكيّ الدَّاعي إليها باسم الكنيسة. ومهما كان من أمر غير الموارنة، فالموارنة شأنهم شأنٌ آخر. والإلزام عليهم([16]) صريحٌ في نصِّ المجمع اللُّبنانيّ (ص 21-22، المقدّمات) الَّذي لم يلغِه المجمع الفاتيكانيّ. وإنْ قال قائلٌ إنَّ “الشحيمة”([17]) الَّتي طبِعَت ليسَت كتاب الفرْض الَّذي يقصده المجمع اللُّبنانيّ، فالجواب هو أنَّ ما لا يقرُّه العلم أقرَّه العرْف والعادة، منذ المجمع اللُّبنانيّ. أمَّا أنْ يكون الإلزام القانونيّ قد انتقل إلى الموارنة من عند اللاتين فهذا أمرٌ ثابتٌ أيضًا، ومن هنا جاز التَّساؤل: ألا يجوز للموارنة، في باب الإلزام بتلاوة الفرْض، أنْ يتمشّوا بما أجازه المجمع للاتين، أي أنْ يكتفوا بواحدةٍ من السَّاعات الصُّغرى، وأن يعملوا على تخفيف مضمون الفرْض على نحو ما قام به المجمع عند اللاتين؟ إنَّ الجواب هو يالإيجاب، إنْ بقي في حيِّز التَّمني. أمَّا الانتقال إلى التَّنفيذ فمحفوظٌ فيما أعتقد بالسُّلطة المارونيَّة، أقلَّه بإعلان النقاط الَّتي يمكن اعتبارها نافذة في الكنيسة المارونيَّة، من الدُّستور “في اللِّيتورجيَّة المقدَّسة”.
- إنَّ البند 90 يعالج تلاوة نصوص الكتاب المقدَّس والآباء في الفرْض، فيقول:
- بشأن المزامير([18])، إنَّ تلاوة السِّفر بكامله مرَّة كلّ أسبوع لم تعُد ممكنة، بعد التَّخفيف المقرَّر، ويجب أنْ تمتدَّ على مدَّةٍ أوسع، علاوة على إعادة النَّظر في ترجمتها اللاتينيَّة، مع المحافظة على اللُّغة الكنسيَّة.
- بشأن سائر نصوص الكتاب، إنَّه يجب تنسيقها بحيث يصبح مجمل الكتاب في متناول المصلِّين.
- بشأن نصوص الآباء إنَّه يجب أنْ يُحسَن اختيارها.
- وأخيرًا، بشأن سِيَر القدِّيسين([19]) إنَّه يجب الانتباه إلى مطابقتها للتَّاريخ.
ومن هذه القاعدة يمكننا أن نستنتج أنَّ المجمع يرغب في أنْ تصبح نصوص الكتاب -من سفْر المزامير وسائر الأسفار- في متناول المصلِّين، بطريقةٍ سائغة، لا كثيفة ولا ضئيلة، وأنَّ الفرْض الخالي من هذه النُّصوص هو فرْضٌ أجوَف. وإنْ نظرنا في “شحيمتنا”، على نور هذه القاعدة، لا بدَّ من الاعتراف بأنَّها جوفاء. والفرْض المتداول عندنا والَّذي أُطلِقَ عليه اسم “الشحيمة” ليس إلاَّ كتابًا (مختصرًا) من كتُبٍ عدَّة يؤلِّف مجموعها الفرْض الإلهيّ. فصلوات وأناشيد الفرْض الأسبوعيّ لها كتاب هو “الشحيم”([20]) وأناشيد([21]) وصلوات فرْض الصِّيام لها كتاب ومثلها أناشيد وصلوات الآلام([22]) والفصح([23]) ومثلها صلوات وأناشيد الأعياد. وعلاوة على ذلك للقراءات الكتابيَّة كتاب، ولسِيَر القدِّيسين كتاب، ومنْ هذه الكُتُب جميعها اقتصرنا على مختصر الصَّلوات الأُسبوعيَّة، وعمَّمناها على السَّنة بكاملها، أيًّا كانت المرحلة الطَّقسيَّة الَّتي نحن فيها. ومن عجيب ما أدَّى إليه هذا الإهمال الَّذي أصبح قاعدةً أنَّنا نتلو أناشيد التَّوبة يوم أحد الفصح، لأنَّ الشحيمة أهملَتْ، ليوم الأحد، مدائح القيامة وأثبَتَتْ ألحان التَّوبة. وكان علينا بالتَّالي أنْ نتغذَّى طول السَّنة -على اختلاف فصولها- بمؤونة أسبوعٍ واحد.
- وبعد ما دعا إليه المجمع، أصبح من الواجب الرُّجوع إلى تلاوة نصوص الكتاب([24])، وإلى التَّوسُّع في تلاوة المزامير (لا الاقتصار منها على سبعة) لأنَّ كلام الله أثمن وأسمى وأجدى من نظم النَّاس، وبذلك لا نخرج من تقليدنا بل نبعث ما أُهمِل ونُجاري في الوقت مَيل العصر الحميد في إقباله على التَّعاليم الكتابيَّة. وكذلك القول عن نصوص الآباء([25])، فتعاليم الآباء القدامى أغنى من تخيُّلات المحدثين. أمَّا إعادة النَّظر في سِيَر القدِّيسين وتنقيته من الأساطير فأمرٌ لا بدَّ منه إنْ شئنا ألاَّ يَسخر منَّا أبناء هذا الزَّمان، وإنْ شئنا ألاَّ تكون عبادتنا لَهو سذَّج.
- أمَّا النُّقطة الأخيرة الَّتي عالجها المجمع فهي استعمال اللُّغة الدَّارجة في كتاب الفرْض. معلومٌ أنَّ الدُّستور في اللِّيتورجيَّة قد وسَّع القواعد المتَّبعة حول استعمال اللُّغة الدَّارجة في الرُّتب الطَّقسيَّة، ليفتح للشَّعب المسيحيّ مجال الاشتراك فيها، لا تحقيرًا لتراثٍ قديمٍ أو حلاًّ لبعض وثاقات الوحدة في الكنيسة. وعلى هذه القاعدة جرى في تقرير لغة الفرْض. فمع المحافظة على اللُّغة الرَّسميَّة -أي اللاتينيَّة- في التِّلاوة الخورسيَّة ومع البقاء على هذه اللُّغة عينها في التِّلاوة المفروضة على الإكليريكيِّين بوجه العموم، لأنَّهم حُماة التُّراث الكنسيّ، فإنَّه قد أجاز تلاوة الفرْض باللُّغة الدَّارجة في الجمعيَّات الرَّهبانيَّة غير الإكليريكيَّة وجمعيَّات الرَّاهبات، وبالطَّبع في التِّلاوة على مسامع الشَّعب([26])، كما وَكَلَ إلى الأسقف أنْ يُجيز في الحوادث الفرديَّة استعمال اللُّغة الدَّارجة لمن يتعذَّر عليه تلاوة الفرْض كما يجب في لغته الرَّسميَّة. وتعبير المجمع -“التِّلاوة كما يجب”- تعبيرٌ غامض، وأغلب الظَّنّ أنَّ المسوِّغ الكافي لمنح مثل هذا الإذن هو جهل اللُّغة الرَّسميَّة أو التَّحرُّر من التِّلاوة الآليَّة، وكلا الأمرَين يحول دون تلاوة الفرْض بما يجب من الوعي والخشوع وبما ينبغي من الإفادة. لكنَّ نصّ المجمع افترض أنَّ مثل هذه الحالات لا تزال حالات فرديَّة معدودة. أَليسَ في الواقع غير ذلك؟ أنتم أدرى، أمَّا أنا فقد رأيتُ بعيني، قبْل نهاية المجمع، أحد أصحاب السِّيادة من جيراني، يأخذ من حقيبته، في كنيسة مار بطرس، كتابًا جميل التَّغليف والطَّبع، ثمَّ يبدأ صلاته فيه، وعندما تجاسرتُ وتناولتُ الكتاب معجبًا بجميل إخراجه، وما إنْ فتحته حتَّى رأيتُ أنَّه طُبِع باللُّغة الإنكليزيَّة. وعندما أبدَيتُ عجبي تعجَّب مِنْ عجبي.
***
هذه هي المبادئ والقواعد الّتي اعتمدها المجمع الفاتيكانيّ عندما توخَّى أنْ يجعل من الفرْض الإلهيّ أداة صلاةٍ في شعب الله تُغذِّي إيمانه وتُنعش تقواه، ولا شكَّ في أنَّها ستفرض نفسها على العاملين في الطُّقوس في أي كنيسةٍ كانوا، لأنَّها زبدة حكمة الكنيسة في تكييف صلاتها وفقًا لحاجة شعبها. وأملُنا أنَّنا سنكون في هذا الشَّرق أيضًا في مهب الرُّوح فنستفيد منْ توجيهات المجمع في تجديد الفرْض الإلهيّ ليبقى أصيلاً ويغدو جديدًا([27])، ويظلّ للأجيال الطَّالعة، كما كان للأجيال السَّابقة، منارة الإيمان وقوت الأرواح.
[1] لمعلوماتٍ عن سيادته، راجع: أنطوان الصيَّاح، “المثلَّث الرَّحمة المطران مخائيل ضومط. سيرة الكاهن، أستاذ اللاهوت والرَّاعي”، المجلَّة الكهنوتيَّة 35، 2 (2005) 279-302 (إنَّ هذه الحاشية والحواشي اللاحقة كلّها هي من وضْع النَّاشر).
[2] راجع: ميخائيل ضوميط، “في القدَّاس”، ترجمه عن الفرنسيَّة دانيال زغيب، المسرَّة 97، العدد 907، 1 (كانون الثّاني-شباط 2011) 94-104.
[3] المجمع البطريركيّ المارونيّ (2003-2006). النُّصوص والتَّوصيات، بكركي، 2006، النَّصّ 12: اللِّيتورجيَّا، العدد 56، ص 442.
[4] راجع: يوحنَّا تابت، “دراسةٌ حول الصَّلاة الخُورُسيَّة”، أوراق رهبانيَّة، 15-16 (1970) 205-267.
[5] راجع: الفرْض الإلهيّ، (سلسلة محاضرات 1987)، سلسلة “منشورات قسم اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 8، الكَسْليك-لبنان، 1987.
[6] راجع: سرّ الإفخارستيَّا والقدَّاس، (سلسلة محاضرات 2004)، سلسلة “منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 36، الكَسْليك-لبنان، 2005.
[7] راجع: الأسرار، (سلسلة محاضرات 1986)، سلسلة “منشورات قسم اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 7، الكَسْليك-لبنان، 1987.
[8] يهمُّنا أنْ نشير إلى كتابٍ صادرٍ عن اللِّيتورجيَّا المارونيَّة، في العام 1966، ولكنَّه يبقى، على الرُّغم من قدَمه، شديد الإفادة والغنى؛ راجع: ميشال برَيدي، موجز علم اللِّيتورجيَّا حسب الطَّقس السُّريانيّ الأنطاكيّ المارونيّ،بيروت، 1966.
[9] نحن من كتبْنا هذا العنوان والعنوانَين الآخرَين بخطٍّ بارز.
[10] راجع: مارسيل هدايا (إعداد ونشر)، ريشْ قِرْيان قزحيَّا 1841،نصٌّ وملاحق، منشورات جامعة الرُّوح القُدُس-الكَسْليك، معهد اللِّيتورجيَّا، 38، الكَسْليك، 2007؛ يوحنَّا تابت (قدَّم له ونشره)، ريشْ قِرْيان مارونيّ قديم (سنة 1242 م.). مخطوط سَلَمنكا 2647، سلسلة “منشورات قسم اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 9، الكَسْليك-لبنان، 1988.
[11] راجع: عمانوئيل خوري، “السَّنة الطَّقسيَّة. نشأتها. تطوُّرها. تاريخها”، السَّنة الطَّقسيَّة، (سلسلة محاضرات 1988)، سلسلة “منشورات قسم اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 10، الكَسْليك-لبنان، 1988، ص 57-87؛ وراجع أيضًا: Jean TABET, «Année liturgique (maronite)», Encyclopédie Maronite, tome 1, Kaslik-Liban, 1992, p. 324-329.
[12] راجع: يوحنَّا تابت، “الأصول المشتركة للفرْض الرَّعائيّ”، الفرْض الإلهيّ، ص 3-43.
[13] راجع: يوحنَّا تابت، “صلاة اللَّيل المارونيَّة: رهبانيَّةٌ أم رعائيَّة؟”، اللِّيتورجيَّا والحياة الرُّهبانيَّة، (سلسلة محاضرات 1993)، سلسلة “منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 17، الكَسْليك-لبنان، 1993، ص 43-64.
[14] راجع: دانيال زغيب، “صلاة السَّاعة الثَّالثة من يوم الأحد في الشَّحيمة المارونيَّة”، بحوثٌ مهداةٌ إلى الأباتي يوحنَّا تابت، نشرها أيُّوب شهوان، سلسلة “منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 35، الكَسْليك-لبنان، 2005، ص 529-566؛ وراجع أيضًا: Jean TABET, «Tierce du mercredi dans la šhīmtō maronite», Parole de l’Orient, XVII (1992) 73-92.
[15] عن الارتباط الوثيق بين اللِّيتورجيَّا والحياة الرُّهبانيَّة، راجع المقالات المتنوِّعة في الكتاب الآتي: اللِّيتورجيَّا والحياة الرُّهبانيَّة، (سلسلة محاضرات 1993)، سلسلة “منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 17، الكَسْليك-لبنان، 1993.
[16] راجع: Michel BREYDI, L’office divin dans l’Église Syro-Maronite, son obligation à la lumière du Synode Libanais et de ses sources juridiques, Beyrouth, 1960; Michel BREYDI, «La portée de l’obligation à l’office divin chez les maronites», L’Orient Syrien 3, 2 (1958) 245-266 .
[17] راجع: Jean TABET, L’office commun maronite. Étude du Lilyo et du Šafro, Coll. «Bibliothèque de l’Université Saint-Esprit de Kaslik»- 5, Kaslik-Liban, 1972.
[18] راجع: يوحنَّا تابت، كتب المزامير في الطقس المارونيّ، سلسلة “منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 14، الكَسْليك-لبنان، 1991.
[19] صدرَت طبعةٌ جديدة، غير رسميَّة، للسّنْكسار، عن معهد اللِّيتورجيَّا، في جامعة الرُّوح القدس-الكَسْليك، عنوانها: السَّنْكِسار بحسب طقس الكنيسة الأنطاكيَّة المارونيَّة، إعداد وتنسيق بولس ضاهر، سلسلة “منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 23، الكَسْليك-لبنان، طبعةٌ خامسةٌ منقَّحة، 2005. وتحمل هذه الطَّبعة، في مقدَّمتها، رقيمًا بطريركيًّا عدد 267/62، موقَّعًا من البطريرك بولس بطرس المعوشي.
[20] راجع: يوسف حبيقه، “درسٌ علميٌّ تاريخيٌّ على كتاب الشحيم”، المنارة 12، 4 (تشرين الأوَّل-كانون الأوَّل 1941) 303-338.
[21] عن كميَّة الألحان والأناشيد الكثيرة والمتنوِّعة، راجع: يوحنَّا تابت، “مصادر اللِّيتورجيَّا المارونيَّة: بية جازا”، المجلَّة الإكليريكيَّة، العدد 11 (كانون الأوَّل 2011) 69-81 (تصدر هذه المجلَّة، مرَّةً واحدةً في السَّنة، عن الإكليريكيَّة البطريركيَّة المارونيَّة-غزير).
[22] راجع:Rachid ABI-KHALIL, L’office de la Semaine Sainte ou «ktobo d-hacho» selon la tradition de l’Église Maronite, 3 tomes: tome I: étude; tome II: traduction et notes; tome III: texte syriaque, thèse pour l’obtention du doctorat, Paris, 1994; Rachid ABI KHALIL, «L’office de la Semaine Sainte selon la tradition de l’Église Maronite», Parole de l’Orient, XX (1995) 95-107; Simon GEBRAËL, «Théologie de la Semaine Sainte maronite», Revue du Séminaire, No 11 (2011) 3-21.
[23] راجع: Elie KHALIFÉ-HACHEM, «Office maronite du grand dimanche de la Résurrection. Texte du Ramšo et commentaire», Parole de l’Orient, VI/VII (1975-1976) 281-308.
[24] راجع: اللِّيتورجيَّا والكتاب المقدَّس، (سلسلة محاضرات 1991)، سلسلة “منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس،”- 13، الكَسْليك-لبنان، 1991.
[25] راجع: آباء الكنيسة واللِّيتورجيَّا، (سلسلة محاضرات 2011)، منشورات جامعة الرُّوح القُدُس-الكَسْليك، معهد اللِّيتورجيَّا، 49، PUSEK، 2011؛ ولا سيَّما المقال الآتي: مارسيل هدايا، “قراءات آباء الكنيسة في إصلاح الفرْض الإلهيّ المارونيّ”، المرجع نفسه، ص 231-276.
[26] استند العمل الإصلاحيّ الَّذي أنجزه معهد اللِّيتورجيَّا وكلِّيَّة الموسيقى التَّابعان لجامعة الرُّوح القُدُس-الكَسْليك، إلى هذا التَّعليم الخاصّ بلغة الفرْض الإلهيّ، عندما أصدرا مجموعة سلسلة “السَّنة الطَّقسيَّة المارونيَّة” والمتعيِّدات الخاصَّة ببعض القدِّيسين. لذا، نجد أنَّ جميع نصوص الفرْض المارونيّ المُصلَح، وفاقًا لتوجيهات المجمع الفاتيكانيّ، هي باللُّغة العربيَّة لكي يتمكَّن الشَّعبُ من المشاركة في الصَّلاة، مشاركةً واعيةً وفعَّالةً وتامَّة. وقد أُضِيفَتْ إلى الفرْض المزاميرُ المتنوِّعة في صلوات المساء والصَّباح ونصف النَّهار. كما اغتنى هذا الفرْض بالقراءات الكتابيَّة العديدة والمتنوِّعة، من العهدَين القديم والجديد (في فرْض المساء)، ومن كتابات آباء الكنيسة الشَّرقيِّين والغربيِّين على السَّواء (في فرْض الصَّباح).
[27] راجع: يوحنَّا تابت، “أضواءٌ جديدةٌ على الفرْض المارونيّ”، الفرْض الإلهيّ، ص 252-288.