تمهيد
تشبه العلاقة بين الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة والكرسيّ الرّسوليّ علاقة الإبن بأمّه، لا اليد بالرّأس. إنّها شراكة إيمان بين كنائس أنشأتها العناية الإلهيّة عبر بطرس والرّسل؛ تجمعها المحبّة الصّادقة، ويوحّدها الحبر السّماويّ عبر الحبر الرّومانيّ، كي لا تقع إحداها بتجربة الاستعلاء أو يصاب بعضها بصنميّة التّماهي أو كارثة الذّوبان أو سياسة “نفّذ ثمّ اعترض”. بل هي شركة حبّ أنضجها التّاريخ، ومحّصتها التجّارب، وصقلتها الثّقافة، وخمّرها اللاهوت، وجمّلتها الليتورجيا، وأغنتها فلسفة الوحدة بالتّنوع.
يهدف هذا البحث المقتضب، إلى رصد حركة تطوّر ذلك الرّابط المقدّس، عن طريق استقراء بعض الوثائق الكنسيّة ذات الصّلة، وبخاصّة تلك الوثيقة المجمعيّة المعروفة باسم “الكنائس الشّرقيّة”، وهي قرار مجمعيّ له من العمر خمسون سنة، صدر عن أعمال المجمع الفاتيكانيّ الثّاني في 21 تشرين الثّاني عام 1964، إذ تنظر الكنيسة الكاثوليكيّة عبر توصياته العميقة، نظرة تقدير وتكريم، لما أسمته بمؤسّسات الكنائس الشّرقيّة، وما تتميّز به هذه الأخيرة من تراث كنسيّ عريق في القدم، يشمل رتبا طقسيّة رائعة، وتقاليد كنسيّة خاصّة، ونظام حياة مسيحيّة فريد، يرتبط ارتباطا وثيقا بالثّقافة المحليّة، وصخب التّاريخ، وأبعاد الجغرافيا… كما يؤلّف جزءاً لا يتجزأ من تراث الكنيسة الجامعة، الموحى من الله (ك ش 1)[1].
من يطّلع على النّصّ المجمعيّ المذكور، ربّما تختلط عليه في البداية بعض العبارات الشّموليّة التي تتطلّب توضيحا بل تحديدا للكلمات. فهو يتحدّث، عن الكنائس الشّرقيّة عموما، إلاّ أنّ المقصود فعلا، تلك الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة فقط، لطاعتها لحكم قداسة البابا الرّعائيّ. رغم أنّه كان من الأفضل -في نظرنا- تحديد مثل هذه “الكلمات التّقنيّة” تحديدا مباشرا في النّص عينه، لأنّ عبارة “الكنائس الشّرقيّة” بمعناها الواسع، تشمل أيضا الكنائس الأرثوذكسيّة وهي ليست معنيّة في هذا القرار لعدم ارتباطها بحكم الحبر الرّوماني الرّعائيّ (ك ش 3). ونظرا لما تتطلّبه المنهجيةّ البحثيّة من تحليل فكريّ وتماسك منطقيّ بنّاء، يجدر بنا أوّلا التّبحّر قليلا في طبيعة الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة، والمؤسّسات البطريركيّة، ومن ثمّ وصف علاقتها بالأب الأقدس والكرسيّ الرّسوليّ من أجل فهم حقيقة ما يرمي إليه البحث الذي نحن بصدده.
- الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة
هي تلك الكنائس المتّحدة بصورة كاملة مع الكرسيّ الرّسوليّ. بيد أنّ هذا الاتّحادلا يعني أبدا التّخلّي عن الفكر اللاهوتيّ المشرقيّ، والطّقس الليتورجيّ، والتّراث العريق، والتّقاليد القديمة، والثّقافة الخاصّة بتلك الكنائس، بل تتميم مشيئة الله بأن نكون واحدا.
تتمايز الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة والكنيسة اللاتينيّة في ما بينها، من خلال طقوسها وأنظمتها الكنسيّة وتراثها الرّوحيّ فقط، لكنها تخضع جميعها لسلطة الحبر الرّومانيّ الرّعويّة، نائب السّيّد المسيح على الأرض، وخليفة القديس بطرس في الأولويّة على الكنيسة الجامعة. وهي تتمتّع بكرامة متساوية، بحيث أنّه ليس لواحدة منها أن تتقدّم على الأخرى بسبب طقسها، بل تنعم بالحقوق عينها، وعليها الواجبات ذاتها.
تتفرّع الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة من خمسة تقاليد كبيرة: التّقليد القسطنطينيّ والاسكندريّ والإنطاكيّ والأرمنيّ والكلدانيّ.
ثمّة اثنتان وعشرون كنيسة شرقيّة كاثوليكيّة في العالم اليوم، أهمّها الكنائس البطريركيّة: كالكنيسة القبطيّة في مصر، والسّريانيّة الكاثوليكيّة والسّريانيّة المارونيّة، والملكيّة، والكلدانيّة والأرمنيّة، كما أنّ هناك كنائس تابعة لرؤساء الأساقفة الكبار، كالكنيسة الأوكرانيّة والسّيرو-ملاباريّة والسّيرو-ملنكاريّة في الهند، والكنيسة الرّومانيّة والإيتالو-كلابريّة في جنوب إيطاليا وهي ذات تقليد بيزنطيّ… إنّه حقّا “لتنوّع عجيب عرف به الله أن يصنع من حجيرات مختلفة فسيفساء هكذا جميلة ومتنوّعة”، على ما قاله البابا الطوباويّ يوحنّا بولس الثّاني في رسالته الرّسوليّة نور الشّرق[2].
- المؤسّسة البطريركيّة
من أجل فهم جوهر العلاقة بين الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة والكرسيّ الرّسوليّ فهما صحيحا، ينبغي التّوقّفَ أمام أهمّية ما أسمته وثيقة “الكنائس الشّرقيّة” بالمؤسّسة البطريركيّة القائمة في الكنيسة منذ العصور القديمة. هذا ما تبنّته أيضا، بل ردّدت صداه مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة حين ذكرت وذكّرت أنّ المؤسّسة البطريركيّة قائمة في الكنيسة بحسب تقليد كنسيّ موغل في القدم اعترفت به المجامع المسكونيّة الأولى (ق. 55)[3]. يستنتج من يستقرئ التّاريخ الكنسيّ الطّويل، أنّ في القرن الميلاديّ الأوّل قام رسل السّيّد المسيح -بإلهام من الرّوح القدس- بتأسيس الجماعات المسيحيّة الأولى، متولّين إدارتها بأنفسهم إلى جانب مجلس من “تلاميذهم”؛ وقد برزت عبارة “أسقف” Episcopos قبل بدأ القرن الثّاني، إذ وردت في رسائل القدّيس أغناطيوس الأنطاكيّ بمعنى “الحارس” أو “المراقب”[4]، أي حارس كرم الرّبّ والسّاهر على قطيعه؛ وهو بالتّالي الرّجل الذي يُعنى بالمؤمنين[5].
ومع تعدّد “التّجمّعات الكنسيّة” ولدت فكرة “المتروبوليت الكبير” لإدارة شؤون الأبرشيّة، وقد عرف أيضا باسم إكسرخوس Exarchus (ليس بمفهومه القانونيّ الحاليّ). غير أنّ بعض الكنائس في مرحلة ما بعد الرّسل، قد تمتّعت بامتيازات خاصّة، بسبب أصولها الرّسوليّة، أو نظرا لأهمّيّتها التّاريخيّة أو المدنيّة أو السّياسيّة[6]؛ إلى أن مُنح أساقفة الاسكندريّة وروما وأنطاكية ونواح أخرى في مجمع نيقيا الأوّل (325) اعتبارا كنسيّا أهمّ من وظيفة المتروبوليت والأسقف العاديّ[7]، بحسب ما ورد في القانون السّادس، من أعمال المجمع المذكور:
“…فليحافظ على العرف القديم المُتّبَع في مصر وليبيا والمدن الخمس؛ وليُمنَح أسقف الإسكندريّة سلطانا على كلّ تلك المقاطعات، كما العرف القائم بالنّسبة إلى أسقف روما. وكذلك في أنطاكية والنّواحي الأخرى، فلتُحفَظ للكنيسة امتيازاتها”[8]. ثمّ ظهرت عبارة “بطريرك” في المصطلحات القانونيّة القديمة للمرّة الأولى مع الامبراطور تيودوسيوس الثّاني (401-450)، في كتابه “الحوليّات” 109 و 129، إلى أن اتّخذت طابعا مؤسّستيّا مع الامبراطور يوستينيانوس الأوّل (526-565)، في كتابه “الحوليّات” 123، الذي كرّس الكراسي المشار إليها للهرميّات الكنسيّة[9]. فمُنح بذلك أساقفة الكراسي الخمس الكبرى (روما، القسطنطينيّة، الاسكندريّة، أنطاكية وأورشليم)، لقب “بطريرك”[10].
تقوم المؤسّسة البطريركيّة إذاً، بصورة خاصّة، على هرميّة كنسيّة محلّية يرأسها البطريرك الشّرقيّ، وهو بحسب نصّ القرار “الكنائس الشّرقيّة” أسقف له حقّ الولاية على كلّ الأساقفة، بما فيهم رؤساء الأساقفة، وعلى الإكليروس والمؤمنين في ولايته أو طائفته مع “المحافظة دائما على سلامة أولويّة الحبر الرّومانيّ” (ك ش 7). إنّ النّصّ المجمعي بوصفه العامّ للسّلطة البطريركيّة يعترف بحقوق كبيرة وواسعة للبطريرك قد حجبت عنه بعضَها فيما بعد مجموعةُ قوانين الكنائس الشّرقيّة.
وعليه، يدعو النّصّ إلى واجب إحاطة بطاركة الكنائس الشّرقيّة بإكرام خاصّ، لأنهم يرأسون بطريركياتهم الخاصّة كآباء ورؤساء. إنّ عبارة “الأب والرّأس” جميلة جدّا، وقد وردت للمرّة الأولى في قانون 216 § 1، من “الإرادة الرّسوليّة” Cleri sanctitati. كما يُعتبر السّلطان البطريركيّ وحدة متآلفة ومتكاملة تشمل سلطان الدّرجة الذي يُمنح بفعل السّيامة المقدّسة Ordinatio in sacris، وسلطان الولاية Potestas iurisdictionis الذي يهدف إلى تقديس شعب الله في الكنيسة، “مجتمع المؤمنين” Societas fidelium. وقد استفاضت القوانين الكنسيّة المرعيّة الإجراء بالحديث عن البطريرك ومجلس الأساقفة وبتحديد صلاحيّاتهم وحقوقهم وواجباتهم.
- علاقة الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة بالحبر الرّوماني:
هو أسقف الكنيسة الرّومانيّة، ورأس جماعة الأساقفة، ونائب المسيح، وراعي الكنيسة جمعاء على الأرض. له بحكم فعل مهمّته ملء السّلطات العاديّة والعليا والكاملة والمباشرة والعامّة في قلب الكنيسة، وله أن يمارسها دائما بحرّيّة (ق. 43). وتجدر الإشارة إلى أنّ السّلطة العاديّة تدعى هكذا في المصطلح القانونيّ الكنسيّ لارتباطها بأولويّة الحبر الرّومانيّ على الكنيسة الكاثوليكيّة برمّتها، كما أنّ السّلطة العليا تعني تقدّمه على جميع أعضاء الهرميّة الكنسيّة الكاثوليكيّة شرقا وغربا، أمّا السّلطة الكاملة فهي توليه ملء سلطان التّعليم والتّقديس والتّدبير في كنيسة الله الكاثوليكيّة[11] بحكم انتخابه الشّرعيّ كأسقف في الكنيسة وإبداء قبوله لهذا الانتخاب مع الرّسامة الأسقفيّة (ق. 44- البند 1). فالبابا هو الرّاعي الأعلى للكنيسة الكاثوليكيّة كلّها، مع اتّحاده الدّائم بالشّركة والأساقفة الآخرين؛ مع لفت الانتباه إلى حقّه في تحديد الطّريقة الشّخصيّة أو الجماعيّة لممارسة هذه المهمّة بحسب احتياجات الكنيسة (ق. 45 – البند 2).
لا بدّ من التّنويه أيضا، بأنّ صلة الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة بالأب الأقدس هي موضوع اتّحاد تامّ وشراكة كاملة، لأّنه لا يمكن للمرء أن يكون كاثوليكيّا من دون الاعتراف بأولويّة الحبر الرّومانيّ على الكنيسة والطّاعة له. ثمّة نصّ مجمعيّ مارونيّ تاريخيّ -على سبيل المثال لا الحصر- يعود إلى المجمع البطريركيّ المنعقد عام 1580 يتحدّث عن الحبر الرّومانيّ كالآتي: “إنّ البابا وضحت أوضحت هو رأس لجميع الكنائس المسيحيّة وأب ومعلّم كافّة المسيحيّين ورأس جميع البطاركة… يرعى ويدبّر ويرشد البيعة العامّة… والسّيّد البطريرك بدوره يرسل قاصده إلى المدينة المعظّمة الرّومانيّة ليؤدّي الطّاعة للحبر الأعظم وللكرسيّ الرّسوليّ عن البطريرك والأساقفة وجميع الإكليروس والشّعب كما هي العادة[12]. ممّا يوضح جليّا علاقة الكنيسة المارونيّة برأس الكنيسة المنظور بوجه خاصّ؛ وما ذلك إلاّ نموذج عن نظرة الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة جميعها إلى الحبر الرّومانيّ واحترامها لهرميّة الكرسيّ الرّسوليّ. والجدير بالذّكر أنّ المجمع الفاتيكانيّ الثّاني قد سلّط الضّوء على حتميّة الاتّحاد بين الأساقفة والبابا، وساهم في مسألة تنظيم العلاقة أكثر فأكثر بين الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة والبابويّة، على مستوى بطاركتها وأساقفتها، واللقاءات المتعدّدة مع رأس الكنيسة الكاثوليكيّة، والاجتماعات الخاصّة، وزيارة الأعتاب الرّسوليّة، وفقا لما نصّت عليه القوانين الكنسيّة.
- العلاقة مع الكوريا الرّومانيّة:
الكرسيّ الرّسوليّ هو مركز السّلطة الكنسيّة العليا بالنّسبة إلى جميع الكاثوليك في العالم، وهو يتمثّل بقداسة البابا بمعاونة بعض الكرادلة، والأساقفة، والكوريا الرّومانيّة المؤلّفة من المجامع، والمجالس، واللجان الحبريّة، والمحاكم، وبعض المؤسّسات الفاتيكانيّة الأخرى.
- مجمع الكنائس الشّرقيّة
بما أنّ للكاثوليك الشّرقيّين وبطاركتهم وإكليروسهم مكانة خاصّة في قلب الكرسيّ الرّسوليّ وصلب اهتماماته، أنشأ الأحبار الأعظمون دائرة حبريّة خاصّة، تُعنى بشؤون كنيسة المشرق والمؤمنين الكاثوليك من ذوي الطّقوس الشّرقيّة المتنوّعة، كي تهتمّ بأحوالهم وتعنى بقضاياهم؛ وبالرّغم من تبدّل اسم تلك الدّائرة عبر التّاريخ وتعديل صلاحيّاتها وتوسيع مهامّها، فهي لم تتوانَ يوما في القيام بواجباتها نحوهم على مختلف الأصعدة.
يعود أصل مجمع الكنائس الشّرقيّة إلى السّادس من كانون الثّاني عام 1862، إلاّ أنّ البابا بولس السّادس عام 1967 أطلق عليه اسم “مجمع الكنائس الشّرقيّة” .Congregatio pro Ecclesiae Orientali
إنطلاقا من “الحفاظ على حقّ الحبر الرّومانيّ الذي لا يتغيّر من ناحية التّدخّل في بعض القضايا” Salvo inalienabili Romani Pontificis iure in singulis casibus interveniendi على حدّ قول المجمع الفاتيكانيّ الثّانيّ (ك ش 9)، يعاون مجمعُ الكنائس الشّرقيّة قداسةَ البابا في العناية بشؤون الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة، وهو يحلّ في المرتبة الثّانية بعد مجمع العقيدة والإيمان بالنّسبة إلى التّراتبيّة الفاتيكانيّة، رغم أنّ المجامع والمجالس الحبريّة عموما، متساوية من النّاحية القانونيّة.
يُعتبر هذا المجمع، بمثابة السّلطة العليا أو المرجعيّة العليا لكلّ الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة، وهو يمارس سلطته على الأشخاص والأشياء؛ إذ له بحكم القانون الكنسيّ على البطريركيّات والأبرشيّات والأساقفة والإكليروس والرّهبان والرّاهبات والعلمانيّين من الطّقوس الشّرقيّة الكاثوليكيّة، الصّلاحيّات عينها التي لمجمع الأساقفة ولمجمع مؤسّسات الحياة المكرّسة ومنظّمات الحياة الرّسوليّة، ولمجمع التّربية الكاثوليكيّة على الكاثوليك ذويّ الطّقس اللاتينيّ.
يحتفظ المجمع ببعض اللجان، نذكر منها “لجنة الدّراسات حول الشّرق المسيحيّ”، وهي تهدف إلى دراسة الوثائق والمبادرات التي بإمكانها أن تعرّف الشّرق المسيحيّ إلى الكاثوليكيّة الغربيّة، ومواصلة التّعمّق بالأبحاث حول تراثات الكنائس الشّرقيّة وهذا ما يقوم به كبار البحّاثة والمستشرقين واللاهوتيّين والليتورجيّين والقانونيّين برعاية من المجمع وتطبيقا لدعوة المجمع الفاتيكانيّ الثّاني إلى إعادة تعزيز تراث تلك الكنائس وإنعاش إرثها الفكريّ واللاهوتيّ والطّقسيّ؛ ثمّ “لجنة تنشئة الإكليروس والرّهبان” التي تعنى بتنشئة الطّلاّب الشّرقيّين في روما على اختلاف انتماءاتهم وتقاليدهم وهذا ما يظهر جليّا مدى اهتمام الكرسيّ الرّسوليّ بكنائسنا؛ إلى جانب لجنة (R.O.A.C.O) أي “تجمّع المؤسّسات لمساعدة الكنائس الشّرقيّة”، وهي تضمّ مجموعة مكاتب ووكالات من مختلف أنحاء العالم، وتقوم ببعض المساعدات الماليّة لإنشاء المباني الكنسيّة والاجتماعيّة في بعض بلدان الكنائس المشرقيّة، وتأمين المنح الدّراسيّة، وإعانة المؤسّسات التّربويّة والمدرسيّة، وخدمة الأشخاص الذين يعتمدون على المساعدات الاجتماعيّة والصّحّيّة.
كما تشمل سلطة المجمع، عمليّا، بلدان الشّرق الأوسط والهند والحبشة وأوروبا الشّرقيّة وغيرها من البلدان التي يتواجد فيها شرقيّون كاثوليك.
ثمّة ستّ موادّ في دستور الكوريا الرّومانيّة “الرّاعي الصّالح” [13]Pastor Bonus تحدّد الخطوط العريضة لصلاحيّات المجمع (61-56)؛ إذ تحقّ له بموجبها معالجة جميع المواد التي تتناول الأشخاص الشّرقيّين وأمورهم التي يعود البتّ فيها للكرسيّ الرّسوليّ، من النّاحية الهيكليّة أو التّنظيميّة وممارسة الخدمة التّعليميّة والتّقديسيّة والإداريّة، ناهيك عن الاهتمام بأوضاع الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة عموما، وبحقوقها وواجباتها، وهو يرعى أيضا شؤون الشّرقيّين الكاثوليك المقيمين في الأماكن الخاضعة لولاية الكنيسة اللاتينيّة[14].
- حقّ اللجوء إلى الكرسيّ الرّسوليّ
أكّد المجمع الفاتيكانيّ الثّانيّ إستقلاليّة الكنائس البطريركيّة الشّرقيّة الكاثوليكيّة[15]. إلآّ أنّ المقصود بهذا التّعبير بالطّبع، إستقلاليّة نسبيّة فقط (Une autonomie relative) وإلاّ فقدت تلك الكنائس كاثوليكيّتها. وقد أعلن “بطريقة رسمية أنّ من حقّ الكنائس الشّرقيّة والكنائس الغربية بل من واجبها، أن تحكم نفسها وفقاً لأنظمتها الخاصّة الذّاتيّة”. نظرا “لجلال قدمها”، وأن “تتوافق أكثر مع عادات مؤمنيها ولكن ليس من أجل السّلطة والحكم، بل “لتضمن للنّفوس خيراً عميقاً” (ك ش 5).
إلاّ أنّ هذا الحكم الذّاتي الذي يشير إليه نصّ الوثيقة يخضع أوّلا وآخرا للحبر الرّومانيّ الذي له حقّ التّدخّل بقوّة القانون في كلّ المسائل والقضايا إذا شاء ذلك. وعليه، فإنّ سلطة البطريرك لا تمتدّ إلى خارج حدود الرّقعة البطريركيّة، بحسب الإيضاح الصّادر عن مجمع الكنائس الشّرقيّة في 25 آذار 1970.
كما يحدّد المجمع الفاتيكانيّ المسائل التي يحقّاللجوء بها الى الكرسيّ الرّسوليّ، وهي تتعلّق بالأمور الخاصّة “بالأشخاص، والجماعات، والمناطق”. أمّا الكرسيّ الرّسوليّ كونه “حكماً سامياً للعلاقات بين الكنائس”، فيجب أن يلبّي الحاجات بروح مسكونيّة، “بذاته أو بسلطات أخرى، معطياً من القواعد والمراسيم والأوامر ما يراه موافقاً” (ك ش 4). ممّا يستوجب في اعتقادنا شرحا قانونيا لبعض “الكلمات-المفاتيح” الواردة بين السّطور بغية توضيح ما يقصده نصّ القرار المجمعيّ حول “الكنائس الشّرقيّة” وترجمته قانونيّا وتطبيقيّا.
- الأمور الخاصّة بالأشخاص
من المعروف في القانون الكنسيّ أنّ لكلّ كاثوليكيّ حقّ اللجوء إلى الحبر الرّومانيّ الذي تنوط بسلطانه رعاية الكنيسة الكاثوليكيّة جمعاء، وله أن ينظر في كلّ المسائل بذاته أو بسلطات أخرى نظير أعضاء الكوريا الروّمانيّة والممثّلون الحبريّون الذين يقومون باسم البابا وبسلطانه بالمهمّة الموكولة إليهم في سبيل خير الكنائس جمعاء بحسب القواعد التي يقرّها قداسته (ق. 46 -البند 1).
نوجز في هذا السّياق أهمّ المسائل المتعلّقة بالأشخاص والمنوطة بدوائر الكرسيّ الرّسوليّ المتعدّدة وخصوصا مجمع الكنائس الشّرقيّة وهي إمّا تُرفع إلى الأب الأقدس وإمّا يُبتّ فيها باسمه، بموجب الصّلاحيات الممنوحة منه:
مسألة تعيين الأساقفة (ق. 181 البند 2؛ 149؛ 168)؛ قضيّة قبول أسقف شرقيّ غير كاثوليكيّ في الكنيسىة الكاثوليكيّة وممارسة سلطته (ق. 898 البند 1؛ 899)؛ تخلّي الأسقف عن مهامه خارج حدود الولاية البطريركيّة (ق. 210 البند 2)، تعيين المدبّر الرّسوليّ (ق. 234)؛ التّفسيح من وثاق البتوليّة في حالات معيّنة (ق. 397)؛ التّفسيح من الدّرجة المقدّسة (ق. 795 البند 1-1)؛ حلّ الزوّاج الصّحيح غير المكتمل (ق. 862)؛ فسخ الزّواج (ق. 1384)؛ الموافقة على تعيين المعتمد البطريركيّ لدى الكرسيّ الرّسوليّ (ق. 61)؛ التّدخّل في تعيين البطريرك في حال عدم إنجاز الإنتخاب خلال المدّة المحدّدة في القانون (72 البند 2)؛ تلقّي رسالة سينودوس الأساقفة عن إنتخاب البطريرك بغية طلب رسالة “الشّركة الكنسيّة” من الحبر الرّومانيّ (ق. 76 البند 2)؛ الاهتمام بتسليم التّقرير السّنويّ الذي يوجّهه البطريرك إلى قداسة البابا عن حالة الكنيسة البطريركيّة المعيّنة وتحضير زيارة البطريرك للحبر الأعظم (ق. 92 البند 3)؛ النّظر في مسألة الأساقفة الذين يرتكبون خطأ جسيما عبر رسالة يوجّهها البطريرك إلى قداسة البابا إن لم تتصّلح الأمور محلّيّا (ق. 95 البند 2)؛ الموافقة على المعاهدات التي يبرمها البطريرك مع السّلطات المدنيّة (ق. 98)؛ تعيين المرّشحين إلى الأسقفيّة من الكنائس البطريركيّة خارج رقعة الكنيسة البطريركيّة وذلك بعدما يعرض البطريرك أسماء المرشّحين المنتخبيبن من السّينودس (ق. 149)؛ الموافقة على المرشّحين على الأسقفّيّة (ق. 182 البند 3-4؛ 184 البند 1؛ 185)؛ إحالة قضيّة الأسقف الذي يغيب عن أبرشيّته خلافا للقانون (204 البند 4)؛ تثبيت انتخاب رئيس الأساقفة الكبير (ق. 153 البند 2-4)؛ تعيين ميتروبوليت الكنيسة المتروبوليتيّة المستقلّة (ق. 155 البند 1)؛ منح الميتروبوليت درع التّثبيت (ق. 156 البند 1)؛ الاهتمام بزيارة الميتروبوليت الأعتاب الرّسوليّة كلّ خمس سنوات (ق. 163).
- المسائل الخاصّة بالجماعات
أمّا المسائل التي تتعلّق بالجماعات فهي:
تعود للكرسيّ الرّسوليّ الموافقة على عقد مؤتمرات رؤساء مختلف الكنائس الشّرقيّة ومقرّراتها (322)؛ طاعة الكهنة والجماعات الرّهبانيّة لشخص الحبر الرّومانيّ (ق. 370؛ 427) كرئيسهم الأعلى (ق. 412؛ 555؛ 564)؛ خضوع الرّهبان الذين يتولّون منصب بطريرك أو أسقف أو إكسرخوس، للحبر الأعظم؛ (431 البند 2 رقم 1)؛ النّظر بخلافات الأساقفة فيما بينهم (ق. 88 البند2)؛ تلقّي الأعمال والمقرّرات القانونيّة الصّادرة عن مجلس الأساقفة (ق. 111 البند 3)؛ النّظر في استقالة البطريرك من منصبه (ق. 126 البند 2).
ه. الأمور المتعلّقة بالمناطق
ثمّة أيضا بعض النّقاط الهامّة المرتبطة بالمناطق:
الحبر الرّومانيّ هو المدير الأعلى للخيور الكنسيّة (ق. 1008) وهذا يشمل كلّ مناطق انتشار الكنيسة الكاثوليكيّة جغرافيّا. ضرورة قبول الكرسيّ الرّسوليّ موضوع انتقال الكرسيّ البطريركيّ من مكان إلى آخر (ق. 57 البند 3). القرار في شأن حدود منطقة الكنائس البطريركيّة وهذا يعود إلى قداسة البابا وحده (ق. 146 البند 2). تحديد الشّرع الخاصّ للكنائس التي هي ليست ببطريركيّة ولا بأسقفيّة ولا بميتروبوليتيّة (ق. 174).
- بين روح المجمع المسكونيّ وحرف القوانين
نشأت البطريركيّات الشّرقيّة وأصبحت كلّ واحدة مستقلّة –إلاّ في موضوع الإيمان- في انتخاب بطاركتها وأساقفتها وتدبير شؤون أبرشيّاتها واستحداث أبرشيّات جديدة وسنّ قوانينها الخاصّة وحلّ مشاكلها الإداريّة وتنظيم شؤونها مع شعبها وإكليروسها، من دون أي انتقاص من منزلة الكرسيّ الرّسوليّ[16].
اعترف المجمع الفاتيكانيّ الثّاني صراحة بالحكم الذّاتي للكنائس البطريركيّة الكاثوليكيّة التي يؤلّف بطاركتها مع مجامعهم المرجع الأوّل في كلّ أمورها، إذ لهم الحقّ في إنشاء أبرشيّات جديدة وانتخاب أساقفة من كنائسهم ضمن حدود أرض الولاية البطريركيّة، بَيْد انّه ربط كلّ ذلك بمبدأ المحافظة على “حقّ الحبر الرّومانيّ الذي لا يتغيّر بالتّدخّل في بعض القضايا”، ممّا جعل هذه الاستقلاليّة بالتّاكيد نسبيّة ومحدودة (ك ش 9). لا ضير في ذلك، ما دام الهدف معروف وهو المحافظة على جوهر الشّراكة الكاثوليكيّة والوحدة الكنسيّة بين كلّ تلك الكنائس التي يوحّدها رأس هرم واحد منظور هو قداسة البابا. غير أنّ التّشريع القانونيّ الحاليّ وشرحه وتطبيقه في بعض الدّوائر، قد حدّ كثيرا من رغبة المجمع الفاتيكانيّ في إعادة تلك الحقوق والامتيازات القديمة إلى البطاركة والكنائس البطريركيّة، ممّا قد قلًّص صلاحيّات البطاركة ودورهم في الحكم والتّشريع والقضاء.
وفي الوقت الذي قرّر فيه المجمع المسكونيّ المذكور إعادة الكثير من تلك الحقوق والامتيازات للكنائس المشرقيّة باعتبارها “كانت قائمة من زمن الوحدة بين الشّرق والغرب”، كتلك التي أقرّها المجمع النّيقاويّ ويتمتّع بها الكرسيان الإسكندريّ والأنطاكيّ، باعتراف من الكرسيّ الرّسوليّ لهاتين البطريركيّتين بأن يتدّبرا رعاياهما باسم القدّيس بطرس رأس الكنيسة وباسم الحبر الرّومانيّ[17]، نرى التّشريع الكنسيّ الشّرقيّ الحاليّ يحكم قبضته على سلطة البطريرك، حيث لا يعطي أيّ تحديد لسلطان الحكم البطريركيّ، بالرّغم من أنّ مفهوم هذا “السّلطان” في اللغة القانونيّة الكنسيّة عموما واسع الإطار، إذ يعني ممارسة الحكم على المعمَّدين، في سبيل اقتيادهم نحو الخلاص الأبديّ، وهو بالتّالي يحتاج إلى تحديد وتفسير[18].
لذا، باتت الصّلاحيّات المنبثقة من “السّلطة التّنفيذيّة” لدى البطريرك، محدودة جدّا حيث مُنح عددٌ كبير منها لمجمع أساقفة الكنيسة البطريركيّة. ويعرف الباحثون في الحقل القانونيّ الكنسيّ أنّ مسألة إرساء التّوازن بين سلطة البطريرك “الخاصّة” وصلاحيّات مجمع الأساقفة كانت موضوع نقاشات واسعة من قِبل الأعضاء المستشارين في لجنة مراجعة قانون الهرميّة الكنسيّة الشّرقيّة، في دورتَيها الأولى عام 1985 والثّانية عام 1986[19]. فتثبّتت بذلك نظريّة القانونيّ البارز سلاخس Salachas، وهي أنّ الحكم في الكنيسة البطريركيّة كان لمجمع الأساقفة منذ تأسيس المسيحيّة[20].
- ملء الكهنوت وملء الشّراكة الكنسيّة
ردّد البابا الطّوباويّ يوحنّا بولس الثّاني في رسالته “رعاة القطيع” صدى مبادئ الفكر الكنسيّ الكاثوليكيّ العام، وهو أنّه بمجرّد كون أسقف رومة خليفة الطوباويّ بطرس نفسه، وأن جميعَ الأساقفة، في مجملهم، هم خلفاءُ الرسل، فالحبرُ الرومانيُّ والأساقفةُ هم على اتحاد في ما بينهم على شكل جماعة. إنّها هيئة الأساقفة تقوم على أساس شراكة المحبّة وقد أسماها البابا المذكور «المودّة الجماعيّة»، أو جماعة المحبّة التي تولّد اهتمام الأساقفة بالكنائس الأخرى الخاصّة وبالكنيسة الجامعة. فالأسقف لا يجب أن يكون وحده البتّة، لأنه متّحد، على الدوام مع إخوته في الأسقفية ومع ذاك الذي اختاره الربُّ خليفةً لبطرس. إنّ مثل تلك المودّة الجماعيّة تتحقّق بمختلف الطرق، وعلى صعيد المؤسّسات، كسينودس الأساقفة مثلاً، والمجامع الخاصّة ومجالس الأساقفة والدّوائر الفاتيكانيّة، وزيارات الأعتاب الرّسوليّة Visita ad liminaوالتّعاون الرّسوليّ[21].
فالأسقفيّة هي ملء الكهنوت الذي يقوم على أساس ملء الشّراكة الكنسيّة، إذ يتمّ بدعوة خاصّة من الرّوح القدس عبر الانتخاب أو التّعيين والسّيامة المقدّسة. تبدّلت طريقة انتخاب الأساقفة والبطاركة الكاثوليك عبر التّاريخ، إلاّ أنّ جوهر الشّراكة لم يتبدّل حتّى لو تغيّر شكله مع مرور الزّمن.
يذكر كتاب “التّقليد الرّسوليّ” الذي كتبه هيبوليتس الرّوماني بين سنة 210 و 214 ما يلي: “يُرسم أسقفا ذاك الذي ينتخب من الشّعب، ab omni populo. فعندما يُعلن اسمه وتعلن النّتائج، يجتمع الشّعب نهار الأحد إلى جانب مجلس الكهنة، والأساقفة الذين يحضرون وبعد نيل المرشح رضى الجميع، يضع الأساقفة أيديهم بينما مجلس الأساقفة يظلّ واقفا”[22].
هذا كان منذ القديم، أمّا بالنّسبة إلى المجمع الفاتيكانيّ الثّاني فثمّة أهميّة كبيرة للسّيامة الأسقفيّة من ناحية السّلطان الكنسيّ. إذ أقرّ آباء المجمع ما يسمّى بملء السّلطان المقدّس الذي يكتسب بفعل التّكريس الأسقفيّ.
أمّا اليوم فقد أصبح الكرسيّ الرّسوليّ وحده المحقّقّ والمدقّق في أسماء جميع المرّشحين على الأسقفيّة المنتخبين من سينودس الأساقفة، بانتظار أن يثبّت البابا انتخابهم داخل حدود الولاية البطريركيّة أو يعلن تعيينهم خارجها، وله بكِلتي الحالتين “حقّ النّقض المطلق” على من يشاء –إن جاز التّعبير-. كما له حقّ التّدخّل في انتخاب البطريرك نفسه في حال مضت فترة خمسة عشر يوما على عدم انتخاب أي مرشّح (ق. 72 البند 2). – لا ضير، ما زال كلّ شيء منوط بسلطان الحبر الرّومانيّ الذي له الحق الدّائم بالتّدخّل in singulis casibusأيبالحالات الخاصّة-. والجدير بالذّكر فيما يخصّ تعيين الأساقفة خارج حدود الولاية البطريركيّة، أنّه كان يتمّ ذلك باقتراح أسمائهم مباشرة من قِبل مجمع الكنائس الشّرقيّة على الحبر الرّومانيّ من دون أي دور يُذكر لمجلس أساقفة الكنيسة البطريركيّة، أمّا بعد المجمع الفاتيكانيّ الثّاني فقد تبدّل الأمر وأصبح لمجلس الأساقفة أن ينتخب ثلاثة مرشّحين يرسلهم إلى مجمع الكنائس الشّرقيّة كي يختار الأب الأقدس اسما منهم بتوصية من هذا الأخير (ق. 149). يعود الفضل في ذلك، إلى الفكر الكنسيّ الجديد الذي نشره المجمع الفاتيكانيّ الثّاني في قلب الكنيسة (ك ش 9)[23].
وفيما يتعلّق بالبطريرك، فهو يحصل بفعل انتخابه على ملء سلطان الحكم في الكنيسة البطريركيّة Potestas regiminis لكنّ إمكانيّة ممارسة سلطته تصبح جائزة عند توليته المنصب البطريركيّ (ق. 77 الفقرة 1). وبُعَيد التّولية عليه أن يطلب من قداسة البابا الشّركة الكنسيّة Ecclesiastica communion ليمكنه بعد ذلك دعوة مجلس الأساقفة إلى الانعقاد واختيار أساقفة عند الحاجة ورسمهم. والجدير ذكره، أنّه كان يجب على البطريرك في السّابق طلب ما يسمّى درع التّثبيت Pallium أو “الدّرع المقدّس” الذي يرمز إلى ملء المهام الحبريّة Plenitudo pontificalis office الموكولة إلى البطريرك على ما جاء في القانون رقم 283 من الإرادة الرّسولية “Cleri sanctitati”.
نورد على سبيل استذكار التّاريخ لتقييم الحاضر، بعض ما ورد في رسالة رئيس أديار القدس الأخ فرنسيس سوريانوس إلى بطريرك الموارنة بطرس الحدثيّ الرّابع، سنة 1494، وذلك على سبيل المثال لا الحصر وهو أنّ البطريرك المارونيّ نفسه كان يُختار من الشّعب بكلام ظاهر وبالإجماع(Plein consentement) ، على أن يكون طائعا للكرسيّ الرّسوليّ وخاضعا لسنن قداسة البابا، ثمّ يرسم بطريركا على يد ثلاث أساقفة، لكنّه لا يدعى بطريركا حقيقيّا حتّى يحضر شخصيّا أو يعلم الكرسيّ الرّسولي بخطّ يده عن موضوع انتخابه من الشّعب كي ينال براءة التّثبيت[24].
يرى بعض الباحثين القانونيّين نظير McAreavey و Kovalenkoأنّ مسألة منح “الشّركة” للبطريرك كإعطاء صلاحيّة إداريّة لممارسة سلطته وولايته عدا عن أّنّها ليست من مميّزات التّقليد الشّرقيّ، فهي غريبة عن طبيعة الكنيسة كَسِرّ[25].
وما زال البطاركة الكاثوليك حتّى اليوم بعد انتخابهم، يطلبون خطّيّا من قداسة البابا عبر مجمع الكنائس الشّرقيّة، مرسوم “الشّركة الكنسيّة”، واعدين بالأمانة للخدمة العظيمة التي آلت إليهم، والطّاعة الكاملة لشخص الحبر الرّومانيّ، كنائب السّيّد المسيح على الأرض وخليفة القدّيس بطرس.
- التّنسيق الدّائم
بثّ المجمع الفاتيكانيّ الثّاني في رئتي الكنيسة الكاثوليكيّة الغربيّة والشّرقيّة فكر التّحاور والتّشاور والتّلاقي والتّنسيق، عبر السّفارات البابويّة، والتّواصل المباشر بين البطاركة والكرسيّ الرّسوليّ من خلال اجتماعات ولقاءات وسينودسات… فثمّة بطاركة أعضاء في مجامع ومجالس حبريّة، وأساقفة أعضاء ومستشارون في لجان حبريّة، وتعاون دائم في كلّ مكان، وتعلّق بنويّ من الشّرقييّن الكاثوليك بالأب الأقدس، كما أنّ هناك اهتماما كبيرا من قبل الباباوات أنفسهم والدّوائر الفاتيكانيّة بأمور الشّرقيّين وقضاياهم.
نذكر على سبيل المثال لا الحصر، ذلك الحدث الفاتيكانيّ الذي تمّ في الآونة الأخيرة، من 19 إلى 22 تشرين الثّاني المنصرم، وهو انعقاد الجمعيّة العموميّة لمجمع الكنائس الشّرقيّة، وقد ضمّت 28 عضوًا بين بطاركة ورؤساء أساقفة وكرادلة وكهنة يمثّلون الكنائس المارونية والبيزنطيّة والكلدانية؛ وقد تمحورت على مدى تأثير المجمع الفاتيكانيّ الثّاني لدى مسيحييّ الشّرق والوثائق الصّادرة عن المجمع بهذا الخصوص، بهدف “التّحقّق من الوعي المتزايد للكنيسة الجامعة بالنّسبة إلى كاثوليكييّ الشّرق على ضوء ظاهرة الهجرة”.
أمّا من ناحية العلاقة القانونيّة للتّنسيق الدّائم فيجب على البطاركة أن يحافظوا على الأمانة والإكرام والطّاعة الواجبة لراعي الكنيسة الجامعة، عبر تواصل متواتر وكتابات يشرحون فيها أوضاع كنائسهم، والقيام بزيارات عديدة إلى كرسيّ بطرس في روما. ومن ناحية أخرى، قد حدّد القانون 61، حقّ البطريرك بإرسال معتمد بطريركيّ لدى الكرسيّ الرّسوليّ يمثّله في دوائر الحكم الرّسوليّة ويهتمّ بمصالح الكنيسة البطريركيّة وشؤونها لدى الدّوائر الفاتيكانيّة. إلاّ أنّ هذا المعتمَد يجب أن ينال موافقة الحبر الرّومانيّ مسبقا من خلال مجمع الكنائس الشّرقيّة، بعدما يرسل البطريرك طلبا بذلك إلى المجمع المذكور حيث يتولّى هذا الأخير العناية بالأمر عبر الأصول المتّبعة لدى الكرسيّ الرّسوليّ. يقوم المعتمَد البطريركيّ بمهمّة التّنسيق الدّائم بين البطريركيّة ودوائر الفاتيكان في كلّ المسائل الواجبة. وينطبق الأمر عينه على وكلاء الرّهبانيّات الحبريّة الذين يمثّلون رهبانيّاتهم لدى الكرسيّ الرّسوليّ.
وعليه، ذهب البابا يوحنّا بولس الثّاني في رسالته “نور الشّرق” إلى أبعد من القانون في مسألة التّنسيق الدّائم والمتبادل، متعهّدا أنّ في ما يخصّ جماعات الغرب، ستأخذ على نفسها أن تتقاسم، مشاريع خدمة مع كنائس الشّرق، أو أن تسهم في تحقيق ما تقوم به من خدمات لشعوبها…
إنّ إحدى الوسائل المهمّة للنموّ في التّفاهم المتبادل وفي الوحدة تقوم على التّعمّق في المعرفة المتبادلة، كالتّعرّف إلى ليتورجيّة الكنائس الشّرقيّة، والتّعمّق في معرفة التّقاليد الرّوحيّة لآباء الشّرق المسيحيّ وملافنته… وتنشئة لاهوتيّين وليتورجيّين ومؤرّخين وقانونيّين في المعاهد المتخصّصة في علوم الشّرق المسيحيّ، يستطيعون أن ينشروا بدورهم معرفة الكنائس الشرقية…[26].
الخاتمة
أراد المجمع الفاتيكانيّ الثّاني على ما قاله البابا الكبير بولس السّادس: “تنظيف وجه الكنيسة وإعادة النضارة إليه”[27]، فدعا الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة بإلحاح إلى التعلّق بجذور إيمانها وأصالة تقاليدها، وتعزيز ثقتها بإدارة شؤونها عبر حفظ وحدتها الكاملة مع الكنيسة الكاثوليّكيّة الجامعة، وطاعتها للحبر الأعظم التي تقوم على المحبّة والاحترام والتّواصل. وبالرّغم من أنّ بعض القوانين الكنسيّة اللاحقة قد حجبت عنها بعض الامتيازات، فقد حسم الأمر في ذلك البابا يوحنّا بولس الثّاني، إذ قال: “إنّ مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة التي تظهر الآن إلى العلن يجب أن تعدّ تكملة جديدة لتعليم المجمع الفاتيكانيّ الثّاني يتمّ بها أخيرا التّنظيم القانونيّ للكنيسة جمعاء”[28]. وهكذا أصبحت علاقة الكنائس الشّرقيّة الكاثوليكيّة مع الكرسيّ الرّسوليّ أكثر تنظيما وتنسيقا وإصلاحا، على قاعدة البابا بولس السّادس المذكور آنفا، أنّه “لا يجوز لنا أن نفهم بالإصلاح تغييراً، بل بالأحرى توطيداً للأمانة التي تحفظ للكنيسة المحيّا الذي وسمها به المسيح ذاته”[29].
المصادر
- المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني، الوثائق المجمعيّة، نقلها إلى العربيّة، يوسف بشارة، عبد خليفة، فرنسيس البيسريّ، طبعة ثالثة منقّحة، مطابع يوسف وفيليب الجميّل، 1989.
- مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة، منشورات المكتبة البولسيّة، الطّبعة الأولى، بيروت-لبنان، 1993؛
- فهد بطرس، الكنائس الشّرقيّة عبر التّاريخ، مطابع الكريم الحديثة، جونيه-لبنان، 1972؛
- فهد بطرس، مجموعة المجامع الطّائفيّة المارونيّة عبر التّاريخ، مطابع الكريم الحديثة، جونيه-لبنان، 1975؛
- يوحنّا بولس الثّاني، رعاة القطيع، Pastores gregis، حاضرة الفاتيكان، 2003؛
- يوحنّا بولس الثّاني، نور الشّرق Orientale Lumen، رسالة رسوليّة، منشورات اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام، جلّ الدّيب لبنان، د.ت؛
- Acta Apostolicae Sedis, 80 (1988) 874-876.
- Aa.Vv., Ius Ecclesiarum Vehiculum Caritatis, Atti del simposio internazionale per il decennale dell’entrata in vigore del Codex Canonum Ecclesiarum Orientalium, Congregazione per le Chiese Orientali, Liberria editrice vaticana, 2004;
Al-Ghaziri, B. G., Rome et l’Eglise Syrienne-Maronite d’Antioche (517-1531), Thèses, Documents, Lettres, Imprimerie des Belles Lettres Khalil Sarkis, Beyrouth, 1906;
- Conciliorum Oecumenicorum Decreta (COD), a cura di G. Alberigo – G. L. Dossetti- P. P. Joannou- C. Leonardi P. Prodi, dell’Istituto per le scienze religiose, EDB, Boglogna, 1996;
- Garcia, M. J., Le norme generali del Codex Iuris Canonici, Ediurcla, Roma, 1996;
- Maccarrone, M., Lo sviluppo dell’idea dell’episcopato nel II secolo e la formazione del Simbolo della cattedra episcopale, [s.n.], Milano, 1970;
- Nuntia: 22 (1986) 3-7;
- Parlato, V., L’Ufficio patriarcale nelle Chiese Orientali dal IV al X secolo, CEDAM, Padova, 1969;
- Pinto, V., Commento al Codice dei Canoni delle Chiese Orientali, Corpus Iuris Canonici II, Libreria Editrice Vaticana, Cittàdel Vaticano, 2001;
- SACRA CONGREGAZIONE ORIENTALE, Codificazione Canonica Orientale, (a.c.d.) P. Hindo, Fonti, Disciplina Antiochena Antica, Les Personnes, Serie 11, fasc. XXVII, Città del Vaticano, 1951;
- Salachas, D., Il Diritto Canonico delle Chiese Orientali nel primo millennio, EDB, Bolgogna-Roma, 1997;
- Salachas, D., Istituzioni di Diritto Canonico delle Chiese Cattoliche Orientali, EDB, Roma-Bologna, 1993.
[1] سوف نستعمل في سياق البحث المصطلح (ك ش) للدّلالة على القرار المجمعيّ في الكنائس الشّرقيّة.
[2] يوحنّا بولس الثّاني، نور الشّرق Orientale Lumen، رسالة رسوليّة، منشورات اللجنة الأسقفيّة لوسائل الإعلام، جلّ الدّيب لبنان، د.ت.، رقم 5.
[3] سنستعمل في سياق البحث المصطلح (ق.) للدّلالة على مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة.
[4] Cf. M. Maccarrone, Lo sviluppo dell’idea dell’episcopato nel II secolo e la formazione del Simbolo della cattedra episcopale, Milano 1970, p. 11.
[5] Cf. SACRA CONGREGAZIONE ORIENTALE, Codificazione Canonica Orientale, (a.c.d.) P. Hindo, Fonti, Disciplina Antiochena Antica, Les Personnes, Serie 11, fasc. XXVII, Città del Vaticano 1951, p. 168.
[6] Cf. V. Parlato, L’Ufficio patriarcale nelle Chiese Orientali dal IV al X secolo, Padova 1969, p. 11.
[7] Cf. Nuntia, 22 (1986) 43.
[8] Cf. Conciliorum Oecumenicorum Decreta (COD), a cura di G. Alberigo – G. L. Dossetti- P. P. Joannou- C. Leonardi – P. Prodi, dell’Istituto per le scienze religiose, EDB, Boglogna 1996. C. 6, pp. 8-9.
[9] Cf. Salachas, Il Diritto Canonico delle Chiese Orientali nel primo millennio, EDB, Bolgogna-Roma, 1997, p. 65.
[10] Cf. Salachas, Istituzioni di Diritto Canonico delle Chiese Cattoliche Orientali, EDB, Roma-Bologna, 1993, p. 144.
[11] Cf., P. Vito Pinto, Commento al Codice dei Canoni delle Chiese Orientali, Corpus Iuris Canonici II, Libreria Editrice Vaticana, Citta del Vaticano, 2001, p. 56.
[12] راجع بطرس فهد، مجموعة المجامع الطّائفيّة المارونيّة عبر التّاريخ، مطابع الكريم الحديثة، جونيه-لبنان، 1975، ص.66-67.
[13] صدر عن البابا يوحنّا بولس الثّاني عام 1988.
[14] A.A.S., 80 (1988) 874-876.
[15] Cf. L. Kovalenko, “Communio ecclesitastico del Patriarca con il Romano Pontefice” in Ius Ecclesiarum Vehiculum Caritatis, Atti del simposio internazionale per il decennale dell’entrata in vigore del Codex Canonum Ecclesiarum Orientalium, Congregazione per le Chiese Orientali, Liberria editrice vaticana, 2004, P. 784.
[16] راجع، بطرس فهد الكنائس الشّرقيّة عبر التّاريخ، مطابع الكريم الحديثة، جونيه-لبنان، 1972، ص. 14-15.
[17] المرجع نفسه، ص. 10-11.
[18] Cf. J. Garcia Martin, Le norme generali del Codex Iuris Canonici, Roma 1996, p. 467.
[19] Cf. Nuntia, 22 (1986) 3-7.
[20] Cf. D. Salachas, Istituzioni di Diritto…, p. 143.
[21] يوحنّا بولس الثّاني، رعاة القطيع، Pastores gregis، حاضرة الفاتيكان، 2003، رقم 8.
[22] Cf. O. Bucci, “Il Collegio dei Vescovi nelle sue origine” in Ius Ecclesiarum Vehiculum…, P. 218.
[23] Cf., P. Vito Pinto, Commento…, p. 143.
[24] Cf. B. G. Al-Ghaziri, Rome et l’Eglise Syrienne-Maronite d’Antioche (517-1531), Thèses, Documents, Lettres, Imprimerie des Belles Lettres Khalil Sarkis, Beyrouth, 1906, pp. 112-113.
[25] Cf. L. Kovalenko, “Communio ecclesitastico del Patriarca con il Romano Pontefice” in Ius Ecclesiarum Vehiculum…, P. 784.
[26] يوحنّا بولس الثّاني، نور الشّرق… 22-24.
[27] بولس السّادس، كنيسة المسيح، Ecclesiam suam، رسالة عامّة، 1964، رقم 46.
[28] مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة، منشورات المكتبة البولسيّة، الطّبعة الأولى، بيروت-لبنان، 1993، ص. 17.
[29] بولس السّادس، كنيسة المسيح…، 49.