Almanara Magazine

صيغ الإيمان

الخوري روفايل زغيب

الإيمان هو نعمة من الله، هو فعل الإنسان بكليّته، فيه يعبّر الإنسان عن الإرتباط بالله كما يكشف هو عن ذاته ويخلّص. هذا الفعل يظهر في حياة المسيحي كلها ولكن بشكل خاص في بعض الظروف: عندما يعترف ويعلن إيمانه من خلال كلمات فيعبّر عن محتوى الإيمان بين المؤمنين (الليتورجيا والأسرار)، ليجيب على الهرطقات أو أمام غير المؤمنين، أو عندما يشهد بحياته حتى الموت لثبات ايمانه (الشهادة). منذ البداية وتحت ضغط عوامل داخلية وخارجية، تعيش الكنيسة رسالة شهادة (1بط3، 15) وبقدر ما تظن بأنها تصل إلى قلب الرسالة الموكولة إليها، ترجو من الله التأييد لكي تبقى أمينة له. لذلك هنالك ركيزة إكليزيولوجية لما نسميه “التعابير الأولى للإيمان”، “المجاهرة بالإيمان” أو “رموز الإيمان”.

يمكن أن يكون للإعترافات الشفهية بالإيمان عدة أشكال، لكن لها كلها شكل مميّز في عدة صيَغ مسماة “رموز إيمانية” أو “النؤمن” التي تجمع كما تعني كلمة رمز (symbole  )المقالات الإيمانية الثلاث التي تعني الآب والابن والروح القدس. من بين الاعترافات الإيمانية التي تناقلها المسيحيون في القرون الأولى ثلاثة تلفت انتباهنا: من جهة رمز نيقيا الذي تطور من خلال مجمع القسطنطينية (رمز نيقيا-القسطنطينية) ومن جهة أخرى رمز الرسل.

لا نستطيع أن نعتبر هذه الصيغ أو الإعترافات وكأنها تكرار بسيط للصيغ الإيمانية البيبلية. نحن هنا بصدد عمل خلاّق وأصيل من قبل الكنيسة وليس عملاً اعتباطياً. إنه عمل مرتبط بجوهر رسالة العهد الجديد.

العنصر الأساسي في تفكيرنا هو أن نعتبر هذه الصيغ الإيمانية، إعترافات أو رموز، كتعابير عن واقع “معاش وعاقل”. هذا الواقع يطبّق على قانون إيمان الكنيسة كما على كل صيغ الإيمان في تاريخ الكنيسة. كلمة “نؤمن”، هي كلمة واعتراف، يسبقها دائماً الخبرة المعاشة التي تفتش عن التعبير والتي من خلال الكلام نستطيع أن نشاركها مع الآخرين.

سنعرض في هذا المقال تاريخ تكوين قوانين الإيمان في الغرب وفي الشرق ومن خلال مراحل تكوين هذه القوانين الإيمانية سوف نستنتج أهمية بنية هذه القوانين ومعناها اللاهوتي ودورها في خبرة الإيمان.

  1. تاريخ قانون الإيمان

دراسة تاريخ قوانين الإيمان تبيّن لنا أنه الثمرة العفوية لحياة الكنيسة في تنوّع تجلّياتها، الجواب على الحاجات التي تحسستها الكنيسة على درجات مختلفة وعلى عدة مستويات وجودها. منذ وقت طويل نبذ الباحثون فكرة وجود صيغة أصليّة وحيدة يمكن اعتبارها الشكل القديم أو النوع الأساسي لكل الأشكال التي تبعتها. لكن كل شكل من هذه الأشكال كان يعتبر أنه يعبّر عن الإيمان الجامع للكنيسة، الإيمان الوحيد. من خلال تعدد الأشكال، كانت قوانين الإيمان تريد أن تكون قاعدة الإيمان الموضوعية: ما نؤمن به، ولا يمكن ابتكاره، ما نقبله ولا نستطيع أن نخترعه. بهذا الشكل فقط يمكن أن تكون “رموزاً” أي علامات اعتراف المسيحيين.

دراسة إعترافات الإيمان تؤكد لنا أن الشكل الإعلاني لقوانين الإيمان ليس هو الشكل الأقدم لإعتراف الإيمان. توضع هذه الإعترافات في إطار ليتورجية العماد وتتكوّن من ثلاثة أسئلة تطرح على طالب العماد خلال التغطيس بالماء “باسم الآب والإبن والروح القدس” (متى 28، 19). أي إن أقدم شكل من أشكال قانون الإيمان يتألف من حوار مثلّث الأجزاء يواكب الإحتفال برتبة العماد ويقوم كل جزء منه على سؤال وجواب.

في بدء القرن الثالث، نجد قوانين إيمان،تمثل التبلور الليتورجي الرسمي لتكوين قوانين الإيمان الذي أعقب ذلك. في ليتورجيا المعمودية، يرافق الحوار بين طالب العماد والمعمِّد التغطيس العمادي المثلّث. يجاهر الكاهن بصيغة قانون الإيمان. يعبّر طالب العماد عن اعتناق الإيمان. بعد كل جواب يقوم الكاهن بوضع يده على رأس المعمَّد ويغطّسه بالماء. لكن تاريخ هذه القوانين يختلف بين الشرق والغرب بتحضير طالبي العماد أثمر التعاليم الدينية (catéchèses) التي كانت تفسر لطالبي العماد “قاعدة الإيمان” (القرن الثاني) المعبَّر عنها بنصوص إيجابية ولم يعد لها بنية استجوابية، وهي أساس الإعتراف التصريحي بالإيمان.

من جهة يجب على طالبي الإيمان أن يحترموا قاعدة السر الغامض (loi de l’arcane)[1]: إعترافات الإيمان تنتمي إلى التعليم السرّي للكنيسة ولا يستطيع أن يفشي به لغير المؤمنين. من جهة ثانية، كلمة “رمز” symbolon لا تعني في البداية الإعتراف الإيماني في المعمودية؛ عند المسيحيين اللاتين، تعود هذه الكلمة إلى حقيقة أوسع، تتطابق مع معنى الكلمة في اليونانية، التي معناها يمكن أن يكون “علامة اعتراف”. الرمز symbolum هو الناحية المنظورة لسر الله والتعبير عنه. في الواقع، التعبير عن الإيمان هو شرط لواقعيته. لأن هذا الإيمان ليس سر يجب المحافظة عليه بغيرة كبيرة، لكن يجب نقله لكي يصبح رباط شركة أخوية، لأن ما يميز الإيمان المسيحي هو حقيقة أنه يُقبل ويُعاش في الكنيسة. لذلك يتميّز بصِيَغ منقولة، علامات اعتراف والتقاء نحو الوحدة في المسيح. يجب أن نؤكّد أن نص “رمز الإيمان” يأتي من سياق لغوي ليتورجي محض. نحن بصدد اعتراف إيمان معلن في وسط جماعة مؤمنة، في الوقت الذي فيه يصبح المعمّد عضواً في الجماعة من خلال طقس العماد.

في الغرب

لكي نحصل على “قانون الرسل” تحت شكله القديم، ما علينا إلاّ أن نحوّل نص المجاهرة بالإيمان من صيغة الاستجواب والحوار إلى صيغة التصريح.

منذ القرن الخامس وربما القرن الرابع، سرت أسطورة تقول بأن أصل هذا القانون يعود إلى الرسل، وبعدها بقليل (من المحتمل أن يكون في القرن الخامس) بلغ الأمر ببعض الدارسين أن ينسبوا إلى كل رسول تأليف أحد البنود الإثني عشر التي منذئذ تبيّن وجودها في مجمل نص قانون الإيمان.

أسطورة قديمة رواها روفينوس في عظة من القرن السابع منسوبة بطريقة خاطئة إلى أغوسطينوس تخبر أنه بعد العنصرة وقبل أن يتشتّتوا في الرسالة، مملوئين من الروح القدس أعلن الاثنا عشر حقائق الإيمان التي تؤلف سلسلتها “قانون إيمان الرسل” الحالي. ساد هذا الاعتقاد حتى القرن الخامس عشر(مجمع فيرارا-فلورنسا)؛ كان يريد أن يعبّر أن قانون الإيمان هذا يتحدّر مباشرة من البشارة الرسولية المعطاة في خطب أعمال الرسل والرسائل. لكن تاريخ قانون الرسل معقّد أكثر من ذلك. منذ القرن الخامس عشر بدأ إبعاد هذه الأسطورة التي انطلقت في القرن السادس وهي أنّ كلاّ من الرسل ألّف أحد المقالات الإثني عشر التي تكوّن قانون الإيمان[2].

لكن هذا الإسناد المنحول يحتوي على عنصر من الحقيقة. إنه بالطبع خاطئ القول بأن الرسل هم الذين ألّفوا قانون الإيمان هذا، والذي هو وثيقة من العهد، الما بعد الرسولي، والذي لا ينتمي إلى الكتب المقدسة. لكنه صحيح أن ننسب هذا القانون إلى سلطة رسولية. تكوين القانون الذي سنحاول رسمه هو يعطينا هذا التأكيد. ليس فقط كل تعابير هذا القانون تأتينا من العهد الجديد، لكن قاعدة الإيمان الحيّة التي ينقلها لنا هي إرث مباشر لاعترافات إيمان كنيسة الرسل. قانون الإيمان هذا يشكّل إذاً القاعدة الرسولية. هو في قلب تقليد الإيمان. هذه المفارقة تغطّي تكويناً بطيئاً يتأصّل في صيغ إيمان العهد الجديد وتصل، من خلال تنوّع غني لقوانين إيمان بعض المؤلِّفين، إلى تكوين صيغ إيمان كنسيّة أصليّة، من خلال خطّين متميّزين بين الشرق والغرب.

النص الحالي لقانون الرسل يعود إلى قانون الإيمان الروماني من القرن الرابع؛ الشهادة الأقدم يعطينا اياها مرسيل دانسير[3]. في القرن الرابع نجد نصاً متتابعاً وقد تخلّص من بنية السؤال-الجواب. كذلك فإن النص الموجود في اللغة اليونانية فيه ما يحمل على الإعتقاد بأنه يعود إلى القرن الثالث، لأن اللغة اللاتينية كانت قد أصبحت لغة الطقوس الدينية في روما إبان القرن الرابع بصورة نهائية. ولم يطل الوقت حتى ظهرت ترجمة لاتينية لقانون الإيمان. ونظراً للموقع الخاص الذي كانت تتنعم به كنيسة روما بالنسبة إلى سائر أقطار الغرب، انتشر القانون الروماني للإيمان المتلو في أثناء رتبة العماد انتشاراً سريعاً في البلدان الناطقة باللاتينية. وقد أدى ذلك إلى حصول سلسلة من التعديلات الخفيفة في النص. أخيراً فرض شارلمان، في أصقاع امبراطوريته كلها نصاً معيّنًا، مستمدًا من الأصل الروماني القديم، هو النص الذي اتخذ شكله النهائي في بلاد غاليا. هذا النص بالذات تبنّته روما في القرن التاسع.

بقي هذا القانون الروماني للإيمان مجهولاً في الشرق. ولكم كانت دهشة ممثلي الكنيسة الرومانية في فلورنسا (القرن الخامس عشر) كبيرة حين علموا من ممثلي اليوناينة بأن هذا القانون الشهير المنسوب إلى الرسل مجهول لديهم. وفي الواقع لم يكن الشرق قد صاغ قط قانون إيمان موحّداً، لسبب بسيط هو أنه ما من كنيسة معيّنة في الشرق كانت تتمتّع بوضع يمكن مقارنته بوضع كنيسة روما المعتبرة الكرسي الرسولي الوحيد في الغرب. ظل الشرق يتصف على الدوام بتعدد قوانين الإيمان التي يبتعد منحاها اللاهوتي بعض الشيء عن منحى القانون الروماني. فقانون الإيمان الروماني (وتالياً قانون الإيمان الغربي ككل) يشدد بنوع خاص على تاريخ الخلاص، على العنصر المسيحاني؛ فهو يتركّز، إذا جاز التعبير في صميم موضوعية التاريخ المسيحي، فيسلّم بديهياً بفكرة تجسّد الله من أجل خلاصنا، من دون الإهتمام بأسباب هذه الحادثة، ومن دون البحث عن ارتباطها بمجمل التاريخ. بالمقابل كان الشرق يحاول، على الدوام، فهم الإيمان المسيحي من منظورٍ كونيّ-ما ورائي.

في قانون الإيمان الذي كان مستعملاً في روما بعض التأكيدات كانت مفقودة، نجدها اليوم في قانون الرسل في صيغته الحالية. هذا الشكل القديم موجود بطريقة مماثلة للصيغة التي كانت مستعملة في روما  سنة 200 كما يؤكد لنا التقليد الرسولي لهيبوليتوس والنص الذي قدمه لنا ترتلليانوس على أنه قانون إيمان الكنيسة الرومانية في زمانه[4]. ما هو مميّز في هذه الصيغة الرومانية هو أنّ  هيكليته ثالوثية أساسية. في قسمها الثاني، عرف العنصر الكريستولوجي تطوّراً أوسع بما يخص ذكر الأسرار الأساسية لحياة المسيح وعمله.  قانون الإيمان هذا هو ثمرة جمع في نصٍ واحدٍ بين صيغتي إيمان متميّزتين، الأولى ثالوثية والثانية كريستولوجية، التي حتى الآن كان لها وجود مستقل ومنفصل. إنصهار هاتين الصيغتين ربما حصل في نهاية القرن الثاني.

إعترافات الإيمان التي وجدها الباحثون في الأدب المسيحي القديم، وفي كتابات العهد الجديد(والتي تسمى بالإنكليزية pre-creedal elements ) تكوّن ما يمكن أن نسميه تاريخ قانون الرسل. يكوّن قانون الرسل إعتراف إيمان صارم. هو يعبّر عن بساطة كبيرة؛ فهو متجذّر في صفاء إيمان المؤمنين. تخلق المجادلات استعمالاً غير مسبوق لهذا الرمز: مع فصله عن رتبة المعمودية، يصبح في حد ذاته، وسيلة للدفاع عن نقاوة الإيمان.

هكذا يتقدم لنا نوع جديد من الرمز: “إختبار” الإيمان القويم أكثر من كونه إعتراف عمادي للإيمان. حتى ولو أن ارتباط هذين المفهومين لا يمكننا فصلهما. جديده أن نوع العرض يتطلب منا عملاً لاهوتياً مسبقاً، يتطلب تفكيراً على اللغة المستعملة وبحثًا عن أسس الإيمان كما وأيضاً  عرضه على الجسم الأسقفي. من قوانين الإيمان هذه نعرف أيضاً قانون نيقيا- القسطنطينية الذي يعبّر عن منتهى هذا التطوّر.

لذلك من الواضح، أنّ قانون الرسل هو رمز ليتورجي بينما قانون نيقيا-القسطنطينية هو رمز لاهوتي، بالمعنى التقني للكلمة. تتقدم لنا الصيغة القديمة كصيغة سلميّة؛ أما الثانية فهي صيغة جدليّة: الإيمان القويم يعبّر عن نفسه.

في الشرق

كما في الغرب، قوانين الإيمان الشرقية ولدت في إطار رتبة العماد تحت شكل استجوابي وباحترام قانون السرّية. لكنّ الحرية والإستقلالية التي كانت تتنعم بها الكنائس المحلية أسهمت كما عرفنا لمدة طويلة بازدهار قوانين إيمان مختلفة التي لا يمكننا أن نعيدها إلى نموذج وحيد عرف تعديلات مع مرور الزمن. كان من العادة في الشرق أن يكون لكل كنيسة قانون إيمانها، بدون شك كانت الهيكلية  نفسها لكن التغيرات كانت عديدة. عند انتخاب أسقف جديد كان يبعث بصيغة إيمانه إلى إخوته في الأسقفية أي قانون إيمان كنيسته، متماثلة للقانون الأساسي. تتنوع قوانين الإيمان هذه تتنوّع بالنسبة إلى تركيز مؤلفيها اللاهوتين على نظرة أو أخرى (نظرة هرطقة أو نظرة قويمة)، والبيانات فيها هي عادة نظرية أكثر من البيانات القوانين الغربية.

أوريجانوس هو الشاهد على قوانين الإيمان لمؤلفين مختلفين. لكن بينه وبين قوانين الإيمان الأولى يوجد صمت كبير. ربما بسبب نظام السرّية الذي انتشر منذ نصف القرن الثالث: ما يخص الأسرار المسيحية لا يجب علينا أن نضعه بين أيدي الوثنيين.

أصل قانون الإيمان المنسوب من قبل مجمع خلقيدونيا إلى مجمع القسطنطينية الأول هو غامض بعض الشيء. لكن من المؤكّد أن مجمع القسطنطينية عدّله وأكمله وأعلنه دون أن يكون قد ألّفه. قانون إيمان آباء نيقيا ال 318 (سنة 325) جاء كردة فعل على هرطقة آريوس التي تمس بألوهية المسيح. استعمل هذا القانون للمرة الأولى، لغة الفلسفة اليونانية ليتكلّم على المسيح “من نفس جوهر الآب” (homo-ousios)؛ هذه اللغة ليست بيبلية، من هنا الإنتقادات التي نشأت بعد المجمع. على عكس قانون الإيمان العمادي، ذات اللغة الليتورجية والسردية، قانون إيمان نيقيا يستعمل تعبيراً عقائدياً ولاهوتياً؛ هو قانون إيمان مسكوني، اعتراف إيمان عبّر عنه أساقفة. لكن، هذا القانون لم يؤلّف كما هو في صيغته من قِبَل المجمع؛ نصّه قريب من قانون إيمان أورشليم، الذي ولد فيما بعد في المدينة المقدسة أو على الأقل في فلسطين، ثم طوّره آباء المجمع وأكملوه.

بفضل أوسابيوس من قيصرية الذي ألّفه أمام مجمع نيقية ومن الممكن أن يكون قد كتب جزءاً منه، تعرفنا إلى قانون الإيمان العمادي لكنيسة قيصرية في فلسطين. المقالة الثانية عن الإبن هي نموذج من التقليد الشرقي: بين ألقاب المسيح و ذكر التجسّد، يطوِّر النص، من خلال لغة يوحناوية، ما له علاقة بأصل الإبن قبل كل الدهور. هذا التأكيد  هو بالنسبة إلى الغربيين تأكيد ما ورائي، وهو يشكل المكان للحوارات اللاهوتية في الشرق. هذا المقال الثاني هو بالنسبة إلينا المسودّة لقانون نيقيا-القسطنطينية[5].

أكمل نص نيقيا المقالين الأول والثاني: لذلك بعد “خالق السماوات والأرض”، يحدّد النص “كل ما يرى وما لا يرى”. فيما بعد، دُمج قانون إيمان نيقيا مع قانون إيمان مجمع القسطنطينية (381)، الذي أكّد إيمان نيقيا، من خلال بعض الزيادات بما يخصّ ألوهية الروح القدس، في الجواب على هرطقة ال “بنوماتوماك” pneumatomaques، الذين كانوا يرفضونها. من هنا اسمه “قانون نيقيا-القسطنطينية”.

بعد فترة من الأفول في النصف الأول من القرن الخامس، اعتمد قانون الإيمان هذا في القرن السادس. سيستعمل هذا القانون في الشرق من أجل العمادات وقبلها في الليتورجية الإفخارستية. وسوف يدخل في الإفخارستيا في الغرب في القرن الثامن، مع زيادة الإنبثاق من الإبن ال filioque، ذكر أدرج للأسف خارج مجمع مسكوني، في البدء في إسبانيا(ضد الآريوسية) وبعدها في بلاط شارلمان وبعدها في ليتورجية روما. هذه الزيادة الصغيرة أساءت إلى العلاقات بين الكنائس الشرقية والعالم اللاتيني لأجيال طوال.

البنية المنهجية لقانون الإيمان

يمكننا مسار هذا تكوين قوانين الإيمان هذه ومسيرتها من أن نفهم هيكليتها: تصميمها و محتواها.  توجد عناصر مختلفة في قوانين الإيمان بين الشرق والغرب، لكن هيكليتها تبقى ذاتها.

الإيمان ارتباط

تعيدنا بنية القانون المثلثة إلى سر الثالوث الأقدس. بالرغم من فعل “النؤمن” المثلّث لا يرد اسم الله إلا مرة واحدة وهو شهادة للتوحيد. كل ما يتبع هو تفسير هذا الإسم. تعني هذه البنية المعنى الواقعي لقانون الإيمان، بما أنه يعبّر عن فعل. كل شيء يتعلّق بالإقتراح الأول “أؤمن بالله”.

اللامتناهي ليس موضوع معرفة، بل هو فقط موضوع رغبة، ما يعني أنه يمكننا الإقتراب منه من خلال فكرة تحوي أكثر مما تقول. “أؤمن بالله” لا تعني بطريقة عقلانية وجود الله، لكن نستطيع أن نستنتج بأنه مقبول. من يعلن قانون الإيمان يندمج في جماعة تؤكد وجود الله كما يعلنه لنا التقليد المسيحي. لا يتقدّم الله إلى المؤمن كشيء، لكن ككائن، فوق كل الآخرين. يقدّم نفسه كحضور غير مرئي.

          يركِّز قانون الإيمان منهجياً على بنية “أؤمن ب” أكثر منه على “أؤمن أن”. فهو يضع المؤمن في علاقة مباشرة مع الآب والإبن والروح القدس. لا يقول قانون الإيمان إن الله موجود ولكن إننا نؤمن بالله. بهذا نعبّر أن الإيمان المسيحي ليس بادئ ذي بدء إعتناق مقترحات تعبّر عن معتقدات معيّنة. الإيمان هو ديناميكية الروح نحو الآخر، استسلام للآخر، إلتزام شخصي أمامه. البيانات التي تتبع التعبير عن هذه الديناميكية، ليست اقتراحات propositions: بل صلة وصل appositions تحدد هوية هذا الآخر الذي إليه تؤول حركة الإيمان[6].

ما هي هذه الديناميكية؟ نلاحظ أن التقليد للكنيسة اللاتينية اللاحق يرى في “الإيمان ب” credere in  التعبير عن الإيمان بالله، الذي يميّزه عن باقي أشكال المعتقدات. من خلال تمييز حققه القديس أغوسطينوس[7]، الإيمان بالله ليس فقط الإيمان بأنّه موجود (credere Deum)هو أكثر من قبول حقيقة تخصّ كلمته (credere Deo). هو أن نؤمن بالله (credere in Deum) الذي يعني (عن طريق الإيمان أسير نحو الله) credendo in Deum ire. ما نحن ببصدده هو مسيرة، حركة النفس، ديناميكية شخصية. هو أن نعترف في فعل استسلام غير مشروط، بالآخر المطلق، الذي في النهاية هو مختلف عن العالم وعن ذواتنا.

يعبّر المؤمن عن زخم الإلتصاق الكامل، عن عطاء الذات الكامل بالنسبة إلى من آمن به. يثق بالله بطريقة مطلقة ونهائية. الأولوية المعطاة “لأؤمن ب” لا تلغي “الأؤمن بأن”. لأن بيان عظائم الله للإنسان بإبنه يسوع المسيح وبروحه يشمل أيضاً “زمن” الحقيقة المعلنة. لكن الإيمان هو انضمام إنسان لإنسان؛ إنه بعد ذلك مجموعة من حقائق منظمة علينا أن نؤمن بها (وهذا يختلف عن فهرس). الوجه الثاني يخضع للوجه الأول.

يفترض قانون الإيمان الإبتهال ويتضمّنه، دون أن يكون ابتهالاً بحد ذاته. ما يعبّر عنه هو إعلان الإيمان، الذي هو إعلان أمام الجماعة المسيحية ومعها. لذلك هو يتكلم على الله بصيغة الغائب. لكن فعل الإيمان يتضمّن طابعاً ابتهالياً (ما يناسب صيغة المتكلّم). خطابه إذاً “ديني”. يأتي بعد ذلك التعبير اللاهوتي ليحدد تعابير اللغة الدينية.

الإيمان حوار

كان قانون الإيمان كما أشرنا سابقاً يقوم على جواب مثلّث على سؤال ثلاثي ضمن إطار الإحتفال برتبة العماد وهو الآن يمثِّل التأكيد الإيجابي الذي حلّ محل العدول الثلاث أو الكفر الثلاثي بالشيطان وبأبهته وبأعماله. نرى أن الإيمان هو فعل اهتداء، فعل انقلاب. يمكن التعبير عن كلمة أؤمن بكلمة “أستسلم ل… أنضم إلى”. ليس الإيمان، بطابعه مجاهرة ولا بأصله هو تلاوة نصوص ولا عملية قبول نظريات، إنما هو عبارة عن “تحوّل وجودي”[8] يحرزه الإنسان. إن معنى الإيمان كهداية وكمنعطف حياة، وكانقلاب وجودي يتجلّى بوضوح من خلال العدول الثلاثي والتأكيد الثلاثي وعمليّة التغطيس الثلاثي التي ترمز إلى الموت والقيامة، إلى حياة جديدة.

السؤال “هل تؤمن”؟ يعبّر عن مبادرة الله الخلاّقة والخلاصية بالنسبة إلى جواب المؤمن. هنالك أولاً الله الذي، بابنه وبروحه اقترب من الإنسان لكي يعطيه ذاته. الله هو الذي بادر وفعل، لذلك يستطيع أن يبادر ويطرح سؤالاً على الإنسان. الكلمة الأولى تنتمي إلى الله. ليس للإنسان وصول إلا إلى الكلمة الثانية. كلمة الإنسان تجاوب على الكلمة لله الأصلية.

عندما يجاوب أؤمن يتبنى المسيحي الخلاص بيسوع المسيح؛ إنّه مخلّص بنعمة المسيح بواسطة الإيمان. هذه البنية الحوارية كانت موجودة في الخطابات التبشيرية في أعمال الرسل حيث إعلان حدث يسوع المسيح يوّلد جواب الإيمان وقرار العماد. (أعمال 2، 37-39؛ 8، 35-39).

الأنا في “أومن” هو بدون شك فعل فردي لكنه مُدرج في أنا الكنيسة، أنا هو أيضاً نحن. الكنيسة تقدِّم الأنا لكل فرد ولكل الأفراد معاً وتدخلهم في الأنا الخاص لاعتراف الإيمان. ما يلفت النظر هو أن قوانين إيمان المجامع تبدأ ب”نؤمن”. هذه النحن هي قبل كل شيء نحن آباء المجمع ولكن من خلالهم هو ال “نحن” الرسمي لكل الكنيسة الذي يعبّر عن نفسه. إن صيغة قانون الإيمان هي فضلة الحوار الأولي: “هل تؤمن – أومن” وهذا الحوار يعيدنا إلى صيغة النؤمن حيث ال”أنا” النؤمن لم يذب، بل دمج. من هنا نكتشف من خلال صيغة الإيمان الأولية بنية الإيمان الإناسية.

الإيمان ليس ثمرة هذيان الأنا المنعزل إنما هو ثمرة الحوار وحصيلة استماع واستقبال واستجابة، بها يندمج الإنسان عبر التبادر بين ال “أنا” وال “أنت” في “نحن” الجماعة التي يشاركها الإيمان.

بالفعل الإيمان يتولد من الوعظ كما يقول بولس في روم10/17: “الإيمان من السماع”، لا من التفكير كما في حال الفلسفة. فالإيمان من طبعه لا يرمي إلى تصور ما يمكن تصوره فيصبح ثمرة من بنات أفكاري، بل يتّصف بميزة نوعية كونه يتولّد من الوعظ وكونه تلقّياً لحقيقة معطاة وليس نتاجاً شخصياً. أما أعمالي وأفكاري فلا تتعدّى كونها “إعادة تفكير” لما أكون قد سمعته وتلقّيته.

بعبارة أخرى للسماع الأسبقية في الإيمان له على الفكر. ليس الإيمان فكرة شخصية جاءت مني بل هو كلمة الآخر إليّ. فالبنية المزدوجة: الإستجواب من الخارج “هل تؤمن؟” وجوابي “أومن” هي بنية جوهرية. إن ميزة الإيمان الخاصة تقوم على تلقي معطىً يستحيل على العقل البشري أن يكوّنه لنفسه كلياً عن طريق التصوّر إنما يلزمني بأن أحاول تمثل أكثر فأكثر عن طريق استسلامي له.

عن هذا تنجم أسبقية الدعوة. بهذه الأسبقية التي تتصف بها دعوة الإيمان، وبسمة الوضعية التي ينطوي عليها، ترتبط صفة الإيمان الاجتماعية. وهو فرق بنيوي ثانٍ يميِّز الإيمان. فالإيمان هو دعوة للمشاركة، دعوة إلى وحدة الروح بواسطة وحدة الكلام. الإيمان يحمل إذاً معنى اجتماعياً منذ البدء وهو إرساء وحدة الروح بواسطة وحدة الكلام. في المرحلة الثانية فقط يتيح الإيمان لكل فرد أن يخوض مغامرته الشخصية سعياً إلى الحقيقة.

فالإيمان أساساً هو رهن بال “أنت” وبال”نحن” فهو لا يقرِّب الإنسان من الله إلا من خلال هذه العلاقة المزدوجة. فالدين في نهاية المطاف يوجد ضمن علاقة الدعوة والسماع المتبادلة بين الناس. وحوار الإنسان مع الله لا يحصل من دون حوار الناس في ما بينهم[9].

دور قانون الإيمان في الكنيسة

الأدوار كثيرة ومتنوّعة، يمكن تلخيصها بدورين أساسيين: الدور الإعترافي، والدور العقائدي.

  • الدور الإعترافي

كل مجتمع يعبّر عن الحاجة إلى أن يحصل على وثيقة مختصرة، تلخّص طبيعته، هدفه أو مثاله، وتعبّر عن الإتفاق الذي يوحّد الأعضاء الذين يؤلّفونه. هذا النص هو مرجع أساسي وضروري لهويّة المجموعة.

هذا النوع من التعبير يكوّن بشكل عام بالنسبة إلى أعضائه التزاماً وعضويّة: التزاماً بالنسبة إلى الأعضاء المؤسِّسين وعضوية بالنسبة إلى الذين يدخلون من بعدهم إلى المجموعة. هذا الواقع موجود في النصوص الكنسية المسماة رموز، إعترافات أو مجاهرات بالإيمان أو قوانين الإيمان. هذا التعبير يعيدنا دائماً إلى الضرورة بالنسبة إلى الكنيسة أن يكون هنالك شرعة. هذا ما نراه في تفسير كلمة رمز:

“الرمز هو عربون اعتراف، شيء مقسوم إلى اثنين وموزّع على شريكين يجب عليهما أن يحفظاه بأمانة، كل على حدة، وتسليمه إلى أولادهم، بشكل أن هذين العنصرين المتكاملين عندما نقربهما من بعضهما البعض من جديد، يسمحان لنا من خلال إعادة توافقهما المتبادل أن نتعرّف إلى حامليهما وتأكيد رباط العهد المعقود من قبل.

الرمز (sym-bolon)هو إذا في العلاقة المتبادلة بين عناصر دون قيمة منعزلة، لكن في الإجتماع((sym-ballô  أو التوافق المتبادل الذي يسمح لحليفين أن يتعرّفا إلى بعضهما كذلك، أي أنهما مرتبطين ببعضهما (sym-ballontes- متعاقدين)… هنالك إذاً فكرتان أساسيتان: 1. مبدأ الرمزية: رباط متبادل بين عناصر متميزة التي تشكل دمجاً هاماً. 2. فعل الرمزية. رباط متبادل بين الأشخاص الذين يعترفون بأنهم ملتزمون الواحد بالنسبة إلى الآخر بمعاهدة وعهد (إلهي أو بشري)، إتفاقية، قانون وفاء.” [10]

إن اعتبار قانون الإيمان رمزاً بالمعنى الذي أوردناه، من شأنه أن يستدعي الجزء المتمم له أعني وحدة الروح في وحدة الكلام. إن الإنسان لا يحوز الإيمان ألا كرمز، كقطعة مجتزأة وغير تامة لا يمكنها أن تحرز اكتمالها إلا إذا اتحدت بسواها. من أجل تحقيق الإتحاد مع الله، ينبغي بالضرورة، المرور بالإتحاد بالآخرين. فالإيمان يتطلب الوحدة ويدعو إلى الأخوة في الإيمان وهو في جوهره متجه نحو الكنيسة. إن هذا الإكتشاف يشرع أمامنا أفقاً جديداً أيضاً: فالكنيسة برمتها هي أيضاً لا تحوز الإيمان إلا كنصف مجزوء من كل، لا تقوم حقيقته إلا بعلاقة باللامتناهي، بما هو شيء آخر تماماً، تنزع إليه عبر ما يتجاوز ذاتها، لا يستطيع الإيمان الإقتراب من الله إلا من خلال هذا التجاوز الدائم لإنسان.

ليس من الغريب أن يكون الإستعمال الأول لكلمة رمز يخص الإعتراف بالإيمان خلال المعمودية. نجده عند قبريانوس من قرطاجة في القرن الثالث، استعمال كلمة رمز، في اللغة اليونانية، المطبّقة على اعتراف الإيمان، تعمَّم في الغرب حيث انتقل من الأسئلة العمادية إلى قوانين الإيمان المعلنة. لكنه عاد ليستعمل من جديد في الشرق، لكن بتكتم ابتداءً من القرن الرابع. لكن الوعي الكنسي القديم كان يعتبر دائماً بأن اعتراف الإيمان أو الرمز، وهو هدف الإلتزام العمادي، يبقى علامة اعتراف بين المسيحيين وعلامة هوية مسيحية.

بالنسبة إلى روفينوس في القرن الرابع رمز الإيمان هو كلمة السر التي تمكّن المسيحيين من معرفة بعضهم البعض تماماً كما الجنود في الحروب. التحليل نفسه ينطبق على العبارات الأخرى التي تعبّر عن صيغ الإيمان. الإعتراف بالإيمان(homologia) أو المجاهرة (إعلان و بيان) الذي تعبيره مؤكّد في العهد الجديد، ويعبّر عن فعل الإعتراف العلني(“نعترف بالفم” روم 10، 9) بمبادرة الله في يسوع المسيح والتزام الإيمان. بالنسبة إلى الآباء اليونان كلمة pistis تعني في نفس الوقت محتوى الإيمان والإلتزام بالإيمان. هذا هو معنى كلمة “أؤمن” الذي يعبّر عن الإلزام الواقعي بالنسبة بسرّ المسيح.

يمكن أن نلخّص الدور الإعترافي لقانون الإيمان بثلاثة أوجه: الأول هو إلتزام المؤمن بالنسبة إلى لله داخل بنية العهد، التزام هو ثمرة الارتداد أو التحوّل.  ثم إنه يعبّر عن إجماع الجماعة المجتمعة في نفس اعتراف الإيمان. لأن الأنا الشخصي المسيحي يدخل في “نحن” الكنيسة. أخيراً خدمة الإعتراف المتبادل تنتمي أيضاً إلى الدور الإعترافي، بالإضافة إلى  وعي كل شخص على هويته الحقيقية.

أما بالنسبة إلى أماكن تكوين وتطوّر الصيغ المختلفة للإيمان يميّز كولمان خمسة أمكنة: المعمودية والموعوظية، العبادة، التقسيم، الإضطهاد والجدال ضد الهراطقة.[11]

ترتدي العلاقة بين قانون الإيمان والأسرار طابع الأهمية الكبرى. لأن الاثنين معاً يحتويان على فكرة القسم: في جذور الكلمة اللاتينية sacramentum  توجد فكرة “الإلتزام الديني” أو “المبادرة المثبّتة بقَسَم”. ترتلليانيوس يحافظ في مجموعة معاني كلمة sacramentum على المماثلة بين القَسَم العسكري sacramentum militiae، الذي كان له طابع مقدس وسر المعمودية sacramentum fidei القسم المقدس الذي من خلاله يدخل المؤمن في سر المسيح[12].

ترتبط العبادة مرتبطة بالتعليم المسيحي، لذلك كان المعمدون يتحضرون للعماد من خلال موعوظية طويلة.

التقسيم هو بدوره مناسبة أيضاً لاستدعاء إسم المسيح في صيغ اعتراف إيماني (أعمال 3، 11-26). خلال الإضطهادات كان الشهيد يعبر بإيمانه من الاعتراف بالكلمة إلى الشهادة بالحياة: ال homologia تصبح martyrio .

استند ايريناوس في موقفه ضد الغنوصيين الهراطقة على عدد كبير من صيغ “قاعدة إيمان” أو “قاعدة الحقيقة” إما ثنائية أو ثالوثية. لكن ختلاف الوضع يحتم اختلافاً بالنوع الأدبي: رمز و “قاعدة الإيمان” ليسا نفس الشيء. الأول يضع في المقدمة “الدور الإعترافي”؛ الثاني يهتم خصوصًا بالدور العقائدي.

  • الدور العقائدي

لفعل الإعتراف بالإيمان محتوى. في اللغة العامية كلمة الإعتراف بالإيمان أو قانون الإيمان تعني محتوى الإيمان أكثر منه فعل الإعتراف بالإيمان. هذا المحتوى يعبّر بطريقة مختصرة عن الأساسي في الإيمان.

لقانون الإيمان طابع معياري لأنه يقول ما يجب علينا طاعته بالإيمان. لذلك يظهر قانون الإيمان كالتعبير المميز “لقاعدة الإيمان” أو “قاعدة الحقيقة”. التعليم المسيحي الذي هو تطبيقُ الإيمان في الحياة يولّد قوانين الإيمان. لكن إن في التعليم المسيحي أو في الليتورجيا، نعود دائماً إلى العماد.

بالنسبة إلى الكنيسة المقدسة قانون الإيمان هو المنتهى والملخّص الذي يعبّر عن معنى هذه الكتب. فهو يقدم بطريقة بسيطة الوحدة الملازمة لتنوع غنى شهادة العهدين القديم والجديد. هو يعبّر عن الوحدة في التنوّع وبذلك هو فعل تفسير للكتب المقدسة.

من جهة أخرى يظهر قانون الإيمان كنقطة انطلاق، “الخلية الأم” للتقليد الكنسي. هنالك أيضاً أجيال كثيرة من قوانين الإيمان التي تنوعت. بشكل أشمل، أصبح قانون الإيمان منشأ التعليم المسيحي ونقطة انطلاق الخطاب العقائدي لأن التعاريف الأولى للإيمان أخذت شكل زيادات على قانون الإيمان. وأصبح المرجع الأساسي للتعليق على الكتب المقدسة وتفسيرها كما لتكوين التيارات اللاهوتية.

لكن هذا التقريب لا يفسّر المدة التي فيها تكوّنت قوانين الإيمان. فهي تعبّر عن “منذ الآن” لإعترافات الإيمان في الكتب المقدسة: لأنه يعبّر عن الحاجة الأصلية للجماعات الرسولية والتعابير الأولى التي توجد في العهد الجديد. المدة تعبّر أيضاً عن “ليس بعد”، لأننا لا نجد قوانين إيمان مكوّنة عند انتهاء العهد الجديد.

في النهاية بما أنه صيغة مختصرة، لا يلغى قانون الإيمان بتطوراته. لأن الأدوار التي يعبّر عنها تبقى. يُنقل قانون الإيمان دائماً في الحاضر في تعبير يجب أن يبقى حياً. لذلك حتى ولو أن الصيغ الليتورجية تظهر ثابتة منذ زمن، هنالك تاريخ قانون الإيمان الذي يتكوّن عبر الزمن.

خاتمة

رأينا أهمية وجود قوانين الإيمان بالنسبة إلى الفرد والكنيسة لأن كل شخص يعطي مضموناً لإيمانه ويعترف بوحدة الكنيسة التي ينتمي إليها. يتضمّن الإيمان حقائق أخرى، لكن ما تعبّر عنه قوانين الإيمان من حقائق هي أساسية ولا يمكن إبدالها بشيء آخر. أكد كارل راهنر على أهمية هذه الصيغ المقتضبة للإيمان ودعى إلى إعادة صياغة الإيمان بطريقة غير قانونية في نصوص أخرى بشرط أن تعلن الإيمان بيسوع التاريخي[13].

فإذا كانت قوانين الإيمان تعبّر عن حياة الكنيسة وخبرتها الإيمانية على صعيد الفرد المندمج دون أن يذوب في الجماعة المسيحية، أين نحن اليوم من التعبير عن الإيمان بطريقة تعكس حياة الجماعة المسيحية؟ هذا التنوّع في التعبير دون أن يلغي الأساسي في الإيمان ألا يجعل من صيغ الإيمان مفهومة ومقبولة أكثر في جماعاتنا الكنسية وتعبّر عن هويّتها الخاصة؟ متماثلة على الأساسي ومختلفة في الخبرات المتنوِّعة ألا تستطيع هذه الجماعات أن تعبّر عن إيمانها بشكل مفهوم أكثر؟ من ناحية أخرى، وعلى الصعيد المشرقي العربي، ألا يشكّل استعمال النص العربي الموحّد للنؤمن في التعابير الرسمية الليتورجية وعياً أكثر لما يوحِّدنا؟


[1] Bernard Pottier, Confessions de foi, in: Dictionnaire critique de théologie, éd. PUF, Paris, 1998, p 298-299

[2] Henri DE LUBAC, La Foi chrétienne, essai sur la structure du symbole des apôtres, Paris, Cerf, p 23-59 عن هذه الأسطورة راجع

[3] P-Th Camelot, « Profession de foi baptismale et Symbole des Apôtres », La Maison-Dieu 134 (1978),p 19-30

[4] Evangelista VILLANOVA, Histoire des théologies chrétiennes, des origines au XVème siècle, Paris, Cerf, 1997, p: 137.

[5]الكنيسة الكاثوليكية في وثائقها، دنتسنغر-هونرمان، الجزء الأول. من سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم. منشورات المكتبة البولسية، جونيه – لبنان، طبعة أولى 2001، 40-41.

[6] ُEvangelista VILLANOVA, Histoire des théologies chrétiennes, des origines au XVème siècle, Paris, Cerf, 1997, p: 140.

[7] Cf. Henri DE LUBAC, La Foi chrétienne, essai sur la structure du symbole des apôtres, Paris, Cerf, p157-159 et 307-337.

[8] جوزيف راتسنجر، مدخل إلى الإيمان المسيحي، منشورات المكتبة البولسية، سلسلة  الفكر المسيحي بين الأمس واليوم 15، 1994، ص 52

[9] جوزيف راتسنجر، مدخل إلى الإيمان المسيحي، منشورات المكتبة البولسية، سلسلة  الفكر المسيحي بين الأمس واليوم 15، 1994، ص 53-58

[10]Edmond Ortigues, le discours et le symbole, Paris, Aubier, 1962, p 60-61

[11] O. Cullmann , la Foi et le culte de l’Eglise primitive, Delachaux & Niestlé, Neuchâtel et Paris 1963, p : 56

[12] Bernard Sesboué, Histoire des Dogmes, le Dieu du salut, tome 1, Paris, Desclée, 1994, p 74.

[13] Karl Rahner, traité fondamental de la foi, Paris, Centurion, 1983, 495-506.

Scroll to Top