نقطتف من خبرات معاشة تدل على حضور الجمعية وأعمالها في الكنيسة وفي خدمة الانسان، شهادات حيّة من أبناء الأم التي ربّت وعلّمت ونمّت، تحكي حبها وتحاكي رسالتها. نورد شهادتين، شهادة حيّة الأب يوحنا السبعلي، وشهادة حية السيد فارس نجيم من قدامى الإكليريكية في الجمعية.
الأب يوحنا السبعلي
لمناسبة اليوبيل المئة والخمسين سنة لتأسيس جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، لمناسبة المئوية الأولى على اندلاع الحرب العالمية الأولى، رأت إدارة مجلة المنارة تكشف النقاب عن إحدى الشهادات الحيّة التي دونها الأب يوحنا السبعلي أحد آباء الجمعية والتي من خلالها عمد أن ينقل لنا صورة مقتضبة عن أهوال الحرب العالمية الأولى وما عاناه أبناء كسروان من ضيق ومجاعة و وباء من جراء أهوال هذه الحرب.
الأب يوحنا من سبعل قضاء زغرتا مواليد 23 نيسان 1860. بعد أن تعلّم مبادىء اللغة العربية والسريانية في مسقط رأسه أنتقل إلى مدرسة ريفون الاكليريكية حيث أمضى ست سنوات، سيم كاهنًا في 5 نيسان 1883. فما انقضت أشهر على سيامته، حتى قصد دير الكريم ودخله في 16 كانون الأول سنة 1883، وأبرز نذوره الدائمة في 9 شباط 1888. توفي في 8 كانون الثاني 1943 ودُفن في الكريم.
ألِف الأب يوحنا باكرًا الجولات الرسولية فلم تبقَ منطقة في لبنان وسوريا وفلسطين… إلاّ ما جابها مبشرًا، فعمد من خلال جولاته هذه إلى جمع من مصادر مختلفة ومتعددة ومنوعة معطيات ثمينة عن المواضع والأماكن التي يزورها والاحداث التي شهدها مكوّنًا بذلك مادة جزيلة الفائدة عن العيال والأنساب وعن تواريخ الأمكنة. وقد جمع هذه المعطيات والمعلومات في ثلاثة مجلدات أطلق عليها اسم: “ماجريات الأب يوحنا السبعلي” وهي تغطي يومياته ونشاطاته الرسولية ومواعظه الروحية وسرد أحداث كان شاهدًا لها. وما هذا المقال الذي نحنُ بصدَّد نشره إلاّ جزء مما دوّنه في ماجرياته عن أهوال هذه الحرب وعن المجاعة التي فتكت بأبناء جبل لبنان عامة وكسروان خصوصًا.
لقد أعطى الأب يوحنا السبعلي صورة عن واقع جبل لبنان إبان الحرب العالمية الأولى وكيف تجمّعت المعطيات حتى أدت إلى هذا الفقر المدقع والمجاعة التي فتكت بأبناء كسروان والتي لم تميز بين شخص وآخر، لما اتبعته السلطنة العثمانية من تعامل مع رعاياها وذلك في سياسة الاحتقار والتنكيل والترهيب والتخويف وعدم الاحترام. والعبرة الأبرز التي يمكن استخلاصها من هذه الشهادة وهي أن قسمٌ كبير من سكان الجبل رفض التخلي عن أرضه وفضّل الموت بين ربوع أبناءه.
“2- نثرة خاطر حول مجاعتنا اللبنانية أيام الحرب العمومية
إن هذه المجاعة ضعضعت سكان البلاد ضعضعةً ضاعت فيها أفكار أكبر المفكرِّين: ولما كانت الضعضعة المسبّبة عن تلك المجاعة هي السبب الوحيد الفعاّل لانقطاعنا عن مواصلة الزيارات الأسبوعية ثلاث سنوات رمت أن أوردها في هذا العدد والأعداد الثلاثة التابعة هذه النثرة ايضاحًا لسبب الإنقطاع المذكور وتبصرة للمتبصرين في الحال ومستقبله فأقول وبالله التوفيق: يحسن بك أيها المطالع أن تحول معي بلمحة نظر حول مجاعتنا الجديرة بأن يصفها التاريخ “بكونها عبرة المجاعات” نظرًا إلى شدتها وطول مدتها وغرابة ظروفها وفظائع الذين قصدوا وضع أغلب أسبابها انتفاعًا منا: لقد ضربنا الله في سنوات الحرب الأربع عدة ضربات كالسبي والنفي والشنق والجلد والمرض المختلف الأنواع: وأخص هذه الضربات المجاعة التي نحن في صددها.
إن خطايانا جعلته تعالى أن يرسل إلى أرضنا بعد انتشاب نيران الحرب في أوائل أيلول سنة 1915 جرادًا طبيعيًا حاكى الجراد الذي وصفه يوئيل النبي في الفصل الأول من نبوئته فأعدمنا ريع الأرض عن سنتين: وأن يرسل إلينا أيضًا جرادًا آخر أدبيًا على شكلة الجراد الذي وصفه يوحنا في الفصل التاسع من سفر الرؤيا تكون هيئته تشبه خيلاً معدّة للقتال ووجوهها كوجوه الناس وأسنانها كأسنان الأسود ولها درع كدروع الحديد وأذناب كأذناب العقارب: عذبتنا أربع سنوات رأيناها بمثابة أربعة أجيال. والمراد بهذا الجراد الأدبي جماعة الأتراك والمتتركين من العرب المتملّقين: فنفخوا فينا روح الخصام وأكثروا بيننا الوشاة وملأوا ديارنا من الجواسيس التركيين والمتتركين، وافعموا روابينا وطرقنا من الأشقياء النهابين السفاكين. وأغلب هؤلاء الأشقياء من الهيأة العسكرية. وأقاموا علينا محاكم التلاعب والجور وديوان المراقبة العرفي الذي تفنن باصدار أحكام الجلد والنفي والاعدام. وأحاطوا بنا برجال المحافظة منهم ومن الجندرمة اللبنانية الذين أفسدوا جوّنا بمفاسد تهويلاتهم وأرتشاءاتهم ونهبهم وابتزازهم مال اليتيم والأرملة والبائس. وصادرونا في كل نوع من أموالنا من دراهم وكسوة وأثاث وأبنية ومؤنة وايرادات الكروم والزيتون والبطاطا وباقي المزروعات. ومن بقر وماعز وحمير وبغال وخيل وحطب. فقطعوا الجانب الأكبر من الصنوبر ذي الأغلال ومن السنديان ونحوهما. وكل ذلك بوضع سلسلة من الضرائب والرسوم ذات حلقات متتابعة تتابع الأيام. وضايقونا بتذاكر النفوس والسفر ووثائق الشراء باحتيالات شيطانية ترتعش لها الفرائض.
ومن تفنن زعمائهم في ابتزاز الأموال ممن يلوذ بهم استعمالهم النظرتين وغض النظر. “بالنظرتين” نظرة الرضى ونظرة الغضب. فاذا لاذبهم أحد لغرض من الأغراض ونظروا إليه نظرة رضى أبتزوا من ماله جانبًا كبيرًا ثمنًا لرضاهم الثمين، أو نظروا إليه نظرة غضب ابتزوا من ماله جانبًا أكبر ترويقًا لغضبهم. وإذا لاذ بهم أحد الأشقياء النهابين السفاكين أو أحد المحتكرين الطماّعين غضوا النظر عن فظائعه وابتزوا من منهوباته أو محتكراته ما يجعله أن يضاعف فظائعه في ذلك. يطول الشرح جدًا مما لو عدّدت أعمال كل هيأة من هيآتهم ومن تلاعب التجار وملتزمي الإعاشة والمحافظة في النقود ورقًا كانت أو حجرًا وفي خلط الحبوب ترابًا ورملاً وحصً وفي تنقيص الوزن ونحو ذلك. فان الدائن كان يحسب على المديون ورقة البنك مائة وخمسة وعشرين قرشًا حينما كانت تساوي مثلاً 15 قرشًا أو أقل أو أكثر قليلاً ثم يضيف عليها فائضًا فاحشًا وإذا أرتهن رزقًا من المديون يرتهنه بصك بيع ويأخذ مثمن المائة بعشرة أو أقل. وقس على ذلك بقية المعاملات. فهذه المعاملات ونقص الزراعة ومحلها وأحتكار الحبوب للعسكر وبعثها إلى المانيا وقساوة قلوب المأمورين والمحتكرين والسماسرة ذلك كله وما ضاهاه قد صيّر كل نوع من الحاجات ذا غلاء فاحش لا مزيد على فحشه. فأيدي اللبنانيين ما عدا أيدي رهط صغير من تجارهم فرغت من المال فراغًا كاملاً تقريبًا. وبسبب الغلا أصبحت الليرة لا تسدّ مسيرّ القرش في جانب شراء الحاجات. وأصبح الحصول على القرش أصعب من الحصول على الليرة بالنسبة إلى الأيام السالفة. وانحصرت أرزاق اللبنانيين كلها تقريبًا في أيدي المحتكرين القساة القلوب. والغلال أنقسمت إلى قسمين قسم منها في أيدي المحتكرين، والقسم الاخر في يد الحكومة.
فالحكومة لتظهر أهتمامها برعاياها أمام الأمم المتمدنة اهتمت بمعيشتنا ومعيشة فقرائنا. فاحمد جمال باشا ناظر البحرية وقائد الأوردي الرابع سمح بكمية كبيرة من الحبوب ليوزعها بطريركنا على الفقراء وبكمية أخرى ليوزعها على الكهنة. وهاتان الكميتان دقق في توزيعها ما أمكن. والحكومة اللبنانية شكلت لنا سنة 1916 (أيام علي منيف بك) شركة لبنانية تبيعنا الحنطة بالسعر الواطي. ثم أذنت للقادر منا أن يبتاع مؤنته من مذاخرها بموجب وثائق تؤيده بها. ثم عينت مآوي لبعض من أولادنا فقرائنا وهيأت لهم المعاش وأقامت لهم من يعولهم به. ثم شكلت لجنة لتوزيع صدقاتها على الفقراء تارةً من الحبوب وأخرى من الخبز. وحكومة الاستانة وعدت بتخصيص أربعة عشر ألف ليرة ثمنًا لمعاش فقراء لبنان من كل شهر من سنة 1917. كل ذلك وما ضاهاه إنما هو منة تذكر فتشكر لو تم على تربية الخارجيين. ولكن لسؤ الحظ إن هذا الاهتمام كان غير كافٍ لحفظ الحياة، ولو في نصف حياتنا اللبنانية الاجتماعية. وذلك لعجز تبديل كمية الغذاء وللخبث الفظيع في جانب توزيع هذه الكمية.
لمن حضِر تعديل علم التاريخ الطبيعي لغذاء الإنسان على ما يُعهد ما يلي: وهو أن الرجل المستريح يلزمه في برهة أربع وعشرين ساعة من الغذاء تسعمائة وعشرين غرامًا مؤلفة من 220 غرامًا من اللحم، و700 غرام من الخبز. والرجل المتشغل بأعمال إعتيادية يلزمه من الغذاء 1104 غرامات مؤلفة من 264 غرامًا من اللحم و840 غرامًا من الخبز أي بزيادة الخُمس على غذاء المستريح. والرجل المنشغل بأعمال عنيفة يلزمه من الغذاء 1288 غرامًا مؤلفة 308 غرامات من اللحم و980 غرامًا من الخبز. والنساء والأحداث إذا كانوا من أهل التشغيل بأعمل عنيفة يلزمهم ما يلزم الرجل المتشغل بأعمال إعتيادية. وإذا كانوا من أهل التشغيل بأعمال إعتيادية يلزمهم ما يلزم الرجل المستريح من الغذاء. هذا فيما لو كان الغذاء من اللحم والخبز. وأما فيما لو كان الغذاء من الخبز وغير اللحم من المواد فيلزم لكلٍ ممن ذكر كميّة أكبر من الكميّة المفصّلة. ذلك تعديل ميزانية الغذاء للمغتذين بوجه العموم وبالاختصار. وأما تعديل هذه الميزانية بالنسبة إلى بنية الأشخاص فيتفاوت فيه مقدار الميزانية أو يتناقص بحسب اختلاف البنيات ونحوها…
وعليه فاذا كان التعديل هذا صحيحًا كما يقرّر العلم المذكور فكيف يكفي النسمة ما عينته لها لجنتنا الشركة وتوزيع الاحسان المذكورتين. أي مقدار ثلاثمائة غرام من حبوب الخبز فقط في البرهة المرقوم أي برهة أربع وعشرين ساعة. وياليت هاتين اللجنتين ثبتتا على التعيين المذكور وحافظتا عليه. ولكن مما سمعناه بأذاننا ورأيناه بعيوننا ومسسناه بأيديان وصوت التواتر ملأ جوّنا بهِ هو أن اللجنتين المرقومتين (وخصوصًا لجنة الشركة منها) نقصتا الكمية المذكورة. فأصبحت الثلاثمائة غرام مائةً وتسعين غرامًا بل أقل من ذلك كثيرًا بحجة نقص النقل وبسبب ما خُلط في الحبوب من الرمل والحصى الدقيقة والتراب حبًا بتوفير الربح لبعض المزارعين.
فيا ترى من يلزمه من الغذاء 1288 غرامًا أو الفا غرام بالنسبة إلى قوة بنيته وعنف أعماله. كيف يكتفي بمائة وتسعين غرامًا من مادة حبوب الخبز وحدها في برهة يوم وأحيانًا في برهة عدة أيام. وهل حافظت اللجنتان المرقومتان على إيصال المعيَّن من الغذاء إلى أصحابه عن كل يوم. فإن لجنة الشركة وزعت الأسهم بضعة أشهر. وأشتغلت بالتنقيح والتصحيح لدفاتر النفوس حذرًا من أن يرث أحد أقارب من مات حبة واحدة من القوت الموزع بالثمن الواطي لاعتبارها أنها هي أحق من غيرها بالتركة. فاستغرق اشتغالها بذلك عدة أشهر أيضًا. ثم أهملت التوزيع في بقية أشهر السنة المذكورة أي سنة 1916. ولجنة توزيع الاحسان لم توزع احسانها إلاّ بضع مرات معدودة. فانها جعلت محل التوزيع المعاملتين وكانت إذا عينت يومًا للتوزيع يأتيها الفقراء من الفتوح وسواحل كسروان وأواسطه وأعاليه فلازدحام الجماهير ما كانت تقدر أن توزع على الجمهور المزدحم كله فيبقى الجانب الكبير بلا نيل شيء فيرجع إلى محله البعيد بخفيّ حنين ويموت منه جمهور في الطريق لشدة جوعه وللازدحام عند التوزيع كانت توزع ضربًا بالعصي أكثر مما توزع خبزًا. وأحيانًا عندما يجتمع الجمهور في المعاملتين في يوم يكون عينته للتوزيع تقول للجمهور “ارجعوا فاليوم لا توزيع”. فكان الجمهور ينقص برجوعه بلا أكل بموت كثير منه في الطرق. وعلى ذلك فقس.
وأما المآوي فمنها دير اليسوعيين في غزير وقد جهزته الحكومة بأثاث من فرش وأنية ونحوها أغلبها من ديورتنا والأهلين بلا رد ولا تعويض. وأرسلت جانبًا كبيرًا من المؤن إليه. وسلّمت كل ذلك إلى امرأة عالمية لها أخبار تطنّ منها الآذان. فكان المأوى معها مرحلة محطة للقبور كما أكد الواقع وصوت التواتر. ومن المبكيات المضحكات معًا في هذا المعنى أن امراة أخرى من أشهر العواهر أغناها الأتراك وخصوصًا زعيمهم في لبنان المتصرف علي منيف بك بعطاياهم ونزلوها منزلة الحاكمة بأمرها في الحلّ والعفو وقانون الكسب من كل جهة. وكانت إذا تحركت يتحرك العشرات من الجنود لخدمتها فيومًا ما عينته حضرتها لتوزيعها قنطار من الحبوب على الفقراء في جونيه أذاعة بسطة سخائها فاجتمع الفقراء للالتماس وأقام لحضرتها رجال الحكومة والجنود حفلة للتوزيع نادرة المثال في أبهتها فمشى أمامها جماهير من هؤلاء ومن الخطباء من سرايا الحكومة إلى محل التوزيع حيث أمرت الموزعين أن يوزعوا القنطار، فوزعوه بين ضرب للجماهير الفقراء وتجاديف وشتائم، وفي الوقت ذاته كان الخطباء يتسابقون إلى القاء خطب المديح لحضرتها. ومن أنكد الفواضح حينئذٍ أن زعيمًا من الوجهاء يدعي لنفسه الزعامة المختارة في الوجاهة اللبنانية قال في ذلك الوقت أو في وقت آخر ما معناه لمثل هذه السيدة ينبغي إقامة تمثال لها على روابي لبنان. فما الفائدة من تمثال سيدة – لبنان على ظهر حريصا. وأيعاذ بالله تأمل وابكِ وقد ضربنا الله بعشرات بل بمئات من الوجهاء على شاكلة هذا الوجيه من السلكين العسكري والملكي أرونا من غرائب الفظائع في جانب اللوم والحسرة ما لا يقدر ولا يوصف. منهم وجيه لمعي العدة عسكري السلك كان في الأصل متخذًا هذا السلك مهنة للارتزاق لشدة فاقته وبتملقاته للاتراك تعين قائمقامًا لكسروان مدة طويلة وبأسرع وقت صار من الأعنياء الكبار وأتحفنا من سؤ أخلاقه وحطة أمياله وبلادة مداركه سلسلة من التعاسي لا تُعد حلفاتها.
واما أربعة عشر ألف ليرة المخصصة لفقراء لبنان عن كل شهر فقد نودي بها عند تعيين علي منيف بك متصرفًا على جبل لبنان ولم يوّزع منها شيء أيام متصرفيته. واما خليفته المتصرف اسماعيل حقيّ الذي صار أخيرًا واليًا على بيروت (وهو من المسموعات الطيبة لكنه كان مغلول اليدين) فقد وزّع منها قسمًا على مرتين عن يد القائمقامين وهؤلاء وزّعوا أغلبها عن يد الجندرمة. فكان يذهب من الجندرمة في بعض الأماكن نفران أو ثلاثة بعشر ليرات ورق مثلاً إلى إحدى القرى ليوزعوها على أهلها. فيوزعون على فقراء القرية الليرات العشر ويخسرون باقي الأهلين العشرين والثلاثين ليرة لجيوبهم وهلّم جرا. وسيأتي كلام ىخر على هذه أربعة عشر ألف ليرة”.
” 3- نثرة الخاطر وفقرة مما كتبته إلى أحد الأعيان في شأن أرملة
في 14 كتبت إلى أحد الأعيان المقربين إلى أولياء الأمور الكبار رسالة مطولة في شأن مساعدة أرملة من أهل البيوت المستورة ومنها الفقرة التالية:
“أنا أنفقت كل ما في يدي على منكوبينا ما عدا التوفيرات وتسببات المساعدة كما مرّ. وقد أنفقت جمعيتنا عليهم ألوفًا من الليرات. وأنفق عليهم أهل باقي الأديرة والأجاويد عشرات الألوف من الليرات أيضًا وعينت حكومتنا السنية المآوي لبعض صغارهم وواصلت مدراء المآوي بتجهيز المعاش ولوازمه وتصرّفت على كثيرين من بأئسيهم بجانب من الصدقات المعاشية حفظًا لحياتهم … ولكن يا للأسف كل الأسف أليس تعبي الحقير وتعب أهل الأديرة والأجاويد وأهتمام حكومتنا الجليلة قدام منكوبينا المذكورين ذهب منه تسعون أو تسعة وتسعون في المائة عبثًا. ألسنا اذا جلنا في مقابر لبناننا رأيناها ابتلعت منا ومن منكوبين خمسين أو ستين أو سبعين في المائة بحسب أختلاف هذه المقابر بالنسبة إلى أختلاف أشتداد وطأة النكبات أو خفتها في نواحينا اللبنانية المختلفة التهيؤ لقبول الباقين في قيد الحياة فيما لو بقيت الحال على هذا المنوال. ولماذا هذا كله أفليس أن الختبار واكدذ كل التوكيد كون المساعدات المذكورة ولو تضاعفت هي غير كافية للجمهور المنكوب. لأن مائة الغرام ومائتي الغرام وثلاثمائة الغرام وأربعمائة الغرام وخمسماية الغرام كل ذلك غير كافٍ لحياة كل فردٍ من هذا الجمهور غذاءً يوميًا.
نعم قد بيق من هذا الجمهور بقية ولكن ذلك من سدّ للعجز لتلك الكمية. ولم يسدّ هذا العجز في السنة الماضية (أي سنة 1916) الا مساعدة أهل الأجاويد والديورة. أما الآن وقد تناهى العسر وتكامل فراغ اليد عند أغلب المساعدين وتجاوز غلاء الأسعار حدّ الفحش فأصبح الجمهور الأكبر من الجاويد مفتقرًا إلى المساعدة واهل الديورة عاجزين عن سدّ العجز بمساعدتهم لتغلب الضعف عليهم. إذًا لم يبقى لنا من يضمن حياة تلك البقية كلها أو بعضها إلا أحدى الطريقتين. عنيت بأحداهما طريقة المساعدة الكافية، وعنينا بالأخرى تمليك هذا المبدأ “إن الفريق الواحد أحقّ بزاد لا يكفي فريقين”.
“5- نثرة خاطر وفقرة أخرى كتبتها يومًا لغرض خيري.
“ما كتبته عن حالة لبنان أيام الحرب الفقرة التالية من بعض كتاباتي وهي: ان الله سبحانه ضربنا بسبب خطايانا أيام حربنا الحالية الطاحنة باكثف جراد وأشد قحط وأعسر فقر وأدفع الأداقع من الجوع وأهول الأهوال من التهاويل والأراجيف فما أشقى العيون والمسامع التي تألمت بمشاهدة هذه الضربات ومسموعاتها المدان الطويلة من الشهور:
– أما أولاً فان الجراد وصلنا من جهة الجنوب إلى كسروان ضحى الثلثاء 13 نيسان أحد شهور سنة 1915 وبمدة وجيزة أظلم جوّ كسروان بتكاثفه. وفي اليوم نفسه أظلم بكثافة جوّ الجبة ونواحيها كما أخبر المرحوم الأب بولس الياس الذي كان في زغرتا في ذاك اليوم. وقد بقي في هذه النواحي يناوئه الأهلون من دون جدوى إلى أواخر أيلول فلم يترك ولم يدر. ثم نهار الثلثاء 21 تشرين الثاني من السنة المرقومة عاد إلينا من جهة الشمال … وقد بقي يتردد في لبنان رغمًا عن برده القارس وجليده القاسي إلى أواخر شباط سنة 1916 فأتلف لنا غلال سنتين. وما يدل على غرابة كثرته أنه في الأيام التي كان أهل حمص وحماه مثلاً يظنون أنه تجمع في جوّهم وأرضهم كله لمعظم كثافته كان في تلك الأيام نفسها يظن أهل القدس هذا الظن. وقس على هذين المحلين باقي المحال سورية وفلسطين. فلما عاد إلى لبنان الذين نفوا منه إلى القدس جرى حديث الجراد بيننا وبين بعضهم فزعموا أن كثرته في لبنان دون كثرته في القدس بلا محالة فقالوا أن الشوارع والسطوح والبيوت كانت ملأى منه وكانوا إذا جلسوا على مائدة الأكل لتناول الطعام ويحتاجون إلى خادم خصوصي لا شغل له إلاّ “كش الجراد” عن المائدة ونحن نقابل حديثهم مثله عن تكاثفه عندنا وأيام التكاثف عندنا وعندهم واحدة. ومما يدلك على شدة اتلافه للأشجار والأعشاب والمزروعات وباقي المغروسات ما أخبره يومًا المطران عبد الله خوري من حديث قال فيه: “كنت أنا وجمهور جالسين في محل من بكاسين يشرف على كروم جزّين فحانت منا إلتفاتة إلى هذه الكروم فوجدناها جرداء من أوراقها إلاّ كرمًا واحدًا رأيناه مخضر الأوراق فعجبنا أولاً لبقاء هذا الكرم مخضرًا ثم التهينا في الحديث برهة قصيرة ثم التفتنا إلى الكرم المذكور فعجبنا ثانيًا لمساواة ذاك الكرم المخضر بتجرده للكروم المجردة قبله بهذه البرهة الوجيزة بحيث أضعنا بالنظر محلّة فتأمل”. ومما نقلته الأخبار إلينا أن أمرأة من نيحا الجبة ذهبت إلى حقل لها لطرد الجراد منه وكان على يدها طفلها فأنامته في محل من الحقل مستور واشتغلت بطرد الجراد برهة ثم أفتقدت ولدها فوجدته ميتًا تحت … من الجراد. فتأمل . وهذا كافٍ.
– وأما ثانيًا فمن حيث القحط الأشد. إن أشتداده يعرف من أسبابه، منها: أن الجراد أتلف في لبنان غلال سنتين كما مرَّ أي سنة 1915 وسنة 1916؛ ومنها أحتكار غلال الداخلية للجنود بطرايق جورية عسفية متنوعة كأحتكار الأعشار على تقدير ملتزميها غلال الأرض بحسبما كانت تخيله مخيلات مطامعهم المفرطة في التقدير لا بحسبما كانت الأرض تغلّه حقيقة. وكاحتكار حصص المزارعين بالشراء للعسكر بالأثمان الواطية وغيرها. ان الغلال في لبنان سنة 1916 كانت متلفة في لبنان بسبب الجراد إلاّ أنها كانت مقبلة في الداخلية ولكن لاحتكار فيها سدّ مسدّ القحط. وسنة 1917 كانت الغلال قليلة في الداخلية لقلة المزراعين وكانت ماحلة أيضًا محلاً معتدلاً ولكنه كل بالاحتكار المذكور وفي لبنان كانت الغلال في تلك السنة قليلة لقلة البذار. وسنة 1918 كانت المزروعات في لبنان أكثر من سالفتها إلاّ أن مزروعات اللبنانيين ولو مهما كثرت وأقبلت فلا تفي ربع سكانه ولو قلوا. ومن أساب هذا القحط إصدار جانب كبير من غلال سورية عن السنتين 1917 و1918 إلى المانيا إما من قبل الحكومة التركية وإما من قبل التجار الألمان. ومنها مصادرة حيوانات الجنود كالخيل والبغال والبقر… فان هذه الحيوانات كثيرًا ما كانت ترعى المزروعات ولا يجرؤ أحد من أصحابها على طردها منها خوفًا من الجنود خوفًا حقيقيًا لا وهميًا الذين كانوا يفضلون حيواناتهم المختلفة من اللبنانيين وغيرهم على اللبنانيين أنفسهم تفضيلاً واقعيًا. وهذا القحط هو من أسباب الغلاء الفاحش على ما سترى.
– وأما ثالثًا: فمن حيث الفقر الأعسر: إن شدة عسر هذا الفقر تعرف من أسبابه أيضًا: أن سعر الرطل من الطحين والكرسنه والخشكار…بلغ إلى مائة قرش من عملة ورق البنك (التي لم يبقى في يد اللبنانيين غيرها) مع أن هذا الطحين ما كان يخطر على بال أهل لبنان كيف يأكله الناس. وسعر الرطل من الذرة البيضاء بلغ 140 قرشًا ومن الشعير الأسود أكثر من 180 قرشًا مع أن هذين الصنفين من الطحين ما كان يأكلهما اللبنانيون. وسعر الرطل من طحين الذرة الصفراء بلغ 190 قرشًا مع أن سعره قبل الحرب ما كان يتجاوز 1,5 وما كان يأكله إلاّ النذر من الفقراء اللبنانيين. وسعر الطحين من الحنطة بلغ 275 قرشًا مع أنه كان قبل الحرب غير متجاوز ثلاثة قروش. وسعر الرطل من العدس بلغ 250 قرشًا مع أنه قبل الحرب غير متجاوز 32. ومن كل من الحمص والفاصوليا بلغ 275 قرشًا مع كونه قبل الحرب لم يتجاوز خمسة القروش. وسعر الرطل من الأرز 500 قرش مع كونه قبل الحرب ما تجاوز 5 قروش. ومن السكر بلغ 1000 ألف قرش مع كونه قبل الحرب كان بخمسة قروش. ومن البن بلغ 1200 ألفًا ومائتي قرش مع كونه قبل الحرب ما تجاوز 30 قرشًا. ومن الملح بلغ 75 قرشًا مع كونه قبل الحرب لم يتجاوزالقرش. ومن الصابون ما بلغ 200 قرش مع كونه قبل الحرب لم يتجاوز 12 قرشًا. ومن الزيت 250 قرشًا مع أنه قبل الحرب لم يتجاوز 15 قرشًا. وسعر صندوق البترول بلغ 2000 قرشًا مع أنه قبل الحرب لم يتجاوز 35 قرشا. وسعر الأقة من النعل بلغ 900 تسعماية قرشًا مع انه قبل الحرب لم يتجاوز 35 قرشًا. وسعر الذراع الخام بلغ 125 قرشًا مع كونه قبل الحرب لم يتجاوز القرش. قس على ذلك ما لم يذكر من ارتفاع الأسعار الذي لم يمرّ من مثله على لبنان. فهذا الارتفاع أو الغلاء الفاحش هو من أهم الأسباب التي أفقرت اللبنانيين.
ومما ساعد على هذا القحط الحصار المار ذكره. وحصار البحار من دول الإتفاق. وصعوبة النقليات لانقطاع الدواب والكارات عن الأهل وحصرها بالعسكر التركي ومثلها الترين. ومخاطر النقل من قبل الجنود قطاع الطرق وغيرهم من القطاع ومن قبل المأمورين والملتزمين الذين أتخذوا الرشوات حرفة للأستغناء دأبوا فيها أي داب. إلى غير ذلك من مما ساعد في زيادة الغلاء. ومن أسباب الفقر اللبناني احتكار الجيش للحاجات والتهامه إياها بطرائق يتصبب على الجبين عرق الخجل من مجرد ذكرها. ومن هذه الأسباب مصادرة العملة الحجرية بتفننات شيطانية غريبة والتلاعب في العملة الورقية بالمتاجرات وباقي المعاملات من حيث الديون والبيوع والارتهانات والعقود. إلى غير ذلك من الأسباب التي أوقعت اللبنانيين في فقر لا نظير له. ان بيوت اللبنانيين للأسباب المذكورة فرغ أغلبها من الأثاث فراغًا كاملاً وارزاقهم أرتهن أغلبها المداينون بصكوك بيع، وحطة ثمن لا مزيد على بخسها. فقد مرَّ عليَّ في الدير إلى أوائل الحرب أحدى وثلاثون سنة وأنا لم أنظر امرأة حافية حول ديرنا وفي السنتين الأخيرتين من سني الحرب ما رأيت امرأة محتذية أو مكتسية اكتساء لأيقًا الاّ ما ندر علاوة على الأولاد والرجال. فكيفما توجهت الأنظار تقع على الحفاة والجوالي والعراة والعواري بمناظر الأشباح يسابقون المواشي في الحقول إلى رعي الأعشاب. ان كثيرين من اللبنانيين واللبنانيات لشدة الفقر إلى الكسوة اكتسوا بالجنفيص العتيق وبعتائق البسط والسجاد وبالبلس والقش.
– وأما رابعًا: فمن حيث الجوع المدقع فدق عن الجر ولا حرج: ان الجوع أفضى باللبنانيين إلى أن يقتات بالبلوط وبزور الأشجار كبزور القطلب… وبالحشايش على اختلاف أنواعها وبقشر ثمر الليمون وقشر قصب السكر وغيرهما من القشور وبورق التوت والسنديان وغيرهما فضلاً عن ورق العريش وغيره وبجذوع بعض الأشجار وبحبوب الشعير وغيره الملتقط من الطرق ومن جميع البقر وفشك الدواب وبقشور الحبوب الملتقطة من بواليع مطابخ بعض الموسرين وكان يأدم طعامه الحشيش بالملح المرّ وبعصير الليمون الحامض بدلاً من السمن والزيت. وأقضى الجوع بجمهور من اللبنانيين إلى أن يقتاتوا بلحوم الهررة، والكلاب، والثعالب (وهذا ما شاهدناه بعيوننا) وبلحوم الجرذان (وهذا مما سمعناه بآذاننا) وباللحوم البشرية بشاهد حادث دلبتا وحارة الدامور المقرّرين غاية التقرير ولا محال لشرحهما. ما لي أعدّد ما لا يعدّد من هذه العبر. فأكتفي بهذا القول “كم من فقير جائع رأيناه عند منازلتنا إياه رغيفًا من الخبز يشهق لهذا الرغيف شهقة شوق وتعجب تفوق شهقة من يشهق لاكرم جوهرة كريمة عند حصوله عليها من دون انتظار”. أيتها الأجيال المستقبلية ليس الخبر كالمخبر ولا المسمع كالمنظر فمسموعات هذه العبر مهما بلغ جلاؤها في تصوراتك فهي دون منظوراتها عندنا. وقاك رؤية أمثالها.
– واما خامسًا: فمن حيث أهوال التهاويل والأراجيف فلا اظنني أغالي ان شبهت أنفسنا نحن معاشر اللبنانيين بقطيع من الغنم توغلت فيه شراذم من الذئاب الخاطفة أعني جماعة الأتراك. ان نزوع أغلب اللبنانيين إلى فرنسة خلفًا عن سلف جيلا ً بعد جيل جعل الأتراك أن يضمر لهم أكبر الاسواء شنته بعد أخرى أو ينتظروا فرصة الانتقام يومًا بعد آخر. ولما كانت سورية ولبنان في هذه الحرب الطاحنة ساهمة حرب بلا معارك تجاه العدو اتخذتهما قيادة الفيلق الرابع ساحة حرب لمعارك الانتقام وانتهرت مدة وجودها فيهما فرصة لكليهما وخصوصًا لبنان منهما. ان الصخور والتلال والوديان الذي اتخذها أهل لبنان معقلاً يحمون فيه دينهم وعرضهم وحياتهم من كل عدو طارىء قد ضمنت لهم استقلالهم وامتيازاتهم قرونًا طويلة وحماية فرنسية عززت لهم ذاك الاستقلال وهذه الامتيازات شطرًا طويلاً من الدهر. فكان ذلك عظمًا جارحًا في حلف الاتراك منعهم عن ابتلاع اللبنانيين وهضم حقوقهم كما ابتلعوا غيرهم من أهل الولايات التابعة لهم وهضموا حقوقهم وصيروهم من اتعس حالة بشاهد الواقع.
ولما حانت لهم هذه الفرصة بسماح الله انتهزوها واحتلوا لبنان مصمّمين في اغتيال أهله أي تصميم. وفي البداءة كانوا متحذرين متخوفين من اللبنانيين. ولما تأكدوا ما تعوده اللبنانيون من الخلود إلى السكينة بسبب نظامهم الأخير وانهم فاقدون الزعامة الحربية لمحكوميتهم والذخائر الحربية لتخييم الأمان بينهم تفرسوا وشرعوا في الاغتيال قليلاً قليلاً. تصدى اللبنانيين لهم منهم عن المذابح حذرًا من العار قدام العالم وحليفتيهم من الدول. ولكن استعاضوا عن المذابح بطرائق جديدة من الانتقام كالتجويع والنفي والاعدام لجمهور بحجة الخيانة. وقد ساعدهم على ذلك مجيء الجراد وحجز البحر وطول المدة فتغلغلوا في اللبنانيين والقوة في يدهم وأخذوا يصادرون ويحتكرون ويتلاعبون في المراقبة والجاسوسية والديوان العرفي الجهنمي ومن ذلك أبتدأ اللبنانون يضعفون شيئًا فشيئًا حتى أصبحوا بين أيديهم كعصفور ضعيف بين مخالب عقاب مفترس وقد ضموا إليهم جمهورًا من المأمورين العسكريين والملكيين والأعيان المنافقين تعزيزًا للفتك. وبعد أن الفوا نظام لبنان وجوعوا أهله بما ذكر وضيقوا عليهم بديوان عاليه العرفي بالحبس والضرب والنفي والشنق نشروا المفسدين والجواسيس بينهم ونبهوا الوباش على أتهام العقلاء بتهم كثيرة كبيرة لا أصل لها فانتشرت بذلك التهاويل والأراجيف التي يطول بنا الشرح جدًا جدًا عند سرد حوادثها.
– وأما سادسًا: فمن حيث الأمراض الباظة الوطأة الكثيرة الأنواع. فقد ضربنا الله لقلة الأطباء (لأن أطباءنا استخدمتهم الحكومة للجيش) والعقاقير والعناية بكل أنواع الحميات من ملاريا وتيفوئيد وتيفوس وبذات الجنب وذات الرئة والاستسقاء والدوسنطاريا والجرب … وخصوصًا مرض الجوع الذي أمات تسعين في المائة من موتى الأمراض. فهذا المرض ذو ورم شنع المناظر فصيّر مناظر الأحياء كمناظر الموتى. ان هذا المرض فرغ بيوتًا كثيرة من سكانها فكم من البيوت أنقرض سكانها عن بكرة أبيهم. وكم من سكان البيوت بقوا في بيوتهم موتى بلا دفن عدة أيام إلى أن دفنوا في حفر بيوتهم نفسها. وكم من الذين بقوا على الطرق موتى عدة أيام بلا دفن لقلة الدافنين. وبالجملة ان المجاعة والأوبئة نقصت منا بمدة سنتين أي سنة 1916 وسنة 1917 نحوًا من خمسين في المائة. ولم ينقص فيها المقدار الذي نقص في سابقتيها لسبب قلة السكان ولسبب المساعدات الخفية التي أتتنا من مهاجرينا ومن دول الحلفاء وخصوصًا فرنسا. ولو لم يرفق الله بنا ويقلب الأحوال لكان تكفل عزمي بك والي بيروت وشركائه من الاحتكاريين بأضمحلال كل اللبنانيين بالجوع”.