فارس نجيم
«محبّة الجمعيّة» لازمة نبض بها قلبه وهذّ بها لسانه، لِما زرعت في حياته من «عشق للحقيقة»، و«سلامة في العلاقة»، و«انفتاح في التواصل» و«نجاح في العمل». بقيت تردّد في صدى نفسه «أنّ القِيَم لا تتبدّل ولو أنّ الحياة تغيّرت»؛ لذا حفظ قيمة «محبّة الجمعيّة» في قلبه وهو يحمل روحها في سلوكه وتربية عائلته.عندما عرف بخبر اليوبيل السعيد وهو يشارك في الرياضة الروحيّة في أسبوع الآلام في كنيسة مار يوحنا، كنيسة دير الرئاسة العامة، تهلّل قلبه وعقد النفس أن يهدي الجمعيّة في عيدها أثمن ما جمعت يداه وأنفس ما طاقت إليه نفسه، وهي مجموعة كبرى من الطوابع البريديّة الثمينة بقيمتها التاريخيّة والمعنويّة. عربون شكر وتقدير للفتته الكريمة، طلبت منه إدارة مجلة «المنارة» أن يكتب شهادته الحيّة مع الجمعيّة، وبالأخصّ فيما له علاقة بهذه المجموعة من الطوابع، ليبقى ذكرها محفوظاً أمانة للتاريخ وتعبيراً للشكر والتقدير، فجاءت كلماته هذه إنه السيد فارس نجيم.
“علّمتني جمعيّة المرسلين اللبنانيّة ما معنى المسكونيّة يوم سمحت لي أن أشهد بأمّ العين وأن أختبر بالفعل ذلك الحدث المسكوني التاريخي، أعني به لقاء البابا بولس السادس مع البطريرك أثناغوراس في القدس، مهد المسيحيّة. يومها تعلّمت أكثر وفهمت أكثر أنّ الجمعيّة مسكونيّة.
مسكونيّة في كيانها، لأنّ طابعها رسولي.
مسكونيّة في إيمانها الكاثوليكي والجامع، لأنّها تعيش الأمانة لتعاليم يسوع مخلّص الجميع.
مسكونيّة في علاقتها بالكرسي البطريركيّ المارونيّ، لأنّها ابنة الطائفة المارونيّة السريانيّة الإنطاكيّة، البكر في الرسالة.
مسكونيّة في رسالتها وتطلعاتها، لأنّها ارتبطت بمسار الانتشار اللبناني والتحقت في صفوف خدمته فتعلّق فيها أبناؤه وعملت بروحها الرعوي على محبّة كلّ أبنائه؛ فحمل المرسلون راية المحبّة من أرض الوطن الأمّ ونشروها بين الأهل والأصدقاء في أرض الأوطان المضيفة والمتبنيّة، فكانوا سعاة الخير والسلام.
مسكونيّة في علاقتها بالكرسي الرسولي، لأنّها لم تألُ جهداً في تلبية نداءات الخدمة التي أوكلها بها.
مسكونيّة في رسالة النشر، لأنّ مطابعها الحديثة تنشر الكلمة في كلّ لون ولغة.
مسكونيّة في رسالة إعلانها لأنّ بصوتها، صوت المحبّة وبشاشتها، تلفزيون المحبّة تنقل محبّة الله إلى الواقع وتنقل الواقع إلى المحبّة، فلا غريب ولا بعيد، صار الكلّ قريبين وأقرباء.
مسكونيّة في رسالتها التربويّة، لأنّها أسّست مقالع رجال في الوطن والاغتراب، يعملون على خدمة الإنسانيّة والكنيسة فرفعوا اسم لبنان على كلّ منبر وفي كلّ قطاع.
نعم، جمعيّتي رسوليّة، لا بل رائدة في الرسالة، غاصت في الرسالة المسكونيّة. لقد خبرت هذه الحقيقة، وتعلّمت كلّ هذه الأبعاد المسكونيّة فيها، يوم السادس من كانون الثاني سنة 1964. إنّه تاريخ، تسجّلت حروفه الذهبيّة في ذهني وفي قلبي، يوم السعيد الذكر، جلالة الملك حسين بن عبد الله الهاشمي، ملك الأردن، أراد أن تكون أرض القدس مكان لقاء بين الأديان السماوية لا ساحة قتال وصراعات طائفيّة ودينيّة، فرعى بنفسه اللقاء التاريخي بين الإخوة المسيحيّين، وسهّل له الطُرُق وشجّع عليه.
في ظلّ هذه الأجواء الإيجابيّة، حيث ينشط الحبّ ليغلب، وتنهض الهمم لتطوِّر، تحرّك آباء جمعيّة المرسلين اللبنانيّين فألّفوا وفداً من أبناء الجمعيّة، وأنا كنت من بين أعضاء هذا الوفد. توجّهنا إلى القدس ونزلنا في ضيافة مدرسة الفرير اللاساليين. عند الموعد المحدّد للقاء البابا والبطريرك اصطففنا، آباء وإخوة، في الساحة الخارجيّة، ولوّحنا بالأعلام اللبنانيّة والباباويّة والأردنيّة، ونحن نهتف لرجلَي الكنيسة الجامعة، الحبرين الكبيرين. امتزجت أصواتنا بأصوات المؤمنين الوافدين للمشاركة بالحدث من كلّ الطوائف والبلدان؛ رتّلنا، مع الملائكة، ترنيمة المجد لله في العُلى، وصرخنا إلى مريم، سلطانة السماء والأرض، سلام سلام لك يا مريم، باللغة العربية واللاتينيّة.
عندما تعانق الحبران العظيمان بحرارة، تذكّرت لحظتها صلاة يسوع الكهنوتيّة التي فيها عبّر عن همّه وبالوقت نفسه عن فرحته: «ليكونوا واحداً كما أنا وأنت أيّها الآب، نحن واحد». وفيما كنت أذكر وأتأمّل وجدت أنّ هذه الآية من يوحنا الرسول كانت مرفوعة على يافطات عُلّقت على جدران الكنائس والأديار الكاثوليكيّة والارثوذكسيّة معاً. نعم، علّقنا آمالاً كُبرى في هذه اللحظات لأنّ تتقارب الكنائس المسيحيّة وتحقّق رغبة يسوع، رأس الكنيسة الوحيد والأول.
بعد هذا المشهد الجليل، وفي اليوم التالي، زار وفدنا، أبناء جمعية المرسلين، كنيسة القيامة ومن ثمّ بيت لحم، مهد الولادة. أثناء تجوالنا في الأسواق التي سمح لنا بزيارتها، وجدت مركزاً للبريد، فابتعت طابعاً بريديًّا يحمل صورة البابا بولس السادس والبطريرك اثناغوراس، تتوسطهما صورة الملك حسين عبد الله. ولقد وضعت هذا الطابع على بطاقة بريديّة كتبتها بالمناسبة، ولقد ختم موظف البريد البطاقة بتاريخ السادس من كانون الثاني 1964، وهو يوم اللقاء التاريخي. وإنّني اليوم، أفخر، ولمناسبة يوبيل الجمعيّة المئة والخمسين على تأسيسها، أن أهديها من بين الطوابع الخمسة آلاف التي جمعتها، على اختلاف تواريخها ومصادرها، أن يكون هذا الطابع بالذات والممهور بخاتم هذا التاريخ بالذات، تعبيراً لمحبّتي لها وتقديراً لما قدّمته لي من غنى روحي ومن حظ كبير للمشاركة بهذا الحدث الذي طُبع في مخيّلتي طبعة نهائيّة. إنّني، أكمل في هذه اللحظات وأنا أخطّ هذه السطور تذكّر صلواتنا للمسبحة وطلبة العذراء ليكون شرقنا، أرض سلام ومحبّة وتوافق تتميماً لإرادة مخلّصنا يسوع، وكم نحتاج اليوم، أكثر من أمس إلى هذه النِعمة.
لم يتوقّف دور الجمعية في رسالتها المسكونيّة عند هذا الحدّ من المشاركة في هذا الحدث المسكوني، لا بل اختبرت شخصيًّا مسكونيّـها أيضاً في أحداث مهمّة عديدة، أذكر منها تعيين قدس الأب بولس نجم، رحمه الله، مسؤولاً عن الإرساليّات الباباويّة الأربع في لبنان: مؤسّسة نشر الإيمان، مؤسّسة مار بطرس الرسول، مؤسّسة الطفوليّة الرسوليّة، ومؤسّسة الاتحاد الرسولي. هذا بالإضافة إلى اللقاء المميّز الذي استضافت فيه مدرسة الرسل في قاعة الرياضة المقفلة الفريدة من نوعها في حينها، الأب بيار Abbé Pierre في 26 كانون الثاني 1959، وأيضاً الكاردينال جاكومو لركارو رئيس أساقفة مدينة بولونيا في إيطاليا، وقد ألقى نيافته محاضرة قيّمة حول موضوع «الفقر في الكنيسة» وذلك سنة 1964؛ وكأني بهذا النشاط، يلتقي المرسلون مسبقاً، وهم السبّاقون في المجالات الرسوليّة، مع قداسة البابا الحالي فرنسيس في دعواته المتكرّرة إلى نصرة الفقراء. الجدير بالذكر هنا، أنّ الكاردينال جاكومو كان من أهمّ المرشّحين على خلافة البابا القديس يوحنا الثالث والعشرين في رئاسة الكنيسة، وهو أيضاً المهندس الأساسي للإصلاحات الليتورجيّة التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني.
لكن الحدث الأهمّ بين كلّ تلك الأنشطة هو المؤتمر العالمي لحقوق الطفل، دارت أحداثه في معهد الرسل – جونيه من 16 إلى 22 نيسان سنة 1963 وقد حضره وشارك فيه أكثر من ألف عضو جاؤوا من مختلف بلدان العالم في أقطاره كافة؛ تعود أهميّة هذا المؤتمر إلى أنّه أرسى التزام الكنيسة الكاثوليكيّة الكامل في الدفاع عن حقوق الطفل، ولا تزال توصياته يُعمل بموجبها كمرجع رسميّ حتى يومنا. ولقد استحقّ قدس الأب بولس نجم على جهوده الجبارة في قيام هذا المؤتمر أن ينال وساماً بابويًّا رفيع المستوى والمعروف بـ Pro Ecclesia et Pontifice
إنّي أفخر لأن أنتمي إلى هذه الجمعيّة وإنّي أفرح بكل انشراح لما عشته فيها وإنّي أشكر الربّ على ما زرعت فيّ من قِيَم ولا سيّما من حبّ الله والكنيسة، وفي يوم عيد تأسيسها أهديها كلّ حبّي وأمانتي”.