Almanara Magazine

روحانيّة المطران يوحنا حبيب

الأب ساسين زيدان المرسل اللبناني

مقدّمة

«كان رجل مرسل من الله اسمه يوحنا» (يو 1/6). بهذه الآية الكريمة توّج المطران شكر الله خوري، رئيس أساقفة صور، وأحد أبناء الرسالة اللبنانية، الضريح الرخامي الفخم الذي شيّده، في كنيسة دير الكريم، غوسطا، فوق مثوى «أبيه ومعلِّمه»، المطران يوحنا حبيب، «إقراراً بالفضل وإعجاباً بالفضيلة».

قِيلت هذه الآية الإنجيليّة أصلاً في يوحنا المعمدان، «السراج الموقَد المنير» (يو 5/75)، الذي جاء يمهّد الطريق «للنور الحقّ الآتي يُنير كلّ إنسان» (يو 1/9). وتصدق، عن حقّ وحقيقة، في المطران يوحنا حبيب، وتعبّر خير تعبير عن سرّ دعوته، وسموّ موهبته، وعظمة فِعاله، وخلود رسالته. إنّه حقًّا «المرسل من الله!» وُلِدَ، وعاش، وناضل، ومات في سبيل الله، تحقيقاً للموهبة العلويّة التي نالها من الله. «لم يكن هو النور، بل شاهداً جاء ليشهد للنور، فيؤمن عن شهادته جميع الناس» (يو 1/7).

لن يتناول حصراً هذا المقال «موهبة المؤسِّس البارّ»، بل فقط «الروحانيّة» التي أنعشت عيشه هذه الموهبة، ورافقت نشاطاته، وألهمت مبادراته، في شتّى الأوقات والأحوال، وجعلته يكرّس، في سبيل إنشاء الجمعيّة، «حياته وكلّ ما له، وأحواله، وكدَّه، وتعبه، وحتى عافيته […] ولشدّة ولعه بقيام الجمعيّة، يُعبِّد ذاته للذين دخلوها، ويموّت نفسه بين أيديهم بالكليّة»[1].

بعد التذكير بمفهوم عبارة «الروحانيّة»، نتوقّف تباعاً نستعرض قوام روحانيّة مؤسّسنا، المطران يوحنا حبيب، وأصولها وجذورها، عسانا نستشفّ فيها الدواء الناجع لأمراض عقلنا وقلبنا ومجتمعنا، «فيحترّدمنا»[2]، ونتجدّد، ونتجنّد لزرع «فرح الإنجيل»[3]، في كلّ قلب، وبيت، وبلد.

أولاً- غيرة متَّقدة

الروحانيّة هي وعينا الإيمانيّ، وعيشنا العمليّ للحياة الروحيّة، التي نلناها بالميلاد الثاني من الماء والروح، في سرّ العماد المقدّس. ولادة ثانية، لحياة جديدة، أدخلتنا عالم الألوهة وحلقة الثالوث القدّوس، وجعلتنا شركاء الطبيعة الإلهيّة، أبناء للآب، إخوة للمسيح يسوع، هياكل حيّة للروح القدس الحيّ (راجع يو 1/12-13، 3/3-5، 14/20-23؛ طي 3/4-7؛ 2بطر 1/4؛ روم 8/9، 29؛ 1قور 6/19؛ أف 1/5، 13).

إنّها، في آنٍ معاً، نمط تفكير، ذهنيّة، في نورها نقرأ الأحداث وعلامات الزمان، ونتفهّم الأمور، ونقيّم الآراء، ونعتمد ما يُمليه علينا الإيمان من حقائق وتعاليم. وهي أيضاً نهج عمليّ، قاعدة مسلك، في الحياة، لعيش علاقتنا بالله وأداء فروض العبادة، وعلاقتنا بالناس، والكائنات، وإتمام واجبات الحالة، والشهادة المسيحيّة، في عيالنا ومجتمعاتنا.

في هذا السياق تبرز روحانيّة المطران يوحنا حبيب ساطعة، فريدة: ناراً آكلة تُلهب قلبه، وتُلهم خياراته، وتهدي مبادراته وسائر إنجازاته. «فقام كالنّار، – على مثال إيليا النبيّ،- وتوقَّد كلامه كالمشعل» (سي 48/1). «غار غيرة للربّ» (راجع 1مل 19/10)، لله ومجده الأعظم، وللقريب وخيره الروحيّ، وللكنيسة وازدهار رسالتها.

1- غيرة لله ومجده الأعظم.

الغيرة محبّة في أوج اضطرامها. والغيرة لله محبّتنا له، وسعينا إلى مدحه وحمده، وعبادته، وعمل مرضاته، وتتميم مشيئته، ولسان حالنا يقول مع يسوع: «مجدّتك في الأرض، فأتممت العمل الذي وكلتَ إليّ أن أعمله. […] يا أبتِ، مجّد اسمك» (يو 17/4، 12/28). وذلك، لا بقوانا البشريّة، بل بفعل محبّة الله المفاضة في قلوبنا بروحه القدّوس الذي وُهِب لنا (روم 5/5). نحبّ الله بالمحبّة التي من الله، والتي هي الله. ونغار لله بالغيرة التي يُضرمها الله في قلوبنا.

هذا ما تحقّق في حياة المطران يوحنا حبيب، منذ نشأته، تحت نظر جدّه لأبيه الخوري يوسف العينكسوري (+ 17/11/1837)، وعناية الوالدين الصالحين، وتوجيهات، وقدوة حياة، كاهنين فاضلين، (واكيم الحاقلاني، ويوسف شاهين القرم الحكيّم).

ترعرع حبيب على التقوى وحبّ الصلاة، وخدمة القدّاس، والإقامة في عالم الروح. وباكراً، كما شهد له رفيق الدراسة وصديق العمر، مرعي الخوري يعقوب الحاج (البطريرك يوحنا الحاج 1817-1898): «كان روحه روح تقوى خارقة العادة، روح ورع عظيم، […]، من أكبر المتورّعين في العبادات. […] بزمان قصير صار محنّكاً كبيراً في كلّ أمر روحيّ وفضيلة مسيحيّة. وعندما كنّا نعمل رياضة روحيّة كان يبلغ به أمر الورع والخشوع إلى طبقة الجنون في الروحيّات»[4].

هذا الجنون في الروحيّات جعله، حسب قول الأب يوحنا السبعلي، «من أخصّ الذين عَظُمَ الخالق في أنفسهم، وصَغُرَ كلّ ما دونه»[5]. وبالتالي، لا نعجب حين نراه، بعد رياضة أسبوع الآلام، في السنة الثانية لدراسته في عين ورقه – نيسان 1832 – يهرب ليلاً طالباً الترهّب وعيش النسك، في دير حوب – تنورين، بالقرب من معلّمه الحبيس القس واكيم الحاقلاني. ولم يعد عن عزمه إلاّ مرغماً، باكياً، نزولاً عند أمر رئيسه البطريرك يوسف حبيش (1823-1845)[6]. وعلى الرغم من فشل هذه المحاولة، سيظلّ يشتدّ شوقه إلى الانقطاع التام لعبادة ربّه، في التنسّك والزهد. وسنراه، بعد اعتزاله القضاء، يقصد الترهّب يسوعيًّا، حسب تعبيره، ويرجو البادري سليمان – الأب اليسوعيّ ريمون إستاﭪ (+ 1873) – أن يسعى لدى الكرسي الرسولي في روما بإعطائه الإذن لدخول الرهبنة. وهنا أيضاً يصطدم برفض البطريرك يوسف الخازن (1845-1854). ويعاود الكرة في تشرين الثاني 1863، ولم يفلح (راجع عريضته إلى البطريرك بولس مسعد، 1854-1890)[7].

ولم تكن هذه المحاولة الأخيرة باسمه فقط، وليس لمجرد رغبته في الترهّب والانقطاع عن العالم لخدمة الله في خلوة الصوامع. بل أيضاً باسم بعض الكهنة الناذرين الطاعة للسيّد البطريرك. والمطلوب إقامة «أخويّة إكليريكيّة»، لتعاطي العمل الرسولي في الطائفة المارونيّة. وفي حال تعذّر الاستجابة، السماح له، ولمن يرغب، في اعتناق الرسالة بدخول الرهبنة اليسوعيّة[8].

2- غيرة للقريب وخيره الروحيّ.

مع السنين، ازدادت اضطراماً نار الغيرة في قلب «الحبيب»، وأدرك على وهج لهيبها أنّ مجد الله لا يقوم فقط بوفاء فروض العبادة؛ ينبغي أيضاً، وبخاصةٍ، السعي إلى «خير القريب الروحيّ»: «مجد الله، أن يحيا الإنسان من حياة الله»[9].

وتجسّدت واقعيًّا هذه الغيرة على خير القريب الروحيّ في مشروع إنشاء جمعيّة مرسلين، «يجري أبناؤها في قصد طريق الكمال، ويبذلوا جهدهم في أمر خلاص نفس القريب ونفعه الروحيّ بالكرازة بالإنجيل المقدَّس، وبالإنذار والإرشاد، والتفقيه بالأمور الدينيّة، ومباشرة الرسالة وتعليم العلوم الكنائسيّة والأدبيّة التي تأول لنفع القريب، وذلك لمجد الله الأعظم»[10].

وكما تحوّلت غيرته على الله ومجده الأعظم إلى «جنون في الروحيات»، تحوّلت أيضاً غيرته على خير القريب الروحي إلى «غرام» في إنشاء جمعية المرسلين، كما ورد مراراً، وتكراراً، على لسانه، في أحاديثه وكتاباته. منها، على سبيل المثال، ما جاء في رسالته إلى البطريرك بولس مسعد، تاريخ 21 آب 1882، حيث يقول ما حرفيّته: «أنا مغرم بالجمعيّة، وقد عبّدت نفسي لكهنتها، واحتملت ما لا يُحتَمل من المتاعب والتعنيفات، بل ومن الاضطهادات، مع ما أنا عليه من حدّة الطبع، لأنّ غرامي بها جعلني في طبقة عالية من الصبر العجيب، وشأن المغرَم عدم المبالاة بالشقاء»[11].

وفي مناسبة أخرى يقول: «إنّ الجمعية منشأي، وأنا مغرَم بنموّها، ولا أحبّ شيئاً في الدنيا عليها، وإنّي باذل لها كلّ شيء حتى عافيتي، وإنّي إذا خسرت كاهناً يحترق دمي، ويتفطّر قلبي، […] وأنوح عليه كالأم على ولدها»[12]. وفي حديث له إلى كهنة الجمعيّة يتساءل بلهفة الولهان: «كيف لا نتحمّس بالغيرة على خير القريب؟ وكيف نحتمل أنّ الذئاب تفترس الخراف؟ بل كيف نحن الكهنة نكون حجر عثرة للشعب؟ […]، يا لخجلنا العظيم، كيف نحن طائشون، متعامون عمّا فيه خيرنا الروحيّ […]، ولا نلتفت إلى حاجة الشعب المتضوّر جوعاً […] يصيح بمن يكسر له الخبز، ولا يوجد مرسلون يسمعون صراخه؟ ماتت الغيرة، بَطلَت النخوة، قست القلوب![13].

وفي رسالة من ميروبا، تاريخ 29 أيلول 1885، إلى آباء الجمعيّة يقول ما حرفيّته: «إذا تروّيتم وأمعنتم النظر في أمري وما أنا عليه من إنشاء الجمعيّة وإلى الآن تجدوني مغرَماً بنجاحها أي غرام»[14]. وفي رسالة إلى الأب يوسف العلم، تاريخ 23/2/1882، يقول: «غرامي بالجمعيّة أشهر من أن يُذكر، ولا أفضّل أحداً كائناً من كان عليها. فقدّمت لا مالي فقط بل عافيتي ودم قلبي»[15]. وفي رسالة إلى الأبوين الياس الحلتاوي، – (البطريرك الياس الحويك فيما بعد) – والأب يوسف أبي نجم – (المطران فيما بعد) -، كاتبَي أسرار البطريرك بولس مسعد، يصف حبّه للجمعيّة بقوله: «عشقتها حتى كدت أصل إلى طبقة الجنون»[16].

خلاصة القول، همّه الوحيد، – ولدرجة الوَلَع والوَلَه -، نجاح الجمعيّة وحسن تربية المرسلين، «حتى يحترّ دمهم ويشربوا حبّ الرسالة نظير المرسلين الأوروبيّين، ولا سيّما اليسوعيّين»[17]. وذلك، كما رسم في صورة النذر: «لأجل مجد الله الأعظم، وخلاص نفسي، وإفادة القريب الروحيّة»[18].

3- غيرة للكنيسة وازدهارها.

«إنّ الذي حرّكني إلى تجديد الجمعيّة تصوّري ضرورتها في هذا العصر، وما سيحصل عنها من الخير العظيم للطائفة»[19]. حبّ المطران يوحنا حبيب للجمعيّة من حبّه للكنيسة؛ وغيرته «الجنونيّة» على نجاحها من غيرته على ازدهار الكنيسة. بفعل حسّه الكنسي، إنّه على يقين من أنّ الجمعيّة ليست لذاتها بل للكنيسة وخدمتها، ورفع شأنها، وصيانة إيمان أبنائها، ومساندة رسالتها الخلاصيّة.

ونراه، إلى جانب جهاده في سبيل إنشاء الجمعيّة يضع غيرته على الكنيسة في الخضوع البنويّ لرؤوسائها، والانقياد الطوعي لأوامرهم، وإن مغايرة لرأيه ومعاكسة لرغباته، كما في حادثة هربه ليلاً لعيش حياة النسك، أو مسألة درسه الفقه وخشيته من تعيينه في سلك القضاء، أو أيضاً قضية سعيه «للترهّب» يسوعيًّا، حسب تعبيره، كما وفي محاولات الرؤوساء مراراً ترقيته إلى الدرجة الأسقفيّة التي طالما زهد بها ورفضها، ولم يُذعن أخيراً ويرضى بها إلاّ بأمر الطاعة، مرغماً باكياً، إنّما لخدمة الطائفة. ويعتبر رضى الرؤوساء من رضى الربّ، بل «أعظم نعمة» و«عربون سعادتي»[20]. وفي رسالة أخرى إلى البطريرك بولس مسعد، يذهب إلى حدّ التصريح حرفيًّا: «أريد الموت برضاكم، فأمروني بما يشاء الخاطر الشريف»[21]. وفي القوانين، أوجب «على أهل الجمعية إجلال (السيد البطريرك)، وتعظيم مقامه السامي، وإبداء جميع أمارات المهابة والتوقير لذاته الكريمة، والامتثال لأوامره كافةً والخضوع لأحكامه، […] والمحافظة على رضاه». وفي العدد التالي، يرسم ذات التصرّف مع السادة المطارين وأساقفة الرعايا، ويوضح السبب: «كوننا جنود لأساقفة الرعايا في الجهاد الرسولي»، […] «خصوصاً في هذا العصر الذي استطال فيه جنس الأشرار على طائفة الإكليروس، ولن يزالوا معتصبين مع الطاغوت الجهنّميّ لا على درس كرامة هذه الطائفة، بل على درس الطائفة عينها. فلننتبه لأمرنا، ونعتصم بشدّة التعلّق بوكلاء ربّ الكرم، وبالكدّ في عمل الكرم وإتقان حرثه»[22].

وما رسمه لأبنائه المرسلين سبق وعاشه: «إنّني جنديّ غبطتكم، وجسمي انهرم من كثرة أتعابي قدام الكنيسة»، يكتب إلى السيّد البطريرك بولس مسعد، بتاريخ 6 نيسان 1880[23]. وكان سبق وكتب إلى غبطته، بتاريخ 25 شباط 1876، قائلاً: «قد تذكّرت سالف زماني فوجدت من نفسي أني صرفته بخدمة الطائفة […]، فكم وكم من المشاكل التي لا تعدّ صرفتها في الطائفة. فكم من المصالح سعيت فيها […] وكم جاهدت حسناً في عهد الثورة الأهليّة في كسروان (ثورة طانيوس شاهين). فكم حاميت، وكم ناضلت، وكم قاومت»[24].

«رجل الثقة والمرؤات»[25]، «نجده دائماً في الطليعة كلّما دعا الداعي لنجدة الطائفة، وصون كرامتها، وإعلاء شأنها. فلا يطرأ طارئ ينال منها أو يتهدّدها إلاّ ويهزّه في صميمه، وتحدوه النخوة ليوقظ الهمم، جمعاً للكلمة، ودفعاً للأذى»[26]. مواقفه مشهورة، ودوره فاعل، حاسم في العديد من القضايا. منها على سبيل المثال، لا الحصر، نفي المطران يوسف الدبس، رئيس أساقفة بيروت، عن كرسيّه، في 10 تشرين الأول 1886؛ مسألة التجنّي على اليسوعيّين، ومقالاته دحضاً للبهتان، في جريدة البشير (1884-1885؛ فصل الخلاف في قضيّة مستشفى مار مخائيل عمشيت (1888)، وقضية وقف مار نقولا العريمي عرمون (1881)[27].

ثانياً- نفس سخيّة

لكلٍّ من العلوم والفنون وطُرُق العيش والسلوكيّات، أصول وقواعد، نظريّة وعمليّة. يصدق هذا المبدأ أيضاً في «الروحانيّة»، وهي العلم الأسمى، والفنّ الأمثل والحياة الفُضلى. ولقد توسّع علماء الروح واللاهوتيّون في تبيان مضامينها، ورسم منهجيّاتها. أمّا المطران يوحنا حبيب، فلم يتطرّق مباشرةً وخصّيصاً إلى هذا الموضوع. نستقرأ أصول روحانيّته من خلال بعض عبارات وردت في كتاباته، وبعض عِبَر من أمثلة حياته وثوابتها، في ضوء شهادات معاصريه وعارفي قدره.

غنيّ عن البيان أنّ الميزة البارزة في شخصيّته، وحياته، هي ولا شكّ السخاء. إنّها علامته الفارقة، وسمته الفريدة، في نمط تفكيره ومبادئ عيشه. وهي الصفة الأولى والأساس يقتضيها من أبنائه المرسلين. وهو القائل، في حديث استرشاد روحيّ مع صديقه الحميم المونسنيور يوسف آصاف، رئيس مدرسة مار عبدا – هرهريّا -: «آليت ربّي ألاّ أبخل عليه بشيءٍ تمنّاه منّي»[28]. ولقد صدق في ما قال. واتسمت سيرته كلّها بثباته العنيد في تجريد قلبه ويديه بالتمام، وبذله جميع ما يُبذَل ليُفرغ العمر ويصهره في مشيئة الله. عاش بسخاء كلّي، وأحكم زهده قلباً وقالباً، مُقيَّداً كلّياً بهواه الأوحد، مجنَّداً له، مضحّىً في سبيله، عن سابق قصد وعمد، ولم تراوده يوماًَ نزعة خارجيّة ولا رجعة، منذ ما عقد النيّة ووطّد العزم، عهداً صادقاً مع ربّه.

عاش بسخاء، وعلّمه بنيه باندفاع وحماس، انطلاقاً من ثلاث عمليّات جسّد فيها أصول روحانيّته: التجرّد والتجنّد والتعبّد.

1- التجرّد.

«من لا يتخلّى عن جميع أمواله لا يستطيع أن يكون لي تلميذاً» (لو 14/33). التجرّد هو الشرط الأوّليّ، السُنّة الأساس، لاتّباع المسيح والتتلمذ له. لا خيار آخر، ولا وسيلة أخرى. والتلاميذ الأوّلون «تركوا كلّ شيء وتبعوه» (لو 5/11). كلّ روحانيّة مسيحيّة لا تدخل من هذا الباب هي كاذبة، ضالّة ومضلِّلة.

باكراً، تبنّى «الحبيب» هذه القاعدة، ورغب في حياة الزهد والنسك. ونراه، طوال العمر، لا يأبه بالمال والجاه، ولا بالمراتب والمناصب. بكدّه وسعيه، وعيشه البسيط، وحسن إدارته وحنكته في توظيف أمواله – ودائماً بمعرفة الرؤوساء وإذنهم الصريح[29]، جمع ثروة لا بأس بها. لكنّه، لم يتعلّق بها، عملاً بقول المرتّل: «إذا وفرت ثروتكم فلا تعلّقوا بها قلوبكم» (مز 62/11). ولم يتردّد برهةً بالتخلّي عنها تخليًّا تامًّا: «فخصّص كلّ ما كان يملك، ووقف نفسه وسعيه على جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، ومدرستهم المجانيّة القائمة في دير الكريم، ولم يختصّ لنفسه شيئاً من كلّ ما امتلكه بسعيه وتعبه، مدّة حياته، التي قضاها بخدمة الطائفة. ولا يزال سعيه وتعبه مقصورَين على إنجاح مشروعه الجليل الفائدة»[30].

وفعلاً، ما إن انتهى من معاملات شراء دير الكريم (18/2/1865، و6/3/1865)، نراه يسارع إلى إجراء معاملات وقفه «لله تعالى، لوجه الخير والبرّ، على التأبيد، بالتمام: «فما أبقيت على شيء مما في طاقتي من الأشياء الزمنيّة، واعتزلت عن كلّ حطام الدنيا، عند فتح الدير للجمعيّة»[31]. اعتزل بالقلب والروح والفعل، وتخلّى عن حقّه بالملكيّة، وعن عقليّة المالك، مواصلاً سعيه الحثيث لتنمية موارد الدير، لا طمعاً بتكثير الأرزاق، بل فقط «ليكون للمرسلين دخل مرموق يعتاشون منه، لئلا يكونوا ثقلاً على أحد[32]، «ومن قبيل تربية كثيرين على أمل أن يصمد أحد منهم»[33].

إنّه الزاهد الأكبر، وفي قرارة نفسه، لا يستهويه شيء ممّا في الدنيا، ويؤكّد للمقرَّبين، بوحي من الرسول بولس: «إنّي صرت أحتسب خيرات الجمعية ومال الجمعيّة كالزبل»[34]. ولا مغالاة فيما يقول! ونراه يرتضي لسكناه في الدير «بفرجة في الممرّ العموميّ إلى السكرستيا بين ثلاثة أبواب»، وصفها بدقّة معاصره الأب يوحنا السبعلي[35].

جمّع كلّ ما جنت يداه عبر السنين، وبذله تقدمة سخيّة، كاملة، على مذبح الكريم. ويعترف، صادقاً، لزميله والصديق الحميم، رفيق العمر، المطران يوحنا الحاج، (البطريرك فيما بعد): «ما عندي أدنى تعلّق لا بدير الكريم، ولا بشيء من أرزاقه. أنا راضٍ من الدنيا بالقوت والكسوة»[36].

وفي صك وصاياه الأخير، (تاريخ 1/1/1891)، يصرّح بما حرفيّته: «أقول أولاً وأعترف حقًّأ، لا من باب التبرّع ولا من باب الإنشاء، بل من باب الإخبار بالحق، بأنّه لا ملك لي ولا شبهة ملك، في شيء ممّا هو في يدي وحوزتي. […] إنّي منذ فتح دير الكريم للرسالة، أي في 13 آذار سنة 1866، أمسيت فقيراً، لأنّي انضممت في سلك أهل الجمعيّة، وأخلصت كلّ أشغالي وأعمالي وكدّي لخير الجمعيّة، بحسب رسومها القانونيّة. ومن ثمّ، فلا أملك شيئاً، حتى ثيابي، ملبوسات بدني، وإنّما أملك الانتفاع بها؛ وكذا حكم ما أجدّده، أو أكسبه في المستقبل إلى آخر نفس من حياتي»[37].

هذا التخلّي التام الاختياريّ عن المقتنيات، لا يضاهيه سوى الزهد الصارم بالمناصب والمقامات. حاول التهرّب من درس الفقه خشية توظيفه في القضاء. فأُرْغِم، وبأمر الطاعة، على الأمرين. وزاول المهنة، كقاضٍ منفرد أو قاضٍ في المجلس، وغالباً الإثنين معاً، نحو 16 سنة.

مراراً وتكراراً، حاول الاستقالة، ودائماً جوبه بالرفض وتجديد أمر الطاعة، وبعض الأحيان بالتهديد، كما روى البطريرك يوحنا الحاج، في 26/1/1897، يحدّث الأب يوحنا السبعلي عما جرى له وللحبيب، ذات يوم من أيار 1844، قال: «وَصَلَنا – (= هو والخوري يوحنا حبيب) أمرٌ من السيد البطريرك يوسف حبيش فيه يقول: «قد عيّناكما قاضيَين بدلاً من الخوري ارسانيوس، ونأمركما بقبول ذلك تحت طائلة الرباط. وقد كتبنا إلى القائمقام الأمير حيدر في هذا الشأن». الخ.. فما اطّلعنا على الأمر، وقد كنّا قبلاً استعفينا، احتدّ الخوري يوحنا (= حبيب)، وغضب وقال: «لا نقبل»، فقلتُ له أنا: «فلنذهب إلى الأمير ونستعفي». فذهبنا، ولما بلغنا إليه، قال لنا: «إنّ البطريرك كتب إليّ أنّه عيّنكما قاضيين، وأنا أثبَتُّ هذا التعيين. وإذا رفضتما، فالبطريرك عنده الرباط، وأنا عندي الحبس». فبعد الجدال قَبِلنا»[38].

زهده بالمناصب، سيجعله أيضاً، عند فتح دير الكريم للرسالة، يؤثر التنحّي، والبقاء في دير الشرفة يزاول التدريس، «ليرفع ظلَّ حضوره عن الجماعة، ويَدَعَها حرّة، طليقة في تدبير شؤونها، واختيار الرئيس والوكيل لإدارة عيشها. «وجلّ قصدي […] أن يهون عليهم الإشارة إلى ما يلزمهم»[39]. ولدى إصرار الآباء على إقامته ما بينهم، انقاد لرغبتهم. وكان ذلك أثناء سنة 1868. إنّما دون القبول بأيّة وظيفة. يكفيه أن يكون خادم خدّام كلمة الله. ويؤكّد: «إنّي لست ممن يحبّ الرئاسة في الجمعية. […] حالتي حالة خادم لهم، فلا أمر لي ولا نهي. ولا أنا صاحب رتبة في الجمعيّة. وليس في يدي شيء، ولا مداخلة لي في شيء […] ولا سؤال منّي عن حسابات الدير»[40].

زهَد بالرئاسة واعتزلها بتمام الرضى والخيار الحرّ. وكره الأسقفيّة ورفضها تكراراً بسابق عزم وإصرار. طوال نصف قرن ونيّف، كانت أنظار مجمع الأساقفة متّجهة إليه كلّما شغر كرسيّ إحدى الأبرشيّات مثل بعلبك، طرابلس، بيروت… وكان الخوري يوحنا حبيب يتهرّب، يعتذر، ويتذرّع…، ويصدّ كلّ من يُفاتحه بهذا الموضوع. «إنّي كاره لهذا المنصب أشدّ الكراهيّة». […] «إنّي أفضّل عليها أكل التوم والبصل، بل أكل التبن»[41].

وأخيراً، وبعد طول ممانعة، لم يعد بيد «الحبيب» من حيلة واضطرّ إلى تسليم أمره لله، والامتثال لأمر جازم، بقوّة الطاعة المقدّسة، بخط يد صديقه «الحلتاوي»، وتوقيع السيد البطريرك بولس مسعد، تاريخ 12/12/1889، يحتّم عليه الحضور بلا تأخّر إلى بكركي. حضر، وتوسّل، واسترحم. فأبى غبطته السماع، غير آبه بأعذاره، موجباً عليه الخضوع لقرار المجمع الأسقفيّ.

قاضٍ، ثم مطران ورئيس عام، بأمر الطاعة. المناصب تسعى إليه، وهو زاهد، يمانع، ويتهرّب. لا عن «نزوة»، ولا عن «مركَّب نقص» أو «عقدة سيكولوجيّة» -، وهو «الشخصيّة الفذّة، العصاميّة، الصلبة، الساحرة»[42]، و«الرئيس خلقة»، كما كان يلقّبه صديقه «الحلتاوي»[43] -، بل عن دافع روحيّ عميق، فيعترف: «يهون عليّ أن أبذل حياتي في سبيل طاعة الرؤساء، لكن يشقّ عليّ كثيراً أن يمسّوا حريّة ضميري»[44]. وفي كتاب إلى السيّد البطريرك، يوضح طويّة نفسه: «كيف يتأتّى لمن فيه هذه الملكة العاديّة المتأصّلة أن يرجع عن إصراره بلا إسعاف النعمة الإلهيّة. […] سيّدي العطوف المخلص الحبّ والوفاء، اعذرني في إصراري، ولو من حيث قِدَمِه. فإنّي قد عالجته بابتهالات وصلوات حارّة إلى الله تعالى، وإلى أمّ النِعمة الإلهيّة، حتى تندفع عنّي مستعصيات هذه الدرجة، فلم تندفع»[45].

زهده بالمقتنيات وبالمراتب نابع من زهده بنفسه. باكراً، أُخِذَ بكلام الربّ: «من أراد أن يتبعني، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه كلّ يوم ويتبعني» (لو 9/23). ومنذ أيام الدراسة، كما يشهد زميله آنذاك البطريرك يوحنا الحاج، «روحه روح تقوى خارقة العادة، روح ورع عظيم، روح استقامة غريبة، وزهد أغرب […]، يلازم الصوم، […] يجلد بدنه ويجرّح ساعديه كلّ نهار جمعة حبًّا بالاشتراك في آلام المسيح، […] يخفّف أكله، وأغلب الأحيان كان يترك حصّته من الفواكه وبعض المآكل العزيزة لجاره بلطف»[46]. منذ الصغر، همّه اتباع المسيح. وعلى مثال المسيح، «لم يطلب ما يطيب له. […] بل ما يطيب للقريب في سبيل البنيان» (روم 15/1-3). وقضى العمر، ولسان حاله يردّد مع الرسول: «لا أبالي بحياتي، ولا أرى لها قيمة عندي. فحسبي أن أتمّ الخدمة التي تلقّيتها من الربّ يسوع» (رسل 20/24). وبموهبة خاصّة من الروح القدس، حدّد لنفسه هذه الخدمة بواحدة وحيدة: إنشاء جمعية المرسلين. من أجل قيامها تجرّد وتجنّد. «يا ما جاهدت وقاسيت من الأتعاب في تجديدها، بحيث ما استبقيت شيئاً مما في وسعي. فتجرّدت عن كلّ شيء لأجل نجاحها، واحتملت ما لا يُطاق لأجلها، وذوّبت عافيتي في شأنها، وعبّدت نفسي لمن دخلها»[47].

2- التجنّد.

ليس التجرّد هدفاً بذاته. إنّه وسيلة، لا غاية. نتجرّد، يقول المطران يوحنا حبيب، لنتجنّد. في نظره وقصده، التكرّس للرسالة في الجمعية هو «جنديّة»، في سبيل الله وملكوته[48]. والمرسلون هم «بمنزلة جنود لأساقفة الرعايا في الجهاد الرسولي»[49].وبحميّة يحرّض بنيه صغار المرسلين، قائلاً: «كونوا كالجنود الأبطال للسيّد المسيح»[50].ويقول عن نفسه، في رسالة إلى البطريرك بولس مسعد: «إنّي جندي غبطتكم»[51].

وبداهة، يُسند إلى هذه الصورة الكتابيّة قواعد روحانيّته، مستشهداً بكلام الرسول بولس: «ما من أحد يُجنَّد، يُشغل نفسه بأمور الحياة المدنيّة، إذا أراد أن يُرضي الذي جنّده» (2طيم 2/4). ومن هذا المنطلق يحدّد مقتضيات روحانيّة التجنّد بالمزايا الأربع التالية: الطواعيّة، والجهوزيّة، والدم الحارّ، والتقيّد بالقوانين والأنظمة.

أ- الطواعيّة:

لا جنديّة بدون طواعيّة. وتبدأ هذه الطواعيّة بالتطوّع الاختياريّ. مع المسيح، لا تجنيد إجباري. «من أراد أن يخدمني فليتبعني» (يو 12/26). ويقوم اتباع المسيح بتبنّي تعاليمه ونمط عيشه: «جعلت لكم من نفسي قدوة، لتصنعوا أنتم أيضاً ما صنعت» (يو 13/15). بدون هذه الطواعيّة لا روحانيّة مسيحيّة صحيحة. يسوع الابن الوحيد، في حضن الآب، «نزل من السماء، لا ليعمل بمشيئته، بل بمشيئة الذي أرسله» (يو 6/38). تجسّد، وعاش، ومات، وجهه لدى الآب (راجع يو 1/1-2)، «ليفعل ما يرى الآب يفعله» (يو 5/19)، «ويبلّغ الناس الكلام الذي يتبلّغه من الآب» (راجع يو 17/8). «أفرغ ذاته ووضع نفسه، وأطاع حتى الموت، موت الصليب» (فل 2/6-8).

في نور الصليب، نفهم تركيز المطران يوحنا حبيب على الطاعة، سرّ «الرهبانيّات والجمعيّات المتقدّمات في النجاح». مراراً وتكراراً، في وقته وغير وقته، يناشد الجميع «الجدّ في طريق كمال الطاعة، على أنّها من أخصّ أركان طريقتنا»[52]. بدونها لا قيام للجمعيّة، ولا نموّ، ولا بقاء:

«حياة الجمعيّة تقوم بالطاعة، وإلاّ فتخرب. فالطوبى لمن أحياها بمثاله الصالح، والويل ثمّ الويل لمن يخربها بسوء مثاله». وبعباراتٍ لاهبة يحذّر من «طاعون كلمة أريد ولا أريد»، ويدعو إلى «الاعتصام بحصن الطاعة العمياء للرئيس، عملاً بنذرنا وعهدنا لله تعالى». ويتغنّى «بالمبدأ المعمول به عند أهل «الرهبانيات والجمعيات الأوروبيّة المرتّبة»، وهو أنّهم يعيشون بلا إرادة مطلقاً. فينام المرؤوس ويقوم، ويأكل ويشرب، ويلبس ويذهب ويأتي، ويتجوّل من محل إلى آخر، ومن مهنة رفيعة إلى صغيرة امتثالاً لأمر رئيسه، بلا تعلّل ولا تذمّر، أشبه بآلة تدور كيفما وحيثما تُدار». ويتساءل متحسِّراً: «إلى متى نبقى في حالة الوقوف عن الاقتداء بهم، وعن التمسّك بمبدأهم الكفر بالنفس، أي الإرادة وهوى النفس والطبيعة؟». وينهي محرِّضاً، مناشداً، بلهفة وغصّة قلب: «إنهضوا، إخوتي! انهضوا بنِعمة الله، وبمعونة مخاميي جمعيتنا، ونشّطوا بعضكم بعضاً إلى الانتقال إلى حالة جديدة، إتقان الطاعة المقدّسة. وليكن كلّ منكم قدوة للآخر فيها، واعزموا منذ هذه الدقيقة على العمل بها. وإذا فعلتم ذلك أيّدتم أركان الجمعيّة، […] وقرّبتم ذبيحة مرضيّة لله، ضحيّة إرادتكم بموجب دعوتكم وعهدكم لله»[53].

ب- الجهوزيّة:

لتكتمل الطاعة وتستقيم، على الجندي الصالح أن يتحلّى بالجهوزيّة التامّة، ويكون على استعدادٍ مطلق لتلبية كلّ نداء وتنفيذ كلّ مهمّة، مهما كان النوع، والمكان، والزمان، والأثمان. هذا يفترض، في مفهوم المطران يوحنا حبيب وقواعد روحانيّته، مزايا عديدة، أهمّها: سهر ويقظة، ولملمة قوى، وحشد طاقات، وحسن تدريب، وتحديد أهداف، وتوحيد جهود، وبخاصةٍ همّة نشيطة لا تعرف الكلل ولا الملل، ولا التردّد، ولا التسويف. وقبل هذه جميعها التحرّر من كلّ قيد عائق. هكذا عاش «الحبيب»، وهكذا رسم وعلّم. وإن فرض، على المرسلين، التكرّس بالنذور الإنجيليّة، وأضاف إليها المعاهدة المؤيّدة بالقسم بعدم قبول وظيفة روحيّة رسميّة خارج الجمعيّة[54]، فما ذلك إلاّ ليكون المرسل في حالة جهوزيّة تامّة، دائمة، محرَّراً من كلّ عائق، «مؤهَّلاً لكلّ عمل صالح» (2طيم 2/21)، متأهِّباً «للذهاب إلى حيث ألزمت الطاعة، بلا تراخٍ، ولا مبالاة بكدّ ونصب، إذ إنّ طريقتنا تلزمنا العمل بكرم الربّ حيث كان»[55].

بذات الاتجاه، يقول للكهنة: «متى دُعي أحدهم إلى الكنيسة لسماع الاعترافات، فلينهض بقلب فرح، بلا تراخٍ. ومتى عَلِم بأنّه عتيد أن يحضر جمع كثير للإعتراف، وجب عليه «أن يُبادر إلى إزالة كلّ ما يُعيقه أو يُشغله عن السماع»[56].

ويُذكّر التلامذة، مرسلي الغد، بشرف مقامهم ومقتضياته: «أنتم جنود المسيح في الحرب، وأخصّها حرب الطبع البشري. فهل ينتصر الجندي في القتال بلا سلاح؟»[57]. ويُناشدهم الاتعاظ، وطلب النِعمة من الله وتشديد العزائم، ويخلُص إلى القول: «كونوا كالجنود الأبطال للسيّد المسيح. حاربوا الرذائل ومرّنوا نفوسكم على الفضائل، لا سيّما الكفر بالإرادة. والزموا الطاعة المقدّسة فإنّها أفضل قائد للتقوى. ولا تصمّوا آذانكم عن سماع صوت الإلهامات الإلهيّة وصوت مرشديكم، وصوت الكتب الروحيّة التي تناديكم كلّ يوم، وصوت الله تعالى نفسه من القربان المقدَّس، عند زيارتكم اليوميّة له»[58].

ج- الدم الحارّ:

للنجاح في الجهاد الرسولي وفي الحرب الروحيّة، لا يكفي «جنود المسيح الأبطال» التسلّح بالطاعة والجهوزيّة. إنّهم مدعوّون، في «مدرسة الحبيب»، إلى التدرّب على «الفوز بملكة الروح الحارّ»، الكفيلة بصيانتهم من غوائل «الشائبة العموميّة الناشئة عن الروح الفاتر». مراراً وتكراراً، وبلهفة الملسوع بخيبات ضائقة الدعوات، الأفواج تلوَ الأفواج تُقبِل وتُدبِر – والقلّة القليلة تثبت وتتجنّد مكرِّسةً العمر للعمل في كرم الربّ -، الأب المؤسِّس يحاول إقناع المسؤولين بأن: «تصرفوا ما في وسعكم من القول والفعل والمثل، ممّا يعود إلى تثقيف وتهذيب تلاميذ الجمعيّة حتى يحترّدمهم»[59]. وبحنكة المربّي وتبصّر المعلم، يرشد هو نفسه التلاميذ، فيحذّرهم، ويُناشدهم، ويلقّنهم المبادئ والأساليب الواجب اعتمادها. فيقول ما حرفيّته:

«أما الفوز بهذه الملكة، (= الدم الحارّ -)، فيلزم له قبل كلّ شيء طلب النِعمة من الله بحرارة قلب، وملازمة طلب الثبات فيها، إذ بدونها لا نقدر أن نعمل شيئاً. ثمّ يلزم أن نحدِّث نفسنا مليًّا بوجوب التمسّك بمبادئ نعتمد عليها. […] والمبادئ هي أن يجعل كلّ منكم نصب عينيه الغاية التي لأجلها اختار دعوة الانضمام في سلك جمعيّة الرسالة. وأن يسبق فيفكّر هل يمكنه حمل صليبه فيها، ويلحق سيّده محتملاً كلّ ما يصادفه، من قهر الإرادة والأمور المضادّة طبعه البشريّ، وبأن يعيش في الجمعيّة بلا إرادة مطلقاً. فإذا رأى أنّه يحتمل ذلك، كان عليه حينئذٍ أن يُقدِم على دعوة الله له، ويشدّد عزمه كلّ التشديد، ويعقد عزمه على الكفر بنفسه وهجر إرادته وتسليمها لله، ويتّكل على الله، ويجدّد هذا العزم كلّ يوم عند نهوضه من النوم»[60].

من تسلّح بهكذا نصائح عمليّة، واقعيّة، نال الغلبة لا محالة وكان من عداد «جنود المسيح الأبطال!». وهكذا عمل وعاش الأب المؤسّس، قبل أن يعلّم: «عندي مبادئ لم أبرح أتمسّك بها. لي اصطلاح عشت فيه، وفيه أموت»[61].

د- التقيّد بالقانون والنظام:

من هذه المبادئ، التدقيق الكلّي بحفظ الرسوم والقوانين. إنّها «السور المنيع، يحمي المرسلين من هجوم اللصّ الجهنّمي الذي يتحيّل بمكائده أبداً إهلاك النفوس»[62]. «جندي المسيح الصالح» (2طيم 2/3)، المرسل لا يجاهد لمفرده، منعزلاً. إنّه عضو في «الجسم الرسوليّ المؤلَّف بالمسيح»[63]؛ ونفر، تطوّع مختاراً لمحاربة الأضاليل، «وإمداد الناس بكلّ عمل روحيّ يفيد خلاص نفوسهم»[64]. ومن ثمّ، بات لزاماً عليه، بفعل انتمائه إلى «الجمعيّة»، التقيّد برسومها، وهو الذي تكرّس للربّ بالنذور «بمقتضى قانون هذه الجمعيّة»[65]. فلا قيام للجمعيّة دون أنظمة ترعى شؤونها. «والله نظّم الجسد تنظيماً» (1قور 12/24). والجيش من ذات كيانه منظّم، وإلاّ تضعضع، وتبدّد.

هذا يقين الأب المؤسِّس: من نشأته، وتنشئته، وعمق روحانيّته. عاش حياة منتظمة، وأرسى لجماعته القواعد والأصول الكفيلة بقيامها، ونموّها، وتحقيق أهدافها، وديمومتها. من عصارة قلبه وخبرته، صاغ كتاب القوانين، وأفرغها في أسلوبه ولغته، وهو العارف بأصول الفقه والشريعة، والمتمرِّس بشؤون الزهد الروحيّ، والمتّقد بنار الحميّة والغيرة. وكتب ما كتب، تحت هداية ربّه، وأنوار روحه القدّوس، خاشعاً، مصليًّا، بورع وإيمان، طوال الساعات والأيام، في إحدى حنايا كنيسة دير الكريم، قبالة مذبح القربان، ولوحة الثالوث المتألّم، وإيقونة العذراء أمّ النِعمة الإلهيّة. فأتت «سديدة محكمة، ممهِّدة طريق البرّ والقداسة، وموصلة إلى إتقان مهنة الرسالة الخيريّة العائدة إلى مجده تعالى وخير القريب الروحيّ»[66].

إنّه إرث ثمين، مقدَّس. أغنى الجمعية والكنيسة. نهج كمال وقداسة، ومنهج روحانيّة رسوليّة ناجعة. «فعليهم إذاً، رؤوساء ومرؤوسين، […] أن يحفظوها مدقَّقاً بمواصلة دائمة […] لتُزهر جمعيتهم كالنخل بفضائلهم الوضيّة، وتنمو بمساعيهم الخيريّة، كالأرز في لبنان»[67]. هذه هي إرادة الله عليهم بالمسيح (راجع 1تسا 5/18).

3- التعبّد

نتجرّد ونتجنّد، لنتعبَّد. فنكرّس كامل كياننا، نفساً وجسداً، للعبادة بالروح والحق، العبادة التي يريدها الآب، كما علّمها يسوع للمرأة السامريّة (راجع يو 4/20-24). يُتَمِّم المؤمن هذا الواجب المقدَّس، «بتقديم ذاته ذبيحة حيّة مقدَّسة مَرْضية عند الله» (راجع روم 12/1)، فيعترف بربوبيّة الله الخالق وبعدم الخليقة التي لا وجود لها إلاّ بالله، ويتغنّى، مع مريم وعلى مثالها، بتسبيح الله، وتعظيمه، والاتّضاع أمامه، مبتهجاً به وبأنّه صنع العظائم، واسمه قدّوس. ورحمته إلى جيل فجيل للذين يتّقونه (راجع لو 1/46-55). بدون هذا التعبّد لا قيمة للتجرّد، ولا للتجنّد، ولا قيام لروحانيّة مسيحيّة أصيلة.

عديدة، منوّعة أشكال التعبّد، وأفعاله: حفلات، وصلوات، ونذور، وتقادم، ليتورجيّة رسميّة، وخاصّة، جماعيّة وفرديّة. ويبقى الخطر الأكبر، والخطأ الأعظم، عبادة الحرف والممارسات العقيمة. فالجوهر الأوحد، تقدمة الذات، قلباً وقالباً، بإيمان وحبّ، وصدق وأمانة، ذاكرين أنّ كلمة تعبّد مشتقّة لغويًّا من فعل «عبد»، ومنها «عبوديّة»، إنّما لا بالعنف والإكراه، بل بتمام الرضى، والحريّة، بفعل حبّ – إن لم نقل «غرام وهيام»، نقيّ، سخيّ، هبة ذات «للّذي أحبّنا وجاد بنفسه لأجلنا قرباناً وذبيحةً لله طيّبة الرائحة» (أف 5/2).

هكذا عاش وعلّم المطران يوحنا حبيب، مُحقِّقاً بالفعل كلمة الرسول: «لستم لأنفسكم» (1قور 6/19)، والتالية التي تشبهها: «ما من أحدٍ منّا يحيا لنفسه، وما من أحد يموت لنفسه. فإذا حيينا للربّ نحيا، وإن متنا فللربّ نموت. سواء حيينا أم متنا فإنّنا للربّ» (روم 14/7-8). وهكذا شهد له، مع الكثيرين، البطريرك بولس مسعد: «إنّكم كلّكم للربّ»[68]. «صاحب هوس»، حسب تعبيره، قضى حياته بالأتعاب، ومرّ بالمحن القاسيّة، أهمّها أزمات نشأة الجمعية ومأساة عدم الثبات وخروج الكثيرين – حتى الأولين مما بينهم، مما جعله، حسب تعبيره، يتلوّع ويتمزّق قلبه[69]، ولأنّه، كما يقول: «كرّس ذاته للجمعيّة، وما أبقى على عافيته نفسها ودم قلبه […] ذلك عن عبادتي لهم، وتمويت نفسي بين أيديهم»[70]. وما قاساه من محن ومشقات أفرغه من ذاته، وأرجعه إلى نفسه، متّضعاً، تائباً لربّه، قائلاً: «إنّي كنت مملؤاً كبرياء، وكنت أظنّ نفسي أهلاً لأعمال خطيرة، لكني عندما باشرت هذا العمل، اتّضح لي أني كنت مغروراً ولست أهلاً لإنشاء عمل كهذا»[71]. بهذا الاعتراف الداوديّ بلغ قمة السخاء وبذل الذات: «قوّمت أفكاري، سكّنت بالي […] وسلّمت أمري لله»[72]. سلّم عمل الله لله، متّكلاً على تدبير الحكمة الإلهيّة، مقدِّماً كلّ شيء لله. وهذا ما علّمه لأبنائه المرسلين: «أنتم لله لا لأنفسكم، ودماؤكم للشعب لا لعروقكم»[73]. يحقّقون ذلك بجدّهم «في طريق كمال الطاعة […] باطناً وظاهراً، بقلبٍ فرح، والتعرّي عن إرادة نفسهم كلّ التعرّي مع التسليم لإرادة رئيسهم على أنّها إرادة الله لا إرادة إنسان، وبهذا يكونون قد أطاعوا الله. وأي ضحيّة أحبّ إلى الله من تضحية الإنسان إرادة نفسه لوجهه تعالى»[74].

ثالثاً- قلب سمّاع

«القلب السمّاع» – حسب الترجمة الحرفيّة للنّص العبريّ -، هذا ما سأل سليمانُ الله، ذات ليلة، في جبعون، بعد تقديمه ألف محرقة على مذبح المشرف الأعظم، فمنحه الله سؤل قلبه، وزاده ما لم يسأل من الغنى والمجد: فلم يكن رجل مثله في الملوك كلّ أيامه (راجع سفر الملوك الأول، 3/4-13).

في المفهوم الكتابيّ، القلب هو باطن الإنسان، مصدر شخصيّته الواعية، العاقلة، والحرّة، وموطن اختياراته الحاسمة، مركز الناموس غير المكتوب، نقطة اللقاء مع الله والذات، ومسرح عمل الله السرّي في عمق الكيان والوجدان[75].

تصدق في المطران يوحنا حبيب هذه العبارة الكتابيّة. إنّه، مثل سليمان، صاحب «القلب السمّاع»، والفهيم الحكيم. ولقد أتقن، مدى الحياة، فنّ الإصغاء، وعرف كيف يجعل من قلبه «آلة لاقطة»، مدوزنة على موجات قلب الله، وقلب المواهب التي نالها من الله، وقلب المجتمع: لوحات ثلاث، تسجّلت عليها بالصوت والصورة، النداءات المثلّثة التي منها تتكوّن جذور روحانيّته.

1- نداءات الله

عائلات الحياة المكرّسة، في الكنيسة، ليست مجرَّد إنجازات بشريّة، وليدة كفاءات طبيعيّة، وتصاميم استراتيجيّة. إنّها في حقيقة جوهرها، وعلّة وجودها، موهبة علويّة يوقظها روح الله، «ليجعل القدّيسين أهلاً للقيام بالخدمة لبناء جسد المسيح» (أف 4/12): بتدبير من الله نمت جماعات رهبانيّة عجيبة الأنواع، أسهمت إسهاماً فاعلاً في أن تكون الكنيسة، ليس فقط حاضرة لكلّ عمل صالح (راجع 2طيم 3/17)، أو مستعدّة للخدمة في سبيل بنيان جسد المسيح (راجع أف 4/12)، بل أكثر من ذلك، لكي تظهر متحلّية بالمواهب المتنوّعة التي وُهبت لأبنائها، كعروس مزيّنة لعريسها (رؤ 21/2)[76].

بدوره، أوضح البابا القديس يوحنا بولس الثاني، في إرشاده الرسولي، «الحياة المكرّسة»، تاريخ 25/3/1996، أنّ «الحياة المكرّسة عطيّة من الثالوث الأقدس، […]، تبشّر بما يحقّقه الآب بالابن في الروح القدس، […] وأنّها أثر من الآثار الملموسة التي يخلّفها الثالوث في التاريخ، لكي يدرك الناس سحر الجمال الإلهيّ، والحنين إليه»[77].

على أرض الواقع، تتجسّد هذه المواهب، النابعة من قلب إلهنا المثلث الأقانيم، بواسطة نفوس سخيّة خاطب الله قلبها بنداءات وجدانيّة، ترجّعت أصداؤها، في عمق الأعماق، مدوّية عاصفة، أو هامسةً بخفر صوت نسيم لطيف (راجع 1مل 19/12). لا فرق. جوهر الأمر هو أنّ إلهنا إله يتكلّم. «ولقد كلّم الآباء قديماً بالأنبياء مراتٍ كثيرة، بوجوه كثيرة، وكلّمنا، في آخر الأيّأم هذه، بابنٍ جعله وارثاً لكلّ شيء، وبه أنشأ العالمين» (عبر 1/1-2). وعندما يكلّم، يدعو، ويُوكل مهمّة، ويهب القدرة على إتمامها. المطلوب؟ «اليوم، إذا سمعتم صوته، لا تقسّوا قلوبكم» (راجع عبر 3/7). نسمع، فننقاد. ومع أشعيا نقول: «ها أنذا، فأرسلني» (أش 6/8)، ومع المسيح يسوع عند دخوله العالم: «ها أنذا آتٍ، اللهمّ، لأعمل بمشيئتك» (عبر 10/5-8؛ ومز 40/7-9).

هذا ما خبره المطران يوحنا حبيب، بهمّته المعهودة، وما كان عليه من «أمر الورع والخشوع إلى طبقة الجنون في الروحيّات»[78]. هذا ما قاله ذات ليلة، حين جاء يسترشد صديقه الحميم المونسنيور يوسف آصاف، قبل شراء دير الكريم: «قد استنصحتك، فلا أخالفك. ومن الآن بدأت»[79]. وقبل هذه الحادثة ببضعة سنين، وعلى أثر تردّده، في بكفيا إلى دير اليسوعيّين، لسماع وعظ الرجل الصالح البادري سليمان، يكتب مستذكراً: «فتأثرت، فنويت الترهّب يسوعيًّا. فكشفت له فكري سرًّا، وأنا قابض على تمثال المصلوب تأكيداً لعزمي وشهادةً على صدق كلامي، وطلبت إليه أن يسعى لي لدى المجمع المقدّس بإعطاء الإذن بذلك»[80].

«إنّي أسمع ما يتكلّم به الربّ الإله» (مز 85/9). يسمع فيُلبّي. يُقرّر، فينفّذ. إنّه حقًّا «القلب السمّاع». جذور دعوته، ورسالته، وبالتالي الروحانيّة الناشئة عنهما، ناشبة عالياً وعميقاً في قلب الثالوث القدّوس. وكأنّه، فيه أيضاً، يصدق ما ورد على لسان الآب الأزلي، مشيراً إلى إغناطيوس دي لويولا، في رؤيا الستورتا، يقول إلى ابنه يسوع: «خذ هذا إلى خدمتك»[81].

وأخذ يسوع إلى خدمته المطران يوحنا حبيب، وجنّده في خدمة شعبه. هذا ما كان يردّده، هو نفسه على مسامع التلاميذ أبنائه، كما في الخطبة التالية: «إنّ الله تعالى دعاكم لطريقة الرسالة من بين ألوف حبًّا بخير نفوسكم. كما دعاني لخدمتكم بكلّ ما أقدر عليه. فأنا ما أبقيت على شيء ممّا في طاقتي من الأشياء الزمنيّة، وأريد أن أصرف باقي عمري بخدمتكم، غير مبالٍ براحتي، مع أنّي بلغت سنّ السبعين»[82].

وفي خطبة أخرى، بتاريخ 26 شباط 1887، عنوانها «يا بنيّ، أعطني قلبك، يركّز على واجب سماع كلمة الله، قائلاً: «هذه الآية الإلهيّة يجب أن نسمعها، وأن ننظر إلى من هو المتكلّم معنا بها. فإنّ الطالب هو الله خالقنا، هو المحسن إلينا بمواهبه، حيث لا نملك شيئاً من الخير إلاّ من قِبَلِه. فمن الواجب أن نسمع صوته تعالى ونفهم معنى قوله «يا بنيّ»، أي يا ابني العزيز».

ويتابع، معدِّداً الصفات التي يجب أن يتحلّى بها قلبنا البنويّ ليكون «لله»، ويسعد بالطوبى الموعود بها «من يسمع كلمة الله ويجفظها» (راجع لو 11/28). فيقول ما حرفيّته: «أعطني قلبك»، أي فرّغه من كلّ ما لا يرضيني. فرّغه من العيوب والأميال العاطلة، من الملكات المرذولة الشاذّة، من المشي على ما يهوى ويرغب طبعك. فهذا القلب أعطني إيّاه. فأنا أطلب منك قلباً متخشّعاً، قلباً متواضعاً، قلباً نقيًّا، وقلباً وديعاً، يحبّني ويفضّلني على كلّ الأميال والرغائب الدنيويّة. قلباً مسيحيًّا يستريح بي. إذ بغيري لا يستريح قلبك، بل يُعدَم كلّ هدوء وسلام. كما يعلم ذلك كلّ واحد منّا بالعمل والامتحان. فهل يستريح القلب الخالي من الاتضاع، والخالي من فضيلة الصبر والاحتمال، ومن فضيلة الكفر بنفسه وأمياله؟»[83].

2- نداءات المواهب.

«كلّ إنسان نداء». نداء في ذاته لذاته. ونداء من ذاته إلى سواه. نداء المواهب، التي منّ الله بها علينا، في الخلق وفي الفداء؛ ونداء العوز والنقص نحو التكامل والامتلاء. هذه وتلك تستحثّنا على العمل. كنوزنا، تأبى أن تُدفَن. تطلب «وضعها عند أصحاب المصارف»، بانتظار «عودة السيّد ليستردّ ماله مع الفائدة» (راجع متّى 25/27-28).

الربّ، في مثل الوزنات، سلّم كلاًّ من خَدَمِه «قدر طاقته». من هذا القبيل، وفيرة كانت «طاقات» المطران يوحنا حبيب، على قدر شخصيّته الفذّة، الساحرة. مواهبه نادرة، في العقل والقلب والإرادة؛ فيض الجود الإلهيّ. لا مجال للتوسّع في وصفها. نتوقّف فقط على ذكر ثلاث منها وسمت روحانيّته بطابع مميّز، ومن ثمّ روحانيّة الجمعيّة التي أنشأ: دقّة في الضمير، وصلابة في الحقّ، وبساطة في العيش.

أ- دقّة في الضمير:

«فخر الإنسان الصالح، شهادة ضميره الصالح»[84]. هذا ما يؤكّده الرسول بولس: «فإنّ فخرنا هو شهادة ضميرنا بأنّنا سِرنا في العالم، ولا سيّما في معاملتنا لكم، سيرة الإخلاص والصفاء اللذين من لدن الله، لا بحكمة البشر، بل بنعمة الله» (2قور 1/12). يصدق هذا الكلام، وبتمام حرفيّته ومعناه، بالمطران يوحنا حبيب، الرجل الصالح صاحب الضمير الصالح، الدقيق، الحيّ المستنير بالعقل السليم والإيمان القويم، والمستقيم باستقامة النيّة، وصدق الأقوال وصلاح الأعمال. الشهود كثيرون، والشواهد عديدة لا تُحصى، وفي كلّ أطوار حياته. «عاشرته، يشهد البطريرك يوحنا الحاج، تلميذاً وكاهناً، وقاضياً، ومرسلاً، وأسقفاً. وكنت الرقيب القريب لكلّ تصرّف من تصرّفاته، في كلّ طور من أطوار حياته. ومع ذلك، كان أبعد من أن أواخذه باقتراف صغيرة عن عمد، ولومرّة واحدة. ولم تسلم أعماله من كلّ عيب إلاّ لسلامة نيّته في كلّ عمل. فسلامة نيّته كانت فيه من المهد حتى اللحد، بمثابة جوهرة كريمة، لم يغيّر من رونقها شيءٌ مع كرور الأيام وتقلّبات المناصب والحدثان»[85].

من شواهد دقّة ضميره، أيام التلمذة، ليس فقط تدقيقه في واجبات حالته، من إجتهاد في الدروس، وحرارة في الروحيّات حتى الجنون، ومساعدته لرفاقه في شتّى الظروف، بل، وبخاصّةٍ جوابه للسيّد البطريرك، بعد إرجاعه بأمر الطاعة من مغامرة هروبه للتنسّك في دير حوب: «لا أظنّ أنّي أتيت سوءاً باتباعي صوت ضميري؟». وجوابه الآخر للمطران بولس مسعد، (البطريرك فيما بعد)، الذي كان يحاول، بتكليف من السيّد البطريرك، إقناعه بالعودة إلى مدرسة عين ورقه، ضامناً له الترهّب بعد نهاية دروسه: «وكيف لي أن أعوّض على المدرسة ما تكون قد أنفقته عليّ؟». ولم يقتنع إلاّ بعد أن بدّد المطران مسعد هواجسه من هذا القبيل بقوله: «إنّ ربّ المدرسة هو السيّد البطريرك، وهو يسامحك بما تنفقه المدرسة عليك. وإنّ غاية المدرسة هو الخير، سواء كان من جهة الوعظ والإنذار، أو من جهة ترهّب تلاميذها وصنعهم الخير في الرهبانيّة»[86].

وفي ممارسة مهامّه القضائيّة، سلك دائماً، كما يشهد له الجميع، مسلك النـزاهة والاستقامة، دون محاباة، ولا تفرقة، ولا تمييز؛ لا يسمح لأحد، أيًّا كان، أن يتدخّل بين ضميره والقانون، محرِّماً على نفسه، وبعزم شديد وحرص زائد، قبول الهدايا أو زيارة المتخاصمين، غير آبه لمديح أو تملّق، ولا لترسيم – إقامة جبريّة – ولا لتهديد بالعزل أو بالأذيّة، وحتى بالموت، كما حصل مع القائمقام الأمير بشير أحمد بشأن قضيّة يوسف بك كرم الشهيرة. وكان دائماً شعاره كلامه، بعد حكم أصدره لصالح الدروز ضدّ الموارنة، في قضيّة جوار الحوز (قضاء بعبدا اليوم)، وعلى الرغم من كلّ ضغوطات الأمير حيدر، القائمقام، وزوجتِه وابنتِه: «العدل أولى بالاتباع من خواطر البشر. وبالعدل حكمت. فإن راقكم ذلك، كان به، وإلاّ أترك القضاء، وأودّعكم»[87].

وبكلّ حزم وجرأة، يعترف هو نفسه، في كتابه إلى القائمقام الأمير بشير أحمد، تاريخ 4 شباط 1855: «لست سكراناً من خمر الإثم، ولا أنا ميت الضمير، ولا أنا جاهل أمور ديانتي ورسوم كهنوتي، حتى أنافق بيميني، وأتعصّب بدعوى الشيخ مخايل كرم وأخيه، مع أحد منهما. […] هذا ما أعرضه بحكم ضميري. وإنّ رضى الباري هو أغنم وأربح وأجلّ من كلّ شيء»[88]. وفي مكان آخر يقول: «اعتذرت إليه (= ذات الأمير بشير أحمد) بحجة أنّ ضميري ضيّق»[89]. وما يسمّيه «ضمير ضيّق»، هو بالذات هذه الدقّة بالضمير التي لازمته العمر كلّه، وجعلت «الجميع يشهد لحكمته، ويسلّمون بما يقول»[90]. وفي رسالته إلى القاصد الرسولي، يسمح الحبيب لنفسه بالقول: «إزدرائي بحطام الدنيا ساعدني كثيراً على حلّ المشاكل وفصل الدعاوى بين الناس، لا في سنّ شيخوختي حاليًّا، بل وفي سنّ شبابي أيضاً، حتى اكتسبت ثقة الناس بضميري، وتحكيم الكثيرين لي بفصل دعاويهم»[91].

لا يسعنا إلاّ أن نذكر مئات الصفحات من دفاتر الحسابات والجردات التي كان يحرص بدقّة بالغة زائدة على تدوينها بالقرش والبارة، حسب تعبير تلك الأيام، وذكر وقية الزيت الواحدة، وفرشاة للأحذية[92]. ومن شواهد دقّة ضميره، تشدّده في حفظ الرسوم، ولدرجة أنّه لم يشأ أبداً التساهل مع نفسه بطلب تفسيحات، أو التمتّع بإنعامات أو إعفاءات خاصّة، مثل تلاوة الفرض، حتى لو تيسّرت له دون التماس، بداعي مرض وسواه[93]. وبدافع من الدقّة في الضمير، نراه أبّان المحنة الشديدة وهاجس انحلال الجمعيّة الذي أقلقه، «وضغطه» (حسب تعبيره)، نراه يفكّر، رعايةً للحقّ والعدل، ورفعاً للأذى، في كتابة كمبيالات على نفسه إلى بعض الآباء والتلامذة، قائلاً: «إنّه يليق بي تدارك ضرر البريء»[94]. ولدى شعوره بدنوّ أجله، يوصي أبناءه المرسلين أن يفوا عن ذمّته، قائلاً: «يهمّني أن تريحوا ضميري»[95] وكان سبق وكتب لهم ذات يوم: «لا تذعنوا لشفيع، ولا تراعوا خاطر كبير، بل راعوا راحة ضميركم وخير جمعيتكم»[96].

ب- صلابة في الحقّ:

فُطِر «الحبيب» على الاستقامة الرهيفة، ونمت فيه بمثابة السمة الروحيّة الفارقة، وبدت دوماً ناصعة، قاطعة، تُهاب ولا تَهاب، تقصد الحقّ الصُراح في كلّ شأن كبيرٍ أم صغير، فلا توارب حتى تدركه، ولا تلين حتى تُقيمه.في قاموسه، وناموسه، الصلابة في الحق هي الأخت التوأم للدقّة في الضمير، ولا قيام لهذه دون تلك. إنّهما شقيقتان، تتكاملان، وتتعاضدان، لإحقاق الحقّ والإنصاف، والثبات في الصدق والإخلاص والأمانة والوفاء. وما رعايته للحقّ وصلابته في تبيانه وصيانته، سوى وجه من وجوه حسّه القويم بقدسيّة الضمير ووجوب رعايته وإن بسفك الدم.

هذه الخلّة، لم تفارق المطران يوحنا حبيب، طوال الحياة، ولازمته وأرشدته في كلّ قول وفعل، وبخاصّة في ما يمسّ حقوق الأشخاص والأوقاف، ورفع الأذى، وإحلال العدالة. في معرض الحقّ، لا يهادن ولا يوارب، ولا يساير. ولا يهاب القول لصديقٍ له يسأله عن قضيّة: «أنتَ صديقي، ولكن لا على حساب الحقّ»[97]. ونراه دائماً يستميت في إظهار الحقيقة، ولا يتعصّب إلاّ لوجه الحقّ، وإن اضطُرّ إلى وضع نفسه لا تحت خطر خسران وظيفة فقط، بل تحت خطر اتلاف حياته[98]. وهذا المسلك القويم جعل الجميع، من الأعيان وعامة الشعب، يُشيرون إليه بالبنان أنّه رجل الحقّ، شاهد للحقّ، عنوان النزاهة ومحط الثقة. وصديقه الحلتاوي – البطريرك الياس الحويك فيما بعد – يذهب لدرجة الإفصاح له، في إحدى رسائله، عن أنّه ذات يوم رآه مارًّا في بكركي، فبادر جلساءَه يقول، مشيراً إليه بالإصبع: «هوذا الحقّ»[99].

«رجل الحقّ»، المطران يوحنا حبيب هو «الرجل الحقّ»، والكاهن الحقّ. في مفهومه، الحقّ الحقيقي هو أن يكون الإنسان حقًّا ما يجب أن يكون، في نظر الله، ويحقّق بالتمام والكمال دعوة الله إياه، وفقاً لمشيئة الله القدّوسة، وهو الذي «اختارنا قبل إنشاء العالم لنكون في نظره قدّيسين، بلا عيب في المحبّة» (أف 1/4). هذا ما عاشه «الحبيب»، بحسب شهادة أقرب المقرَّبين، رفيق جهاده وشريك موهبته، الأب اسطفان قزاح الذي كتب له يوماً يقول ما حرفيّته: «إنّي معتقد، أنا وسائر أولادكم، أنّ كلّ ما يجري بحسب إرادتكم وتدبيركم، يكون قد جرى بحسب إرادته تعالى المقدّسة، ويكون هو الخير والصواب»[100]. وعاش هو أوّلاً ما كان يوصي به المرسلين خدام المسيح وجنوده: «أنظروا كيف تعظون الناس، ألا ينبغي أن يكون العمل طبق القول؟ […] كيف يليق بنا أن نعلّم ولا نعمل؟ […] لا يكون الوعظ بالكلام والإرشاد فقط بل بالعمل المطابق لأقوالكم، حتى إذا نظر الشعب إلى سلوككم اتّعظ بمرآكم ومجّد الله»[101].

ما يعلّمه عمل به أولاً، واتّسمت سيرته كلّها بثباته العنيد في ابتغاء مشيئة الله وتحقيق مقاصده الخلاصيّة.

ج- بساطة في العيش:

بتناغم مع الدقّة في الضمير والصلابة في الحقّ، لا بل بفعلهما، لازمت البساطة في العيش سيرة المطران يوحنا حبيب ومسيرته، في كلّ الأوضاع والحالات. عاشها عفويًّا، ولقّنها عمداً، وأورثها علامة فارقة لأبنائه المرسلين. مرّ في دنياه، برضىً واكتفاء، في الهناء والعناء، لا يشكو نقصاً، ولا يشتهي مزيداً، متقبّلاً الحياة كيفما تبدّت، درباً هادياً نحو الهدف. يكتفي، كما كتب يوماً، نقلاً عن بولس الرسول، «بالقوت والكسوة»[102] (1طيم 6/8)؛ دونما تكلّف ولا تأفّف ولا تأنّق، لا في الأشكال ولا في الألوان، ولا في الحركات والسكنات، ولا في المِشيَة، ولا في المركوب، فكان غالباً يفضّل التنقّل ماشياً، وإن اضطُرّ إلى الركوب فيفضّل الأتان أو البغل على الخيل[103].

يبدو، وبما هو عليه من مواهب الطبيعة والنِعمة، وكأنّه ليس بحاجة إلى «التصنّع» لكي يفرض وجوده ورأيه. إنّه مقبول في محيطه، لا بل «محبوب، مكرَّم عند جمهور التلاميذ والمعلِّمين، وبالخصوص عند السيّد البطريرك يوسف حبيش […] وكان يشتغل، ويشغّل الآخرين معه، وكنّا جميعاً طوع إرادته»[104]. ما رواه البطريرك يوحنا الحاج، زميله آنذاك، عن أيام الدراسة في عين ورقه، يصدق في كلّ مراحل حياة «الحبيب». سيرته واضحة، جليّة، بسيطة. لم تأتِ عجباً، ولم تميّزها الخوارق. ميزتها الفارقة أنها قويمة مستقيمة. لا إنطواء، ولا إلتواء. مناقبه وفعاله أكسبته صيتاً ومكانةً عزّ نظيرهما. المناصب تصبو إليه، وهو فيها زاهد. في الفتوّة والشيخوخة، في السرّاء والضرّاء، هو هو، المؤمن السالك في رضى ربّه، الواثق من سلامة قصده وصدق نواياه: «مجد الله الأعظم ونفع القريب الروحي»[105]. بذات البساطة والطمأنينة يجهد في تعليم خادم الدير مبادئ القراءة والألف باء، ويلقّن الإخوة المرسلين أصول اللغة اللاتينيّة، ويخاطب البطاركة والأساقفة «وكأنّه البابا لاوون»، حسب تعبير بطريرك الروم الكاثوليك، غوريغوريوس يوسف (1864-1897)، يحدل السطح، ويكنس الممشى، ويخدم المرضى ويغسل أقدامهم، ويحمل تحت جبّته أحذية الآباء من حريصا إلى الكريم، ولا يستعيب شيئاً في سبيلهم. والغريب أنّه، مع كلّ ذلك، يبقى المرجع، إليه يهرع الجميع، ويتعاطى مع الأعيان والحكّام وكأنّه ليس فقط نظيرهم بل رئيسهم[106].

في كلّ الحالات، يعتبر نفسه، في قرارة وجدانه، «الأحقر»، حسب قوله لأحد الوجهاء، الذي صدفه في مطرانيّة بيروت المارونيّة، وبادره مُقبّلاً يديه، هاتفاً: «أيّها الرجل العظيم، كيف تجمع بين حقارة ثوبك هذا وعظمة اسمك؟» فيجيب «الحبيب»: «إنّك لفي ضلال، فالحقيقة إنّني أحقر من ثوبي. أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّي أعلم بي من نفسي»[107]. وحقًّا إنّه الأعلم بنفسه! ويقينه أنّه ليس بشيء من تلقاء ذاته. وما هو عليه، ليس سوى عطيّة مجّانيّة من الله. مواهبه «وزنات» – دين؛ عليه المتاجرة بها لوفائها مع ربحها. وفي مفهومه، البساطة في العيش ليست سوى صفاء العين وسلامة النيّة والنظرة، لرؤية الأمور على حقيقتها كما هي في عين الله. وبالتالي لا مجال للمباهاة بنجاح، ولا الإعجاب بمزيّة، ولال القلق من فشل: «وما فضلي أمام ربّي؟ […] وما عملي في سبيله تعالى فإنّما هو غموط النعمة»[108]. بهذا المعنى نقرأ ما رسمه للمرسلين: «يلزمهم إخلاص النيّة في أعمال رسالتهم أي أن يعملوا إتماماً لمشيئته تعالى ومجده. خاصّةَ، فلا يعجبوا بنفسهم بما إذا نجح عملهم ولا يقلقوا من عدم نجاحه، لأنّ النجاح يختصّ بالله بدليل قول الرسول: «أنا غرست، وأفلو أسقى، ولكن الله الذي أنبت» (1قور 3/6)[109].

أن يحسب الإنسان نفسه كلاشيء، هو في يقين المؤمن، عين الصواب، وفعل تواضع. ولقد غرس هذا التواضع في قلب الأب المؤسّس ميلاً شديداً إلى إكرام من هو دونه مقاماً وإلى خدمة الجميع وهو في المناصب العالية[110] وهو أيضاً الدافع إلى مبادراته السريعة إلى الاعتذار والاستغفار، بتذلّل، ودموع، وتقبيل الأرض، وليس فقط الأيدي، أو المعانقة[111]. فيكتب مثلاً في رسالة إلى الأب اسطفان قزاح: «أخطأت في السماء وقدامك، إقبلني كالابن الشاطر. كادت أحشائي تتمزّق ندامة على ذنبي»[112]. وبعد حادثة شباط 1879، وتهديد بعض الآباء بالخروج من الجمعيّة، يكتب في مذكراته: «حضرت أمامهم، وقبّلت الأرض قدامهم، وتوسّلت إليهم ليقبلوا عذري»[113]. ومما كتبه إلى البطريرك بولس مسعد، بتاريخ 6 نيسان 1888، مستغفراً عن موقفه الصارم بشأن قضية استرداد دينه على دير البشارة – زوق مكايل: «إنّي أخطأت، وقد ندمت، ولا أزال نادماً إلى آخر نفس من حياتي. […] إنّي إنسان ضعيف وشأني الخطأ، وشأن غبطتكم الصفح […]. أنا منطرح على أقدامكم متوجّعاً من مصيبتي الجسيمة»[114]. ويكتب، في مناسبة أخرى إلى الأب فرنسيس الشمالي، بتاريخ 6 أيلول 1880، يقول: «وأيّ وقت كان يظهر لي أن أحداً تكدّر منّي، كنت أطلب إليه السماح بكلّ تذلّل»[115].

يُدهشنا هذا التذلّل. ونرى فيه، لربّما، نوعاً من المغالاة. ولكن لا ننسى لغة العصر، ودقّة ضمير الأب المؤسِّس، واعترافه بحدّة طبعه، وسرعة تأثّره وانفعاله، وعزمه الثابت على إصلاح هذا الوجه السلبي في طبعه، ويقينه من ثمّ أنّه بهذه الطريقة ينال من الله النِعمة الفعّالة للنجاح في سعيه المبرور. نستشفّ ذلك ممّا كتبه في رسالته إلى الأب اسطفان قزاح، بتاريخ 2/12/1879، حيث ورد ما حرفيّته: «أبوّتك تعرف حدّة طبعي وكم أتأثّر. فأناشدك بحقّ جراحات الربّ […] أغفر لي فإنّي نادم على ذنبي. وقد نذرت على نفسي بأنّي أتحاشى كلّ حركة وكلّ كلمة تكدِّرك؛ ونذرت على نفسي القيام بهذا العهد. وماضيّ يشهد لي بأنّي مِمّن يقوم بعهده. فأترامى على أقدامك لتباركني وترضى عنّي»[116].

بهذه الجدّية واليقظة، يُصغي الأب المؤسّس، في قلبه السمّاع، إلى نداءات الله ونداءات المواهب التي جاد بها الله عليه، وحتى في وجوهها السلبيّة بعض الأحيان، ويسارع إلى الإصلاح وأخذ المبادرات الموآتية، ومسامحة من أساء إليه، «فقلبه الحلو، وحنوّه وانعطافه»، كما يقول الأب فرنسيس الشمالي[117]، و«حلمه، ووداعته، ورقة قلبه السليم النقي» حسب تعبير الأب اسطفان قزاح[118]، كان يأبى عليه إلاّ أن يسارع إلى مسامحة من أساء إليه، وحتى قبل أن يسأله المغفرة، كما كتب هو نفسه يوماً إلى الأب اسطفان الشمالي: «فأنا قد سامحتك قبل إطّلاعي على رقيمك»[119].

على سجيّته، وعملاً بقاعدة «البساطة في العيش» التي اتّخذها له شعاراً، الأب المؤسّس لا يعرف الحقد، ولا البغض، ولا الضغينة، ولا الكيد والكيديّة. وما عاشه، رسمه دستوراً للمرسلين. فأوصاهم بالبساطة في الوعظ، بدون تزويق ولا تعقيد، ولا مبالغة، في المديح أو التوبيخ[120]؛ والبساطة في العيش فلا يفرطوا في الاعتناء بأمر صحتهم وراحتهم[121]، ويذهبوا إلى الرسالة مشاة، كما يليق بجنديّتهم[122]، ولا يقصدوا الفخفخة بل ظهور الحقّ والصواب[123]، ويباشروا أعمال رسالتهم بإخلاص النيّة، إتماماً لمشيئة الله[124]، باذلين جهدهم بأن يُحسنوا السلوك مع الجميع ليملكوا قلوب الجميع ويُقدّموها لله تعالى[125]. فلا هذر ولا هزل، بل رزانة، ولا خفة ولا طيش بل حشمة، ليتعظ الناس بمجرّد النظر إلى هيئتهم[126].

3- نداءات المجتمع.

ناشبة في قلب الله، وفي قلبه المفعم من مواهب الله، روحانيّة المطران يوحنا حبيب هي أيضاً متجدِّرة في قلب المجتمع الذي فيه نشأ، وشبّ، وشاب. في قلبه السمّاع، التقط نداءات عالمه، فأطلقته. لن ندخل في تفاصيل علاقاته وصداقاته وإنجازاته ومداخلاته، ولن نتوقّف على عرض أوضاع عصره وأزماته. نركّز، حسب منهجيّة هذا المقال، على ميّزات الروحانيّة التي مكّنته من حسن الإصغاء ألبنّاء، وقدّرته على أخذ المبادرات الموآتية. ونختصرها بثلاث كلمات: مسؤوليّة، مجّانيّة، أمانة.

أ- مسؤوليّة:

لم يكن المطران يوحنا حبيب غريباً عن عالمه، ولا «مغرِّداً خارج سربه». لم يمرّ كعابر سبيل بذهنيّة السائح المتفرّج. «إنّه من أبناء وطن القدّيسين، ومن أهل بيت الله» (أف 3/19). لا غريب، ولا دخيل، «ولا أجير لا يبالي بالخراف» (يو 10/5-13). باسم إيمانه، وعماده، وكهنوته، وتنشئته على نفقة الوقف والكرسي البطريركي، كما يقول[127]، وما حباه الله من مواهب الطبيعة والنِعمة، يهمّه أمر الطائفة، وصيانة إيمان شعبنا المارونيّ، ونفع القريب الروحيّ. وبما أنّه، حسب قوله: «لست بارداً، همولاً، ركيكاً»[128]، نراه، في كلّ ظرف وأين وآن، يتفاعل مع كلّ حدث وحديث. متوقّد الخُلق، مضطرم العزيمة، يكتوي بنار لاهبة حين يرى «الذئاب تفترس الخراف»[129]. يتألّم وينوح، كما قال هو نفسه في خطبة على كهنة الجمعية: «دعوني أنوح وأبكي على تعاسة حال طائفتنا التي يصيح بنوها بمن يكسر لهم الخبز، ولا يوجد مرسلون منها يسمعون صراخهم»[130]. فيه يصدق كلام الرسول بولس: «من يضعف ولا أضعف أنا؟ من تزلّ قدمه ولا أحترق أنا؟» (2قور 11/29).

حسّه بالمسؤوليّة، لم يكن مجرّد هوس عاطفيّ، ولا شعور عابر عقيم، بل مهماز يستحثّه على البذل. فيهبّ للدفاع ودرء الأخطار، والقيام بالمبادرات الجريئة، السخيّة، الموآتية. همّه، على مثال السامريّ الصالح (راجع لو 10/33-35)، إنقاذ ذاك الذي وقع بين أيدي اللصوص وتركوه بين حيّ وميت، ومهما كلّفه الأمر، وإن اضطُرَّ بعض الأحيان إلى «طبش الجرّة»، حسب تعبيره[131]، أو إلى استعمال «صياح أنبياء العهد القديم»[132].

والمسؤوليّة التزام. ونرى المطران يوحنا حبيب يقوم بما يُعهد إليه به من مسؤوليّات خير قيام، فلا يلتفت إلى الوراء (لو 9/62)، ومهما كانت العقبات، ولم يتوقّف إلاّ وأنجز المهمّة، ولو اضطُرَّ أن يدفع من جيبه ليتفادى خصومات[133]، أو أن يقاسي المشقات لضمان نجاح مشروعه، كما جرى له في تأسيس الجمعيّة. والشواهد كثيرة نكتفي بما كتبه يوماً إلى المطران يوحنا الحاج (البطريرك فيما بعد): «لكلّ امرءٍ شأن وولع […] بحيث يصرف كلّ قواه، بل يخاطر بنفسه، ويضحّي بحياته لنيل غرضه. وليس أحد نظيركم يعلم شدّة غرامي بجمعيّة المرسلين وما قاسيته منذ شروعي بتجديدها من المشقّات المستغربة وقهر الذات والاضطهادات»[134]. بذل، وضحّى؛ «وتعرّيت عن كلّ حقّ لي، […]، ولذا لم أصبر فقط على الحوادث بل موّت نفسي مع أنّي حادّ الطبع جدًّا»[135]. عاش مسؤوليّاته بهمَّة وسخاء وعلّم المرسلين «أن يقحموا أعمال الرسالة بشجاعة مزدرين بالأتعاب والمصاعب، مع المبادرة إلى ما يُرى الأشقّ أو الأحطّ»[136].

ب- مجّانيّة:

في قلبه السمّاع، تفاعل الأب المؤسّس مع نداءات مجتمعه بروح المسؤوليّة. وفي زهده الصارم تجنّد لخدمته بروح المجانيّة السخيّة. لم ينظر يوماً إلى منفعته الخاصّة، ولم يطمع بمال أو بمنصب، ولم يطمح إلى مجدٍ، ومديحٍ وإكرام. خدم وضحّى بكلّ غالٍ ونفيس، بسخاءٍ نادر، ومجّانيّةٍ تامّة. أعطى وبذل دون حساب، بلا عائد ولا حدود، ولا منّية، ولا تفرقة ولا تمييز، ولا مآرب شخصيّة. شعاره الدائم: «مجّاناً أخذتم، مجّاناً أعطوا» (متّى 10/8). وهمّه الأوحد: «مجد الله الأعظم وإفادة القريب الروحيّة»[137].

في ديناميّته الفيّاضة، هذا السخاء المجّانيّ نابع من وعيه الإيمانيّ أنّه، وبكليّته، نفساً وجسداً، عطيّة مجّانيّة من الله، حسب تعبير الرسول بولس: «وأيّ شيءٍ لك ولم تنله؟» (1قور 4/7)، وحسب تعبيره هو نفسه: «ما فضلي أمام ربّي؟ لم أزل مغموراً بفضله في كلّ حين وحال: فإنّه، عزّ اسمه، لو لم يخلقني، أو لو خلقني سيِّقة لأحد المكارين يحمِّلني ما ثقل من الأوقار كلّ يوم، ويسومني ما عظم من الضرب كلّ ساعة، ويُسمعني ما غلُظ من التجاديف كلّ وقت، فيا تُرى ما كنت أقول؟ إنّ افتكاري هذا لم يُفارقني منذ أدركت حتى الآن»[138]. ويدعم وعيه الإيماني «رقة قلبه الحلو، الحنون العطوف»[139]. فنراه، تلقائيًّا، بدافع باطنيّ، ينبوعيّ، «لا يبخل بشيء مما في وسعه، ويبذل الأتعاب فوق طاقته، ويكرّس حياته وعافيته» في سبيل الله، والجمعيّة التي أنشأ، وخدمة كلّ ذي حاجة: «لا يحفل في دنياه إلا بمرضاة الله»[140].

وجعل من هذه المجّانيّة القاعدة الأساس للعمل الرسوليّ، وحرّم على المرسلين «حرمة شديدة التماس حسنة أو جائزة ممّن يتعاطون لهم الرسالة. بل يلزمهم المحافظة على شرف نفسهم بتحاشي كلّ ما يخلّ بالمرؤة ويدلّ على الدناءة والطمع لئلا تتعطّل سمعتهم وتسقط كرامة الجمعيّة»[141]. الخدمة الرسوليّة عطاء مجانيّ. عطاء الذات لله وللنّاس، وعطاء الله للنّاس. قوامها إخلاص مطلق لله، وللكنيسة، جذريّ يُخلي القلب مما يُشتهى ويُجنى، من حطام هذه الدنيا، ويَعتقه من كلّ ثقل يشدّه إلى الإرض. بهذا المعنى رسم الأب المؤسّس ما حرفيّته: «يلزمهم إخلاص النيّة في أعمال رسالتهم أي أن يعملوا إتماماً لمشيئته تعالى ومجده»[142]. «وهكذا يحقّقون في الواقع المعيوش روح المجانيّة، ويتداركون الشكوك والانتقادات، كما ورد في رسالة إلى الحبيب، من زميله القديم في عين ورقه، الصديق الحميم الكونت رُشيد الدحداح، الذي كتب يوماً من باريس بالدالة التي له، يقول: «أسألك عن جمعيّتك، أهي لجمع الدنانير بتجارة دينيّة، أعني تجارة المال بحجّة الدين، أم هي الدينيّة الحقيقيّة؟ […] أروم أن أعرف هل المعرِّف منهم قام مقام سمسار الزيجات؟ وهل واعظهم كان لسانه يقول: توبوا إلى الله، ولسان حاله يقول: أنظروا ما أفصحني، اعتبروا فرقي عن خوريكم الجاهل! […] فلا تعبأ بالعلم وصناعة الكلام، بل عليك بالتقوى المكينة، ولو كان صاحبها عييًّا»[143].

خير جواب على هذه التساؤلات اللاذعة، ما كتبه الأب المؤسّس، بتاريخ 4 آذار 1870 إلى زميله الآخر وصديقه الحميم المطران يوحنا الحاج (البطريرك فيما بعد)، يطلب إليه أن يُوعز إلى وكلاء الأوقاف في «أن يهيّئوا بيتاً للمرسل، وفي الآخر يدفع لهم المرسل قيمة المصروف، لئلاّ يُثقّل المرسلون على أحد، ولو أكلوا خبز ناشف. ومتى كان المحلّ قريباً، والحال على هذا الترتيب، يمكننا أن نرسل لهم خبز وزيتون من الدير»[144].

ج- أمانة:

الأمانة صدق وإخلاص ووفاء، وصمود وثبات حتى الممات. بها تكتمل المسؤوليّة والمجانيّة. في قلبه السمّاع، وبكفاءةٍ وجدارة، وأمانة، يُصغي «الحبيب» إلى نداءات مجتمعه، فيتفهّم أوضاعه وأمراضه على حقيقتها؛ وعلى نور أمانته لنداءات ربّه وضميره يشخّص الداء ويصف الدواء. فأمانته لمجتمعه من أمانته لدعوته الرسوليّة التي ترتسم جليًّا على لوحات وجدانه، وفق تعليم الربّ لتلاميذه، فيقول: «وحيث التزمت جمعيّتنا هذه الطريقة (= الرسالة كما باشرها السيّد المسيح)، لزمنا أن نكون ملح الأرض ونور العالم، جامعين بين العمل والتعليم […]، متّجرين بما أعطيناه من وزنات»[145].

أمانتنا لعالمنا أن نكون، فيه وله، ما يجب أن نكون، وما ينتظر منّا أن نكون. ولا نخيّب أمله. «أنتم نور العالم، فليُضِئ نوركم أمام الناس بإتقانكم جميع الفضائل»، كتب الأب المؤسّس في خطبة تحميس على كهنة الجمعيّة[146]. ويُتابع بسلسلة آياتٍ كتابيّة تحرّض على تسلّق قمّة الكمال المنشود، ليكون المرسلون حقًّا نور العالم، «ويكون عملنا طبق قولنا، وألاّ نضجر ولا نملّ من أتعاب الرسالة». ويخلص إلى التشديد على ألاّ يتشبّه المرسلون بأهل العالم: «لا تقيسوا تصرّفكم وأعمالكم على مثال أهل العالم». نعم، المرسل هو في العالم، لكنّه، نظير مرسِله، ليس من العالم (راجع يو 15/11-19، 17/14). فإذا انقلب النور الذي فينا ظلاماً (متّى 6/23)، وفسد الملح (متّى 5/13)، فقدنا كياننا وتعطّلت رسالتنا، وسقطنا من الأمانة وأصبحنا خونة، يصدق فينا قول الربّ: «فلو لم يولد ذلك الإنسان لكان خيراً له» (راجع متّى 26/24).

تكرُّسنا فرزنا عن العالم، ميّزنا، وقدّسنا، وأرسلنا إلى العالم لنعمل على تقديسه. جوهر الأمانة، انصرافنا بجدارة إلى إتقان القيام بعملنا: «أمّا وقد علمتم هذا فطوبى لكم إذا عملتم به» (يو 13/17؛ راجع لو 12/37، و43): «أنظروا كيف تعظون الناس وترشدونهم إلى الصبر على التجارب، وإلى احتمال الإساءة وشرّ القريب، وإلى اقتناء الفضائل. ألا ينبغي أن يكون عملنا طبق قولنا؟»[147].

خاتمة

خير كلام، نُنهي به هذا المقال، شهادة الخوري يوسف العلم، باكورة الداخلين إلى الكريم، سنة 1866، تتلمذ للمؤسّس طوال خمس سنوات، وسِيم كاهناً في الجمعيّة سنة 1871، ثمّ ترك 1882 ليلتحق بالمطران يوسف الدبس، رئيس أساقفة بيروت، في وظيفة أمين السرّ. إلاّ أنّه ظلّ وفياً للجمعيّة، وعلى صلة بنويّة وثيقة للمؤسّس، يواصله بالمساعدة ويؤدّي له الخدمات[148]. في رسالة للحبيب من روما، تاريخ 19 شباط 1887، يقول ما حرفيّته: «حال وصول تحريركم، زرت على نيّتكم ولأجلكم كنيستين مشهورتين في عمل العجائب، وأبوابهما دائماً مفتوحة. […] والنذور كاسية المذابح والحيطان… أما نذري فهو حفظ شخص كلّه للخير وخيره للكلّ»[149].

«شخص كلّه للخير وخيره للكلّ!» لا بل شخص كلّه خير، لأنّه كلّه لله. مرّ زارعاً الخير، على مثال معلّمه الإلهيّ، لأنّ الله كان معه، ومسحه بالروح القدس والقدرة (راجع رسل 10/38). وخير ما أورث بنيه المرسلين روحانيّته الفريدة، الملازمة لموهبة التأسيس، وما تتمايز به من غيرة متّقدة، وزهد صارم، وتجنّد سخيّ، مجّاني، في خدمة الكنيسة، والمجتمع، والنفوس المشتراة بالدم الإلهي الثمين.


[1]. راجع «تصريح مجمعيّ في تراث الجمعيّة الروحي»، عدد 17، ص 184 في «دليل التنشئة» لجمعية المرسلين اللبنانيّين، جونيه 2009، مع الحواشي.

[2]. راجع، الأب يوحنا العنداري، المطران يوحنا حبيب، جونيه 1980، ص 376، نشير إليه فيما بعد بعبارة: العنداري، مع ذكر الصفحة.

[3]. عنوان الإرشاد الرسوليّ، للبابا فرنسيٍس، تاريخ 24/11/2013.

[4]. الأب يوحنا السبعلي، البطريرك يوحنا الحاج يتحدّث، مجلة المنارة، عدد خاص 1994، ص 26-27.

[5]. الأب يوحنا السبعلي، شذرات من حياة المؤسِّس، مخطوط في أرشيف جمعية المرسلين، عدد 35، ص 410. نُشير إليه فيما بعد بعبارة «السبعلي» مع ذكر رقم العدد والصفحة.

[6]. العنداري، ص 41 – 44.

[7]. العنداري، ص 130-134.

[8]. العنداري، ص 130.

[9]. القديس إبريناوس، الردّ على الهراطقة، 4/20-7.

[10]. قوانين جمعية المرسلين اللبنانيّين الموارنة – (الأولى بخط يد المؤسِّس)، جونيه، 1929، القسم الأول، الباب الأول، عدد 1، ص 1.

[11]. راجع، العنداري، ص 298.

[12]. ذات المرجع، ص 283-284.

[13]. راجع السبعلي، عدد 190، ص 138-140، وأيضاً عدد 142، ص 593-594.

[14]. راجع، السبعلي، عدد 258، ص 160.

[15]. العنداري، ص 290.

[16]. راجع، السبعلي، عدد 184، ص 134، وأيضاً عدد 5 ص 90، حيث يسمّيها «معشوقتي».

[17]. العنداري، ص 290.

[18]. كتاب القوانين 1/6-4، ص 21.

[19]. راجع، الرسالة إلى الأبوين الحلتاوي وأبي نجم، المذكورة أعلاه، السبعلي عدد 184، ص 134.

[20]. راجع السبعلي، عدد 184، ص 134.

[21]. ذات المرجع، عدد 183، ص 136.

[22]. كتاب القوانين 2/1-9، عدد 46 و47، ص 89-91.

[23]. السبعلي، عدد 187، ص 136.

[24]. ذات المرجع، عدد 179، ص 131.

[25]. العنداري، ص 396.

[26]. ذات المرجع، ص 413.

[27]. راجع تفاصيل هذه القضايا، العنداري، ص 396-416؛ والسبعلي، الأعداد 145-149، ص 600-608.

[28]. العنداري، ص 138-139.

[29]. الأبوان عبد الله زيدان ومروان تابت، المطران يوحنا حبيب والبطريركيّة المارونيّة، مجلة المنارة، عدد خاص 1994، ص 165.

[30]. العنداري، ص 223، من كلام البطريرك يوحنا الحاج، في رسالته إلى قنصل فرنسا في بيروت، بتاريخ 18/4/1891.

[31]. العنداري، ص 153-156.

[32]. العنداري، ص 210.

[33]. العنداري، ص 222.

[34]. العنداري، ص 222، وص 411؛ والرسالة إلى فيلبي، 3/8.

[35]. السبعلي، عدد 118، ص 527.

[36]. السبعلي، عدد 187، ص 131.

[37]. إبراهيم حرفوش، الثمرة المجنيّة، مجلة المنارة، سنة 1940، ص 87-88.

[38]. الأب يوحنا السبعلي، البطريرك يوحنا الحاج يتحدّث، مجلّة المنارة، عدد خاص 1994، ص 29-30. في ذات العدد، الدكتور جوزف أبو نهرا، المطران يوحنا حبيب، الفقيه والقاضي، ص 71-94، وبخاصة ص 86.

[39]. العنداري، ص 182.

[40]. من أقواله في مناسبات متعدّدة، وردت في كتاب الأب يوحنا العنداري، ص 264، 182، 287، 185.

[41]. الأبوان عبد الله زيدان ومروان تابت، المطران يوحنا حبيب والبطريركيّة المارونيّة، مجلّة المنارة، عدد خاص 1994، ص 168.

[42]. من كلام الأب ناصر الجميّل (المطران فيما بعد)، تأسيس جمعية المرسلين اللبنانيين، الظروف والدوافع، مجلّة المنارة، عدد خاص 1994، ص 104.

[43]. العنداري، ص 291.

[44]. ذات المرجع، ص 427.

[45]. ذات المرجع، ص 428-429 (من رسالة تاريخ 12/12/1889).

[46]. البطريرك يوحنا الحاج يتحدّث، مجلّة المنارة، عدد خاص 1994، ص 26-27.

[47]. العنداري، ص 181-182.

[48]. كتاب القوانين، 1/12-9، ص 43.

[49]. ذات المرجع، 2/1-47، ص 90.

[50]. السبعلي، عدد 189، ص 138.

[51]. السبعلي، رسالة بتاريخ 6 نيسان 1880، عدد 187، ص 136.

[52]. كتاب القوانين، 1/13-15، ص 58.

[53]. راجع النص الكامل، الأب إبراهيم حرفوش، الثمرة المجنية، مجلّة المنارة، 1940، ص 382-383، نقلاً عن سجل الجمعيّة، الأول، ص 29.

[54]. كتاب القوانين، 1/6-4، ص 22.

[55]. ذات المرجع، 1/12-4، ص 41-42.

[56]. ذات المرجع، 1/10-5، ص 32.

[57]. العنداري، ص 395.

[58]. ذات المرجع، ص 382.

[59]. العنداري، ص 375-386، والاستشهاد هنا ص 376.

[60]. ذات المرجع، ص 381.

[61]. ذات المرجع، ص 304.

[62]. كتاب القوانين، 3/8-4، ص 185.

[63]. ذات المرجع 1/13-23، ص 62.

[64]. ذات المرجع 1/12-1، ص 40.

[65]. ذات المرجع 1/6-4، ص 22.

[66]. من كلام البطريرك بولس مسعد، 23 أيار 1884، كتاب القوانين، ص 202.

[67]. من كلام البطريرك بولس مسعد، في مرسوم تثبيت القوانين، 31 أيار 1873، كتاب القوانين، ص د.

[68]. العنداري، 221.

[69]. العنداري، 220.

[70]. العنداري، 220.

[71]. العنداري، 313.

[72]. العنداري، 311-312، 289.

[73]. السبعلي، عدد 141، ص 592.

[74]. كتاب القوانين 1/13-15، ص 58.

[75]. راجع كلمة «قلب» في معجم اللاهوت الكتابيّ، دار المشرق، بيروت، 1986، ص 635.

[76]. المجمع الفاتيكاني الثاني، قرار مجمعي في تجديد الحياة الرهبانيّة، المحبّة الكاملة، عدد 1.

[77]. البابا يوحنا بولس الثاني، «الحياة المكرّسة»، عدد 20.

[78]. راجع، الأب يوحنا السبعلي، البطريرك يوحنا الحاج يتحدّث، مجلّة المنارة، عدد خاص 1994، ص 27.

[79]. العنداري، ص 138-139.

[80]. المطران يوحنا حبيب بخط يده، مجلّة المنارة، عدد خاص 1994، ص 16.

[81]. راجع بالأفرنسية كتاب:

Ignace de Loyola, Ecrits. DDB, Paris, 1991, pp. 341, avec la note b, et pp. 1069, avec la note 2.

[82]. راجع، العنداري،ص 378.

[83]. السبعلي، عدد 138، ص 583.

[84]. كتاب الاقتداء بالمسيح، 2/6-1.

[85]. راجع، البطريرك يوحنا الحاج يتحدّث، مجلّة المنارة، عدد خاصّ 1994، ص 30.

[86]. ذات المرجع، ص 28.

[87]. العنداري، ص 59-60.

[88]. ذات المرجع، ص 69-71.

[89]. المطران يوحنا حبيب بخط يده، مجلّة المنارة، عدد خاص 1994، ص 17.

[90]. من كلام بطرس شاهين كرم العمشيتي، لمناسبة التحكيم الذي قام به الخوري يوحنا حبيب، بشأن قضيّة وقف مستشفى مار مخايل عمشيت. راجع عرض الموضوع في كتاب العنداري، ص 409-412، والكلام المذكور هنا ص 411.

[91]. العنداري، ص 411-412.

[92]. ذات المرجع، ص 373.

[93]. ذات المرجع، ص 72.

[94]. ذات المرجع، ص 288-290.

[95]. ذات المرجع، ص 462-463.

[96]. ذات المرجع، ص 389، من رسالة إلى آباء الجمعيّة تاريخ 3 شباط 1881.

[97]. ذات المرجع، ص 61-62.

[98]. ذات المرجع، ص 71.

[99]. ذات المرجع، ص 221، من رسالة الخوري الياس الحويك إلى الخوري يوحنا حبيب، تاريخ 28 نيسان 1880.

[100]. ذات المرجع، ص 261، رسالة الأب اسطفان قزاح، إلى المؤسّس، تاريخ 28 تموز 1879.

[101]. ذات المرجع، ص 374 و395، من خطاب للأب مؤسّس إلى أبنائه المرسلين.

[102]. راجع السبعلي، عدد 178، ص 131، في رسالة إلى المطران يوحنا الحاج، تاريخ 19/1/1875.

[103]. السبعلي، عدد 118، ص 528، وعدد 38، ص 414.

[104]. الأب يوحنا السبعلي، البطريرك يوحنا الحاج يتحدّث، المنارة، عدد خاص 1994، ص 26؛ والعنداري، ص 37.

[105]. كتاب القوانين، 1/6-4، ص 21.

[106]. السبعلي، عدد 115، ص 522؛ ص 496؛ عدد 144 ص 600؛ عدد 373 ص 168-169 (= مفكرة تنبيهات للسادة المطارين)، والعنداري، ص 285.

[107]. السبعلي، عدد 118، ص 527.

[108]. ذات المرجع، عدد 115، ص 522.

[109]. كتاب القوانين، 1/12-20، ص 46.

[110]. العنداري، ص 23.

[111]. ذات المرجع، ص 260.

[112]. ذات المرجع، ص 278.

[113]. ذات المرجع، ص 260، «العذر» المذكور هو في الحقيقة «تعذّر» إرجاع الأبوين العلم والبستاني من مدرسة الحكمة وخدمة مطران بيروت، إلى الدير، (ص 259). راجع أيضاً السبعلي، عدد 173/20 ص 127.

[114]. السبعلي، عدد 187، ص 136.

[115]. العنداري، ص 266.

[116]. ذات المرجع، ص 278-279.

[117]. ذات المرجع، ص 260.

[118]. ذات المرجع، ص 261، 271.

[119]. ذات المرجع، ص 269.

[120]. كتاب القوانين 1/11-7 و11، ص 37-38.

[121]. كتاب القوانين 1/12-18، ص 45.

[122]. كتاب القوانين 1/12-9، ص 43.

[123]. ذات المرجع 1/13-21، ص 61.

[124]. ذات المرجع 1/12-20، ص 46.

[125]. ذات المرجع 1/12-12، ص 44.

[126]. ذات المرجع 1/12-15 و16، ص 44-45، وأيضاً 1/13-48، ص 68-69.

[127]. العنداري، ص 460-461.

[128]. العنداري، ص 397؛ والسبعلي عدد 44، ص 97، وعدد 124، ص 541.

[129]. السبعلي، عدد 190، ص 138.

[130]. السبعلي، عدد 190، ص 140.

[131]. السبعلي، عدد 238 و240، ص 150؛ والعنداري، ص 443.

[132]. السبعلي، عدد 214، ص 144.

[133]. العنداري، ص 400.

[134]. السبعلي، عدد 180، ص 132.

[135]. السبعلي، عدد 183، ص 134.

[136]. كتاب القوانين 1/12-18، ص 45.

[137]. كتاب القوانين 1/6-4، ص 21.

[138]. السبعلي، عدد 115، ص 522.

[139]. السبعلي، عدد 137، ص 578-582؛ والعنداري، ص 260

[140]. العنداري، ص 266؛ والسبعلي عدد 133، ص 561-562، وعدد 114، ص 519.

[141]. كتاب القوانين 1/12-26، ص 48.

[142]. كتاب القوانين 1/12-20، ص 46.

[143]. العنداري، ص 339. الكونت رشيد الدحداح (1813-1889)، شقيق المطران نعمة الله الدحداح. كان صحافيًّا لامعاً، شغل مدة من الزمن منصب كاتب أسرار الأمير بشير الكبير، وبسببه حُكِم عليه بالنفي، فأقام في باريس إلى حين وفاته. راجع العنداري ص 417-419.

[144]. الأبوان عبد الله زيدان ومروان تابت، المطران يوحنا حبيب والبطريركيّة المارونيّة، مجلّة المنارة، عدد خاص 1994، ص 171.

[145]. كتاب القوانين، 1/12-1، ص 40.

[146]. السبعلي، عدد 163، ص 118.

[147]. ذات المرجع السابق.

[148]. العنداري، ص 257-258.

[149]. السبعلي عدد 74، ص 102؛ والعنداري، ص 243.

Scroll to Top