الأب ايلي نصر م. ل
مؤسّس المرشديّة العامّة للسجون في لبنان
المنسّق العام للسجون في الشرق
يتكلّم الله إلى قديسيه وأنبيائه، من آدم وحتى يومنا، بالرؤى والأحلام والإيحاءات، ويزخر الكتاب المقدّس، بعهدَيه القديم والجديد، بتلك الأحداث المعجزة نتيجة لظهور تلك القوى السماويّة وما حملته من رسائل إلى البشر. واليوم، في زمننا الحاضر، لا يزال الله يظهر لأشخاص عاديين لينقل رسائله إلى البشر، ويدعونا إلى تحقيق عهده معنا وتنفيذ مشيئته من أجلنا «كما في السماء كذلك على الأرض» (متى6/10).
لقد توالت الظهورات وتواصلت الرسائل السماوية عبر تاريخ الكنيسة الأول، منذ قيامة الرب حتى وصعوده وصولا إلى حاضرنا نحن، لكي تحذّرنا من الخطر الذي يهدّد العالم، ولتعلمنا مدى حزن الله، بسبب غياب المحبة بين البشر وكثرة الخطايا المرتكبة، فتشدد على ضرورة التوبة والصلاة.
لقد نهلت الكنيسة من الصلاة الربية التي علمنا الرب يسوع: «إغفر لنا ذنوبنا.. »، لتعلن رحمة الله وحنوه على الخاطئين ودعوته لنا لكي نرحم فنغفر بعضنا لبعض. ولقد تأكدت تعاليم الكنيسة هذه بالعودة إلى عظة يسوع على الجبل حيث رسم طريق الملكوت السعيدة وحدّد خطواتها وهو يرشدنا إلى الرحمة بالقول: «طوبى للرحماء فإنهم يرحمون» (متى 5/7). لهذا كله، الدعوة ملحة في عصرنا، وهذا ما أطلقه قداسة البابا فرنسيس في إعلان السنة المقدسة الغير عادية حول «الرحمة الإلهية» تحت شعار: «رحماء كالآب»؛ فيدعونا كما دعت الكنيسة طوال تاريخها إلى ممارسة أعمال الرحمة المادية كما يخطها الإنجيل في عظة يسوع الأخيرة:
طعام لجائع،
ماء لعطشان،
كساء لعريان،
إيواء لمن بلا مسكن،
زيارة سجين،
زيارة مريض،
دفن ميت.
وإلى ممارسة أعمال الرحمة الروحية التي يدلنا عليها تعليم الكنيسة الروحي الأدبي:
نصيحة لخاطئ،
إرشاد لمن لا يعلم،
نصح لمن يشك،
عزاء لحزانى،
صبر أمام من يغضب،
مغفرة لمن أساء إليك،
صلاة من أجل الأحياء والموتى.
نتذكر قول القديس يعقوب في رسالته: «لأنّ الدينونة لا رحمة فيها لمن لم يرحم، فالرحمة تستخفّ بالدينونة» (يعقوب 2/13)؛ وما قاله السيد المسيح عن السامري الصالح في حديثه مع عالم الشريعة:« فمن كان في رأيك، من هؤلاء الثلاثة، قريب الذي وقع بأيدي اللصوص؟ فقال الذي عامله بالرحمة. فقال له يسوع: إذهب فاعمل أنتَ أيضًا مثل ذلك» (لو 10/25-37)؛ وأيضا ما علمه في مثل الغني ولعازر (لو 16/19-31)؛ كلّها دروسٌ تحمل تعليمًا أساسيًّا هو أنّ الرحمة لمن يرحم وأن الله يكافئ فقط من يرحم، كما شرح في الإنجيل:«حينئذٍ يقول الملك للذين عن يمينه تعالَوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعدّ لكم منذ إنشاء العالم. لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبًا فآويتموني، عريانًا فكسوتموني، مريضًا فعُدتموني، سجينًا فجئتم إليّ» (25/34-40).
تحتفل الكنيسة الكاثوليكيّة ما بين كانون الأول 2015 وتشرين الثاني 2016 بسنة مقدّسة مميّزة. يطلق قداسة البابا هذه السنة بفتح «الباب المقدّس» في بازيليك مار بطرس في روما، في 8 كانون الأول 2015، يوم عيد الحبل بها بلا دنس، ويختمها يوم عيد المسيح الملك في 20 تشرين الثاني 2016. وقد حدَّد لها عنواناً استوحاه من كلام بولس الرسول إلى أهل أفسس 2/4، «الله الواسع الرحمة». فـ «سنة الرحمة»، تدعونا إلى التعمّق في الإيمان، والتأمل في «الرحمة الإلهيّة» التي هي نبع فرح وصفاء وسلام؛ إنّها شرط خلاصنا، توحي سرّ الثالوث الأقدس. إنّها العمل الأسمى الذي فيه يأتي الله نحو الإنسان؛ إنّها الإيمان الجوهري الذي يملك على قلب الإنسان عندما ينظر بجديّة إلى القريب الذي يلقاه على دروب الحياة؛ إنّها السبيل الذي يجمع بين الإنسان والله، حتى يفتح الإنسان قلبه إلى الرجاء لأنّه محبوب من الله على الرغم من محدوديّته في خطيئته.
إنّ لمن الضروري أحياناً أن نسمّر نظرنا إلى الرحمة، لكي نصبح نحن بدورنا علامة فاعلة لعمل الآب على الأرض.
لقد اختار قداسته افتتاح السنة المقدّسة يوم عيد الحبل بها بلا دنس، لأنّ هذا العيد يدلّ كيف تصرّف الله منذ البدء تجاه البشريّة بعد خطيئة الإنسان الأولى، لئلا يجعل الإنسان فريسة الشرّ وحده. ففي وجه فظاعة الخطيئة يُجيب الربّ بملء الغفران؛ فالرحمة تبقى دائمًا أكبر من الخطيئة، ولا أحد يحدّ من محبّة الله الذي يغفر.
لذلك يريد قداسته في هذا العيد أن يفتح «الباب المقدّس» وهو باب الرحمة، حتى يختبر كلّ من يدخله، حبّ الله الذي يعزّي، ويسامح، ويعطي علامات الرجاء. ولقد أشار قداسته أيضًا إلى أنّ هذه السنة 2015 تتوافق مع اليوبيل الخمسين لختام أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1965؛ ويذكر ما قاله البابا القديس يوحنا الثالث والعشرون في الافتتاح، والبابا الطوباوي بولس السادس في الختام، وكلاهما أظهر الوجه الرحيم للكنيسة التي تقرّبت من العالم لتشهد لرحمة الله بدلًا من اتخاذ موقف الحاكم العالي.
كذلك اختار ختام السنة في 20 تشرين الثاني 2016، يوم عيد المسيح الملك، حتى يغلق الباب المقدّس، فيسلّم في هذا العيد، حياة الكنيسة والبشريّة بأسرها وكلّ الكون إلى السيّد المسيح، لينشر رحمته فيتحوّل الزمن تاريخًا خصبًا، حيث يتجنّد كلّ شخص للقاء قريبه وخدمته، فيظهر له وداعة الله وحنانه. يقول القديس توما الأكويني: «الرحمة هي من خصائص الله، الذي تكمن قدرته الكاملة في صنع الرحمة». فالرحمة لا تعني الضعف، بل القوّة البنّاءة. لقد اتخذ قداسته شعار السنة المقدّسة «رحماء مثل الآب»: لأنّنا بالرحمة نجد البرهان كيف يحبّ الله. إنّه يعطي ذاته كليًّا، دائمًا، بكلّ مجانية، من دون أي مقابل. ونحن مدعوون إلى تجسيد هذه الرحمة في شفاء جراحات البشريّة التي تئنّ في عالمنا. «في مساء الحياة سوف نُدان على الحبّ» (يوحنا الصليب).
يوجه قداسته نداء إلى الذين يعيشون في الخطيئة: كالانتماء إلى منظمات إجراميّة من أجل المال؛ الذين يعيشون في الفساد؛ حتى يجدوا الحياة بالتوبة والارتداد عن هذه المظالم، لأن الحياة ليست في كثرة المال حياة.
بين العدالة والرحمة علاقة وثيقة. فبينما كانت العدالة، في مفهوم الأقدمين، تقوم على تطبيق الشريعة، جاء يسوع ليعطيها طبيعتها الحقَّ في عيش الإيمان، وهو يذكّرنا بقول النبي هوشع «أريد رحمة لا ذبيحة» (6/6)، فالرحمة إذًا لا تتعارض مع العدل بل إنّها تترجم موقف الله نحو الخطأة، بحيث يقدّم إليهم إمكانًا جديدًا للتوبة، والندامة والإيمان. يقول مار أغوسطينس، في تعليقه على كلام هوشع النبي: «كيف أهجرك يا أفرائيم، وكيف أسلمك يا إسرائيل؟ كيف أعاملك كأدمة وأصبرك كصبوئيم؟ قد انقلب فيّ فؤادي واضطرمت أحشائي لا أطلق مدّة غضبي ولا أعود إلى تدمير أفرائيم لأني أنا الله لا إنسان، والقدوس في وسطك فلن آتي ساخطًا» (11/8-9)، قال «إنّ لمن السهل على الله أن يهدّئ غضبه أكثر من الرحمة»؛ وهذا حقّ فإنّ غضبه لا يدوم إلَّا للحظات، أما رحمته فهي أبديّة.
لقد رسم قاسة البابا في دعوته إلى «الرحمة الإلهية» وهو يعلن سنة مقدسة مميزة حولها، مسارا متجددا في مسلك الكنيسة، لكي تعمل جاهدة بكل مؤسساتها وأجهزتها على تنشيط أفعال الرحمة في كل الإتجاهات، بحيث تحرك مؤسساتها إنطلاقًا من دعوة «الرحمة» كالمدارس، المستشفيات، السجون، المياتم، الجامعات، العمل الرعوي الجامعي، كاريتاس، الإعلام المرئي والمسموع والمكتوب وغيرها.
المرشدية العامة للسجون هي إحدى هذه المؤسّسات المنبثقة من مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، والمنضوية في اللجنة الأسقفيّة «عدالة وسلام»، وتعنى بشؤون المساجين الروحيّة والدينيّة وتضمن لهم التعليم والخدمة. هنا ندخل في مقالنا هذا إلى صلب موضوعنا، انشر هيكلية المرشدية وطرق عملها ووسائلها.
1- المرشد في السجون:
لكلّ الأديان المعترف بها في الدستور اللبناني، الحقّ في ممارسة معتقداتها. وفي السجون، يمنح وزير الداخليّة، بعد أخذ رأي قائد الدرك، وبناء على طلب رئيس الطائفة الترخيص لكاهن أو لإمام، ضمن أطر السجون وأنظمتها المعمول بها، كي يتسنّى للمسجونين ممارسة واجباتهم الدينيّة، ويمنحوا كلّ التسهيلات اللازمة لإتمام فروضهم الدينيّة مع الاحتفاظ بالسكينة والتمسّك بالنظام (المرسوم 14310- المادة 56).
2- واجباته الروحية في السجون:
-إستجابة الإحتياجات الروحيّة لكلّ إنسان،
- توفير الدعم المادي، ضمن الأطر المحدّدة وبالتعاون مع العاملين الآخرين،
- تحديد المناسبات الدينيّة والروحيّة والاهتمام بتنظيمها داخل السجون،
- المرافقة الروحيّة الفرديّة للأشخاص، السجناء وعيالهم، والموظفون، وأهل الضحايا، كلّ وفق احتياجاته،
- إطلاع المساجين على حقوقهم وواجباتهم وإرشادهم، وأحيانًا عيالهم، وحتى عائلات الضحايا والموظفين في المؤسّسات العقابيّة.
3- مؤهّلاته الروحية في السجون:
- حكمة في النصح والإرشاد،
- سيطرة على عواطفه،
- خلق الثقة مع الأشخاص وتطويرها لمساعدتهم،
- الغيرة على خدمته الروحيّة،
- الاستقلاليّة،
- تحديد السياسة الخاصة في مجال خدمته والتنفيذ،
- امتلاك القدرة على التكيّف وفق الحال المستجدة،
- التزام السرّية المهنيّة وعدم البوح بالمعلومات التي يمتلكها بحكم العلاقة التي تربطه بهم وتواصله معهم.
4- التدريب اللازم للكاهن المرشد في السجون:
- المعيار الأول: اعتراف السلطة الدينية به،
- المعيار الثاني: حيازة شهادة في اللاهوت،
- المعيار الثالث: معرفة في علمي النفس والاجتماع اللذين لا تقلّ أهميّتهما عن علم اللاهوت،
- المعيار الرابع: متابعة دورات تنشئة وتدريبات،
- المعيار الخامس: معرفة بالقوانين والمعايير الدوليّة لحقوق الإنسان وأنظمة السجون والتعليمات والمفردات القانونيّة والطبيّة.
5- ظروف عمل الكاهن المرشد وإطاره في السجون:
ما دامت الجرائم ترتكب، فالسجون قائمة، وكذلك حاجتنا إلى مرشدين، وتقتضي رسالتهم القيام بالمهام الآتية:
- التكيّف مع نظام المؤسّسات المعنيّة وطريقة عملها،
- مرونة في العقل وفي مهنته أيضًا،
- إعادة تنظيم النشاطات والاحتفالات الروحيّة،
- طرائق التدخّل من دون أن يقلق في شأن ذلك.
فالمرشدية هي المورد الأساسي لحياة السجن. والمرشدون هم شركاء مهمّون في المؤسّسات العقابيّة. تسهم رسالتهم الروحيّة، بطريقة فاعلة، في اكتشاف الأشخاص الذين يعانون من حالات فرديّة صعبة، فيفرون دعمًا لا بديل منه لأشخاص يختبرون لحظات من الألم النفسي المضني.
إنّ الثقة بين المسؤول والمرشد هي «الكلمة المفتاح» التي تحكم بينهما، كما بين المرشد وجميع الأفرقاء العاملين في السجون. فهو يؤدي دور المحفز على بناء العلاقات ومدّ الجسور بين الناس، وحلّ كل المشاكل التي تعترض المساجين والموقوفين، وممارسة الرقابة.
إنّ الجدل القائم حول أوضاع السجون اللبنانية قد فتح الباب أمام الزيارات السياسيّة والقضائيّة والأمنيّة والمجتمع الأهلي والإعلام المرئي والمكتوب والمسموع، وإنشاء مكتب لحقوق الإنسان في وزارة الداخليّة ونقل صلاحية السجون من وزارة الداخليّة إلى وزارة العدل «في النصوص»، آملين من جرّاء هذا كلّه، في أن يشق طريقه سريعًا، وهذا ما نتمنّاه، إلى وضع خطة طويلة الأمد لإنشاء سجون جديدة وفق المعايير والقوانين الدوليّة، وتعديل بعض القوانين والأنظمة المعمول بها حتى تاريخ اليوم.
إنّ رسالة المرشدية العامة للسجون تشمل الخدمات الروحيّة، والدينيّة، والاجتماعيّة، والصحيّة، والإنسانيّة والقانونيّة، أما مشروعها فيتألّف من ثلاث نقاط:
- تحسين شروط الاحتجاز،
- تحسين أوضاع طاقم المؤسّسات العقابيّة وتدريبهم وتنشئتهم المستمرة،
- مراقبة خارجية على السجون وخلق وسيط.
هذا ما يرتب على مجلس النواب أن يقرّ مشروع قانون يتيح لوزارة العدل تنفيذ سياسة عقابية جديدة، وعلى السلطة التنفيذية تخصيص المال في موازنة العام 2017 لتسديد الاحتياجات الطارئة والماسة والموارد الماديّة والبشريّة لتحسين ظروف الاحتجاز وعمل المؤسّسات العقابيّة.
أ- الوضع الصعب والغير آمن في السجون:
فعلاً، سجوننا مكتظة، وأحيانًا كثيرة غير مقبولة. وتعود أسباب الاكتظاظ إلى التوقيفات الاحتياطية وسجن المدانين، وإطالة مدّة الأحكام، إضافة إلى الأعداد الكثيرة من الموقوفين والمحكومين كالمصابين بالأمراض العقليّة والنفسيّة، والمسنّين والأجانب، وعلاوة على ذلك، زيادة الجريمة كالاتجار بالمخدرات والجنوح الجنسي وجرائم الأحداث والعنف في المناطق، ممّا يقلق الكثيرين من بيننا ويعزّز الشعور لدينا بانعدام الأمن، خصوصًا مع الوجود الهائل للنازحين السوريّين وغيرهم.
في هذا السياق، إن أثر السجون المكتظة يولد مناخًا من العنف على نحو متزايد داخل المؤسّسات العقابية، لا ينبىء بالسيطرة على إدارة الموظفين والجمعيات بما في ذلك المرشدون الروحيّين، فضلًا عن صعوبته.
ب- تدابير بديلة
ليس السجن العلاج المطلق لهذه العلة الاجتماعيّة ومن غير المجدي أن نتوق إلى زيادة أماكن الاحتجاز؛ في حين أنه من غير الواقعي إزالة عالم السجن، بل من الممكن زيادة تدابير بديلة منه وتدابير أخرى إداريّة، مثلًا: الخدمة في المجتمع، حكم مع وقف التنفيذ، تأجيل النطق بالحكم مع الزامه إصلاح الأضرار التي لحقت بالضحية، الإفراج المشروط، الإفراج الأشبه بالحرية، المراقبة عن بعد بواسطة سوار إلكتروني، كلّها تدابير تهدف إلى التطوير. ينبغي حث القضاء، وتكريس المزيد من الموارد في وظائف المعلمين والاختصاصيّين الاجتماعيّين وإشراك المجتمعات المحليّة والجمعيات لاتخاذ التدابير الإصلاحيّة.
ج- هل السجن ضعف؟
السجن، من الناحية الاجتماعيّة، هو اعتراف بعجز المجتمع الذي لم يتحلَّ دائمًا بالشجاعة لطرح قضايا الجنوح من حيث الوقاية، والمرافقة ودعم الضحايا، والإصغاء إلى المحتجزين وعائلاتهم، وإعادة دمج المساجين المفرج عنهم. مجال لا يزال يدعونا إلى النضال حتى تجمعها مع الجهود التي تبذلها الإدارات والكثير من الإجراءات المتّخذة، سواء في الوسط النقابي، أو على صعيد المجتمع الأهلي والمؤسّسات والجمعيات الإنسانيّة. إنها مسؤوليّة كلّ مواطن بشكل عام ومسؤولية كلّ مسيحي بشكل خاص. فالدعوة موجهة إلى كل أصحاب الخبرة والمعرفة للدخول في معترك خدمة الإنسان في السجون، فهو يحتاج إلى من يسنده لينهض من حاله؛ وعليه نقترح على الكنائس القريبة من السجن:
- تشكيل فرق للتفكير في مشاكل العدالة والسجن،
- العمل على دعم المرشدية العامة للسجون،
- إطلاق الخدمات تجاه المساجين وعائلاتهم، تجاه المطلق سراحهم، من دون أن ننسى الضحايا التي تعاني، في كثير من الأحيان، الألم والعذاب والعناء.
6- المرشدية العامة للسجون:
إنّها الوجه الدائم للكنيسة في السجون، تعمل فيها، وتتلخّص مهمّتها بالآتي:
- متابعة الأشخاص الذين يعملون في هذه المرشدية،
- إعداد دورات تدريبيّة،
- تنظيم الزيارات للمساجين في السجن وبعد إطلاقهم (بالتنسيق مع مختلف الهيئات والجمعيات)،
- الخدمة الدينيّة والروحيّة في السجن والسهر على تطبيق شرعة حقوق الإنسان.
عدالة المرشدية في السجون هي سعي يومي، وفكر لاهوتي، وسهر على تحقيق العدالة والعقوبات الجزائية، تعمل إلى جانب السلطات الرسمية والرأي العام: كالنواب، الوزراء، القضاة، المحامين، القوى الأمنية، الاختصاصيين، النقابات، الأطباء، المجتمع الأهلي….
أ- خبرات شخصية، غنية ومفيدة:
يعيش المرشدون خبرات ثمينة بمعناها، غنية بمفاعيلها، إذ يلتقون المساجين في زنزاناتهم، ويتابعون قصصهم لسنوات.
العقوبة هي الأصعب؛ تشكّل دائمًا التحدي والرهان.
فإطار الاعتقال مهمّ، يحدّد نغمة السجن وليس السجن كلّه. علينا أن نتساءل مرة أخرى عن المعنى الذي نعطيه لهذا الاحتجاز، خلف جدران السجن العالية، آلاف الموقوفين والمحكومين، كلّ واحد يحمل قصة مختلفة، يشعر بالذنب، يقلق لتوقعات مختلفة. يمضي البعض ستة أشهر، والبعض الآخر سنوات. يعيش البعض في عزلة، والبعض الآخر لديه أسرة، في الخارج، أو شخص ينتظر، فيفكر فيهم. البريد هو فرح للبعض منهم، وألم مفاجىء للبعض الآخر.
عندما نزور السجون، نرى، ويا للأسف، أمورًا كثيرة: غرفًا مزدحمة، ممرات تعجّ بالمساجين، فوضى عارمة، صراخًا، توزيع المأكولات بطريقة همجيّة، عصابات، ابتزازات، مساجين يتبادلون قصصهم، عملة من نوع السجائر والمساعدات العينية في مقابل الحبوب المهدئة وشراء سرير، مسنين، معوقين، يتقاسمون الغرف وجهاز التلفزة، غسيلًا مدلّى من النوافذ، نفايات، صرف صحّي، غلاء المعيشة، روائح كريهة، هررة وجرذانًا، غرف مضاءة في استمرار، أمراضًا متفشية، أعمال عنف. المطلوب إدارة الأمور والحدّ من المشاكل مع مساجين لم يختاروا العيش معًا، في مكان ضيّق ومقفل وتبقى الدوافع نفسها.
ألا يزال في الإمكان وفي وقت معيّن، مع وسائل محدودة، إعادة انخراط الجاني، إذا رغب، في حياة المجتمع من دون اللجوء إلى الإجراءات الروتينية؟
أن تطلب من السجن «تأهيل» سجين لدى دخوله السجن هو رهان لا يمكن الدفاع عنه. هذه أسئلة نودّ أن يتم تناولها في وسائل الإعلام، وعلى السلطات المدنيّة سماع وجهات نظر السجناء: العنف البدني والجنسي، الكراهية، العشائر، المافيا، الاتجار وزعماؤه الرئيسيّون، الاستثناءات لبعض المحسوبيات والنافذين. هؤلاء هم «الفقراء»، الذين لا يملكون ما يكفي لـ «عيشهم اليومي».
إنّ الزيارات اليوميّة والاجتماعات الروحيّة مفتوحة للجميع. هذا ما يمكن تحقيقه، ليس «لتسكين المساجين» كما تتمناه إدارة السجون، ولكن للتعبير عن الشعور بالوحدة، والمعاناة، والبكاء، وعيش حياة الماضي والمستقبل.
يشارك مرشدو السجون في إطار المؤسّسة الكنسيّة. وقد حدّدت مهمتهم شروط ممارسة واجباتهم الدينيّة وفق نظام السجون:
- الاحتفال بالشعائر الدينية،
- ممارسة الأسرار المقدسة،
- توفير الرعاية الرعوية للمساجين،
- ممارسة الأمور الدينية، والروحية والأخلاقية فقط.
يمكنهم الاستعانة، في خدمتهم الدينيّة والروحيّة، بمتطوّعين من المرشدية أو من خارجها لتنشيط مجموعات من المساجين، في ضوء التأمّل، والصلاة والدراسة، ولكن لا يحقّ لهم بلقاءات فرديّة معهم. قد يلتقون، في كثير من الأحيان ووفق الظروف المناسبة، مع المساجين من أبناء طائفتهم. وهذه المقابلة تتم على مرأى من الحارس وليس على مسمعه.
ب- نصائح عملية تطوّر الخدمة:
وإذا ما أردنا توجيه النصائح نقول: «كن منفتحًا ورحيماً. تمتع بالقدرة على تجربة التعاطف العميق للدخول في علاقة مع أشخاص ينتمون إلى طبقات اجتماعيّة متنوّعة، ساعد الأشخاص الأكثر ضعفًا، في نهاية حياتهم أو البعيدين عن منازلهم وأسرهم. الشرط الأهم لتصبح مرشدًا هو أن تتمتّع بقدرة على الاتصال بالناس ذوي الخلفيات المتنوعة».
المرشدون في السجون هم على اتصال بالناس من مختلف الأديان. البعض من هؤلاء يطلبون المساعدة الروحيّة وهم ينتمون إلى معتقد آخر. والمرشد الفاعل ينفتح على الآخر، ويتقبّل كلّ المعتقدات الدينيّة، بما في ذلك أولئك الذين لا جامع مشتركًا بينك وبينهم. حتى ولو كان ينتمي إلى جماعة دينيّة محدّدة، فليعمل معهم: يقدِّم المشورة إلى شخص تتعارض خياراته مع مبادئ ديانته. من المهمّ هنا أن يضع جانبًا آراءه الشخصيّة في سبيل مساعدة الآخرين والتعاطف معهم، بغض النظر عن هوية الشخص.
نقول للمرشد لينجح في مهمته:
«كن على استعداد لتقديم المساعدة الروحيّة إلى الغرباء. في أي موقع كنت، ستواجه حتمًا أشخاصًا جددًا. فمن المحتمل أن يجتمع شخص ما معك مرة واحدة فقط أو مرتين. عليك أن تساعده، ألهم وحفز الناس الذين التقيتهم للتو. لأنّ الهدف هو خلق صلات عميقة وذات مغزى من شأنها دعم هؤلاء الناس في أحلك ظروفهم. فلتكن شخصيّتكم مميّزة للدخول سريعًا في العلاقة مع الآخرين».
«كن وفيًّا وقادرًا على الاحتفاظ ببعض الخصوصيّة. فمن واجبات المرشد الرئيسة إسداء النصح إلى الأشخاص الذين يعيشون محنة روحيّة، أي كن محامي الاستغاثة أو الرحمة الروحيّة. وعندما يطلبون منك المساعدة، ستؤتمن على مواضيع حسّاسة من المفترض أن تحتفظ بها لنفسك، احترامًا لبند السرّية، تمامًا كالطبيب. إذا فقد المرشد ثقة الآخرين به، فشل وخسر كلّ شيء».
«كن على استعداد للمساعدة في أيّ وقت. فالناس يعيشون أزمات روحيّة في كلّ ساعات النهار وحتى، في كثير من الأحيان، في منتصف الليل. تبعًا للمكان الذي تعمل فيه، يجب أن توقف ما تفعله (مثل استدعاء الطبيب) أو تستيقظ في ساعات غير مناسبة لمساعدة شخص يتألّم. هذا النوع من الغيرة الروحيّة ليس واضحًا للجميع؛ لأنه يرهق ويقوّض قوى الشخص. هذا الكرم الروحي هو نوعية سامية تعطي قيمة للمرشد».
«إمتلك روحانيّة قوية وعميقة. قد تفقد طاقتك، إذا رغبت في تقديم المساعدة الروحيّة إلى الناس طوال اليوم. أنت تحتاج كمرشد إلى مساعدة نفسك كي لا تتآكل روحيًّا. فمن الضروري أن تتحلّى بثبات إيمانك وقدرة على إدارة التوترات المتعلّقة بمساعدة الأشخاص، إذا طلبت العلى».
يتطلب العمل الرعوي في السجون التعمّق في الكتاب المقدّس والتنشئة.
ج- خدمة الإرشاد الروحي:
تؤدّي المرشدية العامة للسجون دورًا «داخل السجن» و«خارجه»، وهي تريد المشاركة في تحسين علاقة المساجين بمجتمعهم وبيئتهم ونوعية حياتهم كي يتقبلوا حكمهم، ويكونوا في وضع يمكنهم من تقديم الاعتذار إلى ضحاياهم. فهي تعتمد على خبراتها للتحذير من المواقف الصعبة، وعلى مواصلة الحوار بين المؤسّسات العقابية، والجمعيات والجماعات المسيحيّة، حتى لا يبقى مساجين فقراء في السجن بسبب عدم قدرتهم على تسديد غراماتهم ورسومهم.
نناضل ضد «العقلية الأمنيّة»، المنتشرة في أوساط الرأي العام، والهادفة إلى عدم الانزعاج وتحاشي المزيد من المشاكل التي هي في غنى عنها، وغير قلقة على مستقبلهم، إنها حالة الإستقالة الإجتماعية واللامبالاة الخطيرة التي يتحدّث عنها قداسة البابا فرنسيس.
ويجب السماح لعدد كبير من المؤمنين الملتزمين وخصوصًا المسؤولين الرعويين أن يعتادوا على فكرة خدمة السجون، للاستعانة بهم، ولتمكينهم من أن يشهدوا أمام جماعاتهم الرعوية. إننا نعتمد كثيرًا على خدمة السجون وخصوصًا في سنة الرحمة هذه، التي أطلقها قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس.
تجتمع في هذه السنة خدمة الأنجلة مع خدمة الإنسان حتى ينجح الإرشاد الروحي في السجون. ولهذا يسهر المرشد على معرفة حقيقية لحقائق ضرورية وهي:
- كلّ سجين يستوفي متطلبات حياته الدينيّة والأخلاقيّة أو الروحيّة، يمكنه المشاركة في المراسم الدينيّة والإجتماعات الروحيّة.
- يحقّ لكلّ سجين، لدى وصوله إلى مرفق السجن، الاتصال بالمرشد الروحي والمشاركة في الطقوس الدينيّة.
- يتسلّم المرشد من إدارة السجن لائحة بأسماء المساجين والموقوفين الوافدين الراغبين في المشاركة في الطقوس والاجتماعات الدينيّة والروحّة.
- يوفر المرشد الخدمة الدينيّة للمساجين مكرّسًا وقته أو قسمًا منه وفق أعداد المساجين من أبناء طائفته الموجودين في السجن.
- يقيم المراسم الدينيّة ضمن السجن في الأيام والساعات التي تحدّد بعد الاتفاق مع قائد السجن مع مراعاة الآحاد والأعياد الدينيّة الرئيسة وفق روزنامة التقويم الدينيّ.
- يحقّ للموظفين والمساجين المشاركة في المراسم الدينيّة.
- يحقّ له زيارة المرضى المساجين الموجودين في المستشفى الخاص بالسجن أو في المستشفى العام.
- يمكن المرشد المعيّن أن يلتقي، في كثير من الأحيان ووفق ما يراه مناسبًا، مع المساجين من أبناء طائفته، ولا يمنع السجين من هذا الامتياز في حال التأديب. أما المقابلة فتتم في مكتب أو في الغرف المخصّصة للزيارات، وفي حال التأديب في غرفة خاصة، على مرأى من الحارس وليس على مسمعه.
- يمكن المرشد مقابلة السجين أثناء عمله شرط أن لا يعيق عمل المساجين الآخرين.
- يحقّ للسجين مراسلة المرشد المرخّص له، بحرية وسرّية تامتَين، وفي ظرف مختوم.
- يحقّ للسجين تلقّي الشعائر والأيقونات والصور والكتب الدينيّة اللازمة لحياته الروحيّة ولممارسة شعائره الدينيّة أو الاحتفاظ بها.
إنّ هذه الرسالة هي دعوة البشر إلى فهم أكثر وأقوى أنّ حبّ الله ليس له حدود ومتاح لكل الناس، وبالأخاص الأشرار منهم.
إنّ الرحمة الإلهيّة هي قلب الكتاب المقدّس، فإنّنا إذا ما تأمّلنا كيف أنّ الله أظهر عظم محبّته ورحمته لنا في تجسّده وموته على الصليب وقيامته ليعطي الحياة الأبديّة لكلّ من يؤمن به، كما قال يوحنا الرسول في رسالته الأولى: «وإنّما عرفنا المحبّة بأنّ ذاك قد بذل نفسه في سبيلنا، فعلينا نحن أيضًا أن نبذل نفوسنا في سبيل إخوتنا. من كانت له خيرات الدنيا ورأى بأخيه حاجة فأغلق أحشاءه دون أخيه فكيف تقيم فيه محبّة الله؟ يا بنيّ، لا تكن محبّتنا بالكلام ولا باللسان بل بالعمل والحق». (1يو 3/16-18)، حيذاك يمكننا بتلك الثقة أن نسأل رحمته تعالى.
وخير ختام لثمرة الإرشاد الروحي في السجون، وللدلالة على قدسية هذه الخدمة وثمارها الروحية، نورد صلاة السجين التي تعكس خبراته الشخصية والروحية:
«يا ربّ أنا في السجن بلا قيمة،
فعندما أفقد قيمتي، يتعطل تفكيري،
وعندما أرغب في التحدّث إليك،
يتلعثم لساني!
سامحني يا ربّ،
إذا كنت لا أملك شيئًا لأقدّمه إليك، إلَّا الفراغ،
كالصحراء في أعماق نفسي.
وهذا الشيء الذي لا أملكه يزن كثيرًا، حمله ثقيل.
يؤلم عنقي، يحرق عيني،
يعرِّق جسمي برودة،
يوجع بطني،
يشل ساقي،
يضعف قواي،
فيصاب فمي باللزاجة.
هذا اللاشيء يا رب يصعقني،
خذه عني لأن حمله ثقيل!
بين المطرقة والسندان
أعيش وحدي في الدوامة
أرتدي ثيابًا رثة
أشعر بالوساخة كالخنزير
بين المطرقة والسندان
لا رأي لي.
بعد تفكير ناضج،
أشعر أني أحمق ومهرج.
بين المطرقة والسندان
أدفع الفاتورة.
إنها ساعة التخلي
إني أغرق هنا! »