الخوري دانيال زغيب
مقدَّمة
لعيد القيامة المجيدة أهمِّيَّةٌ كبرى، في الطَّقس المارونيّ، إذ هو “العيد الكبير” بالنِّسبة إلى الموارنة. ولكنَّ الممارسة اللِّيتورجيَّة المارونيَّة الحاليَّة تُشدِّد، أكثر فأكثر، على احتفالات أسبوع الآلام، ولا سيَّما احتفالات يوم الجمعة العظيمة، بينما يتمُّ الاحتفال، بيوم أحد القيامة، بشكلٍ سريعٍ ومن دون أُبَّـهةٍ ليتورجيَّةٍ كبيرة. بالإضافة إلى أنَّ التَّقوى الشَّعبيَّة والممارسة الطَّقسيَّة الحاليَّة تربطان زيَّاح الصَّليب بالآلام فقط، ولا تعطيان أهمِّيَّة تُذكَر لـرتبة السَّلام([1]). وبما أنَّ “كتاب الرُّتب” المارونيّ المخطوط الَّذي أعدَّه ونسَّقه البطريرك إسطفان الدُّويهيّ، والمحفوظ في المخطوط الفاتيكانيّ السُّريانيّ 312 (= ف.س. 312)، يتضمَّن رُتبتَين اثنتَين يُـحتفَلُ بهما في يوم أحد القيامة([2])؛ وبما أنَّـهما لم تُنشرا بَعْدُ ولم تُدرسا دراسةً ليتورجيَّةً ولاهوتيَّةً ورعويَّة، سَعينا إلى دراستِهما واستخلاص مضامينهما الكتابيَّة واللاهوتيَّة واللِّيتورجيَّة([3]).
لذا، نسعى في هذا المقال([4])، إلى أنْ نبرِزَ، أوَّلًا، لاهوت الصَّليب ولاهوت القيامة عند الموارنة، إستنادًا إلى هاتَين الرُّتبتَين الطَّقسيَّتَين، المتضمَّنتَين في ف.س. 312، لأنَّ “قاعدة الصَّلاة هي قاعدة الإيمان”؛ وأنْ نعرض، ثانيًا، كيف فَهِمَت اللِّيتورجيَّا المارونيَّة حدثَ قيامة الرَّبِّ يسوع من بين الأموات، وما تتضمَّنه هذه النُّصوصُ المحتَفَلِ بها، من معانٍ لاهوتيَّةٍ وروحانيَّة. ويكمن الهدف الثَّالث في كشْف المعطيات اللِّيتورجيَّة الَّتي تتضمَّنها الرُّتبتان، وإبرازِها وتحليلِها، ومحاولة الخروج بالـخُلاصات المناسِبَة.
يربط الموارنة، في ممارستِهم اللِّيتورجيَّة الحاليَّة، ربطًا وثيقًا بين الصَّليب والألم والعذاب والموت. وحين نتكلَّم على لاهوت الصَّليب، يتبادر إلى أذهان الكثيرين الاحتفال بـرتبة دَرْب الصَّليب([5]) أو بزيَّاح الصَّليب مساء كلِّ نهار جمعةٍ من أسابيع زمن الصَّوم الكبير، والاحتفال بـرتبة سجدة الصَّليب([6])، في نهار الجمعة العظيمة، مِنْ أسبوع الآلام الخلاصيَّة، مِنْ دون أيِّ إشارةٍ تقريبًا إلى دور الصَّليب الظَّافر في “إبادة الموت”، كما جاء في أحد نصوص رتبة زيَّاح الصَّليب، ودوره في “هَدْمِ” مثوى الأموات، و”إهلاك الشَّيطان”، وإرجاعِنا إلى الفردوس؛ إذ “به [أي بالصَّليب] أشرقتَ لنا القيامة”، و”به مَلَكَتِ الحياةُ على جنسِنا الضَّعيف”.
إنَّنا نفتقر إلى أبحاثٍ ودراساتٍ معمَّقةٍ تطاول موضوع لاهوت القيامة في اللِّيتورجيَّا المارونيَّة. فلولا نصّ فرْض مساء أحد القيامة، الَّذي كان لا يزال مخطوطًا، والَّذي نشره الياس خليفه([7])، مترجمًا إلى اللُّغة الفرنسيَّة، والتَّفسير الَّذي أرفقَه به؛ ولولا البِيتْ غازات الَّتي نشرَها يوحنَّا تابت عن القيامة، وفرْض عيد القيامة بحسب مخطوط طاميش([8])؛ ولولا “مدخل إلى لاهوت القيامة”([9])، الَّذي استَعْرَضَ فيه يوحنّا تابت ما تكشفُه هذه النُّصوص عن لاهوت القيامة ومفاعيلِها في حياة المؤمن؛ ولولا الدِّراسة القيَّمة الَّتي أنجزها فاليري بيطار عن ألحان القيامة استنادًا إلى البيت غازو المارونيّ([10])؛ ولولا “فرْض القيامة المحيية (صلاة المساء)”([11])، الَّذي نشره أيضًا يوحنَّا تابت، في مستهلِّ الشَّحيمة المارونيَّة (المتضمَّنة في ف.س. 406)، لَما كُنَّا نعرف كثيرًا عن هذا الموضوع المهمّ.
لذلك، سوف نبرِز أهمِّيَّة زيَّاح الصَّليب في يوم أحد القيامة، لأنَّ تسمية زيَّاح الصَّليب، في الممارستَين الطَّقسيَّة الحاليَّة والتُّقويَّة الشَّعبية، تشدِّد كثيرًا على الآلام والصَّلْب والنَّوح والبكاء، من دون أيِّ إشارةٍ إلى زيَّاح الصَّليب الظَّافر والمنتصِر على الموت وواهب الحياة. وسوف نعمد إلى تبيان ما يُـخَبِّـئُه لنا ف.س. 312، عن لاهوت القيامة عند الموارنة، من خلال الرُّتبتَين الطَّقسيَّتَين في أحد القيامة الكبير.
1- المخطوط الفاتيكانيّ السُّريانيّ 312
إنَّ ف.س. 312 هو أحد مخطوطات القسم السُّريانيّ، في مكتبة الفاتيكان، ويحمل الرَّقم 312([12]). مكتوب بالخطّ السُّريانيّ الغربيّ، وحالته جيِّدة. يحتوي هذا المخطوط على كتاب التَّكريسات الخاصّ بالأساقفة، وكتاب الرُّتب الخاصّ بالكهنة. هذا المخطوط هو نتيجة الإصلاح اللِّيتورجيّ الَّذي بدأَهُ البطريركُ إسطفان الدُّويهيّ (1630-1704) ومعاونوه. جُمِعَتْ رتبُ هذا المخطوط في العام 1694. ولكنَّ تاريخه يعود إلى العام 1745. يتضمَّن هذا المخطوط 45 رتبة، ومن بينها رُتبة زيَّاح الصَّليب ورُتبة السَّلام، بالإضافة إلى الصَّلوات المتنوِّعة المذكورة في آخر المخطوط([13]).
لقد ترجمنا النَّصّ السُّريانيّ لرُتبتَي زيَّاح الصَّليب والسَّلام، إلى اللُّغة العربيَّة، ترجمةً حرفيَّةً أمينةً للنَّصّ الأصليّ، قدْر المستطاع، مع احترام قواعد اللُّغة العربيَّة الَّتي ننقل إليها، وطبعْنا النَّصَّين السُّريانيّ والعربيّ بشكلٍ متوازٍ. كما تضمَّنت الحواشي المراجعَ الكتابيَّة والمقارنات الَّتي قُمنا بها بين النَّصّ المخطوط ونصوص الرُّتبتَين، بحسب كتاب الرُّتب المطبوع([14]). فوجَدْنا أنَّ غالبيَّة نصوص الكتاب المطبوع هي عينها نصوص الرُّتبتَين المخطوطتَين. كذلك، تَـمَكَّنَّا من إجراء مقارناتٍ بين مخطوطنا والبِيتْ غازات المارونيَّة، فأحصَينا نصوصًا كثيرةً مشتركةً مع البِيتْ غازو Add. 14.701([15])، والبِيتْ غازو Add. 14.703، الجزء الثَّالث: ألحان للقيامة، والجزء السَّادس: ألحانٌ للصَّليب؛ والبِيتْ غازو ف.س. 324، الجزء الأوَّل: ألحانٌ للقيامة. كما وجدنا بيتَين من لحن: فْشِيطُو، في رتبة السَّلام، مشتركَين مع الشَّحيمة المارونيَّة المخطوطة والمتضمَّنة في ف.س. 406([16]). كذلك، إنَّ السُّوغيتو: حْدَوْ عَمِ، في ختام رتبة زيَّاح الصَّليب، موجودةٌ في رتبة السَّلام، بحسب كتاب الرُّتب المارونيّ المطبوع([17])؛ وهي عينها في رتبة السَّلام بحسب الطَّقسَين الأنطاكيّ السُّريانيّ([18]) والسُّريانيّ الـمَلَـنْكاريّ([19]).
2- المعطيات الكتابيَّة واللاهوتيَّة عن الصَّليب
نعرض، في هذا القسم الثَّاني من مقالنا، لموضوعٍ أساسيٍّ تتناولُه نصوصُ الرُّتبتَين، ألا وهو: لاهوت الصَّليب. فلا خلاص ولا قيامة، لو لم يُصلَب المسيح ويَـمُت. ولا قيمة لحدث الصَّلْب وللصَّليب في المسيحيَّة، لو لم يَقُم المسيح وتُعلَنُ القيامة ويُكرَزُ بها.
نتطرَّق إلى لاهوت الصَّليب([20]) إنطلاقًا من هاتَين الرُّتبتَين اللَّتَين تصيران في يوم أحد القيامة الكبير. أمَّا الَّذين بحثوا وكتبوا في لاهوت الصَّليب، بحسب الطَّقس المارونيّ، فقد استندوا -في غالبيَّتهم- إلى الرُّتب المرتبطة بآلام الرَّبِّ يسوع وموته، وبعيد ارتفاع الصَّليب الخلاصيّ (في 14 أيلول)([21]). تكمنُ الجدَّةُ في هذا البحث، بكونِه يتطرَّق إلى لاهوت الصَّليب الظَّافر والمنتصِر، إنطلاقًا من نصوص أحد القيامة. تستوقفنا أربع محطَّاتٍ كبرى.
1- الصَّليب والأنْماط الكتابيَّة
إنَّ النَّمطيَّة الكتابيَّة (Typologie biblique) هي النَّوع الأدبيّ الَّذي يسمح لنا بقراءة أنماط العهد القديم ورموزه في ضوء العهد الجديد وشخص يسوع المسيح؛ وبأن نرى، فيها، وفي أحداث العهد القديم، استباقًا لعمل الابن الخلاصيّ وتمهيدًا له([22]). أهمّ الأنماط الَّتي وجدناها في الرُّتبتَين، قد رتَّبناها في بحثنا كالآتي: الخشبة (أو الشَّجرة)، والسُّلَّم، وعصا موسى، والدَّم على عارضة الباب وقائمتَيه، والحيَّة النُّحاسيَّة، وبَسْط يدَي موسى، والختم (أو الرَّسْم أو الوسْم).
أ- الخشبة (أو الشَّجرة)
إنَّ الخشبة أو الشَّجرة رمزٌ غنيٌّ بالمعاني. هي الحياة في نموِّها وتطوُّرها. لذا، ترمز الشَّجرة إلى البُعد العموديّ. ولكنَّها ترمز أيضًا إلى دورة التَّطوُّر الكونيّ، أي الموت والولادة الجديدة. تتناول رتبة زيَّاح الصَّليب نَمَطَ الخشبة قائلةً إنَّ الصَّليب هو “خشبة البركات”([23])، و”عُكَّاز جنسنا”([24])، وهو “خشبة العار” الَّتي اعتلاها مخلِّصنا وجعلها “ملجأً للخطأة”، وبهذه الخشبة “يُلاشَى الشَّيطان وتُطرَد قوَّاته”([25]). فإذا كان المسيح قد “صار لعنةً من أجلنا” (غل 3: 13) لأنَّه عُلِّق على خشبة، فإنَّه بالفعل نفسه قد افتدانا وخلَّصنا بالخشبة، أي بالصَّليب. وإذا كان العُكَّاز خشبةً تعين الَّذين يجدون صعوبةً في السَّير، هكذا أيضًا صار صليبُ ربِّنا “عُكَّازَ جنسنا” البشريّ.
ب- السُّلَّم
إنَّ السُّلَّمَ هو رمزُ الصُّعود والارتقاء؛ وهو واسطة العلاقة بين السَّماء والأرض، ووسيلة التَّواصل والحركة بين الأعلى والأسفل. ولقد ذَكَرَ الكتابُ المقدَّس السُّلَّمَ الَّذي رآه يعقوب، في الحلم (تك 28: 13). يرمز هذا السُّلَّم إلى عناية الله بالنَّاس أجمعين، من خلال عمل الملائكة خُدَّامه.
نجد، في صلاة الختام في رُتبة زيَّاح الصَّليب، إشارةً وحيدةً إلى موضوع السُّلَّم. تتطرَّق هذه الصَّلاة إلى الصَّليب الَّذي جعله ربُّنا يسوع “سُلَّمًا يُصعِدُ السَّاجدين له إلى علوِّ السَّماء” (الورقة 161ب). فالصَّليب هو السُّلَّم الَّذي ينقل السَّاجدين ليسوع والمؤمنين به، إلى السَّماء، إلى الفردوس السَّماويّ الَّذي يتوق إليه كلُّ مؤمن.
ج- عصا موسى
ترمز العصا إلى السُّلطة. ولقد استخدمها جميع ملوك الشَّرق، فهي علامة المركز والسُّلطة والزَّعامة. وعندما رجع موسى إلى مصر، بأمرٍ من الرَّبّ، أخذ معه “امرأته وبنيه (…)، وأخذ عصا الله بيده” (خر 4: 20). والعصا عتادٌ أساسيٌّ من عِدَّة المسافر (عصا المسير). وهناك عصا التَّأديب، وعصا الرَّاعي. ونجد، أيضًا، عصا اليد الَّتي يستعملها الجنود والمحاربون. والعصا، بيد المسيح، هي رمزٌ إلى سلطته وقوَّته.
أمَّا المقاطع الكتابيَّة الَّتي تُفرِد لعصا موسى دورًا هامًّا فهي كثيرة. ويتوقَّف نصّ رتبة زيَّاح الصَّليب عند موضوع شقّ موسى للبحر الأحمر وعبور الشَّعب. يقول النَّصّ ما يلي:
- “موسى بعصاه شقَّ البحر وعبَّر الشَّعب، وأغرق فرعون المارد مع المصريِّين. وربُّنا، بالصَّليب الحيّ قتل الموتَ ونَـجَّى جنس بني آدم من السَّابي” (الورقة 156ب).
- – “بـِمِثال صليب النُّور شقَّ موسى البحرَ لشعب إسرائيل” (الورقة 160ب).
ويشير نصُّ الرُّتبة نفسها إلى “عصا الأعاجيب”، وفي ذلك إشارة إلى العصا الَّتي سلَّمها الرَّبُّ إلى موسى قائلًا له: “وهذه العصا تأخذُها بيدِكَ وتصنعُ بها الآيات” (خر 4: 17). ولقد جاء في النَّصّ، أيضًا، أنَّ الابن “نزل خلَّصنا بعصا صليبه” (الورقة 158ب). لذا، كانت العصا أداة الخلاص في يد موسى؛ والصَّليب هو “عصا الرَّبّ” أي أداة الخلاص الَّتي خلَّص بها شعبه.
د- الدَّم على عارِضة الباب وقائمتَيه
يحمل الدَّم معاني متناقضة: يرمز الدَّم إلى الحياة، وفقدان الدَّم يرمز إلى الموت. يحمل الدَّم كلَّ المكوِّنات والعناصر الضَّروريَّة لحياة البشر والحيوان. يتكلَّم الكتاب المقدَّس على الدَّم إنطلاقًا من وجهات نظرٍ متنوِّعة. نجده في بعض الأحداث المهمَّة في تاريخ الشَّعب العبرانيّ: لَمَّا ذَبَحَ الإسرائيليُّون، في مصر، الحملَ ورشُّوا “من دمه على قائمتَي الباب وعارِضَتِه على البيوت الَّتي يأكلونه فيها” (خر 12: 7)؛ ولَمَّا أَبْرَمَ اللهُ، بواسطة موسى، العهدَ مع الشَّعب العبرانيّ.
تَذكُرُ رتبة زيَّاح الصَّليب رشَّ الدَّم على عارِضة الباب وقائمتَيه، في موضعَين اثنَين، هما:
- “كما بذلك الرَّسْم الَّذي صنعَه موسى في داخل مصر، وصوَّرَ به مثالَ صليبِك على أبواب أبناء يعقوب، ونُجِّيَ به العبرانيُّون من الملاك المهلِك فلم يؤْذِهم اليقظُ الَّذي قَتَلَ أبكارَ المصريِّين” (الورقة 157ب-الورقة 158أ).
- – “وكما خُتِمَتْ كلُّ بيوت بني إسرائيل، هكذا تُـختَمُ حواسُّ نفوسنا (…)” (الورقة 160ب).
إنَّ الدَّم على عارِضة الباب وقائمتيه هو الرَّمز الَّذي حفِظ العبرانيِّين من الموت، وأدَّى إلى تأسيس الاحتفال السَّنويّ بعيد الفصح. وسيكون دمُ المسيح الَّذي أُهرِق على خشبة الصَّليب من أجلنا، سبب خلاصٍ ونجاة. بدم الذَّبائح أُبرِمَ العهدُ الأوَّل بين الله والشَّعب العبرانيّ؛ ودمُ يسوع المسيح هو أساسُ ومبدأ العهد الجديد والأبديّ.
ه- الحيَّة النُّحاسيَّة
تحمل الحيَّة رمزيَّةً متناقضةً تمامًا. هي ترمز إلى الحياة والموت معًا. في الكتاب المقدَّس، الحيَّة هي “أحيَل جميع حيوانات الحقول” (تك 3: 1)، وهي ملعونةٌ من الله (راجع تك 3: 14). وعندما لدَغَتِ الحيَّاتُ اللاذعة الشَّعبَ الإسرائيليّ في الصَّحراء، أَمَرَ الرَّبُّ موسى بأنْ يرفعَ حيَّةً على سارية، و”كلُّ لديغٍ ينظر إليها يَـحيا” (عد 21: 8). ومن هنا، صارت الحيَّةُ النُّحاسيَّةنَـمَطًا لصليب يسوع.
ولقد جاءت، في نصّ رتبة زيَّاح الصَّليب، إشارةٌ واحدةٌ إلى الحيَّة النُّحاسيَّة، هي الآتية: “بِـمِثالِ صليب النُّور (…). وبسرِّه رُفِعَت الحيَّةُ النُّحاسيَّة لشفاء لدغات الحيَّات السَّامة (…)” (الورقة 160ب).
توقَّفت لدغات الحيَّات وشفيَ الشَّعب العبرانيّ، لا بفعل الحيَّة النُّحاسيَّة السِّحريّ -كما كانت الحال في المعتقدات والممارسات السِّحريَّة المنتشرة في الشَّرق القديم-، ولكن لأنَّ الحيَّة النُّحاسيَّة كانت، بحسب سفر الحكمة (راجع حك 16: 6-7)، علامةً للخلاص، بقوَّة من هو “مخلِّصُ جميع النَّاس” (حك 16: 7). لقد استعان يسوع، إذًا، بهذا الحدث واستخدمه مَثَلًا ليُعلِنَ عن موتِه على الصَّليب، وليضمن الحياة الأبديَّة لكلِّ من “ينظر إليه”، أي لكلِّ من يثق برسالته ويؤمن به.
و- بَسْطُ يدَي موسى
“تُكَوِّن الذراع واليد، عمومًا، أداة الحركة ودليلها، والتعبير، والصِّلة. وتدلُّ الرَّمزيَّة في الذراع، غالبًا أيضًا، على بعض السُّلطة نوعًا ما، وتفيد اليد المهارة والتملُّك”([26]). ويرمز بسْطُ اليدَين أو رفعُهما نحو السَّماء إلى الصَّلاة والابتهال والتَّضرُّع. وكذلك ترمز اليد إلى تدخُّل الله لصالح شعبه أو من أجل معاقبته.
أمَّا بَسْط يدَي موسى، فقد تمَّ خلال المعركة الَّتي تواجَهَ فيها العمالقة مع بني إسرائيل. ولقد جاء في النَّصّ الكتابيّ ما يلي: “فكان، إذا رفع موسى يدَه، يغلب بنو إسرائيل، وإذا حطَّها، تغلب العمالقة” (خر 17: 11). وجاء في رتبة زيَّاح الصَّليب، الورقتَين 157ب و160ب، ما يلي:
- “(…) أيُّها الجبَّارُ الَّذي بذراعه كلُّ البرايا معلَّقة”.
- – “أيُّها الموقَّرُ الَّذي (…) بَسَطَ يدَيه على الصَّليب وسامحَ إثمَ بيتِ آدم”.
- – “بِـمِثالِ صليبِ النُّور شَقَّ موسى البحرَ لشعبِ إسرائيل (…). وببَسْطِ يدَيه ظفرَ على عماليق وجيشِه”.
ببَسْطِ يدَي موسى غلبَ اليهودُ عماليق ولم يسمح الرَّبُّ بأن يُغلَب شعبه، فسامَـحَهم على تذمُّرهم عليه في “مسَّة ومريبة”؛ والرَّبُّ يسوع “بِـبَسْط يدَيه على الصَّليب سامَحَ إثْـمَ بيتِ آدم”، أي غفرَ لبني البشر خطاياهم، وأعادهم إلى بيت أبيه.
ز- الختْم (أو الرَّسْم أو الوسْم)
إنَّ كلمتَي “الختْم” (حةما) و”الرَّسْم” (أو “الوسْم”) (روشما) تترجِـمان الكلمة اليونانيَّة σφραγίς (sphragis). ويحمل الختم معنى السِّمة والعلامة والطَّابع؛ وهو علامة الـمُلْكيَّة الشَّخصيَّة والانتماء، على المستويَين المدنيّ والدِّينيّ. وفي رتبة زيَّاح الصَّليب، عديدةٌ هي النُّصوص الَّتي تعتبر الصَّليب رسْمًا أو وسْمًا أو ختمًا “توسم به صلواتُنا، وتُختَم به أجسادُنا” (الورقة 157أ). ونستشهد بنصٍّ رائع، للبطريرك إسطفان الدُّويهيّ، يتناول فيه أهمِّيَّة الرَّسْم بالصَّليب، إذ يقول:
“وإنَّما نرسم الصليب على أنفسنا وعلى شعبنا وعلى الأسرار التي نقصد تقديسها بسبب أنّ السيّد المسيح بموته على الصليب هدَّ جسم الخطيئة وأمات الموت ولاشى قوّة الشيطان (…) وبصليبه فتح لجنسنا أبواب السماء (…). ولأجل ذلك عظيم يقين بني الايمان برسم الصليب لأنّه يحوي قوّة الرب الذي صنع به الخلاص لذرية آدم فنرسم إشارة الصليب أوّلًا في بدء جميع أفعالنا (…). لا يتبارك شيء من أمور الكنيسة ولا يتقدّس إلاّ بإشارة الصليب فلا يعتمد المؤمنون ولا تُكرَّس الكنائس والمذابح ولا يتكلَّل العرسان (…) ولا يكتمل شيء من أمور الكنيسة ولا من أمور البيعة حتّى جسد الرب أصل الحياة لا يتقدّس إذا لم يُرسَم عليه الصليب (…)”([27]).
2- الصَّليب في حياة البيعة
إذا راجعنا نصوص رتبة زيَّاح الصَّليب، نجد دورًا هامًّا يؤدِّيه الصَّليب في حياة الكنيسةكما كان له دورٌ هامٌّ في حياة يسوع على الأرض. فالصَّليب هو الأداة الَّتي اختارها كلمة الله، بها يختصر تدبيره الخلاصيّ. لقد ترك المسيحُ لبيعته صليبَه علامةً فاعلةً في حياتِها لتقتدي به وتحيا فيه. لذا، تؤدِّي البيعة الشُّكر والتَّكريم والسُّجود للصَّليب، وتزيِّحه في البيَع والأديار وتحتفل بعيده بالفرح والابتهاج والسُّرور.
أ- الصَّليب يحفظ البيعة ويخلِّصها
تشدِّد نصوص الرُّتبة على الخلاص الَّذي حقَّقه الصَّليب للبيعة المؤمنة. فلولا صليب يسوع، لَمَا نالت البيعةُ الخلاص. تصرخ البيعةُ نحو يسوع المسيح قائلةً له: “بصليبِك كان خلاصُنا وتعظيمُنا وحياتنا”؛ فـ”الصَّليب هو ينبوع الحياة” و”صانع الحياة”. وهي تعلنُ إيمانَها بالصَّليب كواسطة خلاص، حين تهتف: “بالصَّليب صار الخلاص للعالم”. وكثيرةٌ هي الجمل والتَّعابير الَّتي تشير إلى خلاص البيعة، المحقَّق بصليب الفادي. ولقد جاء في رتبة زيَّاح الصَّليب ما يلي:
- “ليدْرِكْ، يا ربُّ، خلاصُك البيعةَ المؤمنة الَّتي تفتخر بصليبك الحيّ” (الورقة 160أ).
- “به [بالصَّليب] فلنَنْجُ في هذا العالم من الأضرار”؛ و”به صُنْ رعيَّتَك من الأضرار، وأنقِذْها من تجارب الثَّلاَّب” (الورقة 156ب).
- – “وبكَ [الصَّليب] تُنقَذ [البيعةُ] من الشِّرِّير عدوِّها، وبقدراتِك تقهر المحارب معها”؛ و”بكَ فلنتوقَّعِ النَّصرَ التَّامّ” (الورقة 160أ).
- – “والَّذين تحت أكنافه [الصَّليب] يستترون ويُخلَّصون من آذاء الثَّلاَّب” (الورقة 160ب).
ب- بالصَّليب تُغفَر للبيعة خطيئتها
تعلن البيعة، في رتبة زيَّاح الصَّليب، إيمانها بـ”الصَّليب مُبيدُ الخطيئة”، والَّذي هو “آية الأمان والمصالحة” بين الله والشَّعب من جهة، وبين النَّاس تجاه بعضهم بعضًا من جهةٍ أخرى. فإذا كان “بمثال الصَّليب شقَّ موسى البحر لشَّعب إسرائيل” وعبَّره من مصر، رمزِ العبوديَّةِ والخطيئة، إلى أرضِ الميعاد، رمزِ الحرِّيَّةِ والنِّعمة؛ وإذا كان بالحيَّةِ النُّحاسيَّة، سِرِّ صليبك، شُفيَ الشَّعبُ من لدغات الحيَّات السَّامَّة، هكذا يصير الصَّليب، الَّذي تُزيِّحُه البيعةُ، اليوم، وتحتفلُ بقيامتِه وظفرِه، هو الفاعل الأساسيّ في مغفرة الخطاياوفي منح الأمان والمصالحة. وهاكم بعض ما ورد في النُّصوص:
- “الصَّليب آية الأمان والمصالحة” (الورقة 157أ).
- – “تبارَك صليبُك، يا مخلِّصَنا. لأنَّه به تصالَحَ العلو والعمقُ وكلُّ ما يوجد فيهما” (الورقة 158أ).
- “الصَّليبُ مُبيدُ الخطيئة” (الورقة 157أ).
- – “به (بالصَّليب) وُفيَ الدَّينُ مِنْ تجاوزِ الوصيَّة” (الورقة 157أ).
ج- الصَّليب يرافق أبناء البيعة
إنَّ الَّذي تَجَسَّد هو عمَّانوئيل أي “الله معنا”، وهو القائل: “لن أدَعَكم يتامى” (يو 14: 18). فبالإضافة إلى روحه القدُّوس الَّذي تركه لنا “برقليطًا آخر نصيرًا” (يو 14: 16) يقيم معنا إلى الأبد، ترك لنا الرَّبُّ صليبَه رفيقًا لنا. فعندما ننظر إلى الصَّليب، أو نُناجيه ونستدعي اسمه، نستحضر قوَّة من صُلِب عليه. لذلك، ليس الصَّليب خشبةً يابسةً لا حياة فيها، بل هو “الصَّليب الحيّ والصَّانع الحياة” كما تُسمِّيه رتبة زيَّاح الصَّليب. ولأنَّه حيٌّ ومحيٍ، يمكن للإنسان أن يلجأ إليه، ويسأله العون والنَّجاة من الشِّرِّير ومن تجارب الحياة وصعوباتها:
- “بصليبك، يا ربّ، نتَّخذ ملجأً كلَّ يوم، ونرسم صليبَك بين أعيننا” (الورقة 156ب).
- “وبواسطة رسم صليبك الَّذي ختمناه، يا ربّ، على وجوهنا، فليهرب منَّا شيطان الظَّلام وقوَّاته” (الورقة 157ب).
- – “وليكن (الصَّليب) لكلِّ جمعِنا حارسًا في كلِّ وقت” (الورقة 158أ).
- كُنْ، أيُّها الصَّليب، “في الأحزانِ معزِّيًا، ومِنَ الضِّيقاتِ منقذًا، ومِنَ التَّجاربِ منجِّيًا، ومِنَ الأمراضِ شافيًا، ولِمُنكسري القلبِ مضمِّدًا وساندًا، وللخطأةِ مسامحًا” (الورقة 157ب).
ج- الصَّليب يرافق المنتقلين المؤمنين
الصَّليب، رفيق المنتقلينمن هذه الحياة إلى الحياة الأبديَّة، موضوعٌ هامٌّ وغنيٌّ في الجنَّازات المارونيَّة. إنَّ الصَّليب هو “رفيق” الميت في سفره، لئلاَّ تضبطه “عصابات الهواء الَّتي تتطاير في الجوّ وتقاتل النُّفوس”، وليساعده في تخطِّي “المعابر المخيفة الخطرة”. والصَّليب “جسرٌ” للمنتقل المؤمن، يعبر عليه لئلاَّ يقع في “بحر النَّار، حيث يتعذَّب الأشرار”. وفي عيد القيامة، بينما تحتفل كنيسةُ الأرض بزيَّاح الصَّليب، وتعلن ظفره وانتصاره و”قيامته”، تذكرُ الموتى المؤمنين في صلواتها، وتسألُ لهم غفرانَ خطاياهم ومسامحةَ ذنوبهم لأنَّ الصَّليب هو “للمنتقلين المؤمنين باعث” (الورقة 157ب). إنَّ هذه الصِّفة، أي “الباعث”، الَّتي تُعطَى لابن الله يسوع -باعث الأموات ومقيمهم-، قد أعطَتْها الرُّتبة للصَّليب.
د- بالصَّليب أُبيدَ الموتُ والشَّيطان، وأُعِدْنا إلى الفردوس
إنَّ المسيحَ، بموته وبتكفيره عن الخطيئة الَّتي تستوجب الموت، قد “أباد الموت وصَرَعَه” بصليبه، ووهب لنا الحياة. وقد أهلَك المسيحُ، بموته على الصَّليب وقيامته من بين الأموات، مَنْ كانت له قوَّة الموت، أي الشَّيطان، وأعادنا إلى الفردوس الَّذي طُرِدْنا منه. لقد جاء في رتبة زيَّاح الصَّليب، ما يلي:
- “هو (الصَّليب) حطَّمَ الحربةَ الَّتي حرسَتْ شجرةَ الحياة، وفتَحَ بابَ الفردوسِ الَّذي أغلَقَهُ آدم” (الورقة 156ب).
- “بالصَّليب أُرجِعْنا إلى الفردوس” (الورقة 157أ).
- – “بالصَّليب أَشرقَتْ لنا القيامة” (الورقة 157أ).
ه- الصَّليب والنُّهية
تشير رتبة زيَّاح الصَّليب إلى أنَّ الصَّليب سوف يظهر، أيضًا، “في نهاية الأزمنة”، وسيكون سترًا للمؤمنين، يلجأون إليه ويستترون تحت أكنافه: “وعندما سيظهر (الصَّليب) في نهاية الأزمنة، فلنستَتِرْ جميعُنا تحت أكنافه” (الورقة 160ب). كما تشدِّد هذه الرُّتبة على دور الصَّليب في دينونة كلِّ إنسان، وتقول: “به (الصَّليب) فلنستَتِرْ عندما يصير القضاء المخيف” (الورقة 156ب). وبما أنَّنا آمنَّا بالابن واعترفنا بصليبه أمام الجميع، سيقف الصَّليبُ معنا يوم الدِّين، ويصير لنا مبتهِلاً قدَّام الدَّيَّان ليرأَفَ بنا، ويعاملَنا بحسب كثرة رحمته، ويجازينا المجازاة الحسنة.
و- البيعةُ تسجدُ للصَّليب وتُزيِّحُه
تسجد البيعة، في رتبة زيَّاح الصَّليب، للصَّليب، أداةِ خلاصِها ووسيلته وعلامته، وتزيِّحُه وتطوفُ به في الكنيسة وخارجها، ويسير المؤمنون وراءه معلنين ارتباطهم اللاهوتيّ والإيمانيّ به. وإلى القارئ بعض ما نجده في الرُّتبة (الورقة 156ب):
- “نسجد لصليبك ونعترف به (…)”.
- – “البيعة الَّتي تسجدُ لصليبِكَ، يا ابنَ الله”.
- – “رايةُ الملك الَّتي كرَّمناها باجتهاد”.
3- الصَّليب والعالَم
لقد خلَّص الرَّبُّ يسوع الإنسانيَّة، وكلَّ إنسانٍ بمفرده، مِنَ الشِّرِّير، والشَّرِّ ومِنَ التَّعاسة، عندما قدَّم ذاته حَمَلاً ذبيحًا مرفوعًا على خشبة الصَّليب. لذا، يختصر المسيحُ المعلَّق على خشبة سرَّ الفداء والخلاص؛ وموتُه، وهو باسطٌ يدَيه على خشبه، يرمز إلى الخلاص الَّذي منحه للعالم كلِّه، لا لفئةٍ محدَّدةٍ فقط. وللصَّليب دورٌ هامٌّ في حياة العالم: بالصَّليب تتقدَّس المسكونة: “الصَّليبُ الحيُّ سطعَ نورُه كالشَّمس في الأقطار الأربعة (…)” (الورقة 156ب)؛ و”قوَّته تضبط البرايا وساكنيها” (الورقة 157أ)؛ و”الصَّليب نور العالمين” (الورقة 157أ).
4- أهمّ الصِّفات والألقاب والتَّعابير عن الصَّليب
نعرض، في المقطع، لأهمِّ الصِّفات والألقاب والتَّعابير عن الصَّليب، وهذه بعضها: علَّة الخيرات، وينبوع الحياة، وقاتل الحيَّة، ونور العوالم، ومفتاح الفردوس، ومُبدِّد الموت، وأساس البِيَع، وسلاح ضدَّ الحروب، وصانع الحياة، والسُّور، والملجأ، والسِّتْر، والمنجِّي، والمسامح، والشَّافي، والسَّاند، والباعث، والشَّكل الجميل، إلخ.
3- المعطيات الكتابيَّة واللاهوتيَّة عن القيامة
إنَّ قيامة الرَّبّ يسوع من بين الأموات هي الحدث الأساسيّ والمؤسِّس لكلِّ البشارة المسيحيَّة. وهي، على المستوى اللِّيتورجيّ، “عيد الأعياد، واحتفال الاحتفالات في اللِّيتورجيَّا المسيحيَّة، منها تنطلق جميع الأعياد وإليها تعود. وإنَّ ترتيب السَّنة الطَّقسيَّة بمجملها يتمحور، بطريقةٍ مباشرةٍ ومنتظمة، حول عيد القيامة المجيدة”([28]). لذا، نستعرض خمسة مفاصل كبرى عن القيامة ودورها المحوريّ في الإيمان المسيحيّ.
1- القيامة في تدبير الابن
إنَّ هدفَنا، من هذا المفصل، أنْ نُبْرِزَ كيف تنظر نصوص الرُّتبَتَين إلى هذا الحدث المحوريّ في حياة يسوع وكيف تُبْرِزُه، وما القيمة الَّتي تعطيه له.
أ- القيامة هي عرس الابن (أو عيده)
إنَّ الرَّبَّ يسوع الَّذي قاسى الآلام والأوجاع والصلب والموت، قد انتصر عليها كلّها بقيامته من بين الأموات. لذا، فالقيامة هي قمَّة التَّدبير الخلاصيّ الَّذي كشف فيه الآب عن مشروعه من أجل خلاص البشر؛ وهي تستعيد الأحداث الخلاصيَّة كلَّها، حتَّى تلك الَّتي هي سابقةٌ لها. إنَّها الحدث الأساسيّ الَّذي يُسلِّط الضَّوء على الأحداث الأخرى الَّتي تَـحَقَّقَ من خلالها تاريخُ الخلاصّ. من هنا، ليست القيامةُ عيدًا من بين أعيادٍ كثيرة، بل هي العيد الأوَّليّ، هي “عرس الابن” و”عيده”. ولقد جاء، في رتبة زيَّاح الصَّليب، ما يلي:
- “(…) إرتكضي وافرحي يا بيعةَ القُدْس ذخيرةِ الوحيد. وادعي أولادَكِ لكي يفرحوا بعرسِ الابنِ ربِّهم. ها العيدُ المملوء عجبًا (…). ها العيدُ المملوءُ مآثر”.
- – “في عيد الأفراحِ هذا، فلنَقتَنِ فيه القداسة. في العيدِ المقدَّس هذا، أنقِذْنا، ربِّ، من الغضب (…). في العيدِ المقدَّس هذا، زَيِّنْا، ربِّ، بالعفَّة (…). لكَ المجدُ في يومِ عيدِكَ مِنَ البيعةِ المخلَّصةِ بدمِك. المجدُ لكَ يا مُعظِّمَ بيعتِه في يومِ حَفْلِه وفي يومِ عيده“.
ب- القيامة هي عيد “تَجلِّي” الابن
يعتبر مُفسِّرو الكتاب المقدَّس أنَّ حدث التَّجلِّي هو استباقٌ لحدث القيامة؛ والتَّجلِّي بالنِّسبة إلى التلاميذ الثَّلاثة تذوُّقٌ مسبَّقٌ لمجد القيامة، لئلاَّ يتراخوا ويتراجعوا عندما يرون آلام الرَّبّ يسوع. من هنا، تعتبر النُّصوصُ عيدَ القيامة عيدَ “التَّجلِّي” الأهمّ والأساسيّ، أي عيدَ ظهور ابنِ الله واعتلانه مخلِّص البشر أجمعين، بعد آلامه وموته ودفنه. لذا، نقرأ في رتبة السَّلام، ما يلي:
- “في هذا اليوم، يفرحُ التَّلاميذ، ويرتِّلون المجدَ، لأنَّه قد تَجَلَّى لهم مخلِّصٌ (…)” (الورقة 163أ).
- – “في صباحِ اليوم، أَظهرَ نفسَه لبيعةِ القُدْس، وأزالَ حزنَـها (…)” (الورقة 161ب).
- – “هي مريمُ الَّتي عند القبرِ قائمة، وهي رأت النَّهارَ عندما ظهر ليتجلَّى” (الورقة 161أ).
ج- القيامة هي عيد انتصار الابن على الموت والجحيم
بموته ونزوله إلى الحجيم، حقَّق يسوعُ النَّصرَ وهدم المكان الَّذي يحتجز فيه الموتُ معتقليه، أي الموتى، وفتحَ للمنتقلين المؤمنين بابَ الملكوت ليصعدوا إليه ويتنعَّموا مع الابن بحياةٍ سعيدة. ونجد، في رتبة السَّلام، أفكارًا لاهوتيَّةً تَعتَبرُ القيامةَ “قتْلًا” للموت و”وَهْبًا” للحياة، و”انتصارًا” للمسيح على الشَّيطان ومملكته. هذه بعض الأبيات:
- “مَنْ هو هذا، وابنُ مَنْ هو، يهتفُ الرَّسول، الَّذي قام مِنَ القبرِ بالمجد، ولم يرَ فسادًا؟ مَنْ هو هذا الَّذي صعدَ مِنَ القتلِ ونَجَّى نفسَه مِنْ يدِ الجحيم؟ بانبعاثِه قَتَل الموتَ ووهبَ لنا الحياة” (الورقة 161ب).
- “قامَ الصَّباحُ وانهزمَ اللَّيل، وها إنَّ الموتَ الشَّرِهَ قد أُذِلَّ. والنُّورُ ظَهَرَ في البَرِيَّة، لأنَّ الجبَّارَ قامَ مِنَ القبر” (الورقة 163أ).
د- القيامة هي عيد صعود الابن إلى أبيه
الصُّعود هو خاتمةُ حياة يسوع وذروتها، والتَّحقيق النِّهائيّ والكامل لعمل الخلاص الَّذي بدأه، وهو بدء حياة الكنيسة وانطلاقة رسالتها. وما الكنيسة على الأرض سوى امتدادٍ لحضور الرَّبِّ يسوع الحيّ والصَّاعِد بالمجد إلى السَّماء. وقد جاء في رتبة زيَّاح الصَّليب، ما يلي:
“إفرحوا أيُّها الشُّعوب، إفرحوا أيُّها الشُّعوب، قالَتْ مريم: لأنَّ ابني قام مِنَ القبرِ وصعدَ نحو أبيه” (الورقة 161أ).
2- القيامة بالنِّسبة إلى الرُّسُل
أ- القيامة هي عيد الظُّهور للرُّسُل بعد الآلام
تراءى يسوع لتلاميذه، مرَّاتٍ عديدة، بعد قيامته من بين الأموات، بحسب الإنجيليِّين. وتُشدِّد نصوص الرُّتبتَين على دعوة الرُّسل ليُشاهدوا القيامة، ويُعاينوا ما حدث: “(…) ويا أيُّها الرُّسل، أُخرجوا وشاهِدوا”. ونجد نصًّا، في رتبة زيَّاح الصَّليب، يتوجَّه إلى يوحنَّا الرَّسول، قائلًا له: “أسْرِع وشاهِدْ أوَّلًا لأنَّ ربَّكَ قد قام!” (الورقة 161أ).
ب- القيامة هي عيد تثبيت الرُّسُل وتشجيعهم
نجد، في النُّصوص، دعوةً موجَّهةً إلى التَّلاميذ، للافتخار ولعدم الخوف والاضطراب وللعيش بسلامٍ وأمانٍ وفرح، لأنَّ “النَّهارَ ظَهَر” و”الانبعاثَ انتَصَر” والجبَّارَ “ظَفَر على الموت”. وتذخر رتبة السَّلام بمعاني القيامة الَّتي تشير إلى تعزية الرُّسُل وتثبيتهم في قيامة الرَّبِّ وظَفَرِه على الموت وتجلِّيه مخلِّص العالم.
ج- القيامة هي عيد الكرازة بقيامة الرَّبّ
لم يكتفِ الرَّبُّ، عند ترائيه لتلاميذه، بأنْ يثبِّتَهم ويزيل الخوف من نفوسهم، بل كلَّفهم بمهمَّةٍ أساسيَّةٍ متلازمةٍ والدَّور الجديد الَّذي عليهم أن يؤدُّوه في العالم، أي أنْ يكونوا شهودًا له حتَّى نهاية العالم (راجع مر 16: 15). ونجد، في نصوص رتبة زيَّاح الصَّليب، ارتباطًا بين عيد القيامة والكرازة بالحدث الهامّ: قيامة الرَّبّ والانتصار على الموت القاهر، ونهاية سلطانه على البشر. نورد ما يلي (الورقة 161أ):
- “أُخرجوا واكرِزوا في البَرِيَّة بأنَّ الموتَ قد غُلِب”.
- “يا بناتَ الأصْبِحة، يا بناتَ الأصْبِحة، أيَّتُها السُّنونو تكلَّمي بهمساتِكِ الجميلة بأنَّ ربَّكُنَّ قام!”.
3- القيامة بالنِّسبة إلى البيعة
أ- القيامة هي عيد الأفراح
فرح القيامة هو أوَّل تقليدٍ كنسيّ، روحيٍّ ولاهوتيّ، دخل عمق الكنيسة. وفرحٌ للخليقة كلِّها لأنَّها خُلِّصتْ، بقيامة الابن، من عبوديَّة الشَّيطان والجحيم والخطيئة، ولأنَّها دخَلَتْ، بشكلٍ نهائيّ، الحياة الممجَّدة والأبديَّة.
ب- القيامة هي عيد السَّلام والأمان
السَّلام هو المسيح عينه. وهو نعمةٌ تُوهَب للإنسان، ومصدرها المسيح وحضوره. والسَّلام، أيضًا، هو سلامُ الحياة وتمامُها، أسمى عطايا المسيح لشعبه. لذا، عيد قيامة الرَّبّ من بين الأموات هو عيد السَّلام والأمان، لأنَّ ربَّنا القائم من الموت، هو سلامُنا وأمانُنا الَّذي يبقى معنا كلَّ الأيَّام إلى الأبد. نستشهد بنصَّين من رُتبة السَّلام، هما الآتيان:
- “أللَّهمَّ يا من أنتَ (هو) الحبُّ الحقيقيُّ وواهِبُ الحبِّ والأمان (…). أمانُكَ شقَّ السُّبلَ في داخلِ البحرِ الأحمر، وسلامُك وجَّهَ خطواتِ إسرائيلَ ليسلُك بين الأمواج. أنتَ أرسلْتَ السَّلامَ إلى مريم بواسطةِ جبرائيل (…). أنتَ أمَّنْتَ تلاميذَك في علِّيَّةِ الأسرار، مرَّتين، بواسطةِ السَّلامِ الَّذي وهبْتَه لهم، وأجزْتَ عنهم الحزنَ الَّذي ملَكَ عليهم (…). أنتَ هو أمانُ الآب. وبكَ تأمَّنَ العلى والعمقُ وكلُّ من فيهما (…)” (الورقة 162أ).
- – “أللَّهمَّ، يا مَنْ أمانُك هو أَعظمُ مِنْ كلِّ أذهاننا، وسلامُك مِنْ كلِّ عقولِنا. يا مَنْ، بواسطةِ مجيءِ ابنِك الوحيدِ في الجسد شِئْتَ فامَّحى السُّخطَ القديمَ (…)؛ ذلك الَّذي، عندما أَتَمَّ إرادتَك، صار لنا الأمانَ والوسيط، وأمَّنَ بدمِ صليبِه ما في السَّماءِ وما في الأرض. وبشَّر بالأمانِ والسَّلام البعيدين والقريبين (…)” (الورقة 162ب).
ج- القيامة هي عيد المصالحة والغفران
أراد الآب السَّماويّ، من خلال بَعْثِه ابنَه من بين الأموات، أنْ يهب العالم كلَّه المصالحة والغفران. وهكذا، تصالَحَ اللهُ مع آدم، ومن خلاله مع البشريَّة كلِّها، بابنه الَّذي مات وقام من الموت([29]). كما نجد في رتبتَي زيَّاح الصَّليب والسَّلام، بُعْد المصالحة والغفران اللَّذَين منحنهما الرَّبُّ يسوع للبشريَّة بفعل قيامته من بين الأموات. وهذه أبرز النُّصوص كالآتي:
- “مبارَكٌ صليبُك، يا مخلِّصَنا، لأنَّهُ به تصالَحَ العلوُ والعمقُ وكلُّ ما يوجد فيهما” (الورقة 158أ).
- – “(…) ها إنَّ العيدَ مملوءٌ مآثرَ، الَّذي صنعَ الأمانَ بين الجانبَين، تعالَوا نُصالِحُ بعضُنا بعضًا” (الورقة 159أ).
- – “في هذا اليومِ تفرحُ السَّماءُ والأرضُ وكلُّ ما فيهما، لأنَّ ربَّنا قام مِنَ القبر، وخلَّصَ آدمَ وأولادَه” (الورقة 159أ).
- – “في هذا اليومِ الَّذي به تصالَحَتْ كلُّ البرايا؛ تعالَوا نتصالَحُ مَنْ هو غاضبٌ على قريبِه” (الورقة 161أ).
4- معطياتٌ أخرى عن القيامة
معطياتٌ إضافيَّةٌ كشفَتْها النُّصوص عن قيامة الرَّبِّ يسوع. أوَّلًا: تبدو القيامة وكأنَّـها ظهورٌ نورانيٌّ للقائم من بين الأموات: القبرُ فارغ، لكنَّ النُّور يشير إلى حضور المسيح. ثانيًا: يشير لحن: فْشِيطُو، في رتبة السَّلام، إلى أنَّ القيامة تَـمَّت في نصف ليل الأحد، والظُّهور للتلاَّميذ تَـمَّ صباح الأحد. وهذا ما يتوافق مع ما جاء لدى البطريرك الدُّويهيّ في مؤلَّفه منارة الأقداس([30]). ثالثًا: أمَّا عن علامات القيامة فتذكر النُّصوص دور النِّسوَة والملائكة، في نقْل البُشرى السَّارة. رابعًا: لحاملات الطِّيب دورٌ في اكتشاف قيامة الرَّبّ؛ وإليهنَّ توجَّه الملاكان ليُعلنا أنَّ يسوع النَّاصريّ “ليس هنا، بل قام” (لو 24: 6). ويشير نصَّان فقط، في رتبة السَّلام، إلى أكفان الرَّبّ. خامسًا: دورٌ بارزٌ تفردُه النُّصوص لسمعان ويوحنَّا لكي يتحقَّقا من قيامة الرَّبّ.
5- ألقاب الابن وأوصافه المرتبطة بالقيامة
أهمّ هذه الألقاب: الملك، والملك الممجَّد، والقويُّ، والجبَّار، والحيّ، والنَّهار/النُّور/الصَّباح، والعريس، والمخلِّص، والسَّلام، وكنْز الرِّضى العظيم، إلخ.
4- المعطيات اللِّيتورجيَّة في رتبتَي زيَّاح الصَّليب والسَّلام
يتركَّز بحثُنا، في القسم الرَّابع من هذا المقال، على تبيان المعطيات اللِّيتورجيَّة في رتبتَي زيَّاح الصَّليب والسَّلام بحسب ف.س. 312. إنَّ هذا المخطوط هو نتيجة الإصلاح اللِّيتورجيّ الَّذي أنجزه العلَّامة البطريرك إسطفان الدُّويهيّ لكتاب الرُّتب المارونيّ، وهو يحافظ على تقليد الكنيسة المارونيَّة اللِّيتورجيّ، إذ هو خالٍ من رتبٍ غريبةٍ عن تقليدها. نال هذا الإصلاح رضى روما، وأخذ مجمع نشر الإيمان على عاتقه كلفة الطِّباعة. لكنَّ هذه الأخيرة لم تبصر النُّور. وعندما قدَّم المونسنيور إسطفان حبيش كتاب الرُّتب الجديد الَّذي جمعه المطران يوسف إسطفان، في القرن التَّاسع عشر، رَفَضَ مجمعُ نشر الإيمان، بشخص أمين سرِّه أنجلو ماي، المشروعَ الجديد المقدَّم لأنَّه يتناقض و”كتاب الرُّتب الَّذي أعدَّهُ البطريرك الدُّويهيّ”([31]). من هنا، كان اختيارُنا لهذا المخطوط وتركيز بحثنا عليه.
إستندنا إلى عشرة مخطوطات، تعود إلى ما بين القرنَين الخامس عشر والثَّامن عشر: تتضمَّن ثمانيةُ مخطوطاتٍ([32]) على رتبة زيَّاح الصَّليب، كما هي عليه في ف.س. 312؛ ونجد، في مخطوطَين اثنَين فقط([33])، هاتَين الرُّتبتَين مدموجتَين ببعضهما لتُشكِّلان رتبةً واحدةً عنوانها: رتبة زيَّاح الصَّليب و(رتبة) صلاة السَّلام معًا.
أوَّلاً: المعطيات اللِّيتورجيَّة في رتبة زيَّاح الصَّليب
أ- العناصر اللِّيتورجيَّة في “رتبة زيَّاح الصَّليب”، بحسب بعض المخطوطات
إنَّ العناصر اللِّيتورجيَّة، المتضمَّنة في رتبة زيَّاح الصَّليب، بحسب هذه المخطوطات، هي الآتية:
- صلوات البدء: المجدلة، والطِّلْبة، وصلاة البدء، و”المجد لله في العلى …”، وصلاة ثانيةيتلوها الكاهن.
- رتبة الغفران بعناصرها الأربعة: فروميون، وسِدْرو، ولحن البخور، وصلاة العطر.
- القراءات، تتضمَّن: مزمور القراءات والفتغام والرِّسالة والإنجيل.
- – “شَيل” الصَّليب: تتَّفق كلّ المخطوطات، ما عدا ف.س. 313، على وجوب “شَيْل” الصَّليب من المذبح أو من الخزانة، حيث كان محفوظًا من يوم الجمعة العظيمة.
- زيَّاح الصَّليب: تشير المخطوطاتُ كلُّها إلى ضرورة الاحتفال بزيَّاح الصَّليب، ولكنَّها تختلف، فيما بينها، بشأن مكان الاحتفال به:
أ- داخل الكنيسة فقط، بحسب المخطوطات الآتية: ف.س. 236، 313، 393، 403، وبكركي (القسم الأوَّل) 14، 34، والكرَيم 106.
ب- حول المذبح، وفي الكنيسة وخارجها (أيّ ثلاثة زيَّاحات): بحسب المخطوطات الآتية: ف.س. 393، 398، 477.
- قرْع باب الكنيسة وفتحه، ودخول الكنيسة: تشير المخطوطات ف.س. 393، 398، 477، إلى هذه الرُّتبة، ولا تذكرها المخطوطات الباقية.
- تبريك الجهات الأربع: تذكره كلُّ المخطوطات الَّتي تصفَّحناها، ما عدا ف.س. 477 وبكركي (القسم الأوَّل) 34.
- التَّبَرُّك من الصَّليب: تذكره كلُّ المخطوطات الَّتي تصفَّحناها، ما عدا ف.س. 313.
- تبادل السَّلام: نجد هذا الرُّتبة في ثلاثة مخطوطات فقط، هي: ف.س. 403، بكركي (القسم الأوَّل) 14، 34.
- الحتّام: صلاة الختام مذكورةٌ في كلِّ المخطوطات. أمَّا القديشات والنُّؤمن والأبانا فلا تتوافق المخطوطات كلُّها على ذكرها.
ب- العناصر اللِّيتورجيَّة في “رتبة زيَّاح الصَّليب”، بحسب ف.س. 312
إنَّ أهمّ العناصر اللِّيتورجيَّة في هذه الرُّتبة، بحسب ف.س. 312، هي كالآتي:
- خدْمة الكلمة
أ- صلوات البدء: ألمجد، وطلْبة الشَّمَّاس، وصلاة البدء، والمجد لله في العلى …، وصلاة المزمور 51 (50)، والمزمور 51 (50)، ولحن
ب- تبخير: المذبح والصَّليب المحفوظ في الخزانة، والشَّعب
ج- رتبة الغفران: كاملة، بالإضافة إلى سدْرٍ إضافيّ
د- القراءات بكلِّ عناصرها
- إخراج الصَّليب من الخزانة
أ- تبخير الصَّليب المغطَّى بحلَّةٍ بيضاء
ب- تلاوة المزمور 68 (67): 2-3
ج- نزْع الحلَّة البيضاء (الكَفَن) عن الصَّليب
د- التَّصليب على الشَّعب الرَّاكع
ه- هتاف الشَّعب: كيرياليسون
- زيَّاح الصَّليب
أ- حول المذبح مع تصليب ولحن
ب- في الكنيسة مع تصليب ولحن
ج- حول الكنيسة من الخارج (“دايرها”) مع تصليب ولحن
- قرْع باب الكنيسة وفتحه، ودخول الكنيسة
أ- قرع الباب
ب- حوار بين الكاهن والشَّمَّاس (يقوم الحوارُ بينهما على تلاوة مز 24 (23): 7-10)
ج- فتح الباب
د- الدُّخول إلى الكنيسة بزيَّاح، مع لحن
- تصليبٌ على الجهات الأربع
أ- تصليبٌ على الشَّرق (مرَّة واحدة) مع صلاة، وكيرياليسون، ولحن، فصلاة
ب- تصليبٌ على الغرب (مرَّتَين) مع صلاة، وكيرياليسون، ولحن، فصلاة
ج- تصليبٌ على القبلة (3 مرَّات) مع صلاة، وكيرياليسون، ولحن، فصلاة
د- تصليبٌ على الشَّمال (4 مرَّات) مع صلاة، وكيرياليسون، ولحن، فصلاة
- التَّبَرُّك من الصَّليب والإنجيل وآلة الزِّيَّاح
أ- الصَّليب في يد الكاهن (الواقف في باب الخُورُس)
ب- التَّبرُّك من الإنجيل والصَّليب وآلة الزِّيَّاح مع لحن
- الحتّام
أ- باعوت مار يعقوب
ب- صلاة الختام
واستنادًا إلىمقارَنةٍ قُمنا بها بين “رُتبة زيَّاح الصَّليب”، بحسب ف.س. 312، و الرُّتبة عينها بحسب كتاب رتب وعبادات كنائسيَّة حسب عادة الطائفة المارونيّة([34])، تبيَّن لنا أنَّ هناك اختلافاتٍ عديدة، وهي الآتية: يكمن الاختلاف الأوَّل، بين ف.س. 312 وكتاب الرُّتب المطبوع، في الرُّوبريكة الأُولى في كليهما: نجد عند الدُّويهيّ، ما يلي: “في صباح أحد القيامة يبدأ” المحتفل؛ أمَّا في الكتاب المطبوع فنجد النَّصَّ الآتي: “هذه الرتبة تصير في يوم عيد الصليب، وتصير يوم عيد الفصح أيضًا”. إنَّ صلوات البدء هي عينها في النَّصَّين المخطوط والمطبوع. لا نجد رتبة تبخير الصَّليب في الخزانة في النَّصّ المطبوع. ونجد أيضًا، في الكتابَين المخطوط والمطبوع، رتبة الغفران والقراءات، مع اختلاف بارزٍ في مزمور القراءات والرِّسالة والفِتْغام والإنجيل. وبينما يذكر مخطوط الدُّويهيّ ثلاثة زيَّاحات للصَّليب: حول المذبح، وفي الكنيسة، وحول الكنيسة، يكتفي الكتابُ المطبوع بزيَّاحٍ واحدٍ له في البيعة، ثلاث مرَّات. ويتَّفق الكتابان على تصليب الجهات الأربع. وتُـختَتَم الرُّتبة، بحسب ف.س. 312، بـالتبرُّك من الصَّليب والإنجيل، وبـالحتّام (يتكوَّن من عنصرَين:باعوت مار يعقوب وصلاة الختام)؛ بينما يتلو المحتفل، بحسب الكتاب المطبوع، الحتّام (يتكوَّن من أربعة عناصر: القديشات والنَّؤمن والأبانا وصلاة الختام)، ومن ثمّ يتمّ التَّبرُّك من الصَّليب، وتتمّ تلاوة مْشِيحُو دْقُمْ مِنْ بِيتْ مِيتِ، أو سوغيتو: حْدَوْ عَمِ.
ج- الاستنتاجات اللِّيتورجيَّة
أمَّا الاستنتاجات اللِّيتورجيَّة الَّتي خَلُصْنا إليها، فهي الآتية:
1) تسمية الرُّتبة
إسم هذه الرُّتبة هو: طكسا دزويحا دأليبا دؤوَّا بيوما دحد بشبا ربا دقيمةا؛ وترجمته العربيَّة هي الآتية: رتبة زيَّاح الصَّليب، الَّذي يصير في يوم أحد القيامة الكبير. تستوقفنا كلماتٌ هامَّةٌ في هذه التَّسمية: أوَّلُها، كلمة زيَّاح. تقوم الرُّتبة، إذًا، على الانتقال والتَّحرُّك من مكانٍ إلى مكانٍ آخر. ولا يتمّ هذا المسير بالخفاء أو السُّكوت والصَّمت، بل بأُبَّهةٍ وعظمة، ويترافق مع أناشيد وألحانٍ وحركةٍ جماعيَّة. والكلمة الثَّانية الهامَّة، هي: الصَّليب. يتمحور الاحتفال اللِّيتورجيّ حول الصَّليب. فتحتفل الجماعة بـزيَّاح الصَّليب الظَّافر والمنتصِر على الموت والشَّيطان، بمجدٍ عظيم. والكلمة الثَّالثة، هي: أحد القيامة الكبير. لذا، عيد القيامة، عند الموارنة، هو العيد الكبير؛ وأحد القيامة، هو الأحد الكبير بين آحاد السَّنة الطَّقسيَّة.
2) زمان الاحتفال بالرُّتبة
يأتي ترتيب هذه الرُّتبة، بحسب مخطوط الدُّويهيّ وكافَّة المخطوطات الَّتي راجعناها، بعد رُتب أسبوع الآلام؛ وتليها، من بعد رتبة السَّلام في اليوم عينه، رتبةُ السَّجدة في أحد العنصرة. أمَّا كتاب الرُّتب المطبوع، فقد نقل الاحتفال بها إلى عيد ارتفاع الصَّليب، في 14 أيلول، وأضاف -في إحدى روبريكاته- ما يلي: “وتصير يوم عيد الفصح أيضًا”.
يُحتفَل بهذه الرُّتبة، بحسب مخطوط الدُّويهيّ، في صباح أحد القيامة. وهذا ما يؤكِّده أيضًا ألفونس راس في أبحاثه([35]). أمَّا كتاب رتب وعبادات، فلا يشير إلى وقت الاحتفال بها. ويتفرَّد ف.س. 477 بذكْر أنَّ الرُّتبة هذه تتمّ في نصف اللَّيل.
3) علاقة هذه الرُّتبة برتبة السَّلام وبالقدَّاس
لا توضِح أيّ روبريكةٍ العلاقةَ الَّتي تربط رتبة زيَّاح الصَّليب بـرتبة السَّلام الَّتي تليها، أو بالقدَّاس الَّذي يُـحتَفل به، يوم أحد القيامة. ولقد وجدنا في مؤلَّف البطريرك إسطفان الدُّويهيّ، منارة الأقداس، إشارةً سريعةً عن الارتباط بين هذه الرُّتبة والقدَّاس، وذلك في معرض تطرُّقه إلى أقسام القدَّاس المارونيّ، يقول: “وبعد صلاة الشكر (…) يُقام زيّاح الشهداء والشعانين وزيّاح الصليب وسيُم بوإكا. وفي بعض الكنائس يصنعون هذا كلّه بعد صمدة الأسرار في الجزء الأول”([36]).
4) عناصر الاحتفال اللِّيتورجيّ
أ- تغطية الصَّليب “بِحُلَّةٍ بيضاء”
قبْلَ البدء بالرُّتبة، يقوم الكاهن بتغطية الصَّليب، المحفوظ في الخزانة أو في الطَّاقة الَّتي وراء المذبح، من يوم جمعة الآلام، “بحلّة بيضة” ترمز إلى الكَفَنَ الَّذي لُفَّ فيه يسوع عندما وُضِعَ في القبر. إنَّ “الـحُلَّة البيضاء”، هي، إذًا، هنا، رمزٌ لآلام الرَّبِّ يسوع، ولا ترمز إلى قيامته. لذا، سوف ترشد الرُّوبريكةُ المحتفلَ إلى ضرورة “نزْع الكَفَن (أي الحلَّة البيضاء) عن الصَّليب”، بعد أنْ يكون (المحتفلُ) قد حَمَلَه وتلى المزمور 68 (67): 2-3، الَّذي يعلن قيامة الرَّبّ من بين الأموات.
ب- خدْمة الكلمة
إنَّ خدمةَ الكلمة كاملةُ الأقسام، وتتضمَّن: صلوات البدء، ورتبة الغفران والقراءات. نتطرَّق، هنا، إلى عملَين طقسيَّين: الأوَّل هو تبخير الصَّليب المحفوظ في الخزانة. ويرمز إحراق البخور، بشكلٍ خاصّ، إلى “آلام المسيح وهرق دمه”. والعمل الثَّاني هو تلاوة القراءتَين. القراءة الأُولى، هي غلاطية 6: 7-18. يُشدِّد فيها رسولُ الأُمم على أهمِّيَّة الصَّليب الَّذي كان، فيما مضى، أداةً للتَّعذيب، وقد اختاره الربُّ يسوع أداةً للخلاص والفداء. أمَّا الإنجيل فهو متّى 24: 3-35؛ ويصف ما يُرافق مجيءَ ابنِ الإنسان من آياتٍ وظواهر. وما “علامة ابن الإنسان”، المذكورة في النَّصّ، سوى صليبِه الظَّافر، أو الابنِ نفسه، وذلك بحسب تفسير آباءِ الكنيسة.
ج- إخراج الصَّليب من الخزانة
يُبَخِّر المحتفلُ الصَّليبَ المغطَّى بالحلَّة البيضاء، ويخرجه من الخزانة (أي السَّكرستيَّا)، ويحملُه بين يديه. يتلو المحتفلُ المزمور 68 (67): 2-3.ومن ثمَّ ينْزَع الكَفَن عنه. بعد ذلك، يرفع المحتفلُ الصَّليبَ “مع شمعةٍ مضيئٍة مثلَّثةٍ بالنُّور، موجَّهًا إلى الغرب”. وتهدف حركة رفْع الصَّليب إلى تقوية عزيمة المؤمنين وتشجيعهم، بعد أن كان الخوف قد ساوَرَهم نتيجة موت الابن معلَّقًا على الصَّليب. كما ترمز الشَّمعةُ المضيئة إلى نور المسيح القائم من القبر، والَّذي أفاض نوره في المسكونة كلّها. ويعمَدُ المحتفلُ إلى التَّصليب على الشَّعب. وغايات التَّصليب هي: أوَّلاً، أن تُظهِرَ للشَّعبِ أنَّ نِعَمَ الله تهطل على الإنسان بواسطة صليب المسيح؛ وثانيًا، أنْ توحِّد الإنسان مع خالقه، والإنسان مع أخيه الإنسان؛ وغايتها، ثالثًا، أنْ تنقل القوَّة الإلهيَّة الكامنة في المسيح المصلوب إلى شعبه المؤمن به، وتقوِّيه في مواجهة الشُّرور؛ ورابعًا، أنْ تُـخيفَ الشَّياطين فيهربوا. بعد ذلك يدقُّون النَّاقوس، بهدف تنبيه المؤمنين إلى أهمِّيَّة الطَّواف بالصَّليب والتَّصليب؛ وبهدفِ حثِّ الجماعة على التيقُّظ لمحاربة العدوّ وكسْرِ شوكته، لأنَّ المسيح قام وانتصر على الموت، وهو قادرٌ أن يُنقذها من أعدائها. ويشير الدُّويهي إلى أنَّ الشَّعب يكون راكعًا.
د- زيَّاح الصَّليب والتَّصليب
إنَّ هذا العنصر اللِّيتورجيّ هو الَّذي أعطى الرُّتبة اسمها، أي رتبة زيَّاح الصَّليب. يحتوي هذا العنصر اللِّيتورجيّ على ثلاثة زيَّاحات بالصَّليب، وثلاثة تصليبات، وثلاثة ألحان.
زيَّاح الصَّليب حول المذبح: يرمز المذبح إلى الصَّليب والقبر. وكما قامت الجماعة بزيَّاح حول الكرسي المنصوب في وسط الكنيسة، ليوضَع عليه الصَّليب، في رتبة السَّجدة يوم جمعة الآلام، هكذا، يوم أحد قيامة، يطوفون بالصَّليب حول المذبح الَّذي يرمز إلى الصَّليب والقبر معًا، ليعلنوا قيامة الرَّبّ يسوع من بين الأموات وانتصاره على الآلام والموت.
زيَّاح الصَّليب في الكنيسة: إنَّ الهدف من هذا الزِّيَّاح، هو نزول الصَّليب الظَّافر إلى حياة النَّاس الأرضيَّة والطَّواف بينهم، وإفاضة مواهب القائم من بين الأموات ونِعَمِه عليهم.
زيّاح الصَّليب “داير” الكنيسة: صُلِبَ المسيح ودُفِنَ خارج أسوار مدينة أورشليم. لذا، ترمز الكنيسة إلى أورشليم السَّماويَّة، وخارجها إلى خارج أورشليم. لذا، وجب على الجماعة أن تخرج في زيَّاحٍ خارج الكنيسة، لتُعلِن قيامة الابن في المكان نفسه الَّذي صُلِب ودُفِن فيه.
ه- قرْع باب الكنيسة وفتْحه، ودخول الكنيسة
قوام هذه الرُّتبة، الآتي: قرْع باب الكنيسة من قِبَل الكاهن، وحوارٌ بين الكاهن الواقف أمام الباب والشَّمَّاس في داخل الكنيسة. إنَّ محتوى الحوار هو المزمور 24 (23): 7-10. ثمَّ، يدخل الجميعُ، بزيَّاحٍ حافل، الكنيسةَ، منشدين لحن زْعُورُ. هذه الرُّتبة هي في أساس رُتبة الهجْمَة، الَّتي تتمّ في أحد الفصح العظيم، بحسب الطَّقس البيزنطيّ. ترمز “إلى دخول المسيح السَّماءَ، قائدًا جمهور المفتدَين إلى حضرة أبيه السَّماويّ”. كما ترمز، أيضًا، إلى “دخول النُّور السَّاطع من قبر المسيح إلى حياة الكنيسة طارِدًا منها كلّ صنوف الشَّرّ والظُّلمة”.
غير أنَّنا، لدى مراجعتنا المخطوطات، لم نجد أيَّ مخطوطٍ يعود إلى ما قبْل القرن السَّادس عشر، ويحتوي على رتبة قرْع باب الكنيسة وفتْحه، والدُّخول إليها. وهذه الرُّتبة غير موجودةٍ في كتاب الرُّتب المطبوع. لذا، نعتقد بأنَّ البطريرك الدُّويهيّ، بالاستناد إلى اللِّيتورجيَّا المقارَنَة وإلى معرفته باللِّيتورجيَّا البيزنطيَّة، عَمَدَ إلى إعادة هذه الرُّتبة، الموجودة لدى البيزنطيِّين، إلى رتبة زيَّاح الصَّليب المارونيَّة.
و- تصليبٌ على الجهات الأربع
يصلِّب المحتفلُ على الجهات الأربع، وتترافق هذه الحركة مع صلاةٍ وكيرياليسون ولحنٍ فصلاة ختاميَّة. فالصليب يقدّسُ كلَّ شيءٍ يُرسَم به؛ وبه تتباركُ الأرضُ من كلّ جهاتها وتتقدَّس فتزول منها الشُّرور.
ز- التَّبَرُّك من الصَّليب والإنجيل وآلة الزِّيَّاح
إنَّ التَّبَرُّكَ من الصَّليب (والإنجيل) مذكورٌ في كلّ المخطوطات، وفي الكتاب المطبوع. كما نجده في الطقوس الثَّلاثة: الأنطاكيّ السُّريانيّ، والسُّريانيّ الـمَلَــنْكاريّ، والكلدانيّ.
ثانيًا: المعطيات اللِّيتورجيَّة في رتبة السَّلام
أ- العناصر اللِّيتورجيَّة، في “رتبة السَّلام”، بحسب بعض المخطوطات
إنَّ العناصر اللِّيتورجيَّة في رتبة السَّلام، بحسب ف.س. 393 وبكركي (القسم الأوَّل) 34، هي الآتية:
- صلوات البدء: البُنية عينها.
- شَيْل الصَّليب وتزييحه في الكنيسة.
- رتبة الغفران بعناصرها عينها.
- القراءات ببُنيَتِها نفسها.
- الحتّام: صلاة الختام فقط.
- تبادل السَّلام: نجده في بكركي (القسم الأوَّل) 34 فقط.
- التَّبرُّك من الصَّليب: نجده في بكركي (القسم الأوَّل) 34 فقط.
ب- العناصر اللِّيتورجيَّة في “رتبة السَّلام”، بحسب ف.س. 312
1- خدْمة الكلمة، وتتضمَّن:
أ- صلوات البدء: ألمجد، وطلْبة الشَّمَّاس، وصلاة البدء، والمجد لله في العلى …، وصلاة ثانية.
ب- رتبة الغفران: فروميون، وسِدْرو، ولحن البخور، وصلاة العطر
ج- القراءات: مزمور القراءات، والرِّسالة (من دون المرجع)، والفتغام، والإنجيل (من دون المرجع)
2- الإتيان بالصَّليب
أ- روبريكة: “يذهبون ليأخذوا الصَّليب”
ب- لحن الزِّيَّاح: فْشِيطُو
3- الحتّام
أ- باعوت مار افرام
ب- صلاة الختام
ج- الاستنتاجات اللِّيتورجيَّة
أهمّ الاستنتاجات اللِّيتورجيَّة، هي الآتية:
1) تسمية الرُّتبة
إسم هذه الرُّتبة هو: طكسا دشلما دؤوَّا بيوم حد دبشبا ربا دقيمةا؛ وترجمته العربيَّة هي الآتية: رتبة السَّلام، الَّتي تصير في يوم أحد القيامة الكبير. هذه التَّسمية مشترَكةٌ بين الطُّقوس الآتية: المارونيّ والأنطاكيّ السُّريانيّ وطقس كنيسة المشرق.
2) الإتيان بالصَّليب
جاء في الرُّوبريكة، ما يلي: “يقولون هذه الأناشيد، ويذهبون ليأخذوا الصَّليب”. ثمَّ نجد لحنًا خاصًّا بالزِّيَّاح أو الطَّواف. ولكنَّنا لا نجد، في هذه الرُّتبة، أيّ إشارة إلى مكان وجود الصَّليب، ولا إلى طريقة الاحتفال لـ”الإتيان الصَّليب”. ولم نوفَّق في تفسير هذا النَّقص المتعلِّق بمكان وجود الصَّليب. كما لم نوَفَّق في إيجاد تفسيرٍ لعلاقة هذه الرُّتبة بـرتبة زيَّاح الصَّليب.
3) تبادل السَّلام
لا تشير الرُّتبة إلى كيفيَّة ذلك، على الرُّغم من أنَّ الرُّوبريكة الأولى تذكر أنَّ هذه الصَّلوات تُتلى عندما “يُعطون السَّلام”. فكيف يتمّ ذلك؟ لم نوفَّق في تبيان هذه الحركة الطَّقسيَّة. والـمُلفت أنَّ صلاة السَّلام المطبوعة تخلو، هي أيضًا، من أيِّ إشارةٍ إلى تبادلٍ للسَّلام بين المؤمنين، بينما تشير رُتَب السَّلام، في الطُّقوس الأنطاكيّ السُّريانيّ، والكلدانيّ، والسُّريانيّ الملَنْكاريّ، إلى “قُبلة السَّلام” أو إلى تبادل المؤمنين للسَّلام([37]).
ملحق:
نقترح، فيختام هذا القسم اللِّيتورجيّ من المقال، بعض العناصر اللِّيتورجيَّة الأساسيَّة الواجب أن تتكوَّن منها رتبة زيَّاح الصَّليب والسَّلام، في يوم أحد القيامة الكبير. وقد استنَدْنا في اقتراحنا هذا، إلى مخطوط الدُّويهيّ وإلى الإصلاح اللِّيتورجيّ الَّذي أنجزه معهد اللِّيتورجيَّا، في جامعة الرُّوح القدس-الكَسْليك، لرُتبة السَّلام([38]). أمَّا أهمّ العناصر اللِّيتورجيَّة في الرُّتبة الـمُقترَحةفهي الآتية:
- خدْمة الكلمة
- إخراج الصَّليب من “القبر”
- زيَّاح الصَّليب: حول المذبح، وفي الكنيسة، و”داير” (أي خارج) الكنيسة
- قرْع باب الكنيسة وفتْحُه، ودخول الكنيسة
- تصليب الجهات الأربع
- تبادل السَّلام بين المؤمنين
- التَّبَرُّك من الصَّليب والإنجيل
خاتمة
واجهَتْنا، في إتمام بحثنا، صعوباتٌ أهمُّها ندرةُ المراجع المتعلِّقة بالبحث، خصوصًا فيما يتعلَّق بلاهوت الصَّليب والقيامة إنطلاقًا من نصٍّ ليتورجيّ، لا من مقاربةٍ بيبيليَّةٍ([39]) أو لاهوتيَّةٍ([40]) له، فكان علينا أن نستقرأ النُّصوص، ونستخرج منها بعض الأفكار، ونُحلِّلها وفاقًا لِما أنتجَه البحث اللاهوتيّ في هذا المجال، طبعًا من دون أنْ نُـحَمِّلَ النَّصّ اللِّيتورجيّ أكثر مِـمَّا يتضمَّنه. وتكمن الصُّعوبة الأُخرى في مراجع القسم اللِّيتورجيّ. لم يُقدِم أحدٌ، من قَبْل، على دراسة هاتَين الرُّتبتَين، دراسةً معمَّقة، لا في طقسنا ولا في الطُّقوس السُّريانيَّة الأخرى. فلم نجد سوى مقالاتٍ ثلاثةٍ تطاول موضوع بحثنا. يتطرَّق الأوَّل إلى الاحتفال بالقيامة المجيدة في الطَّقس المارونيّ([41])؛ ويشرح الثَّاني (رتبة) السَّلام الفصحيّ في الطَّقس الكلدانيّ([42]). ويتناول المقال الثَّالث احتفالات أسبوع الآلام في الكنيسة السُّريانيَّة المَلَـنْكاريَّة([43]).
أمَّا أهـمِّيَّةُ هذا البحث الَّذي أعددناه، وجديدُه، فيَكْمُنان، أوَّلًا، في نَشْرِ هاتين الرُّتبتَين، بالسُّريانيَّة والعربيَّة، للمرَّة الأُولى، بالاستناد إلى مخطوط الدُّويهيّ القيِّم، مع المقارنات العلميَّة والمراجع الكتابيَّة؛ وثانيًا، في إظهار لاهوت الصَّليب ولاهوت القيامة، بحسب المنطق والاحتفال الطَّقسيّ المارونيَّين، لأنَّ “شريعة الصَّلاة، هي شريعة الإيمان”. وفي ضوء هذا البحث، تَـمَكَّنَّا، ثالثًا، مِنَ التَّأكُّد مِنْ أنَّ نصوص هاتَين الرُّتبتَين المطبوعتَين في كتاب الرُّتب هي عينها نصوص مخطوط الدُّويهيّ؛ واكتشَفْنا، رابعًا، أنَّ بعض النُّصوصِ والألحان تعود إلى القرنَين الثَّاني عشر والثَّالث عشر، وهي مشتركةٌ مع بعض البِيتْ غازات المارونيَّة. والجديد الخامس، هو في البُنية المقترحة لرتبةٍ جديدةٍ تستمرُّ في تواصلٍ والتُّراث العريق وتنفتِحُ على حاجات النَّاس اليوم.
واستنادًا إلى بحثنا هذا، نحن ندرك أنَّ أسئلةً كثيرةً لا تزال من دون إجابات، أهمُّها: لماذا نجد رتبتَين منفصلتَين في يومٍ واحد: رتبة زيَّاح الصَّليب ورتبة السَّلام؟ وما هي العلاقة اللِّيتورجيَّة بينهما؟ وما علاقتهما بقدَّاس أحد القيامة؟ ولماذا سقَطَت رتبة زيَّاح الصَّليب من الاستعمال، في كتاب الرُّتب المطبوع؟ ولماذا لا نجد حركةً طقسيَّةً واضحةً لتبادل السَّلام في رتبة السَّلام المخطوطة والمطبوعة؟ لعلَّ أبحاثًا جديدة، أو مخطوطاتٍ جديدة نكتشفها، تُمهِّد لنا سبيلًا للإجابة على هذه التَّساؤلات.
([1]) راجع رتبة السَّلام في أحد الفصح المجيد، سلسلة “الرُّتب المارونيَّة”- 5، الكَسْليك-لبنان، 1984.
([2]) إنَّ عنوان الرُّتبة الأولى، هو الآتي: رتبة زيَّاح الصَّليب، الَّتي تصير في يوم أحد القيامة الكبير، الورقة 156ب-الورقة 161ب؛ وتحمل الرُّتبةُ الثَّانية العنوان الآتي: رتبة السَّلام، الَّتي تصير في يوم أحد القيامة الكبير، الورقة 161ب-الورقة 163أ.
([3]) راجع دانيال زغيب، ليتورجيَّا أحد القيامة الكبير بحسب الطَّقس المارونيّ، سلسلة “التُّراث اللِّيتورجيّ”- 4، حراجل-لبنان، طبعةٌ أولى، 2013.
([4]) كنَّا قد كـتَـبْـنا مقالًا موجَزًا عن هذا الموضوع، راجع دانيال زغيب، “رتبة زيَّاح الصَّليب ورتبة السَّلام في الطَّقس المارونيّ. لمحةٌ موجَزة”، مجلَّة الإكليريكيَّة، العدد 11 (كانون الأوَّل 2011) 69-81؛ وراجع أيضًا مقالًا باللُّغة الفرنسيَّة، هو الآتي: Daniel ZGHEIB, «Le Rite de la Procession de la croix et le Rite de la Paix selon la liturgie maronite. Propos préliminaires», Parole de l’Orient, 41 (2015) 591-612.
([5]) راجع مارسيل هدايا، “درب الصّليب في الطقس اللاتينيّ وأثره في الطقس المارونيّ”، الصَّليب في اللِّيتورجيَّا، (سلسلة محاضرات 2005)، منشورات جامعة الرُّوح القُدُس-الكَسْليك، معهد اللِّيتورجيَّا، 37، الكَسْليك، 2006، ص 249-274.
([6]) راجع رتبة سجدة الصَّليب يوم جمعة الآلام، سلسلة “الرُّتب المارونيَّة”- 3، الكَسْليك-لبنان، 1984.
([7]) راجع Elie KHALIFÉ-HACHEM, «Office maronite du grand dimanche de la Résurrection. Texte du Ramšo et commentaire», Parole de l’Orient, VI/VII (1975-1976) 281-308.
([8]) راجع يوحنَّا تابت (تقديم وترجمة)، البِيت غازو المارونيّ Add. 14.703 (القرن الثَّاني عشر-القرن الثَّالث عشر)، الجزءالثَّالث: ألحانٌ للقيامة، سلسلة “المصادر اللِّيتورجيَّة المارونيَّة”- 4، منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس، الكَسْليك-لبنان، 2003؛ ويوحنَّا تابت (تقديم وترجمة)، البِيت غازو المارونيّ الفاتيكانيّ السُّريانيّ 324 (القرن الثَّالث عشر)، الجزء الأوَّل: ألحانٌ للقيامة، سلسلة “المصادر اللِّيتورجيَّة المارونيَّة”- 9، منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس، الكَسْليك-لبنان، 2006؛ ويوحنَّا تابت وجوزف عبَيد (تقديم وترجمة)، مخطوط طاميش (6/1694 م)، الجزء الثَّاني: فرْض قيامة ربِّنا، منشورات جامعة الرُّوح القُدُس-الكَسْليك، معهد اللِّيتورجيَّا، سلسلة “المصادر اللِّيتورجيَّة المارونيَّة”- 37، PUSEK، 2016. ويتضمَّن الفرْض الـمُتَضمَّن في مخطوط طاميش، صلواتَ المساء والسِّتَّار واللَّيل (المعيرونو والقومة الرَّابعة) والصَّباح.
([9]) راجع يوحنَّا تابت، البِيت غازو المارونيّ 14.703 Add.، الجزءالثَّالث: ألحانٌ للقيامة، ص 29-91.
([10]) راجع Valéry BITAR, Les chants pour la Résurrection dans le Beth-Gazō maronite, à la lumière des pères syriaques: Aphraate, Éphrem et Jacques de Saroug, Presses de l’Université Saint-Esprit de Kaslik, Coll. «Bibliothèque de l’Université Saint-Esprit de Kaslik»- LX, PUSEK, Kaslik, 2017.
([11]) راجع فرْض القيامة المحيية (صلاة المساء)، في: يوحنَّا تابت وجوزف عبَيد (تقديم وترجمة)، الفاتيكانيّ السُّريانيّ 406 (القرن السَّادس عشر)، شحيمة مارونيَّة، الجزء الأوَّل: الأحد*، منشورات جامعة الرُّوح القُدُس-الكَسْليك، معهد اللِّيتورجيَّا، سلسلة “المصادر اللِّيتورجيَّة المارونيَّة”- 12، PUSEK، 2009، ص 107-154.
([12]) راجع Angelo MAI, Scriptorum veterum nova collectio e Vaticanis codibus edita, tomus V, Typis Vaticanis, Romae, 1831, p. 25-26.
([13]) لمعلوماتٍ إضافيَّة عن ف.س. 312، راجع بطرس ديب، دراسة في اللِّيتورجيَّا المارونيَّة، ترجمها عن الفرنسيَّة وأنجز ملاحقها وفهارسها دانيال زغيب، سلسلة “التُّراث اللِّيتورجيّ”- 5، حراجل-لبنان، طبعةٌ أولى، 2014، ص 229-234؛ وراجع أيضًا يوحنَّا تابت، “رتبة السَّجدة في أحد العنصرة في الطَّقس المارونيّ”، الزِّيَّاحات والرُّتب الطَّقسيَّة، (سلسلة محاضرات 1996)، سلسلة “منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 21، الكَسْليك-لبنان، 1996، ص 189-240 (هنا، ص 208-209)؛ وراجع أيضًا دانيال زغيب، ليتورجيَّا أحد القيامة الكبير بحسب الطَّقس المارونيّ، ص 33-37.
([14]) راجع كتاب رتب وعبادات كنائسيَّة حسب عادة الطائفة المارونيّة، مجموعة من المرحوم المطران يوسف إسطفان المارونيّ، ومنقّحة من آباء الرسالة اللبنانيّة المارونيّة، طُبِعَ ثانيةً بأمر غبطة السيّد البطريرك الياس بطرس الحويّك السامي الاحترام، بالمطبعة الكاثوليكيّة للآباء اليسوعيّين، (بيروت)، سنة 1909.
([15]) راجع يوحنَّا تابت (تقديم وترجمة)، البِيت غازو المارونيّ (1263 م) 701،14Add. ، جزآن،منشورات معهد اللِّيتورجيَّا في جامعة الرُّوح القُدُس، سلسلة “المصادر اللِّيتورجيَّة المارونيَّة”- 1، الكَسْليك-لبنان، 2000.
([16]) راجع يوحنّا تابت والأب جوزف عبَيد (تقديم وترجمة)، الفاتيكانيّ السُّريانيّ 406 (القرن السَّادس عشر). شْحيمة مارونيَّة، الجزء الأوَّل: الأحد **، منشورات جامعة الرُّوح القُدُس-الكَسْليك، معهد اللِّيتورجيَّا، سلسلة “المصادر اللِّيتورجيَّة المارونيَّة”- 12، PUSEK، 2009، ص 631-632.
([17]) راجع كتاب رتب وعبادات كنائسيَّة حسب عادة الطائفة المارونيّة، رتبة صلوة السَّلام في أحد الفصح قبْل القدَّاس،ص 148-149.
([18]) راجع طقس الأعياد الحافلة “المعدعدان” بحسب تقليد كنيسة أنطاكية السُّريانيَّة الأُرثوذكسيَّة، ضبطه وحرَّره على النسخ السريانيّة القديمة والصحيحة، ونقل بعض نصوصه إلى اللغة العربيّة واختصرها ونشرها بأصلها السريانيّ مع ترجمتها قداسة سيّدنا مار إغناطيوس يعقوب الثالث، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، 1978، طقس السّلام الخاصّ بأحد القيامة العظيم، ص 259-260.
([19]) راجع E. R. HAMBYE, «La Semaine Sainte dans l’Église syro-malankare», L’Orient Syrien III, 2 (1958) 219-244 (ici, p. 244).
([20]) راجع المقال المشوِّق الآتي الياس خليفة، “لاهوت الصَّليب”، الصَّليب في اللِّيتورجيَّا، ص 1-11 (بخاصَّة، المقطع المعَنوَن: “الصَّليب قوَّة المسيح القائم من القبر”، ص 9).
([21]) راجع على سبيل المثال Nabil MOUANNÉS, Théologie de la Croix dans l’Église Maronite, Coll. «Antioche Chrétienne», Cariscript, Paris, 1991.
([22]) راجعPaul BEAUCHAMP, «Sens de l’Écriture», Dictionnaire critique de théologie, sous la direction de Jean-Yves LACOSTE, Quadrige-Dicos poche/Puf, Paris, Troisième édition revue et augmentée par Olivier RIAUDEL et Jean-Yves LACOSTE, 2007, p. 1322-1328 (ici, p. 1323); É. AMANN, «Type», Dictionnaire de Théologie Catholique, tome 15/2, col. 1935-1945 (ici, col. 1937, 1943-1944).
([23]) الورقة 156ب. إنَّ هذا الاستشهاد والاستشهادات الأُخرى كلّها مأخوذةٌ من ف.س. 312. فاقتضى التَّوضيح.
([26]) “ذراع ويد”، مُعجَم اللّاهوت الكتابيّ، دار المشرق، بيروت، طبعةٌ ثالثة، 1991، ص 358.
([27]) إسطفان الدُّويهيّ، منارة الأقداس، الجزء الثَّاني، ص 206، 207، 208.
([28]) يوحنَّا تابت، البِيت غازو المارونيّ 14703 Add.، الجزءالثَّالث: ألحانٌ للقيامة،، ص 29.
([30]) راجع إسطفان الدُّويهيّ، منارة الأقداس، الجزء الأوَّل، ص 79؛ والجزء الثَّاني، ص 509.
([31]) راجع بطرس ديب، دراسة في اللِّيتورجيَّا المارونيَّة، ص 240؛ ويوحنَّا تابت، “رتبة السَّجدة في أحد العنصرة في الطَّقس المارونيّ”، الزِّيَّاحات والرُّتب الطَّقسيَّة، ص 212.
([32]) هي الآتية: ف.س. 236، 313، 403، 477، 393، 398، ومخطوط بكركي (القسم الأوَّل)14، ومخطوط الكرَيم 106.
([33]) هما: ف.س. 482، ومخطوط بكركي (القسم الأوَّل) 34.
([34]) قد استندنا على الكتاب الَّذي طُبِعَ ببيروت، في العام 1909، وما هو سوى إعادة طباعةٍ لنسخة روما، الَّتي صدرت في العام 1839.
([35]) راجعAlphonse RAES, «La paix pascale dans le rite chaldéen», L’Orient Syrien VI, 1 (1961) 67-80 (ici, p. 67).
([36]) إسطفان الدُّويهيّ، منارة الأقداس، الجزء الأوَّل، ص 54-55.
([37]) على سبيل المثال، راجع Alphonse RAES, «La paix pascale dans le rite chaldéen», L’Orient Syrien VI, 1 (1961) 78.
([38]) راجع رتبة السَّلام في أحد الفصح المجيد، سلسلة “الرُّتب المارونيَّة”- 5، الكَسْليك-لبنان، 1984.
([39]) راجع أيّوب شهوان، “الصَّليب في العهد الجديد”، الصَّليب في اللِّيتورجيَّا، ص 129-165.
([40]) راجع لويس الخوند، “صليب الإيمان والحياة”، المرجع نفسه، ص 195-233.
([41]) راجع بطرس الجميّل، “الاحتفال بالقيامة المجيدة في اللِّيتورجيَّا المارونيَّة”، السَّنة الطَّقسيَّة، (سلسلة محاضرات 1988)، سلسلة “منشورات قسم اللِّيتورجيّا في جامعة الرُّوح القُدُس”- 10، الكَسْليك-لبنان، 1988، ص 133-169.
([42]) راجع Alphonse RAES, «La paix pascale dans le rite chaldéen», L’Orient Syrien VI, 1 (1961) 67-80.
([43]) راجع E. R. HAMBYE, «La Semaine Sainte dans l’Église syro-malankare», L’Orient Syrien III, 2 (1958) 219-244.