د. روني خليل[1]
شهدت المرحلة الممتدّة من العام 1920 حتّى الاستقلال، خلافات أو انقسامات في الآراء حيال هويّة لبنان، وتعدّدت التّيارات السياسيّة، ففي حين تشبّث به القوميّون اللّبنانيّون ومعظمهم من المسيحيّين، اعتبره القوميّون العرب، وغالبيّتهم من المسلمين، من ضمن الأمّة العربيّة، فيما نظر إليه مناصرو سوريا الكبرى من ضمنها.
لبنان عربيّ، لبنان سوريّ، لبنان لبنانيّ؛ ثلاثة اتجاهات تنازعت سياسته وتقاسمت شعبه، على أساس هذه المرتكزات: العروبة هويّة لغة وحضارة، السوريّة هويّة مدى، اللّبنانيّة هويّة وطن؛ والوطن والحضارة والمدى معطيات تتكامل. وقد انعكست هذه الاتّجاهات خلافاتٍ تجلّت في مناسبات عدّة، مسّت بالسّلم الأهليّ وهزّت بنيان الوطن.
ثمّة تسميات عدّة أطلقت على مشروع الوحدة: “الأمّة العربيّة”، “الخلافة العربيّة”، “المملكة العربيّة”، وسواها، وردت على ألسن الشريف حسين وابنه الأمير فيصل وبعض المفكّرين العرب.
أوّلاً: الطروحات التي ظهرت خلال الحرب العالميّة الأولى:
1 – الوحدة العربيّة في إطار مملكة يرأسها الشريف حسين أو ابنه الأمير فيصل بتأييد إسلاميّ كبير ومن بعض أعيان طائفة الروم الأرثوذكس، بحيث تترابط دولها بما يشبه الترابط بين الولايات المتحدة الأميركيّة ما يعني أن يتمتّع كلّ قطر باستقلاله الداخليّ فيما تتولّى الحكومة المركزيّة السياسة الخارجيّة. وتتمثّل هذه الوحدة في العلَم الواحد والجيش الواحد والنقد الواحد وفي جوزات السفر والمصالح الاقتصاديّة. واعتبر الشريف حسين أنّ اللّبنانيّين، ونظرًا لوضعهم السابق، يمكن أن يختاروا لهم حاكمًا، شرط ألاّ يكون أوروبيًّا، أمّا في الإمارات العربيّة فتبقى الأسر الحاكمة، ويعيّن أميرها حكّام المناطق ويجبي الضرائب من دون أن يتوجّب عليه دفع أيّ ضريبة. كما أعلن الأمير فيصل في 5 تشرين الأوّل 1918، “…انّ حكومتنا العربية …تنظر إلى جميع الناطقين بالضاد على اختلاف مذاهبهم وأديانهم، نظرًا واحدًا، ولا تفرّق في الحقوق بين المسلم والمسيحيّ والموسويّ” و”إنّ العرب هم عرب قبل موسى وعيسى ومحمّد”. ونظرًا لخشيته من استغلال فرنسا وجود نسبة عالية من المسيحيّين في جبل لبنان، فقد عيّن حاكمًا مسيحيًّا عليه محاولاً التقرّب من موارنته قدر الامكان لإقناعهم بحلمه “سوريا الكبرى”. وصرّح مرّةً أنّه يحترم استقلال جبل لبنان الإداريّ، معتبرًا بالتالي أنّ المطالب بضمّ مناطق إضافيّة إليه ستؤدّي إلى خسارة الموارنة والمسيحيّين عمومًا نسبتهم العالية في النسيج الاجتماعيّ للبلاد. ثمّ أعطى فيصل المسيحيّين ثلاثة مناصب من أصل سبعة في مجلس المديرين العامّين، الذي تشكّل في 4 آب 1919 من السادة: علي رضا الركابي- اسكندر عمّون- رشيد طليع- سعيد شقير- ياسين الهاشمي- ساطع الحصري- جبرائيل حدّاد، وإذ حاول جاهدًا إقناع اللبنانيّين بانضمامهم إلى الوحدة السوريّة. تأثّر بأفكاره بعض الزعماء المسيحيّين، حتّى أنّ فرنسا اضطرّت إلى التشكّي من نشاطات ميشال لطف الله واسكندر عمّون، في حين كان الأمير سعيد الجزائري وحقّي العظم يدعمان مثلاً التوجّه الفرنسيّ ويسعيان إلى إقناع الناس بقبول حمايتها. وأبدى فيصل رغبته بأن يكون هو أميرًا على سوريا الطبيعيّة واعدًا بأن تكون دولة علمانيّة، في حين يبقى الشريف حسين في مكّة المكرّمة رئيسًا على جميع الدول العربيّة. ورأى بعض المثقّفين العرب كـ رفيق العضم ورشيد رضا وعبدالله صفير وسواهم، بأنّ هذه الوحدة ستقوم على أساس القوميّة، وليس على أساس الدين وستكون الدولة عبارة عن اتّحاد أقطار، تدير كلّ قطر حكومة تتمتّع بالاستقلال الذاتيّ، ويتمتّع فيها المسيحيّون والمسلمون بالحقوق ذاتها، فيما يكون لليهود قانونهم الخاص.
2- سوريا الكبرى أو سوريا الطبيعية (سوريا – لبنان – فلسطين)، طالب بها بعض المفكّرين من ذوي الاتجاه العلمانيّ، مع رفض مبدئيّ لحكم الأمير فيصل، ولاقت ترحيبًا وتأييدًا من المسيحيّين والمسلمين على السّواء، بل كان المسيحيّون من ضمن أوائل المطالبين بها. واستشرف هذا الاتجاه تخطّي الاعتبارات الطائفيّة، ووضع صيغة تعاون مسيحيّ – إسلاميّ، ظهرت بدايةً في نهاية القرن 19، ودعا لها نخبة من أهل العلم أمثال بطرس البستاني، ثم جورج سمنة وشكري غانم؛ والأخير طالب بأن تعيّن فرنسا، في ظلّ هذه الدولة، مندوبًا ساميًا على أن تقسّم البلاد إلى مناطق تديرها جمعيّة وطنيّة منتخبة من الأهلين ضمن استقلال ذاتيّ وإرشاد مباشر من الدول الكبرى. واعتبر غانم أنّ العرب ليسوا بعد قادرين على استلام بلادهم وحكمها ونيل الاستقلال التامّ، إذ ينقصهم التعليم والخبرة للقيام بذلك.
وطالب فارس نمر بإقامة دولة إتحاديّة في سوريا ضمن الوحدة العربيّة، وبأن تحكم نفسها بنفسها مستقلّة ويرأسها ملك عربيّ، ولكن ليس ملك الحجاز، ولم يبدِ نمر معارضة لأيّ وصاية أو مساعدة أجنبيّة بهدف مساعدة هذه الدولة الناشئة شرط أن تكون مؤقّتة، مفضّلاً بريطانيا على فرنسا لأسباب اقتصاديّة وسياسيّة.
وقد لاقى طرح سوريا الكبرى تأييد أغلبيّة الأقليّات من مختلف الطوائف. غير أنّ مواقف المسيحيّين عمومًا تبدّلت مع الوقت، إذ رأوا أنّ هذه الوحدة يمكن ألاّ تحفظ لهم امتيازاتهم.
أمّا الجمعيّات التي دعمت هذا الطرح، لكن مع القبول بوصاية فرنسيّة، فمنها: رابطة سوريا وجبل لبنان للتحرير، اللجنة الوطنيّة السوريّة – اللبنانيّة في البرازيل، اللجنة اللبنانيّة – السوريّة في مصر، اللجنة المركزيّة السوريّة، الرابطة اللبنانيّة في باريس، …
أمّا تلك التي طالبت بسوريا الكبرى مستقلّة تمامًا، ومن دون أيّ وصاية فمنها: غرف التجارة الفرنسيّة،… إضافة إلى العديد من الشخصيّات العربيّة وخصوصًا الإسلاميّة كرياض الصلح وعمر الداعوق وعلي سلام ومختار بيهم وسواهم.
3– التوجّه المنادي باستقلال لبنان وجد دعمًا فاعلًا من قبل أعضاء مجلس الإدارة ومن السلطة الروحيّة المارونيّة بشكل أساسيّ. وانقسم الداعمون لهذا الخيار بين فكرتين: الأولى تطالب باستقلال لبنان ضمن حدود لبنان الصغير، مع ضمّ بيروت فقط، لإقامة دولة ذات أكثريّة مسيحيّة، ومارونيّة تحديدًا؛ والثانية، باستقلاله مع توسيع حدوده، بحيث يضمّ أيضًا بيروت وطرابلس وعكّار والبقاع وجبل عامل. وبدأ منظّرو كلّ طرح بالتجييش لأفكارهم، وعرضها على الحكومة الفرنسيّة، التي راحت توازن بين الصيغتين وتترقّب.
ومن أبرز الأحزاب والجمعيّات المنادية باستقلال لبنان: حزب الاتحاد اللبنانيّ، جمعيّة النهضة اللبنانيّة، الرابطة اللبنانيّة في باريس، حركة ربيع 1919. وممّا ركّزت عليه هذه الجمعيّات أيضاً فكرة توسيع الحدود، وذهب بعضها إلى القبول بالانتداب الفرنسيّ. ومن بين المنادين بطرح الاستقلال: إسكندر عمّون، انطون الجميّل، داود بركات، حيدر معلوف، جبرايل تقلا، محمّد تلحوق، سليم أبو عزّ الدين.
إلى هذا، فقد لاقت هذه التيّارات دعمًا من بعض الدول، فدعمت بريطانيا التيّار العروبي، وفرنسا التيّار السوريّ ولاحقًا اللبنانيّ.
ثانياً: البطريرك الحويّك ومؤتمر الصلح:
بعد أن وضعت الحرب العالميّة الأولى أوزارها، عقد المنتصرون مؤتمرًا في باريس بدءًا من 18 كانون الثاني 1919 لتقاسم غنائم الحرب ورسم خريطة جديدة للعالم، وكانت رغبات فرنسا وبريطانيا تصبّ في خانة توسيع حدودهما وفرض نوع من الاستعمار بتسمية جديدة هو “الانتداب”، في حين كانت الولايات المتحدة الأميركيّة في صدد دعم الشعوب المتحرّرة من الاستعمار، في حقّ تقرير مصيرها ونيل استقلالها. وسُمح في هذا المؤتمر، للشعوب بأن تبدي آراءها، فتوجّه داود عمّون رئيس مجلس إدارة جبل لبنان، الذي كان قد حلّه ابراهيم باشا، إلى فرنسا، مع وفد مرافق، وطالب بتوسيع حدود الجبل وبالاستقلال. ثمّ شكّل البطريرك الحويّك وفدًا ثانيًا في ظلّ مطالبة قويّة من الأمير فيصل بجعله حاكمًا على سوريا الكبرى، وشيوع أخبار عن تحضيرٍ لعقد اتّفاق بينه وبين رئيس الوزراء الفرنسيّ كليمنصو، يقضي بضمّ لبنان إلى سوريا ضمن وحدة فدراليّة وباعترافه بالانتداب الفرنسيّ. فسارع غبطته السفر برفقة الأساقفة شكرالله الخوري، وإغناتيوس مبارك، وبطرس الفغالي، والخوري اسطفان الدويهي، ومطران زحلة والفرزل للروم الكاثوليك كيرلّس مغبغب؛ وأبحروا في 15 تمّوز 1919 إلى فرنسا، حيث استقبلوا بحفاوة، واجتمع غبطته برئيس الدولة بوانكره، وبرئيس الوزراء كليمنصو، الذي شدد على حقّ لبنان في توسيع حدوده، من دون أن يتطرّق إلى مسألة الاستقلال. وقد دامت الزيارة حتّى كانون الأوّل 1919.
وفي كانون الثاني 1920 تأكّدت الهواجس، إذ وقّع فيصل مع كليمنصو الاتّفاق المزعوم، فهبّ الوطنيّون وعارضوه: فمن لبنان تمّ إرسال وفد ثالث إلى المؤتمر برئاسة المطران عبدالله الخوري ضمّ الأمير توفيق إرسلان وألفرد سرسق ويوسف الجميّل وأميل إدّه، وأبحروا في كانون الثاني العام 1920. أمّا في سوريا، فأعلن المؤتمر السوريّ قيام المملكة السوريّة في 8 آذار 1920 برئاسة فيصل وفق “رغائب الأهالي”. جديرٌ بالذكر هنا اشتراك بعض الرؤساء الروحيّين المسيحيّين بالمبايعة، إزاء تخوّف لبنانيّ من ضمّه إلى هذه المملكة، ما حدا إلى مضاعفة الجهود للمطالبة بالاستقلال، فقامت تظاهرات شجبت مقرّرات المؤتمر، واجتمع في 22 آذار 1920 بعض شيوخ الصلح ورؤساء البلديّات وفعاليّات سياسيّة وأعضاء مجلس الإدارة في بعبدا في احتفالٍ حاشدٍ وضعوا خلاله صورة العلم بالأزرق والأبيض والأحمر وأرزة خضراء في الوسط مذكّرين بمطالبهم السابقة ومعارضين قيام المملكة السوريّة.
الملك حسين من جهته، كان يعتبر نفسه ممثّل العرب الآسيويين جميعًا، متمسّكًا بالوعود المقطوعة له من بريطانيا مقابل دعمه لهم في الحرب، غير أنّ بريطانيا وفرنسا اعترفتا به ملكًا على الحجاز فقط. ووافقت الأخيرة بأن يحضر المؤتمر بهذه الصفة فقط. رفض الحسين بداية بأن يوقّع بهذه التسمية، وأوكل إلى ابنه فيصل بأن يمثّله. وبعد مناقشات بين الحسين والمعتمد البريطانيّ لدى الحجاز، وافق الحسين على الصيغة المطروحة، واقتنع بأنّ تسمية “ملك البلاد العربية” ستثير اعتراضات الدول الأخرى، وستحول دون وجود ممثّلين عرب في المؤتمر. ثمّ صرّح الأمير فيصل بأنّ أباه “لا يريد أن يجبر العرب على قبول سيطرته”، ولكن “سلوا أهل البلاد، هم أحقّ الناس بتعيين مقدراتهم وبانتخاب الحكومة التي تناسبهم، كانت تلك الحكومة فرنسا أم اميركا أم اليابان أم العرب”. وطالب فيصل في المؤتمر بالحكومة العربيّة على اعتبار وحدة اللغة والنسب والحدود الجغرافيّة والمنافع الاقتصاديّة وقبول الشعوب العربيّة بهذه الوحدة. وكان قد طلب من أهل سوريا إرسال العرائض التي تطالب به كممثّل عنهم وناطق باسمهم في المؤتمر، وذلك ردًّا على تسمية الفرنسيين له بملك الحجاز فقط. وهنا دار الجدال بينه وبين بعض المرجعيّات العربيّة، فاعتبره شكري غانم ممثّلًا للحجاز فقط، ورفض مقولته بأنّه ممثّل العرب، كما وطلب من فرنسا بأن تسعى “لإعادة بناء سوريا تامّة مستقلّة متّحدة”. ثمّ أدلى داود عمّون بمطالبه الآنفة الذكر، وطرح الأرمن والأكراد والأشوريّون مطالبهم. وهكذا تواجهت طروحات الأمير فيصل مع طروحات جديدة أضعفت من سلطته.
ثالثاً: مؤتمر سان ريمو وفرض الانتداب:
إنعقد في إيطاليا بين 18 و 26 نيسان 1920، ونقض كلّ الوعود السابقة، وفرض الانتداب الفرنسيّ على لبنان وسوريا. لاقى المؤتمر شجبًا من قبل مجلس إدارة جبل لبنان، وكان قبل عام تقريبًا في أيار 1919، قد قرر وضع لبنان تحت حماية فرنسا.
- المواقف الداخليّة منه:
- في سوريا:
بعد فرض مؤتمر سان ريمو، نيسان 1920، الانتداب الفرنسيّ على لبنان وسوريا، أشعل السوريّون في 24 تمّوز 1920 ثورة في ميسلون تعبيرًا عن رفضهم لهذا القرار، منيت بالفشل، ففُرض الانتداب بالقوّة.
ب – في لبنان:
بعد وقتٍ على الانتداب، ظهرت بوادر خلاف مع الفرنسيين نتيجة غطرسة بعض ضبّاطهم؛ فتمّ الاتصال بين حكومة مجلس إدارة جبل لبنان والحكومة السوريّة في أيّار 1920، أدّت إلى عقد اتّفاق تعاون بين الطرفين، نصّ على الاعتراف باستقلال جبل لبنان وتوسيعه وعقد تحالفٍ اقتصاديّ، كما قرر ثمانية أعضاء من مجلس الإدارة تشكيل وفد رابع، والسفر إلى باريس للمطالبة بالاستقلال. ولمّا علمت سلطات الانتداب بسفرهم ألقت القبض عليهم، وكان من بينهم شقيق البطريرك الحويّك وابن أخيه. وهكذا مني الأمير فيصل أوّلاً بخسارة كبيرة، واعتبر بأنّ السياسة البريطانيّة لم تكن صادقة تمامًا في وعودها، وأنّ العرب لم يشكّلوا صفًّا واحدًا في وجه الطروحات الأجنبيّة التي فرضها الحلفاء، ثم إنّهم لم يكونوا على استعدادٍ كاف لقبول الوحدة، كما لم يكن الوعي القوميّ متخمّرًا كثيرًا في عقولهم فطغت العصبيّة القبليّة على العصبيّة القوميّة.
رابعاً: إعلان دولة لبنان الكبير، تتويجًا لجهود البطريرك الحويّك:
في 1 أيلول 1920، أعلن المفوّض الفرنسيّ الجنرال غورو، دولة لبنان الكبير. غير أنّ هذه الدولة الجديدة اتّسمت بتناقضات عميقة حول شرعيّتها؛ فالقوميّون اللبنانيّون، وتحديدًا الموارنة اعتبروه نتاجًا لتاريخهم ونضالهم الطويل وحلمهم بالاستقلال وببناء أمّة – دولة لبنانيّة. وإذ كانوا لم يرحّبوا كثيرًا بالانتداب الفرنسيّ، إلاّ أنّهم قبلوا به تمهيدًا للاستقلال التامّ.
- المواقف الداخليّة منه:
إزاء ذلك شكّل هذا الإعلان صدمة لأصحاب التيّار العروبيّ، وكذلك التيّار السوريّ، فالطائفة السنّيّة رفضت لبنان الكبير، ورفضت المشاركة في كيانه، انطلاقًا من اعتبارات دينيّة وسياسيّة واقتصاديّة، واستمرّت المعارضة السنّيّة طوال مدّة الانتداب، بدا لأبنائها أنّهم منفصلون عن الداخل السوريّ فاعتبروا أنّ هذا الانفصال يهدد مصيرهم ومصالحهم ما انعكس مظاهر خصومة مارونيّة – سنّيّة على الساحة الداخليّة، وقد استمرّ بعض الساسة السنّة، أمثال رياض الصلح، حتى ثلاثينيّات القرن الفائت في المطالبة جهرًا بضمّ لبنان إلى سوريا. وآزرهم في المعارضة غالبيّة أبناء طائفة الروم الأرثوذكس. وظلّوا جميعهم ينشطون في إطار الحركة المعارضة للانتداب الفرنسيّ، معتبرين أنّ فصل مناطق، معظم أهلها من المسلمين عن سوريا وإلحاقها بلبنان الكبير، ليس سوى تعزيز لمصالح الموارنة حلفاء فرنسا التقليديين. فهم، وخصوصًا أهل السنّة، تحوّلوا، في هذه الدولة إلى أقليّة بين الأقليّات، وفُصلوا عن العالم العربي – الإسلاميّ. فدخولهم تحت الانتداب الفرنسيّ يعني فقدانًا لنفوذهم وإضعافًا لسلطتهم، فأظهروا تمرّدًا، ونصبوا اعتداءات في الجنوب وبيروت وطرابلس…، مطالبين بإرجاعهم إلى سوريا، لم تتوقّف إلّا بعد صدّها من قبل الجيش الفرنسيّ، ورفض عدد كبير من المسلمين تسجيل إشارة “لبنانيّ” على أوراقهم الشخصيّة، ثمّ قاطعوا التعداد السكانيّ عام 1921 وانتخابات عامي 1921 و 1925، وعقدوا مؤتمرات طالبوا بها بحقّ الاختيار الذاتيّ بالانضمام الى سوريا، وامتنع خرّيجو المدارس والجامعات المسلمون عن الالتحاق بنظام الموظّفين الحكوميّ لئلاّ يتحوّلوا إلى متعاونين مع “العدوّ”.
أمّا أبناء الطائفة الشيعيّة الذين كانوا أقليّة حينها، لم يقوموا بأيّ نشاط سلبيّ يذكر، إذ لم تكن الدولة العليّة معترفةً بهم وكانوا مهمّشين، فقبلوا بلبنان الكبير، وانحصر تمددهم في الأطراف، ولم يكن لهم طرح سياسيّ ولا دخلوا في حسابات الدول الكبرى. ومع ذلك، فقد لعب بعض قادتهم دورًا في الحرب، فدعموا الهاشميين واختاروا خيار لبنان الكبير داعمين الدولة الناشئة ولا سيّما بعد اعترافها بهم كطائفة مستقلّة ضمن إطار النظام الطائفيّ، فلم تشغلهم كثيرًا فكرة القوميّة العربيّة على غرار السنّة.
وفي ما يتعلّق بالطائفة الدرزيّة، التي شكّلت خلال حقبة لبنان الحديث محور السياسة المحلّيّة واليد القابضة على الحكم، وبعد أن فقدت دورها الرياديّ هذا لصالح الطائفة المسيحيّة والموارنة تحديدًا، فقد اتّبعت موقف الترقّب، ولم تَصغ طرحًا خاصًّا حول مصير لبنان، إلاّ أنّهم أبدوا امتعاضًا من العناية الفرنسيّة بالموارنة وآزروا المعارضين في بعض المواقع، فلقد تعذّر عليهم أخذ نصيب من الزعامة.
- التناقضات والتغيّرات التي حملتها دولة لبنان الكبير:
إتّسمت الدولة الجديدة بتناقضات عميقة حول شرعيّتها.
أ – التناقضات الاقتصاديّة: إرتبطت بيروت ارتباطًا وثيقًا بالجبل، فيما كانت طرابلس وصيدا مرتبطتين بسوريا، ولذلك شعر أهل هاتين المدينتين بإضعاف دورهما. كذلك فصل سكّان البقاع عن الشام، وسكّان الجنوب عن حيفا. علمًا أنّ مسيحيي لبنان الصغير بشكل عامّ، كانوا قد استقلّوا باقتصادهم منذ زمن، في حين كان سكّان المناطق الشرقيّة والجنوبيّة ما يزالون يعيشون نوعًا من الإقطاع الزراعيّ ويرتبطون بكبار الملاّكين. فضلاً عن تمركز مؤسّسات صناعيّة مهمّة في بيروت ومناطق في الجبل وتطوّر بناها التحتيّة، مقارنة مع تلك المناطق.
ب- الديمغرافيّة: لم يعد الموارنة يشكّلون أكثريّة مطلقة ثمّ أنّ النظام الجديد اشتمل على طوائف جديدة لم تكن جميعها متجانسة.
ج- الثقافيّة: إنّ الوضع التربويّ في لبنان الصغير، كان على درجة متقدمّة، نتيجة الإرساليّات الأجنبيّة والمدارس الوطنيّة واحتكاك الأهلين بالغرب وظهور نهضة ثقافيّة مهمّة، على عكس ما كان عليه في المناطق الأخرى التي كانت خاضعة للحكم العثمانيّ المباشر الذي لم يولِ التعليم الأهميّة اللازمة. وانطلاقًا من الاحتكاك مع الغرب وثقافته أثناء المتصرفيّة، لم يشكّل الوجود الغربيّ في دولة لبنان الكبير مشكلة تذكر بالنسبة لأهل الجبل، على عكس ما حصل مع سكّان المناطق الأخرى.
خاتمة:
قد يكون لصراع الهويّة التاريخيّة ركائزه البنيويّة في نسيج المجتمع وتركيبه: فاللبنانيّة، جذورها في تاريخ الملجأ والإمارة وفي جغرافيّة الجبل؛ السوريّة جذورها في جغرافيّة المدن والسهل وفي تاريخ الأمويين وفي تعدد صراعات الدول عليه عبر العصور؛ أمّا العروبة فجذورها اللغة الواحدة والتاريخ المتداخل والحضارة المشتركة وفي الالتباس الناجم عن عدم تمييزها عن الإسلام كدين.
الهويّات الثلاث لها مرتكزات: اللبنانيّة هويّة وطن، السوريّة هويّة مدى، والعروبة هويّة لغة وحضارة. والوطن والمدى والحضارة بعضها يكمّل بعضًا. ثم بنيت عليها إيديولوجيّات؛ فاللبنانيّة، ألحق بها مترتّب الانعزال عن المدى ومعاداة العروبة وسوريا والعرب؛ والسوريّة ألحق بها مترتّب الانضمام والاندماج وإلغاء الوطن؛ والعروبة ألحق بها مترتّبات التماثل الدينيّ وحلم الوحدة وهواجس السيطرة الدينيّة وانتفاء الحريّة.
عكست هذه الاتجاهات في الهويّة خلافات داخليّة منذ نشأة لبنان الكبير، ساهمت في عدم الاستقرار على غير صعيد.
وبرأيي، إنّ الخلاف على هويّة لبنان وعلى العيش فيه، ليس ناتجًا عن عدم قناعة به وبأرضه وبشعبه، بقدر ما هو ناتج عن الخلاف على السلطة فيه وكيفيّة تداولها بشكل عادل منصف بين الطوائف. أمّا ما يتوجّب علينا اليوم، وفي هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه، فهو اعترافنا كلّنا بلبنان سيّدٍ حرٍّ مستقلٍّ سلاميّ ملتقى حضاراتٍ وثقافاتٍ وحوارٍ إنسانيّ، يعتمد على أبنائه مقيمين ومنتشرين في تسيير شؤونه وإدارة دوره الرساليّ في المنطقة والعالم، وبالتفاهم على إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه وتمتين مفاهيم الحريّة والديمقراطيّة والاعتراف بالآخر، فنعيش معًا يجمعنا مبدأ الوجود والمصير.
لائحة مراجع البحث:
- الأب فرنسوا عقل، أضواء على العلاقات السياسيّة والقانونيّة بين البطريركيّة المارونيّة والدولة اللبنانيّة، منشورات جامعة سيّدة اللويزة، 2007.
- عصام كمال خليفة، لبنان 1914 – 1918 من خلال أرشيف وزارة الخارجيّة الفرنسيّة، بيروت 2005.
- عصام خليفة، أبحاث في تاريخ لبنان المعاصر، دار الجيل، بيروت، 1985.
- الكوكب السيّار البطريرك الماروني الياس الحويّك، إعادة طبع دار ومكتبة بيبليون جبيل، 2004.
- تيودور هانف، لبنان تعايش في زمن الحرب من انهيار دولة إلى انبعاث أمّة، ترجمة موريس صليبا، بيروت، 1993.
- ثورة العرب ضدّ الأتراك، بقلم أحد أعضاء الجمعيّات السريّة العربيّة، دار التضامن، بيروت، 1993.
- ألبير منصور، موت جمهوريّة، دار الجديد، بيروت، 1994.
- إدمون ربّاط، التكوين التاريخيّ للبنان السياسيّ والدستوريّ، ترجمة حسن حبيب، منشورات الجامعة اللبنانيّة، بيروت 2002.
- جان شرف وآخرون، دولة لبنان الكبير 1920- 1996، منشورات الجامعة اللبنانيّة، 1999.
- سليمان موسى، الحركة العربيّة 1908- 1924، دار النهار، ط2، 1977.
[1] أحد أساتذة التاريخ في الجامعة اللبنانية.