من عنف أنظمة القدرة، الى معطوبية أخلاقية الحب
د. سمير الخوري[1]
- من التبعية الى الإتباعية
- تعالوا الي، تكونون شهودا لي
- أرسلكم كنعاج بين ذئآب
- يضطهدونكم لأنهم ما عرفوا أبي ولا عرفوني
- مسيحية الشهادة والشهيد
- بنية دوافع الإضطهاد وأنظمته
- 2.3- بنية خميرية مسيحية التحرر وقيمها
- من غلبة القوة ونفوزها، الى قيامة الحب وفوزه
من القراطوفانيا Κράτοφάνεια الى الأغابيفانيا ἀγάπηφάνεια
- واقعية مسيحية الشهادة والتشهّد
- ماهية العناية الإلهامية
خميرية الشهادة والشهيدية للمسيح
من عنف أنظمة القدرة، الى لطف أخلاقية الحب
- من التبعية الى الإتباعية المسيحية.
- 1.1- “ تعالوا الي… تكونون شهودا لي”
إتباع يسوع، القائم من الموت، هو فعل التزام إيماني شخصي حر، إستجابة لدعوته كل إنسان، ” تعال، أترك، دع، .. واتبعني” (يو1-35 )، يترجمه فعل ممارسةِ حياتيةٍ يومية بصدق وعمق. ينفرج عن هذين الفعلين، ويلازمهما، فعل ثالث هادف، يتعهده المُعمّد والكنيسة، قوامه شهادة زف بشرى أبوة الله paternité [المغايرة كلياً لأبويات paternalisme معبودات الما- فوق، وعناترة الما – تحت]، وبنوة الإنسان في الكلمة الإبن، بقوة الروح، بهدف “أن يأتي ملكوت الآب… كما في السماء كذلكك على الأرض” هنا الآن، ومنذ الآن. ليست إتباعية suivance يسوع، محاكاة تمظهره، واستنساخ حركاته، وتقليد زمانياته، وفق عملية أصولية ملؤها علامات التبعية dependance البائسة والقاصرة، بل هي أصالة التماهي بشخصه، لتأوين بشراه في واقع اليوم، تحت كل سماء وفي كل ثقافة، ونفح روح قيمه الإنجيلية في حيثيات هذا الواقع، وتلقيح الثقافات بها. إنها عملية أنسنة المجتمع المستدامة، وشخصنة الإنسان الدائمة، إعدادا واستعدادا لألهنته theosis بالحب. للإنسان الإعتماد بالماء، إن شاء. او الإعتماد بالقيم الإنجيلية. خاصية المسيحية، هي، أنها فعل أنسنة، اولاً، تمهيدا لفعل الألهنة، اي تمثّل تفكير الله الآب وطريقة عمله، لا بلوغ درجة كماله وطبيعته.
ما كانت إتباعية يسوع، هذه، خصبة مُنضِجة ومستنهضة، لو لم تكن تأكيد كرامة وحرية وفعل حب وتحرر بفرح معية المسيح المُحرِّر الجذاب. هي كذلك، لمفاعيل إجتماعية مباشرة “مُأنسِنة” تتوالد عنها، أهمها ثلاثة اساسسية فيها، تصح الإشارة اليها، بعدما أنضج الروح فهمها في الكنيسة، وما زال، عبر التاريخ، هي:
- على مستوى الفرد: كرامة وحرية الإنسان الشخص، وبخاصة حرية التشريع المتضمن فيها…
- على مستوى المجتمع: التضامنية الإنسانية كتعبير مجتمعي عن الحب والغيرية، وبذل الذات…
- على مستوى فهم الإيمان: عالمية الإيمان المسيحي المجبول بالرسولية، وبخاصة حرية الضمير الملازمة لها (جدول -2، 4 -)…
- حرية الإنسان الكيانية، وكرامته الشخصية المطلقة.
يدعو يسوع كل إنسان، شخص، بلغة الملهوف الولهان، للتحول من عبء السبت ومن وزر الشريعة، وإن مقدسة، الى حالة نعمة الحرية: ” تعالوا إليّ ايها المثقلون بعبء، أنا الرفق وتواضع القلب. إحملوا نيري. فطيّب هو نيري وحملي خفيف، تتلمذوا لي، تجدوا راحة النفس” (متى 11/36). لا شريعة لدى يسوع، ولا عصبية معه. بل عنده شرعة الحب المنادية بأن “تحابوا حبي لكم”. لم يكن يسوع مؤسس دين، بل هو باعث إيمان، هوهو مضمونه. لذا، بخلاف مؤسسي الديانات ومصلحيها، لم يكن يسوع مشترعاً، لا في أصول العبادات ولا في أحكام المعاملات. ولم يشاء أن يكونه. لم يعط مؤمنيه شريعة جديدة، بل أعطاهم حرية جديدية تجاه كل شريعة، فحرر نفسه ومَسأل responsabiliser الأنسان الحر، وبذلك حسم أمر تبرئة الله من كل تشريع. لقد استودع تلاميذه، كنه ذاته، وديعة حب خالص، هي القيمة السامية valeur لديه، “لأن الحب هو الله “، لا إحدى صفاته (1يو 4/8). إسترعاهم العالم، يؤنون فيه وديعة حبه، بأشكال معايير او مقاييس normes متعددة [قوانين، شرائع، مشاريع، أحكام دين، مراسم عبادة، انماط ثقافة وتقاليد، ازياء، عادات…] يجدّدونها باستمرار في عملية تأوين لا تنتهي ورشتها، لكون التشريعات الدينية كما المدنية، هي صناعة بشرية لا إلهية ( جدول-1-). هذه المُمسألة، هي تأكيد نضوجية الإنسان ورشديته وبلوغيته، دلالة على سـيّـديّـته souveraineté، علامة حريته الكيانية، أمام الله والناس. “إن حرّركم الإبن صرتم أحراراً حقاً”. لا يسقط امتحان الزمن القيمةَ، بل فيه تصفرّ معاييرُها، فتذبل، تشيخ، وتنهار. المعايير للقيمة، هي كاللغة الى الفكرة، التي يمكن التعبير عنها بكل لغة وحرف ورمز. إن حجز القيمة بمعايرها الشريعية، وتقييدها بها، بمسوّغ إعتبار إن المعايير تصلح لكل زمان، هو خنق لها، وتصنيم للمعايير، واعتبادها، وإستطفال للمتديّن بها، وإهانة للروح المُلهم. إن قدسنة أصول الشريعة، واعتبارها إلهية منزلة، هي معبدة idolatrer الله، ومطلقة absolutiser حروف الديانة، وأليَنة الإنسان، وتحنيط التاريخ. إن أخطرتبعات إله مُشترع، هي من وجهة اولى، تصويرالله سيد عناية تدبيرية حاكمية تبلغ حد القدر المكتوب، فيما لله، في المسيحية، عناية أبوية إلهامية (رسم -5-) تتيح للإنسان الحر كتابة غير المكتوب عليه، وهتك القدر defataliser، شرطاً لصناعة الإنسان تاريخه. وهي من وجهة ثانية، تصوير الله، صاحبَ مخططٍ، أو مشروع، يكلّف به الإنسان العبد، فيما الإنسان الحر، هو هو مبتغى اللهِ الأب في المسيحية. وهي من وجهة ثالثة،، دفع الإنسان الى التعامل الحقوقي الشريعي الحسابي مع إله مشترع، فيما التعامل المُحب المجاني الشكور، هو مقصد الأب في المسيحية. وهي من وجهة رابعة، قلب الأولة في غائية الشريعة، من الإنسان الى السبت، عوض أن يكون السبت، ويبقى، في خدمة الإنسان، كما صحّح يسوع.
شكلت حرية التشريع، القائم على فك الإرتباط الحكمي، بين القيمة ومعاييرها، إحدى أهم خصائص المسيحية، في وقعها الإجتماعي الثقافي والسياسي، بل ولتأكيد تطورها نحو المستقبلات والنهيويات. عاشت الكنيسة باكراً، خبرة هذه الحرية، قبل أن يكشف لها الروح، سر فهمها، فأهمية تمثلّها، لتجعل من حروف الكلمات: أي المعايير، شواهد على قيامة الروح: أي القيمة. عملت بهذه الحرية الفذة، في إختيار متيا (اع -1)، وإبداع الشمّاسية (اع-6)، وعماد الوثنيين (أع-10-11)، وعقد مجمع اورشليم المسكوني الأول (اع- 12) باكورة سلسلة من المجامع والسينودسات والمؤتمرات، والإجتماعات، الديرية والمحلية و/أو المسكونية، التي اعتمدتها عبر التاريخ، بغية التطوير والتغيير، من أجل مؤاءمة العصر، وزف البشرى لمعاصريها، بلغة عصرهم. تتطلب المعايير التغيير بالضرورة، لأنها تطبيقية ثقافية. أما القيم، فإنها تستدعي التبحر فيها والتعمق بها، لأنها مُمَعنِنة ثابتة. شكلت ممارسة الكنيسة، هذه الحرية، مناسبة إيضافية مباشرة لتأليب السلطات الزمنية والدينية عليها، وتعقبها لمعاقبتها، بدءًا من سجن بطرس ورفاقه (أع -4)، ورجم إسطفانوس (أع -7)، واضطهاد شاول (اع-9)، الى آخر أخبار اضطهاد المسيحيين وكنائسهم اليوم، من قبل “دواعش” كل مُقدسنات العالم، ومُمَطلقاته او مصنّماته. يصح القول، بأن وحدها الأمانة للحب، هي خلاقة مُبدعة مُجددة. أما الأمانة للشريعة، فلا. تعيش الكنيسة حالة بنيوية من التوتر العملاني، يلازم شهادتها الميدانية، قوامه: خطر التبلّد، المنبعث عن خطر خيانة الأمانة للحب، إن هي أحجمت عن تأوين القيم الإنجيلية بمقاييس عصرية ملائمة. وخطر الإضطهاد، المواكب لخطر الجرأة النبوية الحق، إن هي أقدمت، فتجددت، ودعت الى التجدد، بقوة جديدها الدائم يسوع. وراحت تسعى لتلقيح ثقافات العصر، بروح الإنجيل…
- الحب والغيرية والتضامن الإنساني.
عرف المسيحيون باكراً، بمجرد اتباعهم مسيح إيمانهم، القائم من القبر، وعمادهم بإسمه، بأن مثال المسيحية ودمغتها، ورافعتها، ومبتغاها، هو الحب، الذي كانه المسيح القائل: “من رآني رأى الأب. أحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم، بهذا يعرف العالم أنكم تلاميذي” (يو 13/24).لا محبة صادقة في المسيحية، دون محبة القريب (لو 10/29). وإن مقياس محبة الله، هي محبة القريب (متى 25/31). من ادعى أنه يحب أخاه، وهو لا يحبه، كان كاذبا (1يو4/20). أبدع المؤمنون، منذ انطلاقة الكنيسة الأولى، أشكال تعابير كنسية وفردية، متنوعة ومبتكرة، من تنظيمات ومؤسسات وإجراءات ورتب شماسية، لخدمة التدبير، بها يشهدون للحب والتشارك (أع4/32 11/27). إنها الغيرية، التي أصبحت ثقافتها معروفة اليوم، تحت مسمى التضامن الإجتماعي المتعدد الجوانب. أنعشت شهادة الحب، هذا التضامن، العونة المجتمعية، وزخرتها شهيدية martyre المسيحيين، بقولة “أن الحب الكامل ينفي الخوف من الآخر” (1يو 4/18). [إكره عدوك، تخافه. أحبب عدوك، توأخيه]. الغيرية، هي تعاطف حرّ، غير مشروط، أخلاقي حضاري، ينمّ عن كرامة الآخر من حيث هو قيمة شخصية، فرداً كان أو جماعة. بقدر ما تُشبَع الإندفاعة الغيرية، بأخلاقية المحبة، وبمسيحية الخدمة، بقدر ذلك تتخطّى العصبية الأقربائية والعشائرية، والتكاتف الأصلابي اللا-أخلاقي. فإن أسقطت عنها التمييز والمفاضلة، تحوّلت الى عونة. وإن تمأسست حقوقياً، في الدولة، تحولت الى جهاز تضامن إجتماعي. شكلت الغيرية التضامنية، رمز التحاب المجتمعي لدى المسيحيين، ودمغة marqueur تمايزهم الثقافي – الديني، في بيئاتهم عبر العصور. وأرست، بالتضافر مع مشهديات الشهيدية، منظورية visibilité الكنيسة في مجتمعاتها، منظورية خلبت لب ذوي الإرادة الطيّبة، المندهشين القائلين :”أنظروا كم، وكيف، ولما يتحاب المسيحييون” (جدول -3-)، بقدر ما أثارت ريبة القابضين على السلطة، مهما كانت أنظمة حكمهم، لنبذ المسيحيين، دعاة “حب القريب”، خشية أن يتذهن رعايا تلك السلطات الحاكمة، بهذة الغيرية التضامنية العميمة، تباعاً، ويطالبونهم بتوفير “قوت يومهم وكرامة معيشتهم” ومستتلياتها الحقوقية…
- عالمية الإيمان المسيحي.
يحمل الإيمان الذي دعا اليه يسوع، كما جَسّمه المعمدون بإسمه، ولا يزال يمأسسونه وينظموه، في منظومة الديانة المسيحية، الموسومة بطابع عالميتها، العابر الثقافات والقوميات بكل أبعادها، مدى المكان والزمان. بموجبه يجتمع ويتواحد المعمدون، في شركة متحد إيمان، لا في عصبية تجمّع إيديولوجي. في جماعة محبة رسولية، هي الكنيسة الجامعة، “شجرة الخردل” ( متى 13/31) التي “تعشش” في أغصانها الثقافات والإتنيات المتعددة، بكل مكوناتها ،وبفرادة مقوماتها، كما في عنصرة (أع -2-) متنامية مستمرة، مدى التاريخ الروحي. ” لي خراف أخر من غير هذه الحظيرة، عليّ ان آتي بها، وستسمع صوتي، وتكون رعية واحدة لراع واحد” (يو 10/16)، بادر يسوع، وأعلم تلاميذه، يومذاك. أذهلهم إعلامه، لتعارضه مع متبعات مالوف المربعات الدينية المغلقة، المتماثلة للحظائر القطعانية، تلك التي لا زالت شائعة في القطاع الزراعي. ألعل يسوع “الراعي “، يذمع بالأمس واليوم، على إقتناص تلك الخراف الغريبة، او إختلاسها وضمها الى حظيرته؟. نعم، في منظور العهد القديم، وفي نظرة الديانات ذات الطابع القومي (جدول-2-)، التي تستريح الى إقصار تدينها على المتوالدين فيها، عملاً بمتّبع العصبية العشائرية، والتكتلات الأصلابية، او الثقافات المحلية… ولكن، لا، في منظار العهد الجديد، الداعي الى الحرية الشخصية، والتحرر بالمسيح، المندفع من الإيمان بالثالوث – الحب، المعبّر عنه بالمسيحية: ديانة عالمية الطابع والطبيعة والرسولية.
المسيحية هي فعل إيمان شخصي وجداني حر. فيه يُمَسأل الشخص في مسالة خلاصه وهلاكه. إذ يسعى بحسب ضميره، لا بحسب أحكام الشريعة، وفتاوى حراس هيكلها. تتخذ المسيحية شكل ديانة المطلق de l’absolu، [حيث لله ما يلهم به بعد، وللإنسان ما يزيد، فلا يتخدر ضميره..]، لا نمط الديانة المطلقة absolue، ذات التكليف الإملائي المعياري والنهائي. المسيحية، هي جوهريا وتكوينيا، بنيويا وإجرائيا، ديانة ذات طابع عالمي. فيما توجه أنبياء العهد القديم، الى عامة الشعب – القوم العبري، توجه يسوع، بمقتضى بشراه الحسنة،
- الى الشخص الفرد، من حيث الدعوة. “أترك، دع، تخلَّ، بع، أزهد، إحمل، إغفر، سامح، إتبعني”، لأن الإنسان الفرد، قيمة شخصية بذاته ولذاته. لأنه كرامة مطلقة غير قابلة للتصرّف. ولأنه ذاتٌ، موضوعُ حرية، ومركز حقوق
- والى متحد الإيمان، من حيث الرسولية. “إذهبوا، بشروا، علموا، عمّدوا”، وزفّوا للناس البشرى الحسنة : إن الله “بيّ” والناس هم أبناؤه في الكلمة يسوع، هم كلهم أخوة. فلا أخوة حقة بين الناس، إن لم يكن الله أبًا.
يقدّر يسوع أهمية العيلة، والمال، والسلطة، ويجلها (مثل السامري الشفيق. لو 10/29)، ولكنه يخشى خطر الأنظمة العائلية والإقتصادية والسياسية… لتحكّمها الى حد كبير، بمصير الشخص البشري، تحت ذريعة “ضمان الحماية” له، ضد غدرات الزمان (مثل الغني. لو 12/13)، ولتخديره بخدعة التعويض بل الإستعاضة،عن “معطوبية” فرديته، بصلابة “أنظمة القوة”، تحميه، وتوهمه بأنها “خشبة خلاصه”…
- “أرسلكم كنعاج بين ذئآب “
في بدء علانيته، قال يسوع لأوائل تلاميذه: “أجعلكم صيادي ناس” (لو5/10). وفي خلالها قال لهم: “أرسلكم مثل نعاج بين ذئآب، فكونوا كالحيات فطنة، وكالحمام وداعة ” (متى 10/16). وقال لهم في منتهاها: إذهبوا في الأرض كلها، وأعلنوا البشارة الى الخلق أجمعين” (مر 16/15). فالرسولية، في منطق يسوع، هي ملازمة للبشرى، وكلتاهما تعبران عن هويته ومهمته [راسل ورسول ورسالة]، وهي جوهر المسيحية.
إقتصرت الرسولية على مسيحية العهد الجديد، دون يهودية العهد القديم، بل ودون سائر الاديان، التي تأمر أتباعها بالسمع والطاعة. تكاد تنحصر دائرة انتشار هذه الاديان، في شعوبها القومية(راجع جدول2) وتقتصرعليهم فقط، إلا عرضاً، وفي ما ندر. كونهم شعب مختار، أو إنهم خير أمة أخرجت للناس. فلا دخول في الدرزية، مثلاً، ولا خروج من أمة الإسلام، تحت طائلة حكم المرتد. أما المسيحية فإنها:
- رسولية شهادية، لا جهادية تكليفية.
- إنها تواصلية شهيدية، لا قتلية تترسية.
- إنها شاهدية مِلْحَوية، لا قاتلية إنغماسية.
- إنها رسالية خميرية، لا فوقية إخضاعية.
- إنها بشروية نورَوية، لا تحشيدية ظلامية.
- إنها علاقة شخصية، لا قطعنة جماهيرية.
- إنها دعوة إيمانية حرة، لا إمتثالية قهرية دينية.
- إنها إيمان بأشخاص الثالوث، لا تسليم بكتاب مُقدسنات.
- إنها زف بشرى أبوّة الله، لا التلطي بأبـويّة المعبودات.
- إنها تسعى بإلهامات الروح، لا تستنصر بالسيف والمال.
تسعى المسيحية بأدوات السلام، لا بأدوات العنف. تحيا بأخلاقية الحرية، لا بشهوة القهر. تتمثل معطوبية fragilité القيم، لا صلادة الأنظمة. تسيّد الإنسان وتمسئله، للنظر في كل أمر. لذا فالمسيحيون، في إثر المسيح، هم في العالم، خميره وملحه ونوره. ولكنهم ليسوا من العالم (يو 15/18). لا تقتصر الرسولية على حمل المضمون الايماني، المسيحي حصراً. بل إنها تطال كل فعل سخاء مجاني إنساني خيّر، يقوم به، بالروحية إياها، كل إنسان، تحت كل سماء، لأنسنة مجتمعه، مهما كان ميدان هذا الفعل ومضمونه، على شاكلة من أقامهم السيد، عن يمينه، في اليوم الآخر (متى 25/31). انها الاندفاعة الى العالم، بذهنية الصياد، دون التنكر لذهنية الراعي، من أجل أنجلة الآخرين بالحق، وعمادهم بالقيم الانسانية السامية، ترقى بهم الكنيسة، نحو الانقى والارقى والأبقى. الاعلام مثلا، هو الاسم التقني للرسولية. التعليم هو وسمها التأهيلي. التسويق، هو وشمها الاقتصادي. التلاعب الاتصالي mediatique manipulation هو كسمها السياسي المنحرف. الدعاية الكاذبة، هو وجهها اللا- اخلاقي… بالرغم من ذلك، خرج بعض المسيحيين، منذ مطلع الجيل الرابع، عن سلامة الممارسة الإيمانية orthopraxie، لدوافع “من عندياتهم”، وإنقلبوا بالزند المدني، من مُضطهَدين الى مُضطهِدين، ولو ظرفياً. إستنصروا بالعنف، على “أخوة يسوع” في الأمم (متى 25/40)، لفرض حقيقتهم. لفظت الكنيسة هذا الإستنصار الشاذ، واستغفرت عنه علناً، لمعرفتها، بأن الإستعانة باسم الله، للتكفير والقتل، هو أحط أعمال المَعْبدة idolatrer ، لكونه تنكرًا للحب…
تعَشّق المسيحيون مسيح إيمانهم. تمثلوا رسالته. فأدركوا، أنه يؤمن بهم، قبل إيمانهم به. يحبهم، قبل حبهم له. يرجو منهم، قبل أن يرجوه. “فثبتوا فيه “، وهو المقيم فيهم. إندفعوا منذ عنصرهم الروح، يحملون بشرى أبوة الله، الى العالم، بأدوات السلام ، بفرح الحرية، بروعة الكرامة، وبحرارة الحب. ولكنهم لمسوا سريعا، صحة نبؤة مُرسلهم القدوة (يو 13/14)، ” إنه حمل الله ، حبة الحنطة، أرسله الآب لتحيا الخراف، رذله الصالبون، وأماتوه. تراءى لتلاميذه في اليوم الثالث”. فعرفوا أن ليس تلميذ أسمى من معلمه (متى 10/24). وأنهم، سوف يبغضهم العالم، ويضطهدهم، لأنه سبق وأبغض المسيح قدوتهم (يو 15/18). تجذرت رسولية شهادة المسيحيين. توالت عليهم الإضطهادات، بدءً من سجن التلاميذ في أورشالم، وشهيدية إسطفانوس، ويعقوب، والطرد من المجامع، والتهجير فالتعقبات الشاوولية… وما كاد الجيل الأول ينقضي، [وهو باكورة مساحة إضطهادات، سوف تتفنن الأجيال اللاحقة بإتقان صنعتها]، حتى قضى الرسل كلهم، تحت التعذيب (جدول-3-)، إيمانا بالمسيح، وحباً بجلاديهم، وبكل من مات المسيح من أجلهم وقام، عبر رسولية تخمير عجنة العالم بثقافة قيم الإنجيل. المسيحية هي الديانة الوحيدة، التي مهرت إنطلاقتها، بدم شهيدية مسيحها ورسله المسالمين…
- “يضطهدونكم لأنهم ما عرفوا أبي ولا عرفوني”
لم يعطِ يسوعُ تلامذه، ولو واحدة من أدوات النجاح، وفق منطق العالم: فما أعطاهم فلسفة اليونان، ولا جبروت الرومان، ولا عنف الغلاة. لم يبح لهم، رياء الفرّيسيين أو تزمّت الكتبة، أو انحلاليّة الصدوقيين أو إنسحابية الحسانيين. بل أعطاهم من لدن أبيه، روحه القدوس، الذي ” يصرخ فيهم أبّا أيها الأب”. يلدهم الروح للملكوت (يو 3/3). يسكن فيهم (لو 11/13). يعلّمهم كلّ شيء، ويذكّرهم بكلمة يسوع (يو 14/26).ويرشدهم الى الحق كلِّه (يو 16/15). بجسارته النبوية يتكلمون، “نعم نعم أو لا لا”. هو ينطق فيهم، ساعة الشدائد والاضطهادات (متى 10/17). بهذا الروح يؤنجلون الناس، ويغيِّرون وجه الأرض. وهكذا رفض يسوع أدوات المسيحانية الأرضية بكل انظمة قدرتها. وأباح لمؤمنيه، عناصر مسيحانيته الروحية، بكل معطوبيتها. وهذا ما التزمت به الكنيسة، وسعت به للشهادة حتى الشهيدية، أمام الملوك والولاة وشعوب الأرض كلها…
” لا تخافوا من يقتل الجسد، ويعجز عن قتل الروح، ” أوصى يسوع تلاميذه (متى 28)، ونبههم: ” سيسلم أخ أخاه، وأب ولده، ويتمرد أولاد على والديهم، ويقتلونهم” (متى 10/21). وحذرهم: “سيبغضكم العالم من أجل اسمي” (متى 10/22)… يصح تنبيه وتحذير وتوجيه وإنباء وتوصية يسوع لتلاميذه، في كل آن ومكان، وتجاه أي نظام. لقد أثبتت أحداث التاريخ، حقيقة كلام يسوع. وتحقق المعمدون بإسمه، من صحة كلمته، في أربعة أقطار العالم. وهم يحملون وقع شهادة الدم، في أبدانهم وحياتهم ومصائرهم، وفي صلواتهم وسنكساراتهم وعمرانهم. لقد عانوا الإضطهادات إياها، بمختلف وسائل تعذيباتها، مهما كان نظام الحكم مُعاصرهم وثقافته: قيصري اكاسيري خليفي سلطاني ملكي أو أميري. إيديولوجي ديني أو مدني. تيونومي شريعي أم تقاليدي. وثني إسلامي أم إلحادي. حضري أم بدوي. متمدن متوحش أم بربري. عسكري إتني عصاباتي أوليغارشي فئوي أم جماهيري. رهطوي أم طبقي أم عنصري. تيوقراطي نوموقراطي أم وضعي. مونوقراطي أوتوقراطي أم ديموقراطي… المسيحيون هم الجماعة الدينية الوحيدة التي لم يعُفّ عن إذائها، واضطهادها، والتنكيل بها، أيٌ من أنظمة العالم، عبر التاريخ. ولم يتعفف عن إيلامها، بل يتعبكر لإخضاعها أو لإفنائها، اي من عناترة الأرض وزيرانها. ما هَمّ ما كان حافز التنكيل بالمسيحيين ومسوّغه : باسم المعبودات بعاليم السماء أو الأرض. باسم المقدسنات sacraliser والمحرمات المادية أو الفكرية، تلك الدينية و/أو السياسية. باسم المُمَطلقات والمحرمات والتحريمات. أو باسم عفاريت الهوّيات القاتلة. أو باسم شياطين الحداثة التسطيحية… إن الثابت الدائم، ذاك المكشوف او المتخفي، هو التصدي للمسيحية. رفضها. ومناوءتها حتى الموت. فعلام بغض العالم لهم ؟ ولما؟. لأن منطق العالم وأعماله ومقاييسه، هو غير منطق الله الأب وأفعاله وقيمه. فلو كان المعمدون باسم يسوع، من العالم، لارتضى العالم بهم، ولتقبلهم (يو 15/18). ولكنهم في العالم، وليسوا منه. فيما دعوتهم، هم، هي أن يحبّوه، ويحبّوا فيه، من مات المسيح من أجلهم وقام.
“سر ورائي يا شيطان، لانك لا تفكّر تفكير الله، بل تفكير البشر” (متى 16/23)، بقوله هذا، إنتهر يسوع بطرس الذي تبرع، بمنطق “المسيحانية الأرضية” معطوفة على “الواقعية السياسية” (جدول-5)، لثـنيـه عن مواجهة “قمة الشر”. [مسيح الإنجيل، لا ينسحب أمام شهادة صليب الحب وشهيديته به. على عكس انسحاب عيسى القرآن، وإيقاع الشبهة على الصالبين (قرآن 4/156)]. يوضح بولس الرسول: “نحن لنا فكر المسيح.. فما أخذنا روح العالم. بل الروح الذي من الله” (1قور 2/12)، ” لا تتمثلوا هذا الدهر، بل تحوّلوا بتجديد الفكر، لتمتحنوا ما مشيئة الله، ما الصالح والمرضي والكامل (روم 12/2). تؤهل مَصاديق مصطلح: “تفكير الله” و “روح الله” و “فكر المسيح”، المعمّدَ، الى الشهادة للمسيح، أمام الله والناس (رسم -1-)، شهادة واحدة، تتخذ إحدى ثلاثة تجسيمات أنموذجية، تقتضيها ظرفية وضعياتها المجتمعية. هي:
أ – القديس، هي حالة الشهادة الأصيلة، الأصلية والتلقائية، لفعل اتباع يسوع، والتماهي به، وتمَثلِ قيم إنجيله، في يوميات حياة كل مؤمن، من جراء عماده بالماء، الملازم لعماده بالقيم. إنها شهادة حياة. يحياها المعمد، إما شهادة الدمع النسكية، وإما شهادة العرق الرهبانية.
ب – الشهيد، هي حالة الشهادة في حدها الأقصي ، لدى اي “قديس”، أي كل مسيحي، بذل ذاته، تماهياً بالحبيب الإلهي، الشهيد الأول يسوع. إنها العماد بالدم، أي شهادة الدم.
ت – المعترف، هي حالة من اكتوى بنار شهادة الدم، ولم يدفعه الجلاد فيها، الى الموت السريع. بل إستبقاه، بعد التلذذ بتعذيبه، رهن الموت البطيء. كذا هي حالة يوحنا الإنجيلي. إنها شهادة القلب والجسد. يغتذي كل من نماذج شهود المسيح الثلاثة هولاء، بالفضائل اللاهوتية اياها: إيمان وحب ورجاء، ( رسم -1- دفة2)، على أن تبرز أكثر، لدى الشاهد، هذه او تلك من مستتلياتها القيمية الإنجيلية.
2.1- مسيحية الشهادة والشهيد
دخلنت الكنيسة منذ انطلاقة شهادتها، قاعدة إنجيلية عملانية praxeologique، مفادها، أن كل وقفة، أمام كل شخص وفكر أو شيء، وكل موقف، من أيٍ منها، هي وقفة أمام صليب الحب، وموقف من المصلوب عليه: إما أنك مع المصلوب، وإما فأنت من الصالبين. هنا، لا تماكر أو مخادعة، بالتستر بالتقيّة، ولا تكاذب أو مراوغة، برخصة المعاريض الشرعية (متى 10/32). تلك هي مسيحية الشهادة ومسيحية الشهيد. راح الفكر المسيحي، يستنير بإلهام الروح (يو16/13)، ويتأمل بذهول روحي، مفاجآت أعمال الروح (1قور 12-15)، في مصائر القديسين والشهداء والمعترفين، الضعفاء. يطالعها بمرجعية إنجيل يسوع: فالشهيد، هو”الإنسان الروحي”(1 كور2/15).هو”ضحية ذبيحية”، ذبيحة إفخاريستية. هو شريك وليمة الحمل القربانية، في الكنيسة، التي هي “الجسم السري لشهيد الحب الأول، يسوع”. نضجت، بفضل إلهامات الروح، معاني لفظة “شهد” [ومرادفها اليوناني μάρτυρας μαρτύριοوالسرياني سُؤدُا] ومشتقاتها. فصاغت منها الكنيسة، أفاهيم concepts محددة، فريدة، حصرية، خاصة بالمسيحية، لم تألفها أيٌ من قواميس الفلسفة أو السياسة، أو نواميس الدين أو الأداب، في أي من الثقافات خارج المسيحية. لم تتثاقف بها التراثات الثقافية، بل استعارت بعض الفاظها. وحوّرت مضمونه. ومنها الأفاهيم المحورية التالية :
أ – الشهادة. تحول فهم الشهادة من معنى الإخبار القانوني aveu الوظيفي، يؤديه المُشاهد، براً بقسمه، أمام أية محكمة، بإفادته عما رأى وسمع، عن متهم ما. ومن معنى الإعتراف البيبلي الموسوي، يردده اليهودي بتلاوة profession مقولة “شُماع إسرايل” للعهد القديم. الى معنى الرابط العلائقي المسيحي للشهادةtémoignage، حيث الشاهد، هو هو المتهم بمسيح إيمانه، وباعتناق الإيمان بشخصه، وبتمثل حبه، وزف بشراه، والتماهي بهوية المسيح وبانتمائه الى الكنيسته. ولم يزحل المسيحيون الى معنى التلفظ الشرعي للشهادة proclamation الجاري على تلاوة سورة الفاتحة، يؤديها علناً، من يشهر إسلامه.
ب – الشاهد (ة) في المسيحية، هو المسيحي، الأسوة. عاشق المسيح. يحبه في كل إنسان، بمن فيهم جلاديه. يحياه في أنماط عيشه المنوعة. يُأنجل عالمه بخمير قيمه. يُجاهر بحضور المسيح، القائم من الموت، وبمعيته الدائمة. يُطالع للناس، عملَ الروح القدس، المقيم لدى كل إنسان وثقافة. ويؤمن بسُكنى الثالوث في كل قلب مُحب (يو 14/23). يشهد للمسيح، جهاراً، أمام السلطات. ويشهد تلقائياً، في بيئته، تحت كل سماء. الشاهد مرفوض مكروه، بسبب اسم يسوع (متى 10/22). ولأنه يَحب، فهو يعرف أن الله هو المقصود، من خلال كرهه واستهدافه هو (يو 15/25) من قبل مضطهديه. [في فضاء المسيحية، يصبح جمع الشاهد: شهود. اما في سواها، فيبقى جمع الشاهد: شاهدون].
ج – الشهيد (ة) مُتماهٍ بالمسيح. الشهيد/الشهيدة، هو كل معمّد /معمّدة ، إقتدى بالمسيح، وامتلاء من قوة الروح القدس ومن نعمة الآب. يزف بشهادة حياته، بشرى الإنجيل. ويشهد: لإيمانه المسيحي، لأبوة الله، لحبه ليسوع، لإنتمائه الكنسي، ولتعلقه بالفضائل وبتعاليم الكنيسة. يُواجه الشهيد، بأخلاقية الحرية، وبأدوات السلام، وبأفعال المحبة، سيف المُضطهد الإطلاقي أوالتعصبي، الذي يعذبه، ويقتله، بوسائل شتى. تعترف الكنيسة رسمياً، بسلامة إيمان الشهيد، وبصحة بذله حياته حباً بطالبيها. وتحث مؤمنيها، على تكريمه كنسياً (أع 6-8).
تُعرف مسيحية الشهيد، من أركانها الثلاثة الأساسية، المترابطة لزاما: فضيلة قيم الحب بكل ثقافتها، أخلاقية الحرية الكيانية بكل أبعادها، وأدوات السلام الإحترامي بكل أنواعها (رسم-2-). إن الإخلال بأحد أركان مثلث الشهادة هذه، يُخرجُ المسفوك دمه، من مصاف مسيحية الشهادة، الى ما سواها، الغير مسيحية. يكون الإخلال، إما بحَرفِها الى التعربطات (رسم-3-)، فتصحّ بذلك تسمية المقتول:” فقيد الأشياء، أو ضحية المُلك”. إما بالدفاع عن خير عام جامع، فتصحّ هنا تسمية القتيل: “بطل القضية، أومقاوم باسل، إفتدائي”. وإما بنقضها بنقيضها: بكراهية البراء، وتزمتية الولاء، أو عنفية السيف، فتصلح إذ ذاك تسمية المُستقتل: “قتيل تعصّب أو جهادي، قاتلٌ قتله كفاريقاتلهم”. مسيحية الشهيدية تجعل من كل قتيلٍ، مسيحياً. أما شهيدية المسيحي، فقد تبقيه مجرد ضحية مقتلة غاشمة. إن مسيحية الشهيد هي له من هويته وفعلته، لا من صفة الآمر بقتله، أو من هوية دين جلاده ومواصفاته… الشهيد، هو قلب مشرّع للحب. ويد ممدودة للأخوة. ودم مبذول للمصالحات. لقد أصبح، بإتحاده الصوفي بيسوع، تام البولوغية والحرية والكرامة والسيدية. إنه”يبذل ذاته“، ولا يفرّط بها، او يتشاوف على الآخرين. لايخاف، لانه ثابت في المحبة (1 يو 4/16). يتكشف التتلمذ ليسوع، بشهادة “بطولة حياة مسيحية“، تلك هي مواصفاتها. يعيشها المعمّد في يوميات حياته. تفضي به، ليكون: إما شهيد الدم، أو معترفاً، إبان الإضطهادات. وإما قديس الشوق الإلهي، عبر صعاب نمط حياته، ويسمى مجازا بشهيد التزامه مواعيد عماده (رسم -1-). هناك إستمرارية، بين إلتزام بطولة حياة مسيحية في يوميات الحياة، ” شهيد مطبوع بالدمع”، وبين شهادة الدم : “شهيد مصبوغ بالدم”
د – الشهيدية، التشهّد، هو فعل إقدام الشهيد، على التعبير عن شهادة حبه وإيمانه، بحرية. والقبول بمَهْر صدقها وصدقيته، بدمه. وتقبّل مصيره المحتوم، طوعاً، بفرح سلام المسيح. إن وضوح أفهوم الشهيدية[جرأة صدق قبول الموت]، يزيل التباسات أفهوم الإستشهاد[ تعنتر طلب الموت أو الإستفزاز بتطلبه]،الشائع إستعماله. المسيحي يشهد، وقد يتشهّد [ يقبل الموت]، ولا يستشهد [ لا يطلب الموت]. بشهيديته الطوعية، يُقدّم الشهيد “أوراق إعتماده” المسيحي. ويشهد عن صدق التزامه الوجداني الشخصي والوجودي، إثباتاً لحميمية إيمانه بشخص الكلمة، لا بكتاب، ولا إمتثالا لتكليف. إن شهيدية المسيحي والكنيسة، هو الإقتداء التام بالمسيح، والإشتراك في تدبيره الخلاصي، وفي تأوين صورة يسوع الجذّاب، الذي أتمّ بتشهّده وبقيامته، أسس الكنيسة، وانجذاب كل أحد إليها (يو12/32). ففيما “لن ترتوي بابل من دم المسيحيين” (رؤ 6/9)، “سيغلب الشهداء الشرّ، بكلمة شهادتهم، وبدم الحمل” (رؤ 12/11).
الشهيدية للمسيحي، هي ثبات المُسالم على الإيمان بالمسيح، حتى الموت (متى 10/32)، أمانة له، وحبا بالجلادين وجماعتهم(جدول-4-). إنه عربون رسولية حب وحرية وسلام، لا تشاوفاً على المعتقدات والأديان. للمعمّد أن يبقى دوماً تام الجهوزية، ليشهد للمسيح، في كينونته Etreوأفعاله agirوأقواله dire، بلطافة الرحمة. تجعل المحبة صاحبها، ولو دون تشهّد، تلميذاً للمسيح. أما التشهّد دون محبة، فتبقيه مجرد قتيل، ضحية الظرفيات.
تماهت الكنيسة بمسيح إيمانها. وتمثلت رسولية الشهادة له، قائما من الموت (لو 24/47). بذلك، أبدعت شهادة حياة متحدية، في الداخل (يو 13/34) هي شهادة الدمع والعرق، في نضال يومي ضد التبلد والتراخي و”التبرجز”، او ” التأكْـلَـرُس” clairicalisation. وإندفعت لشهادة زف البشرى الى العالم (أع 1/8). فأدركت أن شهادة الدم، هي مآل رسولية الشهادة للمسيح الحقة الى العالم (يو15). لأن، “كل من أراد أن يحيا في المسيح، حياة التقوى، أصابه الإضطهاد”( 2 تيمو 3/13)، لكون مسيحية الحب، رسولية شهادة حياة هي، وثبات في الحب، وإلا بَطل أن يكون حباً. إن هذا الثبات، بالرغم من الصعاب، هوهو “الصليب”، صليب حب يسوع، مُطيّباً حب المعمّد الثابت في المحبة، علامة دنو الله من كل إنسان. نزع يسوع بصليبه، حاكمية الله وقدريّته، عن الإنسان (رسم-5-)، إستنهض الناس، ومسألهم لتصوَيب مسرى التاريخ، صوب لانهايات حب الآب. الصليب هو “شهادة الحب“، رمز الرحمة والمجانية والمسامحة والحياة، لا رمز العذاب والإقتصاص (قرآن 5/17) والشر والموت. إنه عثرة لليهودية، وجهالة للأمم، وتصَعلك للإسلام، وبلاهة للحداثة، وهي أنظمة منظومات، سوّغ لها كرهُها للصليب او إستخفافها له، إضطهادَ المسيحيين”حامليه”، مدى الأزمان. لكنه حكمة الله، في معطوبية نعمة الحب، إزاء ممارسة الإنسان حريته (متى 11/26). المعطوبية، هي وحدة قياس قيمة كل قيمة. فإن إستحَلّت القيمةُ الزندَ الزمني، سقط جوهر قيمتها وتحللت.
من منطلق إيمانها بالكلمة، تحمل الكنيسة في التزامها الشهادة، فضاءات أبعاد أربعة، متلازمة ومتدرجة في سلم الأنسنة، بلوغاً الى الألهنة، بدءً من العمل الصامت وصولاً الى الكشف الصوفي. تقصّدتها، وشهدت بها لحبيبها الإلهي، عبر المكان والزمان. تمتاز المسيحية، في أبعاد شهاداتها الثلاثة الأولى، عن سائر عصبيات مجتمعات العالم، بكونها عميمة عالمية مفتوحة، لا عشائرية ولا عرقية مغلقة. إنها إنسانية َمحبة غيرية(لو 10/29)، لا أصلابية ولا رفق بالبشر philanthropie، فرادة أهميتها الإجتماع ثقافية، هي أنها مشدودة كلها الى البُعد الرابع اللاهوتي، الذي يشكل منبتها ودافعها وسياقها ومحتكمها وغايتها. تتكشف أبعاد الشهادة كما بالتفتح desenveloppement لفتح العيون الناظرة اليها، ولفت الأذهان الشاخصة لها. وسوف تلتزم الكنيسة بها، لأجيال لاحقة، حتى يَصُبّ الأمدُ في الأبد، كما يبينه الجدول-4-:
أبعاد التزام الكنيسة بالشهادة
أ – بُعد حياتي معيشي، قوامه تعاطف بشري عام، يضم أعمال تراحم وأخلقة الجماعة، في الهَهُنا. إنه بُعد لا يستثني أحداً من الناس، ولا يُعفى من أدائه أي معمّد ( مساعدة المساكين، عناية، رعاية، خدمة، مساعدة…)
ب – بُعد إجتماعي إنساني، قوامه تحضّر إجتماعي عميم، في خدمة التعليم، يشتمل على أفعال تحضّر actes civilisateurs وأنسنة المجتمع ومؤسساته: (عدالة بين الجميع، صفح ومصالحة، مؤآخاة، تواصل ومسالمة، تعاطف وتضامن..).
ج – بُعد ثقافي قيمي، قوامه أنسنة تثاقف حضاري عالمي، في خدمة “تحقيق الذات معاً” على كل مستوى، يستلهم آفاق أنسنة الفرد وشخصنته، المعبّر عنها بفرادة الإنسان الذات sujet، بلغة اليوم ( لقاء تثاقف، حوار حرية الضمير، حق المغايرة، المساواة… بكل مستتلياتها الإجتماعية، كالوحدة في التعددية، العاموقراطية…).
د – بُعد إيماني روحي، قوامه الترقي الى الالْهَنة، الناشب صوب فضاءات مسحنة الشخص وألهنته، بنعمة الحب ( أبوة الله، بنوة الكلمة، شركة الروح، الثالوث الحب، في الإنسان صورة الله وكرامته المطلقة).
إتخذت سلطات الإمبراطورية الرومانية وجماهيرها، تجاه كل بُعد من شهادة الكنيسة، مواقف سلبية، تبلغ حد الكراهية، تدرجت وفق إملآآت شعورها بأخطار تهدد بنية “شهوات أركونها” (رسم -3-). أثبتت الأحداث المتعاقبة، أن مسرى التدرج إياه، سوف تكرره الدول وناسها، على إمتداد تاريخ الكنيسة، مهما كانت عليه أنظمة تلك الدول وإيديولوجياتها. يلخص الجدول -4- مشتركات مناهضة شهادة الكنيسة، من قبل الحاكميات التي برزت، فتعاقبت على مرسح التاريخ :
تكشّف مناهضة السلطات شهادةَ الكنيسة.
أ – حالة رضىً وإرتياح، تبديها السلطات، مصحوبة بالمفاجأة والإستحسان، في بُعد شهادة الكنيسة الأول (راجع اعلاه 1-2.1)، لكونه يزيل من أمامها، مواطىء تململ بؤر البؤس والفقر والحرمان، لدى رعاياها: وهي بيئآت تعرف التسلطنات، أنها مولدة النقمة المتوقعة عليها، آجلا أم عاجلاً، خاصة وإن الكنيسة، وفق أنمذجية يسوع، راحت تؤآسي المساكين. ولم تستغل يوما، حالة بؤسهم، لتحريضهم على السلطات، كما فعل، وسوف يستسهل فعله، الناقمون السياسيون، طبق فكرهم الثوري الإنقلابي العنفي…
ب – حركة إرتياب وتخوف، تبديها السلطات الحاكمة، في البُعد الثاني، يرافقها الإنقباض، والتوجس، والحذر، وإتخاذ الحيطة، لمراقبة سلوكات الكنيسة ومؤمنيها، لظن الولاة بأن، كل فعل تحَضّر، وكل محاولة انسنة، يحمل بذار تذهين الناس، بمبادىء وقواعد تعامل، “تُحررهم”. فتقضّ مضاجع هولاء الولاة، لسبب إحتمال تمرد الناس على حالة إنصياعٍ قطعانية وتبعية، ارتاحوا اليها… فما من سلطة “ملوكية حاكمية”، إلا وبها خشية بنيوية، ضد كل “ملمحٍ نبوي”، يلوّح به أحدهم، بين رعاياها…
ج – فعل أبلسة و”تكفير”. يتفجر غضب السلطات عنفاً، إبان البعد الثالث حامل دعوة أنسنة الفرد وشخصنته، ويسيل غيظها سخطاً، يستنصر بالسيف، وبمرادفاته التعذيبية، بمبرر أبلسة الكنيسة. وإتهام مؤمنيها بالمروق. وتخوينهم، أو “تكفيرهم”، كما إتبع أصولَه، الحكم الإسلامي، بمقتضى الشريعة، بداً من الجيل السابع… لكون الكنيسة، ترفع في هذا البُعد، قيمة “حرية الضمير”، التي هي جوهر حرية المعتقد. وراحت تدعو، بقدر ما أتم لها الروح القدس، فهم الإيمان بالثالوث، وبقدر ما انضجت هي، ربط مصاف إيمانها بعالم واقعها المجتمعي. سارعت الى الربط ما بين الإيمان والحياة [حالة حيوية وامتداد روحية]. دعت الى التمييز الضروري بين الدولة والدين [حالة بنى مؤسساتية حقوقية، ما لقيصر وما لله]، أقله بالتفريق بين الحق المدني، والحق القانوني droit canon، أدرك مؤمنوها، منذ عهد قسطنطين [ الذي اعتمد على يد أوليريك الأسقف الآريوسي]، بالغ أهمية تحقيق مقولة: الوحدة في التعددية، إنفاذاً لمبدأ ” تحقيق الذات معاً”، في يوميات عالمهم المعاش: أي المجتمع [العيلة، الدين، المدرسة، المسكونية]، والدولة [ المؤسسات الحكومية، الأنظمة، التشريع، التشاركية]، كإنعكاس صورة مثالها المحققة في الثالوث: وحدة الطبيعة الإلهية، في تعددية ثلاثة أشخاص. تتفرد المسيحية بأنها تؤمن بوحدانية الله Unitheisme أي credo in unum deum، لا بأحدانية الله monotheisme أي الكيان الإلهي الأحد، كما في الإسلام. شكلت مقولة الوحدانية، ” الوحدة في التعددية”، القاعدة الأساسية للديموقراطية ولمستتلياتها اليوم…
د – هوس تعقب واضطهاد. تندفع السلطات مذعورة، في البُعد الرابع العقيدي الإيماني، الى إضهاد الكنيسة وقتل بنيها. “سيضطهدونكم، من أجل اسمي، لأنهم لا يعرفون أبي ولا عرفوني”(يو 15-16)، سبق ليسوع أن أنبأ تلاميذه. “ابانا الذي في السماوات” هو فعل إيمان الكنيسة، وقد صاغ يسوع مضمونه، فعل صلاة. لأن الله أبٌ هو، فالناس هم إذن، كلهم أخوة. إذ إنه، ما من أخوّة حقة بين الناس، إن لم يكن الله أب. بنوتهم لله الأب في ابنه يسوع، تضيء كمال دعوتهم، الى التحاب والتآخي والتشارك والتضامن، والتسامح فالتصافح والتصالح، والتسالم… من أجل “تحقيق الذات معا”، والإرتقاء سوية صوب “الكامل” (متى 5/48).
أترى كان اليهودي، ليقر بطيبة خاطر، مثلاً، بالمساواة وبالآخوة مع الغريب؟. اترى الفريسي كان، وهو الطاهر، ليصافح، بطيبة خاطر، العشارين والخطأة والمعوقين النجسين؟ أو أقلة يؤآكلهم أو يؤآكل الغُلّف؟. ومثله الروماني والباتريسياني، قبالة، الآخرين، البرابرة الوثن، وسائر الشعوب والأمم المغلوبة عسكرياً؟. هل كان أكاسرة الفرس المجوس، ليعترفوا بمساواة وبكرامة الأنجاس الغرباء عنهم؟. ومثل هولاء، أنظمة الكليانية الإيديولوجية، والطهورية، والعرقية، والماركسية البروليتارية، والرأسمالية، هل كانت لتقبل بمجرد التعامل المتكافيء العادل حقوقياً وأخلاقياً، مع المغايرين أو المناوئين، أو المختلفين عرقياً وطبقياً، حتى داخل المجتمع الواحد؟. ومثل هولاء واولئك، هل يبيح إله الشرع الإسلامي، الأخوة، والمساواة، والولاء، وعصمة الدم، وسائر الحقوق، والترحّم… بين المؤمن المسلم والكافر؟ بين أهل الأمة، وأهل الذمة وسائر الشعوب؟ بين الأديان؟ مع المرتد؟ هل من مساواة، في الإسلام، بين المرأة والرجل حتى ضمن الأمة الإسلامية؟…
قانون إجتماعي إتجاهي –loi nomothetique
يمكن القول بقانون إجتماعي للشهادة، مفاده: أنه، بقدر استلهام أفعالُ الشهادة المسيحية، منطقَ مضامين الإيمان، وبقدر تقدّم الترقي بها الى الفهم الروحي، الذي يكللها بالمعرفة اللاهوتية، بمقدار ذلك، تتصاعد حدة تعرّض سلطات العالم لها، حتى إستحلالها الإضطهاد، أداة ترويض الكنيسة، وإخضاع بنيها، او إبادتهم.
2.2- بنية دوافع الإضطهاد وأنظمته
” لوكنتم من العالم ، لأحب العالم من كان منه. ولكن أبغضكم العالم، لأنكم لستم منه.أنتم في العالم، ولستم من العالم ” (يو15/18)، سبق يسوع فأنبأ تلاميذه، وعلّل لهم سببياً، تلك الكراهية، بقوله: “لأنهم لا يعرفون أبي ولا عرفوني” (يو16/3)، وسوّغها أمامهم غائياً، بقوله “يظن من يقتلكم، أنه يقرّب لإلهه قرباناً”. يصح إنباء يسوع، وتعليله، وتسويغه، هذا الحاسم، دينياً ومدنياً، في كل زمان. هذا الإله الآمر تباعه بالقتل، هو أي إله، إصطنعه الأنسان على صورة قزميته وشهوانياته هو (رسم-3-)، ولم يلبث أن مَعبده. ومَطلقه. وراح يعتبد له. ويضحي بالآخرين، بغية إرضاء معبوده. إنه القتال في سبيل الله، وباسمه، ومن أجله، ليبقى إلهاً جباراً، ويبقى “مجنون الله” عبداً، طيعأً، قاتلاً، مخدر الضمير، …
لقد اضطهدت المدينةُ الرومانية قديما، المسيحَ ومؤمنيه. ومثلها فعلت المدينة الإسلامية، منذ القرن السابع. والمدينة الشيوعية والرأسمالية، حديثاً. وما بين هذه وتلك المدن، طيّيعت مدينة “مسيحيّة” القرونوسطية، المسيحيين. فسلخت منهم “مِلحـيّـتهم” (متى 5/12)، بعدما عقّمت خمير إنجيلهم. بل، وأدوتته “حليف” أطماعها، وضيق صدرها، وخفة فهمها… ولكن “نور البشرى الحسنة”، عصى نار الإضطهادات الدموية. وإستعصى على محاولة أدوتته instrumentaliser، ولا زال شعاعه يخترق أسس كل مدينة أرضية. ويهز مداميك كل مدنية بشرية، قائمة على شهوات أركون العالم. يساءلها لينقيها. يستبطنها القيم. ويسمو بها الى فوق. يمكن تبويب مجمل تشعبات عناصر أركون العالم، في ثلاث شهوات محورية: هي شهوة السلطة، الحواس والإكتناه. هي محاور تجاريب، عرضت ليسوع، في بدء رسوليته، [ القدرة pouvoir المُلك avoir والتماجد valoir] لإغرائه بها. ولإيقاعه في شرك منطقها البشري (متى4/1). وهي ميول، تلقى في خبرة يوحنا، أولى التصنيفات لها. “إن كان أحدٌ يحب العالم، فليس فيه حب الأب. لأن كل ما في العالم من شهوة الجسد، وشهوة العين، وفخفخة العيش، لا يكون من الأب، بل من العالم يكون” (1يو2/16).
1 – شهوة السلطة. تفضي شهوة السلطة لدى الطامعين بالغلبة، الى العنف، وملحقات عدائيتها وعدوانياتها، بما يرافقها من كراهيات، وويلات حروب ومآسي بشرية وعمرانية. بالعنف تقوم الأمم – الدولة. وبعصبيته تنمو. وعليه تتمدد إمبراطوريتها او تُزال. أكان العنف، آلات حرب و/ أو وسائل تلاعب manipulation متنوعة الميادين والأساليب. لثقافة السلطة، في صراع الأمم، طابع قدسي، يتحكم بالمؤسسات السياسية والشريعة. ويفرض قدسنتها sacraliser، وإدغام مصلحة الدولة والقويمية الدينية، إستنصار متبادل بين الدين وسيف الدولة، شرعنة السياسة بالدين… يحتم هذا الإدغام شيوع الخبث البنيوي، على إعتبار أن أي إمتثال أو تمرد، على قوانين الدولة، هو إطاعة أو مروق على شريعة دين الدولة…
2 – شهوة الحواس. إنها حالة الجسد، المتفلت على سجيته، وقد فكّ dissocierعنه الروحي. وفصم الشبق eros [الحب الجنوسي، ألمُسمى:”دوديم” لدى الفينيقيين]، عن الحب agape ، وفصل عمل الجسد عن فعل القلب. في هكذا فصل وإنفصال، تكمن الخطيئة، قبل أن تكمن في انتهاك فواصل الشريعة… لقد أفلتت لدى الفرد والجماعة، ثقافة الشهوانية الملتهمة، التي بها تزيّنت الدنيا، وبها تزيّنت جنة الآخرة، بطيبات مطبخية وجنوسية، تتهالك عليها شهوانية الإنسان الأكولة، فتدفع به، الى الهلاك والإهلاك…
3 – شهوةالإكتناه. إنها مسألة الفكر الساعي الى فك رموز مغمضات المعرفة، وأسرار الطبيعة، لتجويد تواهب شروط الحياة. ولكنه ينحرف سريعا، الى التخالب والإقتتال. وينجرف الى شهوة تسالب البقاء: يُسَخّر مكتشفاته العلمية، في آلة الحرب والدمار الشامل، تلك التي تفترس العافية المجتمعية. وتلتهم السلام. حيث تنفق السلطات، على التسّلح، عشرات أضعاف إنفاقها، على التصالح. والى الهدف إياه، توصل مكتشفات المختبرات العلمية، الموظفة في التلاعب الإعلامي السياسي، وفي الدعاية الإقتتصادية الكاذبة، وفي نهب ثروات المجتمعات المغلوبة على أمرها، قديما وحديثاً، تلك التي تنوء دون حصولها على أمنها الغذائي والصحي والتعلمي…
تتفاعل حلقات شهوات بنية أركون العالم، لتستولد بتقاطعها، أمهات الفواجع الإجتماعية، المتمثلة بالتلاعب والخداع والجشع. تتشرنق هذه الثلاثة كلها، حول مشترك مركزي، ينفث شره فيها، هو الإنقباض على “تأليه الأنا” وعبادة الذات، ألملتحفة بالمال، حتى الإختناق. فكلما استشعر “انا ” السلطة الحاكمة، ما ومن يهدد مَعْبَدته، إستوسط الإضطهاد المباشر او المداور، للقضاء عليه، حتى ولو لم تنازعه الدعوة المسيحية، سلطة “أناه” وماله. بل إستمرت تعرض أمام الملأ، مادة الحرية والكرامة والتحرر بالحب. إن في مَعْبَدة السلطان، وفي قدسنة نظام حكمه، بذار شرعنة العنف، وتطبيع اضطهاد المغايرين، وأهمهم الكنيسة، من حيث هي: “جماعة مغايرة”. والحال، إن الإضطهادات المتعاقبة و/أو المتزامنة ضد المسيحيين، قد تلاقت، منذ الجيل الأول، حول ضرب منظورية الكنيسة visibilité في الساحة العامة، بغية حرمانها، “حق الحضور”، مقدمة لحرمانها، “حق الوجود”، لأسباب متنوعة. يبقى الإضطهاد إياه، مهما تعددت أسبابه ومبرراتها، وأهمها: خفاشية السلطة. إدغام دين دولة. الإطلاقية. الكليانية. التعصبية الأصولية. الكراهية التكفيرية. التعربط بالتأحيد المجتمعي. رهاب الغريب. الفشل في التحديث. طغيان التكليفات. يقين بتفوّق الماعنديات. الديانة المطلقة. حكم الشريعة المقدسنة. رفض مقولات الكرامة، والمساواة، والمواطنة، والتشاركية، والديموقراطية. خشية حرية الضمير، والروح النقدية، والمنظورية التعددية. يأس من القدرة على الإقناع، بديلا عن الإخضاع…
قانون إجتماعي إتجاهي . يمكن النفاذ الى قانون إجتماعي للإضهاد، مفاده أنه :
أ – بقدر ما تغور السلطات الحاكمة، في شهوة القدرة والحواس والمعرفة. وبقدر ما تشيع ثقافة الفردانية في مختلف أجهزة أنظمتها، وتطبعها في أذهان جماهيرها. بقدر ذلك، تستحلّ السلطاتُ الاضطهادات المتعددة المخالب، أداة إقتصاص من الكنيسة ومؤمنيها، لكونهم، بالكلمة لا بالسيف، شهود قيمة الشخص البشري، وغيريته، وحقوقه المادية والروحية…
ب – بقدر ما ينتحل النظام السياسي، دور الدين وهدفه. ويروّج لنفسه أنه سياسة التقدم، والغد المشرق، وسياسة الخلاص والسعادة. وبقدر ما يتلاعب بناسه. ويزجهم في حمل أعباء مشروع التقدم، هذا المزعوم، الباهظ التكلفة. بقدر ذلك، تناصب السياسة الكراهية للكنيسة. وتستعدي بشراها، في حال تسويقها لمشروعها. وتناصبها العدائية في حال تعثره. وفي الحالتين، تروح تتهم الكنيسة، كما “كبش محرقة “، سبقت أن أعدت له ملفات إتهامه بتذهين ناسها، وتعريفهم بخداع شهوات أركون العالم، لتحريرهم من سطوته (رسم -3-)…
ج – بقدر ما يتصدّع البنيان الإجتماعي، أو يصيبه الهزال، في أي مكان وزمان وثقافة. وبقدر ما يصاب الناس بالإحباط، من جراء مآزم أركون العالم، المادية أو الفكرية أو المجتمعية. وبمقدار ما يثبت المسيحيين على الشهادة بحب. بمقدار ذلك، يتبرع هذا وذاك، من”بعاليم” الساسة، ليكون الجلاد المنقذ. يتهم المسيحين المسالمين، بالتمرد[عصرالرومان]، بالزندقة [القرونوسطى]، بالكفر[ عصر الإسلام] او بالغنى وإفقار الناس [كل عصر]. يصورهم كائنات إيديولوجية، تمهيداً لإضطهادهم، وتصفيتهم، وإنقاذ جماهير تباعه منهم…
- بنية خميرية مسيحية التحرر وقيمها
ليس إضطهاد المسيحيين، عبر التاريخ، من قبل الحكام والأنظمة المتعاقبة وتباعهم، إستثناً، ولا عرضاً،(رسم-3-)، أكان الاضطهاد إنتظامياً مقوننا ومُمرحلاً لدى الرومان، أو كان مزاجياً إنفعالياً فجائياً، كما في الأمم، او أضحى جهادياً إفتائياً ومُشرعناً في نصوص الإسلام. إنه مرافق لفعل الشهادة للمسيح، ولزف “ثورة” بشراه الحسنة الإيمانية: أن الله أب. بمقتضى منطق هذه البشرى، إستلهمت الكنيسة تطويبات يسوع، والتزمتها شرعة تطبيقية لرسولية شهادتها: “طوبى لمساكين الروح، فإن لهم ملكوت السماوات. طوبى للرحماء، فالأرض يرثون. طوبى لبناة السلام، فأبناء الله يُدعون” (متى 5/3). وبها، واجهت سيف كلٍ من جلاديها المتوالين عليها، مدى التاريخ. قاومت، بمقاومة أدبية لا-عنفية، مصحوبة بعيش رسالية الفرح، ورسالة الثقة بالآخر، قبل الوثوق منه. تحبهم، لذواتهم، حتى على بغضهم لها…
في خضم هذه المواجهة مع الإضطهاد، الملازم بنيوياً، لكل نظام سلطة بشرية، تنهي الكنيسة بنيها، عن طلب الإستشهاد. ولكنها تتقبل التشهّد. وتكرم الشهيد. فلا تحسب شهدياً من تحدى الجلادين، او حقر معتقدهم، فكفّرهم، وإستنجس بهم (قرآن 9/28، 47/34). أو تعالى عليهم، أو حطّم رموزهم، فثاروا عليه وقتلوه [مجمع إلفير]. الجلادون الصالبون، هم أخوة، مهما بلغت كراهيتهم وعداوتهم للمسيحية. يتعين على المسيحي مواجهة مضطهديه، وحبهم، لا التنعجن ولا التذلل أمام ذئبنتهم وإستئسادهم عليه. إنه أولاً، “حبة خردل” كل مجتمع وثقافة وعصر. لها أن تقع في الأرض، لتنمو وتصير شجرة، تعشش فيها طيور السماء (متى 13/31). إنه ثانياً، “صياد ناس”، عليه إلقاء شبكة الشهادة في اليم، ولإلهامات الروح، أن تُدخِل السمك اليها (متى 13/47). إنه ثالثاً، الزارع البارع، وقوة الروح تنمي زرعه (متى 13/3)، لا قيامه ونومه. على أن المسيحي، وكم بالأحرى الشهيد، هو من يعمل مع الله، وليس من يعمل بحسب شرع الله وإرادته. شكلت هذه الأمثال الإنجيلية الثلاثة، معالم خبرات الكنائس المحلية، أفراداً وجماعات. إستنارت بها، لتصويب عيش شهاداتها المسيحية بين الأمم والشعوب. فكان دم الشهداء، عربون انتشار البشرى المسيحية، وعلامة حيوية خميرية تلك البشرى.
مسيحية الشهيد، هي أنه شخص حر. التزم شهادة الفرح. لا إنسان إنتحاري، ولا إنغماسي، ولا إستشهادي. لا يصح تصويره، ضحية مقتلة غاشمة بدائية أصابته، ولا تصويره محصلة تزمت بأخلاقيات جامدة كبلته، ولا تقيده بمثاليات طوبائية انقاد لها… قد تكون هذه الثلاث، تعابيرباتولوجيا المبالغة، في مطلقة النسبيات، وفي ممثلة idéalisation شهادة الدم لها، وتعظيمها لدى الجماهير الدينية، وفق منطق ديانة الجماهير…أما الشهيد المسيحي، فهو إنسان تام الحرية والكرامة والسيادة. تماهى بالحبيب الإلهي، الكلمة المتأنسن. وتمثل جوهر رغبات إنسان الحرية بالمسيح (رسم -4-).
تقوم رغبات الحرية بالمسيح، على مثلث قاعدي، هو نقيض مثلث شهوات العالم (رسم-3-)، بقدر ما هو إكسير علاجها، في أجزخانة الحياة: هي رغبة الخدمة، والحب، والفهم. لا يرفض المسيحي الحاجة والشهوة. ولا يدينها لقِصرها وقصورها وإقتصارها على محدوديات الجسد. بل يبوطنها، ويتجاوزها، مع مسيح إيمانه الى فضاء الرغبة desire ، المشرّعة على المطلقات، إنطلاقاً من شوق القلب واشتياقاته اللامحدودة، لا توقاً الى شيء ما. بل رغبة بلقاء شخصٍ ما، هو: “الشخص الكامل”، الله (متى 5/48).
1 – رغبة الخدمة. هو فعل الإرادة، في إندفاعتها صوب الآخر. لا لتستصغر الأنا ذاتها، أو تستعدمها، لتمسي أمَة تابعة خادمة. بل إنها تُبطل بإندفاعتها هذه، تشرنقها حول الأنا، لتكون “الأنا” الحرة، في خدمة الآخر الحر. سيدٌ في خدمة سيدٍ. فيتخادما، ويتواهبا، ويتراحما، ويتحابا، بمتبادلية تامة reciprocité، علامة غيرية ناضجة، مثالها حياة الثالوث، يرتقيا بها الى الأنسنة، ويشعّاها فعل تضامن أخوي إحترامي مجتمعي…
2 –رغبة الحب. هي حالة الجسد، وقد تحولت النظرة اليه، من نجاسة العورة، الى قداسة الذات والسيرة. من مادية خلايا البدن، الى شفافية جسدانية الشخص corporalité، وما يلازمها: من أمانة، وصدقية، وتضحية، وبذل ذات، وسخا مجاني… مع تحوّل النظرة هذه، الى الحب والجسد، يتحوّل التعامل معه. فيصبح إفخارستيا اللقاء المابين شخصي، مادة قداسة ونزاهة سيرة، ومنظورية للحب المشخصن: ” من رآني رأى الأب”، قال يسوع. ومثله قال قائد المئة، عند مرأى موت يسوع على الصليب (لو 23/47). ومثله قال ذوو الإرادات الطيبة، عند مشاهدتهم مسيحية عيش المعمدين وشهيديتهم على يد الجلادين… بالمقابل، لو قورن نمط عيش بعض المسيحيين، بالأمس واليوم، مع مسيحية العيش، المأمول، من المعمد، الإلتزام بها. لبدت مآسي النفاق ضجاجة، وهوة الفجوة عميقة، بين دعوة الإنجيل، والمدعين الإستجابة لها (متى 25)…
3 – رغبة الفهم. إنها قضية الفكرومفارقاته، في تلمّس فهم سر الحضور الإلهي، عبر تعليبه في قوالب عقلية محدودة، طبق مقاييس بشرية. وفي إدراكه، وفق منطق قلبٍ، مشرّعة نياطه للفرح، يتوهج بشعلة الإيمان. أنه المأزق، بين “تفكير البشر، وتفكير الله”. “إن ما يعتبره العالم حكمة، هو حماقة في نظر الله”، يقول بولس بقسوة صارمة(1قو 3/19). حكمة الله الأب، هي الصليب، ذاك الوحي التاريخي، المُعلق أبداً، على جلجلة العالم، والمستمر في “جسد المسيح السري”، الكنيسة. إنه سر معطوبية الحب، “المفلوش” أمام سرّ حرية الإنسان، وسر هيكل ضميره.
تتفجرُ رغبات إنسان الحرية بالمسيح، من فوهة نبع الحرية. وتتخاصب، لتزهر في العلن: التراحمَ والتواهبَ والترافق السخي. فتتدفق من التخاصب هذا، لمساتُ حنان، وعطاء مجاني، وشهادة للحق. لتشكل، مجتمعة ومنفردة، رافعة الأنسنة، لدى الفرد والجماعة. ألعل سيف الإضطهادات، وسيف الإغراآت، يقضي على القضية المسيحية؟. لا. طالما تحملُ المسيحية قضية الإنسان الحر السيد، وتشهدُ لها حتى الشهيدية. ولا تحمل قضية عباداتٍ وتقوياتٍ وذبائحياتٍ مقدسنة، تروّج لها، حتى السيمونية، من جهة. ومن جهة ثانية، طالما هناك مسيحيون، يشهدون للمسيح بصدقية، لمسيحية “فكرٍ مغاير”، لتفكير العالم، شهادة حياة حتى شهادة الدم. من المؤكد، أنه، لأن الله أبٌ حبٌ هو، فالمسيحية، هي فرح إيمان مُعاش، لا فلسفة أخلاق حمقاء، مستحيلة التحقيق،
قانون إجتماعي إتجاهي.
أ – بقدر ما تتماهى الكنيسة ومُعمّدوها، بالمسيح المُحرر. وتتمثل روح الخدمة، في محيطها المجتمعي. وبقدر ما تشهد للحب، بإندفاعتها النبوية، في خدمة التدبير. وبقدر ما تكون في الصف الأمامي، لكل نضال، سباقة لفعل الخير والحق والجمال. بقدر ذلك، تُعرّض ذاتها لسهام نقمة السلطات، وتتعرّض للمداهمة الإعلامية، والتعقب الإقتصادي، والإضطهاد الحقوقي الأمني، مهما كان النظام السياسي، ومهما كان عصره…
ب – بقدر ما تُعلي الكنيسةُ، بتعليمها وعملها الإجتماعيين، حقوقَ الإنسان، وأولها تلك المعيشية. وبقدر ما تدعو السلطاتَ المدنية الى الإعتراف بتلك الحقوق، والى إنفاذ التقديمات الإجتماعية، و”خدمة موائد” باشرتها هي، ريثما تقوم الدولة بمهامها. بمقدار ذلك، تستاء السلطاتُ، من إيقاظها عن غيبوبتها، ومن انشغالها بشهواتها، ومن تذكيرها بواجباتها الدستورية. فلا تتوانى السلطات، إذ ذاك، عن تشويه صورة الكنيسة إعلامياً، وضرب منظوريتها حقوقياً، بل ومنهجة اضطهادها عملياً…
ج – بقدر ما تشهد الكنيسة للحب بحب. وبقدر ما تُحسن مطالعة الأحداث والمعلومات المدنية، بشبكة قراءة مسيحية، محورها المسيح الجذاب (لو24/13)، وبقدر ما يصحب إنتشارَ شهادتها ومطالعتها، وعيٌ يسري في المجتمع، يتطلب مزيدأ من مساحة للحريات العامة و… بقدر ذلك، تستشيط سلطات قيصر، كرهاً واضطهادا للكنيسة وبنيها وفكرها، بعنف أمني أو شريعي أو تلاعبي إفنائي، أو إخضاعي، أو تدجيني…
- من غلَبةِ القوة ونفوذها، الى قيامةِ الحب وفوزِه
من القراطوفانيا Κράτοφάνεια الى الأغابيفانيا ἀγάπηφάνεια
إن فهم مسببات الإضطهاد الموضوعية، وتحركات المسيحيين، ضحاياه، أو مثيروه عليهم، هو أمر مُهم، بقدر تنوعه في الحيثيات الزمكانية. ولكن الأهم منه، هو كشف مبرر عمليات الإضطهاد، ومسوغات مخططاته. ” ستاتي ساعة، يظن فيها من يقتلكم، أنه يقدّم لإلهه قربانا” (يو 16/2، أع 26/9)، يقول يسوع. وهو قول، لا زالت إضطهادات المسيحيين، كل يوم، تثبت صحته، ما دام ذاك الإله “المعبود الدموي”، الآمر بالقتل، هو أية فكرة، [نظرية مادية، عصبية دينية، منظومة إيديولوجية]، مَطلقها الجلادُ، وقدسَنها، وإستحلل القتل باسمها. يسعى الجلادُ بغلبة القوة، ليحمي سلطته وجماهير ناسه، بإسقاط مأزم تحلل سلطانه، كما وبإسقاط كوابيس مآزم مجتمعه ومسبباتها [فشل سياسي، تدهور إقتصادي، تحنيط ثقافي، لا- إستقرار داخلي، خطر مداهم…]، على ضحية ما، أو أقلية ما عددية، هي براء، فرد او جماعة. يتهمه بتعكير صفاء وهناء ونقاء جماعة مَملكته. ويقضي عليه، ظناً منه، أنه بذلك القتل، يُحقق تامين أمنة سلطنته، المضطربة أصلا، والمتعثرة تنظيمياً، لكونها ملجومة التطور، بنسبة تكبيلها بالسَلفيات والمصنمات الشرعية والعقيدية. إنه “يضحي” بقتل بريء، بدافع الإنتقام لفشله أمام تحديات مآزمه، وفق مقولة قيافا كل زمان: “يجب أن يموت واحد عن الشعب ولا يموت الشعب كله”، لئلا تزول السلطنة، ويتصحّر سلطانها. وهكذا، على حد نظرية رنيه جيرار، يُشكّل الشهيد، صورة ذبيحية، واضحة. يُفرغ الجلادُ عليه فيها، منبتَ عنفٍ يُهدد بدمار جماعته. فيروح يُرحَل العنفَ المُدمّر هذا، على “كبش محرقة” ما، هو الشهيد، كضحية ذبيحية. يحمَله وزر ما يشكو منه. المسيحي هو المُعمد باسم يسوع، المُعد “للذبح”. هو “ضحية ذبيحية” جاهزة، يستهدفه الجلادون، على الدوام. ولكنه “ضحية فصحية” لنفسه، للكنيسة ولجلاده وللعالم، بفعل العبور الى الأسمى. بالمقابل، إن مسيحية الشهيد، بتماهيه بالمسيح، هي شهادة للحب، تأجيبية فاعلة، لا موتٌ، بحالة مفعولية passivité، يُسفك دمُه، لإنقاذ سلطة ما، من مأآذقها. يظن الجلادُ، بأنه نجح، طبق منطق القوة، بتحقيق “النصر الإلهي”، وفرضَ حقيته السياسية الدينية، بمجرّد تعذيبه الشهيد المسيحي، وقتله، وإزاله من الوجود. أما الشهيد، فبإمتشاقة هول تعذيباته بفرح مُضني، فإنه يشهد، طبق منطق الحب، أمام جلاده وجماعته، لحقيقة إيمانه بيسوع، ولطبيعة حبه الغافر لصالبيه. شهيديته بالحب، هي فعل فصحي، لا مشهدية الَميتة doloriste. تكمن جذور قضية المأساة، في مسألة النقض والتناقض الدهري، بين إله الغيب، وإله الحضور، كمرجعية قصوى في فضاء الديانة. وبين زند الأبوية paternalisme ، وقلب الأبوّة paternité، كنمطِ تعامل في مساحة ممارسة السلطة المجتمعية. وبين عنف القوة، ولطف الحب، في ميدان المعاملة البشرية. ولكن، لما هذا التصادم الفهمي، بين خفّاشيي الخشونة، وبين ومُعتنقي اللين؟؟
ألهَبت ظواهرُ قوى الطبيعة، ومظاهرُ القوة المجتمعية، مُخيلة الإنسان، منذ البدء، ما قبل التاريخ. إعتبر الظواهرَ، دنحَ المقدس hierophanie. فأخافته طلاسمُها. راى في دنحها، سطوع القوة الرهيبة cratophanie، القادرة على سحقه، إن أثارها. أو على حمايته، إن إسترضاها. تعبد لها: عبادة الأجرام الفضائية [شمس، قمر، كواكب]، وعبادة قوى طبيعية [بركان، نهر، زلزال]، أو حيوانية [ثور، أسد، فيل، نسر]، وعبادة الأجسام الصلدة الغريبة [صخرة، جبل، حجر أسود، نيزك]. على انه تعبّد عبرها، بتقوى كبيرة، لصورة كيان ما، هائلٍ، له طاقة جبارة مَهولة، سبق أن إرتسمها في ذهنه الديني، على شاكلة الكائن المعبود، اللا- شخصي. ونعته بكل أفعال التفضيل والمبالغة: “الله” الأكبر، الأعظم، الأعلى، الأفهم، الأقوى، الأعلم، الأمكر… إنه الأقدر plus puissant[اي أقدر من الإنسان] وليس كلي القدرة Tout puissant[ اي المغايرة قدرته عن عالم الإنسان]. كأن، هناك فارق في الدرجة، لا في الطبيعة، بين الله والإنسان… وهكذا، صنع الأنسانُ إلهه/آلهته الجبارة، على صورة قزمية خسعيته تجاهها، على حد مقولة نيتشه. إستعار من مواد مظاهر يوميات ثقافته، ما رسم به صورة ظواهر معتقده. فبرر هذه بتلك. برر مثلا، تسلط الوالد والزعيم والملك وأنظمة تسلطه وشريعتها، بسطوة جبروت معبوده /معبوداته السمائية. وشرعنها بها. فقدسن المستويين معاً. وهذا ما يفسر، سوسولوجيا الإضطهادات النازلة بالكنيسة، كما والنازلة بأي مستضعف، مدى الزمان. ويفسر إستمرار قيام جلجلتها حتى قيام الساعة. ولكن الإنسان، بصنعته الدينية هذه، أهمل التنبه، الى ظواهر قوى لطف الطبيعة وحسن وجمالاتها، وطيب إغتذائياتها، في توفيرها له، مواد غذائه النباتي والحيواني، المائي والهوائي، من جهة. ومن جهة ثانية، أسقط احتساب مظاهر قوة لمسات الحنان، المنثورة رموزها، في مجتمعه: العناية الملموسة في متحد البيت والعيلة. والرعاية المحسوسة، في متحد الجيرة والقبيلة والدولة. تأثر بدلالة اللطف، لمعطوبية وداعته. فخبر قُربى سر الفتنة، بإله الحضور، كما خبر النبي إيليا، لطف “آدوناي”، على جبل حوريب، مثلاً(2ملوك -19). ولكنه آثر عليها، علامات العنف: لفظاظة خشونته، ولظفريته الحاسمة السريعة، فعاش غربة سر الرعدة من إله الغيب، على حد مقاربة رودولف أوتو. الغلبة للعنف، في ميزان القوة، على المدى المباشر والمنظور. أما في ميدان القيم، فالفوز للطف، على المدى اللا- منظور… من تراه يراهن على عنصر الرجاء، وعلى عامل الوقت؟ ( جدول -4-). من أية طينة روحية هو هذا “الثابت الصامد الملتزم حتى المنتهى”؟… اتراه المسيحي، وذوو الأنفس الأنيقة، دعاة السلام ؟. أم هو الأحمق الباتولوجي؟…
1 – القراطوفانيا وسر الرعدة mysterium tremendum
يترافق ظهور القوة، في فضاء الألوهيات كما وفي ساحة الأرضيات، مع ظهور: العظمة، والتعالي، والكبر، والفخامة، والرفعة، والبعاد… يشعر الإنسان تجاهها، بسلسة مشاعر وإنفعالات: خوف، رعدة، فزع، رعب، هول، هلع، ذعر،قلق، إنسباع، إنسحاق، خشية، تحاشي… تدفعه الى سلوكات: عجز، إمتثال، طاعة، خضوع ، إسلام، إستسلام، هروب إبتعاد. هنا، يعي الإنسان ذاته، بأنه مخلوق، محدود، عبد، حقير، منصاع، طييع، طائع مطيع، عاجز، موّات … تلك هي بعض علامات الرعدة، التي تعيشها جماهير كل التدينات، الدينية منها كما الإيديولجية الترهيبية العسكرية، وبخاصة تلك التدينات، التي ارتاحت اليها، فقدسنتها وشرعتها، فطبّعتها. او تلك التي لم تتنقِ وتطهر منها كفاية بعد… تستغل السلطات الزمكانية، ظواهر سر الرعدة، لصالحها. وتفيد من وقع مفاعيلها، على جماهير رعاياها وتباعها المروّعين. فلا تتوانى، عن تحويلهم “جماهير دينية” مرعوبة، ومنقادة. تتأوه. تتيه. وتدين لأسيادها، بالإمتنان والعرفان، فيما السيادات الإلهية أو الأرضية، المستنصرة بالسيف، تمتص “عافيتهم” حتى الثمالة… “ملوك الأمم يسودونها. وأصحاب السلطة فيها، يريدون أن يدعوهم الناس محسنين” (لو 22/19)، يوصف يسوع مظاهر رعايا زمانه، وكل زمان..
2 – الأغابيفانيا وسر الفتنة mysterium fascinens
تتفرّد المسيحية بالإيمان “بالكلمة الذي صار بشراً وسكن بيننا”(يو 1/14). صارعمانوإئيل الإنسان، كل إنسان. بل، “صار فينا”. لا بل صارنا: “فينائيل” بِينَا آيٍل (يو 14/20، أع 9/5). إنه الحب المتأنسن في تاريخ البشر. ظهور حب الله الأب، في شخص المسيح، هو الأغابيفانيا Agapephanie الخالصة والمخلّصة، التي لم تعرفه، ولم تتعرف اليه، أو تعترف به، أي من ديانات العالم. ولم تكن لتتوقع حدوثه، أي من أكثر نظريات حلولية التقرّب والتقارب، جنوناً. إنه افتقاد الأبُ بنيه. وإستجابة كلمته، لتلعسم رغبة البشر في التواصل معه والوصول اليه. إنه سر الفتنة الجذاب، بفعل دنو، تقرب، قربى، حنان، رحمة، تواضع، مغفرة، عطاء، خلاص، سلام، تحرير، إستنهاض، إستقبالية… يستولد مَلمحُ سر الفتنة، لدى الإنسان، شعورَ، ثقة، رجاء، أمانة، كرامة، حرية، سيّديّة، فخر، ثقة بالنفس، عزة ذات، جمال، فرح، سعادة، إطمئنان، سلام… يَطمئن الإنسان لمحبوبية الله له، شخصياً، فتراه بدوره يتعاطف مع الآخرين، يقوى لحبهم ، مساعدتهم وإسعادهم…
أتم يسوعُ للناس، إكتمال فهمهم لماهية الله، وإنضاج مشاعرهم العفوية، تجاه هويته، مذ كشف لهم، كنه ذاته في وحدة شخصه. إنه “الإنسان الكامل” بإتحاد اللاهوت بالناسوت. وباح بسر وحدانية الله الثالوث. ضم ولخّص هوية الله، ومشاعر الإنسان إذاءه، في بساطة الصلاة الربية : “أبانا الذي في السماوات…”. فيها يتناسق سر الرعدة [ السماوات، رمز بعاد الغياب]، مع أوّلة سر الفتنة [ال نا، رمز قربى الحضور]، تجمعها وتضمها قدسية سر الله الأب [أبانا، إذن نحن بنوه، أي نحن أخوة]. لاشى يسوع الرعدة، وبدد مشتقاتها، لأن الله “بيّ” قدوس، أبٌ طيّوب رحوم حنون. بمعجزة قوة حبه الدفاق: يضم الله الأب، “الأبن الضال”، يجد وراء “الشارد” ويحمله على منكبيه، يغفر، يسامح، يصافح، يؤآكل، يُؤكّل، يُروي، يخدم، يغسل أرجل ندمائه، يسالم، يحرر اليد، يولم، يصغي، يسير بمعية، يُفرح العرس، يُحيي، يؤنسن، يرقّي، يؤلهن…وهكذا، عقلن يسوع للناس، صورة الله، الأب، وبرأه من الجزئيات والحاكمية (رسم-5-)، وأخلق العلاقة البنوية به. وبتأنسنه، وقيامته، زج الإنسان في صلب الثالوث.
كان من طبيعة الإيمان المسيحي بالله الأب وبالثالوث، أن تسقط صلوات التذلل لله، وجلد الذات قدامه. وتتلاشى أدعية التخوف من الله، وتجريم الأنا أمامه. وتنحل تقويّات التزلف الي الله، بتبرئة النفس. وتتحلل عبادات الإنسحاق أمام الله، بإستضحائية الذات victimisation، المالوفة في ديانات “سر الرعدة”، خارج “البشرى الحسنة”.[من المؤلم ملاحظة، بقاء مخلفات ذهنية سر الرعدة، في ليتورجيات الكنيسة، وقد استمرت تعابيرها التوسلية، التذللية أو الإسترضائية، سارية في تقاليد المسيحيين. ومعها استمرت صلوات، ترفع في الكنيسة، لإله نكرة مبهم، لا إسم له ولا كسم ولا هوية شخصية علائقية، عوض شخصنة توجه الصلاة المسيحية، إسمياً، الى الثالوث و/أو الى أحد اقانيمه تحديداً، تكون أساسها، علاقة إيمانية حميمة، شخصية ومشخصنة. تستجرّ ذهنية سر الرعدة، عبدية المتعبد لله، لا بنوته للأب. تستبقي تبعيته للمعبود، على حساب إتباعيته للمسيح المحرر..]. كان من الطبيعي، أن تنعكس نوعية علاقات التوجه الديني المسيحي، على تعامل المسيحيين المجتمعي، تعامل حرية وكرامة ومسالمة. وتنعكس، على معاملتهم السيّدية الإحترامية الغير تذللية، للسلطات الحاكمة، التي لم تستثغ مثل هذه المعاملة، تشيع في الساحة العامة. إمتعضمت من حَمَلتها إجتماعياً، لمروقهم على مُتّبعاتها المُقدسنة. ورفضت منطلقاتهم الإيمانية، لمنافاتها مسلمات معتقادت “ظَفَرها الإلهي” المُمطلق. وهكذا، مثلا، إضطهد الرومان، المسيحيين. أولاَ: لأن إيمان المسيحيين، هو شخصي، لا عبادة قومية ethnicité، ولأنه ثانياً، إيمان حر، لا ديانة أجداد ancetralité، كما كانت عليه ديانات أقوام عصر ذاك. شكّل تمنّع المسيحيين إداء ظاهر عبادة الهة المدينة، بمفهوم الرومان، سببا لإغضاب الألهة، بدلالة إحداثها كوارث طبيعية[زلزال، فيضان، إنهيار]، كما حدث للأمبراطور تراجان (97-117)، بتعرضه لهزة أرضية أثناء زيارته إنطاكية، فسارع الى الأمر بإلقاء إغناطيوس أسقف المدينة(68-107)، للوحوش، إنتقاما للآلهة الغاضبة. ولإسترضائها. “وتهدئة خاطرها”. إن عقلية هذا الرابط السببي السحري، بين إغضاب الإله، وكوارث الطبيعة، هو الدافع الثالث للإضطهاد. ومثله، كفّر الإسلام المسيحيين تمهيدا لإضطهادهم بسيف الجهاد، وبحرف الشريعة، وبإسقاطاتها المجتمعية الذمية. أولا، لأنهم كفار لا يحرموا ما حرمه الله ورسوله محمد، وقد “كذبوا بآباتنا” (قرآن 64/10)، “ولن يغفر الله للكفار” (47/34،4)، “وإن لقيتموهم فضرب الرقاب”. ثانياً، لآنهم مشركون نجس، يحرفون التوراة والإنجيل، تجري عليهم عقيدة الولاء والبراء (60/4). يدفع تكفيرالقرآن المسيحيين، الى كراهيتهم ومعاداتهم وإستحلال قتلهم، وفرض دونية منزلتهم، وعدم مساواتهم بأهل الأمة في شيء، بما فيه، “القاء المودة لهم” (5/51). وثالثا، لإستسهال، تخوينهم في غزوات وحروب الجهاد. واحتسابهم “رهائن إجتماعية”، يضحى بهم، “كبش محرقة” الحرب، ذهاباً. أو لمهر المهادنة، بدمهم، إياباً…
- واقعية مسيحية الشهادة والتشهّد
بمتابعة، ولو سريعة، لمعاناة الكنيسة عبر التاريخ، تـتـبـيـن أمانتها لوديعة الحب الإنجيلية. ويبان ثباتها على الشهادة حتى الشهيدية. وبأن الكنيسة، من ناحية أخرى، لم تفخر يوماً، بانتشار دعوتها أو بانتصار بُشراها، بغير أدوات السلام والحرية والحب. كانت الكنيسة دائما وأبدا كنيسة الصدق والحق، حتى وإن لم تكن دوما كنيسة الصدقية sincerité. لم يخطر لها، مثلاً، حتى أثناء ظلامية الأيام الصعبة، أن ترفع للتكريم، أيا من عناترة السيف وأبطال النزال. أو أن تستشفع بأسمائهم، تطلقها على عمران كاتدرائياتها ومعابدها، وإن جرّد هؤلاء السيف، وإندفعوا للقتال، عصر ذاك، تحت راية الصليب. مثالها الفعلي، هو القديس / الشهيد (رسم -1)، تماهياً بأنموذج شهيدها الأول الكامل، يسوع، لا المجالد ولا المجاهد ولا البطل. تُعتبر هذه الأمانة والثبات، قمةً في الحماقة والغباء، وفق منظور سياسات العالم. ولكنها، سمو في الحكمة، طبق نظرة الله الآب. المسيحية هي إعلان فرح بشرى أبوّة الله، لا جواب جيدّ على مسألة. إنها حرية شهادة حب وسلام، لا منظومة حلول تكنية لقضية ما، ولو نبيلة.
لم تنتهِ حياة المسيح يسوع بالموت، بل بالقيامة. هذا ما يؤمن به كل من اتبعه، وحمل رسالته، يزف بشراها، حبة حنطة، يبذرها، بشهادة حياته و/أو دمه، في أرض الواقع، وللروح القدس شأنه في نمائها وتكثير جناها، بالهامات، يستودعها سرانياً، قلب كل إنسان وكل ثقافة، تحت كل سماء. تختلج الإلهامات، بمناسبة حبة الحنطة وفيها، وتتمخض، فتتمدد، وتتفاعل، وتشق طريقها، للظهور الى العلن، على شاكلة رموز ثقافية، وصياغات فكرية، أو حركات مؤسسية، محلية، تنتظر معمّد ما، بالماء والروح، ليكشف لأصحابها، كامل معناها القيمي الروحي، على حد ما كشفه بولص للآثينيين، في مرسح أريوباج أتينا، معنى معبد الإله المجهول (أع 17/22). ذاك أن الروح، لا يعمل في المسيحيين فقط، ويبقى بعيداً، مَلهواً، عاطلاً عن العمل لدى سواهم. يرى المسيحي بإيمانه، ما لا يُرى، ويرجو حيثما لا رجاء. لذا، يبذل ذاته، حبة حنطة في بيئةٍ، سفكت دمه. تُسأءل حيوية شهيديته، تربة ضمير جلادها وتسطيحية ناسه، مساءلة وجدانية واقعية فريدة، تلازمهم، تمهلهم، تعطيهم الوقت الكافي لإختمار الفكرة، ولإنضاج الضمائر. والمساءلة إياها، تتمدد الى أبعد من أرض إرتفاع شهيدية الكنيسة، لتبلغ مسامع سائر مجتمعات الأرض. يتحوّل التساؤل، إعادة نظر ناقدة. ويصبح خميرة حياة لا تلبث، بعد حين، أن تخمّر ثقافتهم، وتخصب أديمها، بدلالة سعيهم، الى انسنة مجتمعهم، عبر التدرج في سلم العدالة والمساواة والحرية.
” قلت لكم هذا، ليكون لكم فيّ السلام. ستعانون الشدة والضيق في العالم. ولكن ثقوا فأنا غلبت العالم” (يو 16/33). أيسهل تصديق كلام يسوع، في مساءلة “غلبته” العالم” هذه ؟ ؟. لا، وألف لا، بحسب منطق العالم وعلى المدى القريب، أولًا. وبحسب ميزان أدوات المسيحانية الأرضية، ثانياً. كما وبعلامة صلب يسوع، قائل القول، في اليوم التالي لقوله، ثالثاً… ولكن بالتأكيد، نعم ، مع يسوع الحي القائم من الموت، الذي ما عمله قاله. وما قاله كانه، أولاً. ومع التزام المعمّدين على اسم قيامته، والمعمّدين باسم قيمه، ثانياً. ومع خبرة المجتمعات البشرية، وتدرجها البطيء والمتعرّج والحثيث، في سلم الأنسنة، منذ الفي سنة، ثالثاً. إنها خميرية القيم، بقدر ما أعطى يسوع للقيم، بتأنسنه، ” وجه إنسان فعلي”. ومهر صدق شهادة كنيسته، وشهيدية بنيها، بقوة روحه، روح أبيه. هي هذه الخميرية المروحَنة، المَمهورة بمسيحية شهادة الدم، التي روحَنت عجنة شعوب العالم. وبهديها، إرتقت البشرية، في خط تطور إنساني، بطيء، بطء عدّان التحوّل الذهني – الوجداني – الحقوقي. هذا التحول الخميري الأصل، والتخميري المفعول، هو محصّلة عوامل عدة، أهمها. جرأة النظر في الإختبارات البشرية. سقوط مسلّمات إجتماعية أخلاقية وسياسية. عدم جدوى تكرار السلفيات ومعتماتها. النقد العلمي. فساد تبرير الحقائق بمنطق سلطة الموروثات. تراكم المعرفة والمكتشفات التقنية. الحراك وحركة التمدنن. مأسسة التعليم ومحو الأمية. تطور الإعتراف بقيمة الفرد. إختمار الضمائر… خطت البشرية خطوة حاسمة، بعد خبرة مآسي الحربين العالميين، بإقرارها ” الإعلان العميم لحقوق الإنسان”(1948)، المُلزمِ عالمياً لكل دساتير الدول. مع هذا الإعلان، تم إرساء أسس منطلقات محاور مُحضّرة أهمها”
أ – الإنسان الفرد، إمراة أو رجل، هو قيمة بذاته ولذاته، ومتحده قيمة. أتاح هذا الإعتراف للفكرالمسيحي وللفلسفة الشخصانية وسواها، من تنزيه النظرة الى الفرد، على أنه شخصٌ، ذات كرامة وحياة، غير قابلتين للتصرف، منذ تكوينه الجنيني. ولكن العولمة، مثلاً، انحرفت بالفردية الى الفردانية، المؤدة الى التذرر atomisation الإجتماعي ومستتلياته التجويفية…
ب – الإعتراف بالحرية الكيانية الشخصية، ومشتقاتها المجتمعية، من الحريات العامة (حرية الضمير، تفكير، تقرير، تغيير، تدبير، تنقل..)، المعبر عنها، بالحقوق الوضعية والطبيعية. وحرية المجتمع في تقرير المصير. وبمتبادلية التعامل بها: “إفعلوا للناس، ما تودون أن يفعلوه لكم” (متى 7/12). يخضع المس بحريات الشخص، لقوانين وعدالة ومراقبة،…
ج – التضامن المجتمعي، المعبّر عنه، بالتقديمات الإجتماعية، التي بات يتعين على السلطات، لحظها وتامينها للمواطنين. [ لم يعد صاحب السلطة أو الملك/الوالي، يعتبر محسناً، يتصدق بمكرومات على رعاياه. أو يعفو عنهم بسماحته. ويستوجب على الناس امتداح إحساناته، والصلاة لهناء حكمه. لقد أصبح هؤلاء مواطنيين يساءلون السلطة ويحاسبونها على حسن/سوء قيامها بواجبها تجاه شعبها. كشف تعليم الكنيسة الإجتماعي أهمية التقدمات، إن هي سوى غيرية خدمة التدبيرالمرافقة للحب ولتعاطف المُحب.
د – الإقرار بحق التشارك، الملازم للمساواة، والعدالة، وللمسؤلية المعنيّة بالشان العام. ينفرج التشارك الى الديموقراطية، مهما كانت أولياتها التطبيقية ثقافياً. الكل متساوٍ ومشارك في إدارة شؤون الخير العام.
تشكل هذه المحاور، مفاعيل خميرية المسيحية الإنجيلية، الأربعة، في العالم اليوم، تنويراً لأولئك الذين يشككون بأصول أوروبا المسيحية. وتشكل، من جهة ثانية مراجع خميرية، مشبعة بفائض القيمة الإنسانية، بحيث أنه، لم يعد العديد من الدول الإسلامية، مثلا، يتبع، أو يفخر بعد، باتباع موروث أحكام المعاملات، المنصوص عليها في القرآن: كالعبودية، ملك اليمن، السبايا، القوامة، واللامساواة بين المرأة /الرجل، الأمي/الذمي، المؤمن /الكافر، دار الحر/السلم، الفيء، الجزية، الولاء والبراء، التقية، الجهاد، حكم المرتد… فالمسلم المعتدل، مثلاً، هو ذاك الذي استهواه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فاعتنق قيمه. وراح يحاول مواءمة أحكام القرآن بحقوق الإنسان، أو أقله، راح يعلّق العمل بتلك الأحكام، وإن لم يُعِد النظر بنصوص قرآنه التأسيسسية لهذه المعاملات، المقرونة بزمان وأسباب نزولها…
إن خميريةُ مسيحية الشهادة والشهيدية، هي متضمنة في قول يسوع:”ثقوا أنا غلبت العالم”، وفي تأكيده نهيوية إكليل مجدها: “متى رفعت عن الأرض، جذبت إليَّ كل إنسان”(يو19/37). الخميرية، هي فعل ثقافي فكري، يحاكي محصلة التفاعل الكيميائي، بين الخمير والعجين(متى 13/33). فيه ينفعل المشاهد بتلاقيه المباشر، مع الشاهد – الشهيد، كما المتربّي بالمربّي، يلتقط ما أصابه منه، ويروح يتموضع بموجبه، مع الوقت. لئن كان العنف يأس من إنسانية الآخر، وقنوط من قدرة الأنا ،على أخذ موافقة الآخر، باللجوء الى القوة والقهر، لانتزاع رضوخه. فالخميرية، هي لطف التعامل، على عكس العنف. إنها “طويلة الأناة” تعتمد عامل الوقت لبلوغ موافقة الآخر الحرة [وقت للتأمل، للتفكير، للصداقة، للنضوج، للتقبل، للنمو…]. للخميرية تأثير معرفي cognitif معلومي، لاتأثير معياري إملائي normatif، وهي خاصية إشعاع كل قيمة سامية عميمة. بروحانية الحب، شهد المعمدون باسم يسوع، للإيمان والرجاء، في الأمم. أدوا شهادة الدم، تحْدوهم ذهنية الواقعية القيمية “البنوماتية” pneumatique. بها واجهوا مقولات الواقعية السياسية المسماة “براغماتية”، فإذا بهم براء من البرغماتية، كأنهم “غرباء” عن العالم. بدَا الشهداء، في سلوكاتهم، “خرافا إذاء ذئآب”. الذئبنة هذه، هي توصيف سلوك الصالبين، كما توصيف فعل النظريات المادية، والفلسفات العدمية، والتسليعات المخزية، في العالم، من جهة. وهي، من جهة أخرى، توصيف لخيانات الحب، قد تتعرض لها الكنيسة، في داخلها، من مثل، انحراف الى السيمونية والوظيفية، ومن استقرار في الدهر والأكلركة، ومن “النوم في بستان زيتون” التاريخ(مر14/36)، ومن التوجهن في المقامات، والتشهون الى الاستعانة بالزند الزمني… يظهر الجدول-5- خصائص كل من الواقعيتين:
1 – الواقعية السياسية البراغماتية
هي قولة “أسجد لي تحظَ”(متى 4/9)، هي عصب المَسيانية الأرضية، وأدوتة المال والسلطة والسلاح والإعلام. أدوات ترجيح ميزان القوة، لصالح السياسي الخفاشي vampirisme، . لابأس، هنا، بالتمنطق بالتماكر والمخادعة والتقية والمعاريض، واللغة المزدوجة، طالما الخضوع /الإخضاع مستتب. القوة هي مولدة الحقيقة السياسية والإجتماعية دون منازع. هي الشرعية، والسيف هو حكمها “القاضي”. [لا مرادف في العربية لمصطلح مشروعية legitimité،المدغمة بمصطلح شرعية legalité]. “فمن قويت شوكته، وجبت إطاعته، والخوف منه”. الواقعية السياسية، هي نهج إجرائي، يعتده كل نظام سياسي، شاء تدوير الزوايا، ولبوس “سياسة النخ”، ريثما تمر عاصفة تسالب وتخالب لعبة الأمم. إنها تستعجل الفوز. إنها التطبيق المباشر لدنح الرعدة القراطوفانيا (راجع1-.3). والويل لمن لا ينصاع.. . للواقعية السياسية قدرة عالية على تفسير تفجر الإضطهادات قديما، ضد الكنيسة. ولها القدرة إياها اليوم، لتفسير تألّب قوى بعاليم العالم ضدها: المالية والإقتصادية، والطبية، والتسليحية، والسياسية…، في مسألة البيو إيتيك أخلاقيات علم الحياة، ومكافحة الأمراض السارية، وزواج المثليين، ومسألة البيئة، “بيتنا المشترك”، والمجاعات، ودول العالم الثالث… تبدلت الأساليب، والأدوات، ولكن الإضطهاد إياه، باقٍ مستمر، بالدوافع إياها…
2 – الواقعية القيمية البنوماتية
هي جسارة الثبات على القيم، بفضيلة الحب، وبأخلاقية الحرية وأدوات السلام، التي تشكل وسائط الشهيدية، ومضامين المسيانية القيمية الروحية. هي المجاهرة بالحق والعدل، واعتناق قيم المسيحانية النبوية، وخيارصدق الكلام: “نعم، نعم. أو لآ.لا.” نحن والحق أكثرية، لا نحن والسيف. الحق يحرر. لا يليق بالقيم تسليعها. ولا بحاملها، أدوتتها. فكلمة الحق أمضى من أي سيف. الواقعية القيمية، تستوسط وقت الإنضاج، لبلوغ الفوز، بقوة مُقنعيتها، بحرية. إن تجرع الموت، في شهيدية الكنيسة ومؤمنيها، هو، بمنطوق الواقعية البنوماتية، عربون قيامة الشهيد، بل وعربون تحرر جلاده، إن ارتدع. ومليكه، إن ارعوى. وجماهير الفرجة، إن اهتدوا، ولو بعد حين، مهما طال الزمن…
المسيحي، كما الكنيسة، ليس سوبرمان، صانع الخوارق الباهرة. بل هو شاهد مثال “الإنسان الكامل”. لا بل، هو عاشق مستحيل الحب، ليجعل منه قضية كل إنسان فِعلي. يتعيّن عليه أن يبقى “وديعاً كالحمام” وله أن يكون ” فطنًا كالحيات” (متى 10/16)، لكون “أبناء الظلمة أفطن من أبناء النور” (متى 7/6). إنّ تلازم الوداعة والحذر، يقي المسيحي من المكر والكذب. قوام الفطنة، هي رفض أدوات الواقعية السياسية، وذهنيتها. وتلافي شرها. كما فطن يسوع ويحترس، لإعداد عشاء فصحه(مر 14/13)، لئلا يشي يوضاس بمقصده. وينقضّ عليه الصالبون، قبل إتمامه لتلاميذه (يو11/57، 13/1). وكما فطنت الكنيسة، مدى التاريخ، للتواري في دياميس روما، وصعيد مصر، وجبال لبنان ووديانه، وبطاح نينوى، وقمم أرمينيا، وبوادي فارس، ومغاور الشرق الأقصى. وكما تتحاشى سيف مداهمات اليوم: تعقب أمني، تلاعب إعلامي، تسميم ترويجي، وتواجه مفتعليه، بمطالعتها المسيحية، عبر قنوات التواصل الفكري، والإتصال الإجتماعي، حيثما يمّكنها مناخ الحرية من ذلك.
قانون إجتماعي إتجاهي
أ – بقدر ما تشهد الكنيسة للحقيقة، بصدق وبصدقية. وبقدر ما تندفع بجسارة نبوية، لنصرة قضية الإنسان الفعلي المُموضع. وبقدر ما تسعى في بيئةٍ تتنفس حرية حقوق الإنسان. بقدر ذلك، يسارع كثيرون، الى اعتناق بشراها، وتسريع أنسنة مجتمعاتهم…
ب – بقدر ما تكون الكنيسة، فطنة يقظة متنبهة [ لزف بشراها، لحاجات الناس، ولتحرك السلطات]. وبقدر ما تتجذّر في مجتمعها، تطالع له أحداثه، بشبكة قراءة إنجيلية [كشبكة قراءة يسوع لتلميذي عماوس]. وبقدر ما تعطي الناس، طعام شبكة قراءتها في حينه. بقدر ذلك، تتجلى صورة المسيح الجذاب،
ج- بقدر ما، بفطنة تمييز، تفيد الكنيسة، من المكتشفات العلمية النفس-إجتماعية. وبقدر ما تصوغ منها، بلغة مفيدة، راعوية البشرى. وبقدر ما تزفها للملاء، بروح إحترامية حكيمة، من موقعها الأمامي، في خط الدفاع الأول عن كرامة الإنسان. بقدر ذلك، يتطلع صوبها، مُجوّعو الأرض الى الحق، ومتعطشوه الى البر، ومعرّوهه الى الأخوة، كمنصة خلاص، وكرافعة شخصنة الإنسان، وأنسنة مجتمعه. وبالمقدار نفسه، تتفجر عداوات أصحاب السلطة، وكراهية أصحاب المال، وبغض أصحاب النفوذ…
- ماهية العناية الإلهامية
جوهر الانجيل وخلاصة البشرى الحسنة، هو الايمان: بأن الله أب، وبأنه ثالوث حب كله، يتدفق حباً خلاّقاً الى الكون بل الى الأكوان. وما الخليقة سوى فعل دفق الحب، هذا، الالهي العظيم. هذا ما باح به يسوع الكلمة المتأنسن، وأباح للمعمدين باسمه، التأله بمفاعيل الحب، الذي يحيونه، بمقدار تماهيهم بكمال الآب (متى 5/48). فيصيرون أبناء الآب في ابنه يسوع. بهذا الوحي اللاهوتي المحوري الحاسم، أتمّ يسوع كل شيء (يو 19/10). فاكتملت معه، تحولات الصور القاعدية الثلاثة. ومعها، أكمل الروح فهمها للمعمدين، والهمهم إبداع تطبيقاتها في يوميات حياتهم:
- من صورة الله الغيورالمشترع المحاسبجي، الى صورة الله الآب الحنون الرحوم المحرر
- من صورة المخلوق العبد الخائف، الى صورة الانسان الابن الوثوق المبدع
- من صورة التكليف والطاعة والالزام، الى صورة الحب والحرية والالتزام
تُثبّتُ “ثورةُ” تحولات هذه الصورالثلاثة، في القيمة، بطولةَ أمانة الكنيسة للمسيح، مدى الأزمان. وتفسّر جنونَ شهادتها له، بسلام الحب، حتى فرح الشهيدية باسمه. بالرغم من تدفق نوبات الاضطهاد المتزاحمة، وجرعاتها المتنوعة، ضد الكنيسة، رفضاً لما تشهد، وكرهاً لمن تشهد، واقتصاصا منها لاسترشادها برغبة الحرية بالمسيح (رسم-4-)، حبيبها الإلهي، مدى التاريخ، لجهة معاناتها مع الخارج. وبالرغم من مزالق انحرافات، بعض بنيها، عن قويمية الممارسة orthopraxie، ومهاوي تحجّر نظرتهم ونظرياتهم، عن قويمية الإيمان orthodoxie، لجهة معاناتها في الداخل. لأن الله ثالوث حب، فهو شخصنة دنح سر الفتنة، الآغابيفانيا (2.1 -1). إنه الله الآب. يعامل الإنسان، ابنه بالتبني في ابنه الكلمة، بحنان رحمته، على أنه إنسانٌ راشد، بالغ، سيّدٌ حر. فلم يعد ثمة الإنسان، عبداً قاصراً مأموراً. يكنّ الآب له، منذ الأزل، محبوبية لا حد لها. تتحرّق لتنسكب عليه، نعمة حب به، لذاته، ليحيا بفرح ملء الحياة(يو10/10؛ 20/31)). يتعامل الله الآب مع الإنسان، تعامل أبٍ حبيب، لابنه حبيبه. يمسئله، ويسترعيه مصيره الشخصي، ومصائر مجتمعه، وبيئته الأرضية والأكوانية. إنه يرى إبنه، الكلمة المسيح، في كل إنسان. ويرى في وجه كل إنسان صورة ابنه الحبيب.
تتكشف، عن البشرى الحسنة، صورة العناية الإلهية الحقة، كما كشف يسوع كنهها لتلاميذه، وكما” أرشد الروح القدس الكنيسة، الى الحق كله” لفهمها (يو 16/13)، ولما يزل. ليس لله الآب، تقديمات ومنافع، ولا مكرمات وخدمات، لديه، من أي نوع كان، مهما غلت، ومهما عز طلب المستجير بالله، عليها. وليس عنده مخزونات يقدمها، تلبيةً لطلب سائليه. بل لدى الله الآب، عطاء واحد يعطيه كل إنسان، عرفه أم لم يعرفه بعد، ويعطيه بسخاء مجانية قلب الأب: هو ” هبة الروح القدس” (لو 11/13)، الشخص الإلهي، واهب الحياة والإلهام. يظهر الرسم -5- للعيان، ماهية العناية التدبيرية الدارجة في منطق عالم الإنسان القاصر. ذاك المستتبع و/أو التابع. والعناية الإلهامية، المنكشفة من علو، للإنسان، الابن السيّد الحرفي المسيحية.
- العناية التدبيرية الحاكمية
تتحدر العناية الحاكمية، عن صورة، “حاكمك وربك” في السماء، أو عن تصوّر ظله على الأرض. تتخذ شكل القضاء والقدر، و”المكتوب الذي ليس منه مهروب”، يخطه ويمشرع له، إله الغيب والرعدة، تعالى. على الإنسان ان “يسير على مايقدّر الله، وما يكتبه الله، سيصير حكماً”. يتوسط الإنسان العبدُ المرعوبُ، التنجيم والتبصير والتبريج، والسحر[ تبصيرحلم منام، كف، حصى، صدف، ورق لعب، أحشاء طير، علامات الطبيعة] وسائل ” كشف البخت والمصير، وفك المكتوب”. ويتفنن بممارسة التقويات الإستعطافية، والعبادات النفعية، ليرأف به تعالى، ويلطّف وطأة قدره، ويزيل غضبه عن المتدين. إنها مجمل عقليات وسلوكات إنسان التسلطات الأبوية الأرضية، في ممالك مجتمعه. يستعير عناصرها، ليصوّر بها عالم الكيانات السمائية. فما من أمر، عظيم أو عادي، يحدث في دنياه، أو يُرجى حدوثه، إلا ويعود الفضل فيه، للسلطان الآمر، الذي له الأمر، وعلى الإنسان العبد، الطاعة والإمتثال. فكما هي الأحوال على الأرض، كذلك هي الحالة في السماء. يحمّل الله بعنايته التدبيرية، الحَدث evenement ، [حلم، حادث، مرض، ولادة، موت، فيضان، زلزال، كساد، ربح، حرب..]، رسالة ما للإنسان/ الناس، ليتقيد بها، علامة إرادته تعالى الشاهانية. التواصل هنا، بين العبد والمعبود، يتم بالواسطة: شريعة مُنزلة، إصول دينية مُقدسنة، رسالة حدثية ما… إذ يتوجب على الإنسان، إطاعة أوامره جلّ جلاله، والإنتها بنهيه. فلا مناص من الإمتثال لحرفية شريعة الله السامية، ولقضائه الدهري، في الدين والدنيا. والويل للمارق، والمنافق، والتارك، والمرتد، فله عذاب اليم، في الدنيا والآخرة…
- العناية الإلهامية الروحية
تتوالد العناية الروحية الإلهامية، في المسيحية، عن صور الله الأب، الذي هو قريب من الإنسان، في المسيح، إيقونته وصورة لاهوته. الإنسان هو صانع الحدث، وبالتالي التاريخ، والفاعل فيهما. إنتزع التاريخ، بحريته وإدراكه، من بلاهة التطور. وأدرجه في هدفية النهيوية. الآب هو “الكامل”. هو معنى الوجود. إنه “المعنى الكامل”. يستمد الإنسان من الله الآب، بإلهامات روحه القدوس، هذا المعنى. ويضفيه على الحدث، الذي لا معنى له بذاته، ولا مقصد منه، ولا فهم فيه، عدى كونه حلقة في السلسلة السببية. هذا الإنسان الحر السيد، هو هو مقصد الله الآب. تظلل العناية الإلهامية البشر أجمعين، كما في سيرة الخلاص البيبلية، بحضورٍ ناشطٍ، إلهامي لا إملائي. إبتكاري لا تكراري. تواصلي لا إنطوائي. مستقبلي لا سلفي. برهاني لا إشهادي. بقوة إلهامات الروح، “يتجدد وجه الأرض”.
فحيثما يرى ناس ديانة الجماهير، مشيئة الله القدرية، ومشروعه في القسمة-نصيب، أو مخططه الإلهي المكتوب على الناس – الدمى، يرى المسيحي، تحركَ الناس بإرادتهم الحرّة: إما بإستجابتهم لإلهامات الروح، في تلاقيهم، من أجل صناعة مجتمع العدل والخير والأخوة، معاً. وإما، بتنكرهم لإلهامات الروح، وإنكارهم تأجيباته المُلهِمة، في تنافرهم وتباغضهم، بغية إعادة إنتاج بيئة الكراهية الحاضنة، خاصتهم. إن تلاقي الناس على الخير/ السلام، أو تخاصمهم دونه، ليس صدفة غاشمة، بنظر العدميين، ولا قدرية محتومة عليهم، بنظرة المؤمنين وسييئي التديّن mal croyance، بل إنه نتيجة تجاوبهم/ تنكرهم لإلهامات الروح القدس بمنظور المسيحية. يفعل الإنسان الخير، بمعية إلهام “روح الله”، فيما يتفرّد لوحده، بصناعة الشر. بمقتضى هذه المقاربة الفهمية، يتضح قول المسيح “ثقوا، أنا غلبت العالم” بالحب (يو 16/33). فأنىّ طالع الفكر اللا – مسيحي، في قول المسيح، هذا، كتابة قدرية حتمية، قضت بالغلبة النهائية لمصير دعواه الدينية، يرى المسيحي في القول إياه، ثقة المسيح المطلقة: ثقة الكلمة الإبن، بحب أبيه، ثقته بقوة إلهامات روحه المُحِبة، على مستوى الثالوث، ويرى، وثوق المسيح المحرر، بأمانة الكنيسة لوديعة حبه، وتمثلها إلهامات روح قدسه، ووثوقه بإستجابة الناس الأحرار، لإلهامات الروح القدس، على مستوى البشرية. إنها الواقعية البنوماتية، المنضَجة بخميرة العناية الإلهامية، تنير شهادة الكنيسة وشهيدية بنيها، في زفها البشرى، وفي ملاقات أناقة أنفس ذوي الإرادات الطيبة، المنثورة وجوههم في كل مجتمعات العالم. يسهل فهم منطق موروثِ توجّهِ “إنسان الدين”، الى “إله الحاجة”، توجهه، الى السبب الأول. يساءله حاجات يومه. ويستعطي منه، مادة إشباعها. ” أطلبوا تجدوا. إقرعوا يفتح لكم”. ولكن يصعب فهم إستمرار بقايا هذه الذهنية، وبقاء ثمالتها في ليتورجيات وعبادات كنيسة المسيح، اليوم. بقدر ما لا تنقى التقويات والصلوات من تصاوير إله العناية التدبيرية، بقدر ذلك تكون الكنيسة مجروحة، ولكنها ليست مريضة. إنها كنيسة “إنسان الإيمان”، رافع الصلاة شكراُ لله الآب، “إله الرغبة”، واهب الناس روح قدسه. يهم المعمّد باسم يسوع، الآب، رب العطايا، يلقاه في الحب. لا تهمه عطايا الله، يتلقاها في التكسّب. لا يَكِل المسيحي الى الله الآب، أعمالاً، كان عليه هو، المبادرة بمباشرتها، وإنجازها. لا يصلي، لكي يرحم الله موتاه. بل يصلّي للأب شكراّ، لأن الله الأب، سبق ورحم الميت. أترى المسيحي، حريص على مصير ميّته، بأكثر من حرص الله الأب، على إبنه المنتقل اليه؟. صلاته، بإلهام الروح، هي شكره الدائم. هي مطالعة حاجاته على ضوء ” البشرى الحسنة”، ليتفحص مدى صحة إنجيلية إيثارتها، بهدف تحقيقها بنفسه هو، بإلهام الروح، من جهة. ومن جهة ثانية، بهدف إكتشاف طينة رغبته اللقاء مع الله، بمناسبة إستعراض حاجاته، أمامه، في وضعية الصلاة. لا لحث الله، ليستجيب سؤله، ولكي يشبعها له، عوضا عنه. لا تغيّر الصلاة الله. بل تغيّر المصلّي، وتجعله مستعَداً لشكر الله على نعمه. إنها ذهنية التوجه المسيحي الى الله الآب، لا الى إله نكرة تعالى.
ستستمر الكنيسة على رسوليتها، تخمر عجنة البشرية، بملح شهادة الحب، وبدم شهيدية الإيمان، وبنور كلمة الرجاء. تكشف للناس، “وجه يسوع الجذاب”. تؤنجل بقيم بشراه ثقافة المدنيات. تزيل عنها معوقات الأنسنة الحقة. تندفع في رسوليتها، بالرغم من الإضطهادات، بواقعية روحية، مشفعة بالعناية الإلهامية. وتكون طليعة المناضلين في سبيل حرية الإنسان وسلام مجتمعه. يمكن القول، إنه، حيثما يدعى باسم يسوع، ويتكشف وجهه الجذاب، لاشك، بإلهام الروح، سوف تتحرق القلوب، وتتحرك الضمائر، للإنجذاب اليه، فيتأنسن المجتمع، ويتشخصن الإنسان، بل ويتاله بالحب. والتحرّق إياه، يمتد الى “قساة القلوب وغلاظ الرقبة”، كيما يتحولوا، بإلهام الروح وبشهادة الكنيسة، من ذهنية شاوول، مضطهد يسوع في محبيه، الى عقلية الرسول بولص، شاهد المسيح، في الأمم.
[1] د. سمير الخوري: أستاذ جامعي وباحث في العلوم الإجتماعية في الجامعة اللبنانية وعدة جامعات أخرى. له عدة أبحاث منشورة، بالفرنسية والعربية، حول شؤؤن المجتمع الإيمان والدين والعيلة والشبيبة.