خلاصة الجمعيّة السينودسيّة القاريّة
الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط
13 إلى 17 شباط– فبراير 2023، في حريصا – لبنان
“ويكون اسمها سينودوسًا” (يوحنّا الذهبيّ الفم) [1]
30 نيسان/ابريل 2023
المقدّمة
- عقدت الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط: المارونيّة، والروميّة الملكيّة، والكلدانيّة، والسريانيّة، والقبطيّة، والأرمنيّة، واللاتينيّة، جمعيّتها السينودسيّة القاريّة، في مركز بيت عنيا – حريصا في لبنان، من 13 إلى 17 شباط- فبراير 2023. شاركت هذه الكنائس بوفودٍ من مختلف بلدان الشرق الأوسط: مصر، فلسطين والأراضي المقدسة، لبنان، سوريا، الأردن، العراق والخليج العربيّ. كما شارك أيضًا صاحبا النيافة الكاردينال ماريو غريك أمين سرّ سينودس الأساقفة، والكاردينال جان-كلود هولريخ مقرّر هذا السينودس، والأخت ناتالي بيكار معاونة أمين السر. ضمّت الوفود المشاركة، بالإضافة إلى أصحاب الغبطة البطاركة، أساقفةً وكهنة ورهبانًا وراهبات ومؤمنين علمانيّين وعلمانيّات من مختلف الأعمار، بلغ مجموعهم 125 شخصًا، من ضمنهم 40 امرأة علمانيّةً ومكرّسة من سيّدات متزوجات وصبايا غير متزوجات، وكذلك عددًا ناهز الأربعين علمانيًا رجالاً وشبانًا من مختلف الأعمار، متزوّجين وعزّابًا، مُعافين ومن ذوي الاحتياجات الخاصّة. كما شارك أصدقاء من الكنائس الأرثوذكسيّة والبروتستنتيّة، ومن مجلس كنائس الشرق الأوسط ومن غير المؤمنين. كما شارك في حفل الافتتاح ممثلو الطوائف الإسلاميّة.
- شكّلت الوثيقة القاريّة خارطة طريق لمسار الجمعيّة السينودسيّة، فكانت مناسبة للقاء- عنصرة، إنقاد فيها المجتمعون لعمل الروح القدس، وكانت الصلاة الأساس الّذي بُنيت عليه محاور العمل اليوميّ، سواءٌ في الجمعيّات العموميّة أو في عمل الفرق. كان الإصغاء المنطلق، والمشاركة أتت تعبيرًا عن الشركة التي بلغت ذروتها بين المشاركين في الاحتفال الافخاريستيّ الّذي توّج أعمال كلّ يوم، وفق طقس من طقوس الكنائس الشرقيّة. لقد أتاح التأمّل بكلمة الله، والمحادثة الروحيّة، خلق مناخ أخوي وثقة وجرأة ومسؤوليّة في إبداء كلّ من المشاركات والمشاركين، ما من شأنه الإجابة على التساؤل الأساسيّ: “كيف تكون الكنيسة أكثر سينودسيّة ؟
- إنّ تنظيم أعمال الجمعيّة الدقيق والمتقن، أشاع مناخًا من الراحة شكّل حافزًا للعمل الجديّ والرصين، ويعود ذلك إلى الجهد الكبير الذي بذله أمين عام مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، مع اللّجنة المنظِّمة وسائر اللّجان التي أعدّت ونظمت أعمال الجمعيّة ورافقتها وتابعتها.
- “ونصب خيمته بيننا”(يوحنا 1، 14) : كلمة الله في وسْط شعبه
- كان حضور الكلمة المتجسّد بيننا وفينا يقودنا في جمعيّتنا السينودسيّة، وذلك من الصلاة الافتتاحيّة حتّى الختام. أصغينا إليه، واحتفلنا به، وتأمّلنا بما يقوله روحه القدّوس لنا اليوم. فتيقّنا أنّ شعب الله في الشرق الأوسط مدعوٌّ على الدوام إلى السير بهدي الكلمة وقوّة الروح في قلب التحدّيات والأوضاع الصعبة والمآسي، إلى أن يتحوّل هذا العالم إلى ملكوت الله، ملكوت السلام والعدل والفرح، حيث محبّة الله الوافرة معطاةٌ لكلّ إنسانٍ بلا تمييز.
- يدعو الله كنيسته لتكونَ أولاً جماعةً واحدةً تصغي إلى الكلمة، وتسيرُ بهديها، وتميّز ما توحي به حتّى تخرج بها لملاقاة كلّ إنسانٍ فتكون الكنيسة أمينةً لرسالتها. الخروج هو في أساس قيام الكنيسة ودعوتها. والكلمة تسبقُ الكنيسة وترسمُ لها الطريقَ لكي تلتمسَ من خلال إلهامات الروح الذي يقودها، حاجاتِ شعبها والعالم. في الفصل الأوّل من إنجيل القدّيس يوحنّا، يخرج الكلمةُ من لدنِ الآبِ ويَبسطُ خيمتَه في وسْطِنا، لا بل يبسط خيمته فينا أي في شعبه وكنيسته. بتجسّده، حقَّقَ الابنُ الوحيدُ حضور الله السريّ حضورًا فعليًّا وحسيًّا، إذ لم يعد مسكن الله في مكانٍ ما فقط، بل أصبح في جسده السرّي، وفي اتحاد أعضائه. فكلّما كان هذا الجسد متّحدًا ومنسجمًا ومنفتحًا، أتاح “للكلمة” الذي في داخله ملاقاة كلّ إنسانٍ.
- يلَخِّصُ الفعل “نصب خيمته” كلَّ مسيرةِ الله مع شعبِه، بدءًا من صورةِ خيمةِ الوعدِ أو خيمة اللقاء، في العهد القديم، وصولاً إلى سفر الرؤيا، خاتمة أسفار العهد الجديد، حيث يبسطُ الله خيمتَه في أورشليم الجديدة. وهكذا تُتَّوَج ُمسيرةُ الله مع شعبِه ببسطِ خيمتِه عليهِم وبينَهُم مرةً واحدةّ وإلى الأبَدِ بواسطةِ كلمتِه المتجسِّد. وبدورها تبسط الكنيسة خيمتها، كجوابٍ على حضور الله وعمله فيها، حتّى تبلغ إلى مسكنه، أي في السماوات،كما نقرأ في رؤيا ١٢،١٢:”إفْرَحِي أَيَّتُهَا السَّمَاوَاتُ، وافْرَحُوا أيها الباسطين خيمكم فيها”. فهذه الدعوة إلى الفرح إنّما تختصر الاحتفال بالخلاص، والابتهال بنشيد الغلبة الأخير، كعلامةٍ للرّجاء المسيحيّ، بما يتخطّى جميع مخاوفنا وهمومنا وشكوكنا، وبما يسمو فوق كلّ محسوسٍ ومدرك ومنظورٍ.
- على امتداد تاريخ الخلاص، يرافق الله شعبه ويهبه كلمته وروحه، كلَّ ما له وما عنده. ولكن في العهد الجديد، يتحقّق سير الله مع شعبه تحقّقًا فائق الإدراك بتجسّد الابن الذي يُظهر ارتباط الله بالإنسان ارتباطًا لا يعرف التخلّي ولا الإنكار. إنّه عهدٌ أبديّ وشركةٌ أبديّة، إذ بالمسيح يسوع يتمّ الاتّحاد بين الله والإنسان، مرةً واحدة (Ephapax). فالسينودسيّة التي نتوق إلى عيشها بكلّ أبعادها لن تبلغ ذروتها إلاّ بالشركة التي بها يُدخلنا الله جميعًا كشعب الله، في حياته الثالوثيّة الإلهيّة، وبالشركة بعضنا مع بعض بالالتفاف حول الكلمة وجسد الرّب القائم، وبالعمل وفق إلهامات الروح القدس لتحقيق الشركة مع العالم، من خلال إعلان البشرى الصالحة والالتزام بقضايا الكرامة الإنسانيّة.
ب – الكنيسة سينودسًا في طبيعتها وبعلاماتها
- ليست السينودسيّة أمرًا طارئًا على حياة الكنيسة، بل هي علامة ملازمةٌ لطبيعتها. السينودسيّة الحقّة تَمَثّلٌ بالمسيح وعيشٌ وفق نمط حياته، بصفتنا أعضاء في جسده السريّ. لأنّه هو القائم في صورة الله، لم يعدّ مساواته لله غنيمةً، بل أخلى ذاته آخذًا صورة عبد، وصار شبيهًا بنا حتى الموت (فل 2، 6-8). لقد نصب خيمة ألوهيّته وإنسانيّته بيننا، وعَبَر بنا من الموت إلى القيامة، وفتح لنا سبيل الحياة الإلهيّة، فسار معنا مسار الحياة وكان مصغيًا إلى آلامنا، وشاركنا أفراحنا، وأحبّنا حتّى الغاية. بالنسبة إلينا، المسيح هوالطريق (يوحنّا 14، 6). لذلك دُعي المسيحيّون الأوائل: رفاق الطريق و”أتباع يسوع “Sequela Jesu” .
- الكنيسة بطبيعتها سينودسيّة، لأنّها ليست فقط هيئةً مؤسّساتيّة وقانونيّة، بل هي أولاً سرّ المسيح الفاعل بين الذين يؤمنون به وفيهم (نور الأمم 1-5). وهذا الفعل يؤمّنه الروح القدس الذي أُعطي للكنيسة يوم العنصرة ليرافقها في رسالتها، و”يزوّدها بالعديد من مواهب السلطة ومواهب المنّة (أي المواهب الكرزماتيّة) التي يوجّهها بها” (نور الأمم، 4). وهكذا يسير المؤمنون معًا وراء المسيح القائم، ويُصغون إلى كلامه، ويميّزون معًا إرادته بهدي الروح القدس، ويتشاركون بالحوار في كيفيّة تحقيقها “هنا والآن”، وفق معطيات السياق ومستلزمات الملكوت.
- الكنيسة السينودسيّة هي كنيسة الوحدة، والجامعيّة، والقداسة، والرسوليّة. هذه العلامات الأربع تبني كنيسة الله في محلّ “humus“: أي في تاريخ، وجغرافيا، وثقافة، ولغة، وتحدّيات، وتقاليد، وشعر، وروايات إلخ. كنيستنا السينودسيّة هي كنيسة المشرق العربيّ، كما وصفها الأب جان كربون، الناقلة لسرّ المسيح والشاهدة على بشرى الخلاص بأمانةٍ حتى الاستشهاد في بعض الأحيان. صحيحٌ أنّها تحمل الوديعة وتنقلها في “آنيةٍ من خزف” (2 كور 7،4)، عبر الألم والضعف والخوف، ولكن بروح الرّجاء. ولا ريب في أنّ السينودسيّة تعزّز الوحدة وتبيّن الجامعيّة وتقود إلى القداسة، وتحفظ وحدة الرسوليّة والرسالة. وذلك من خلال السير معًا، شعبًا واحدًا توحّده كلمة الله وإرادته وتدبيره؛ شعبًا مقدّسًا يقدّسه حلولُ الروح القدس الذي يجدّد فيه على الدوام حياة المسيح القائم من الموت؛ شعبًا جامعًا لا تفرقة فيه، “إذ في المسيح يسوع ليس بعد عبد ولا حرّ” (غل 28،3)… بل الجميع أهل بيت الله؛ شعبًا تقبّل البشارة من الرّسل والكنائس على مرّ العصور، وينقلها إلى العالم بإبداعٍ يتوافق ويترافق مع متغيّرات السياق والظروف. لذلك تقوم السينودسيّة أوّلاً على عمل الروح القدس الذي يُظهرنا “هنا والآن”، شعب الله الجديد، وجسد المسيح السرّيّ، وهيكل الروح القدس الحيّ.
- تجد كنائسنا أنفسها في خضمّ نضالها من أجل البقاء والحضور الفاعل بمواجهة تحدّيات الوحدة في عالمٍ متجزأ تفرّقه الأنانيّة والانغلاق على الذات، وتحدّيات القداسة في عالم فقد بوصلة القيم الروحيّة والإنسانيّة، وتحدّيات الجامعيّة في عالمٍ يسوده التمييز وتطغى على ممارساته العنصريّةٌ البغيضة، وتحدّيات الرسوليّة حيث الترويج الإعلاميّ يعلو فوق إنجيل المحبّة والعدل والسلام. وإنّ لهذه التحدّيات بعدًا خطيرًا في الشرق الأوسط حيث الصراعات المسلّحة والعنف والحقد والحرب. وإن سير الكنائس معًا بروحٍ سينودوسيّة لكفيلٌ وحده بتأمين بشارة الإنجيل وإحلال الملكوت. هذه المسيرة تتطلّب سير شعب الله معًا، والاشتراك في تضميد الجراحات، والمؤاساة في الآلام، والتعاضد في المحن، وتنقية الذّاكرة، والمشاركة في صنع القرار ووضعه موضع التنفيذ.
ج – السينودسيّة في تقليدنا اللاهوتيّ الشرقيّ
- لطالما أبرز لاهوت كنائسنا الشرقيّة معنى السينودسيّة انطلاقًا من سرّ التدبير الخلاصيّ، وانطلاقًا من الحياة الثالوثيّة والشركة التاريخيّة مع الجنس البشريّ، المتمثّلة بدعوة شعب الله إلى الاجتماع، المعبّر عنها بالعبريّة بلفظة “كاهال”. لقد جعل الله من شعبه شريكًا له، هذا الشعب المكوّن من الرجال والنساء والأطفال ومن الغرباء أيضًا، الذي لبّى نداء الله وتوافد ليعبده ويصغي إلى كلمته ويميّز إرادته ويعمل بها.
- كنائسنا الشرقيّة الكاثوليكيّة جميعها، ما عدا الكنيسة الرومانية اللاتينيّة، هي ذات نظامٍ بطريركيّ وسينودسيّ (أنظر الأرقام 7-11، من القرار في الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة). ولكنّ السينودسيّة تُعاش فيها أولاً باللّيتورجيا، أي في عبادة الله الثالوث. فلا سينودس ما لم يُفتتح بالإفخارستيّا ويُختتم بها، علامة الشركة والوحدة بحضور شعب الله وموافقته على القرارات. بكلّ أسف، لأسبابٍ تاريخيّة صارت سينودسات الكنائس الشرقيّة اجتماعًا سنويًّا يقتصر على الأساقفة، على مثال المجالس الأسقفيّة الوطنيّة، في حين أنّها تختلف عنها من حيث الطبيعة والسلطة والارتباط بتقبّل شعب الله كلّه ((Reception. ولا ريب في أنّ العودة إلى الممارسة السينودسيّة بحضور ممثّلين عن كلّ النسيج الكنسيّ، تندرج أكثر وأفضل في دعوة قداسة البابا بالعودة إلى لاهوت شعب الله، وتفعيل حسّ الإيمان (Sensus Fidei)، وتحمّل المسؤولية الرسوليّة المشتركة وفق ما جاء في الفصل الثاني من الدستور العقائديّ نور الأمم (9-18). في مثل هذه العودة اعتلانٌ أجلى للشركة والمشاركة، ولخدمة الرسالة المشتركة.
- كنائسنا البطريركيّة كنائس رسوليّة وُلدت من رحم السينودسيّة، لا سيّما من المجامع أو السينودسات الإقليميّة، التي نشأت على حسب ما يروي المؤرّخون، في النصف الثاني من القرن الثاني في منطقة آسيا الصغرى. وهي ثُبّتت ككنائس بطريركيّة بعد مجمع خلقيدونية وفي مجموعة قوانين يوستنيانوس في القرن السادس. وقد تطوّر النظام البطريركيّ على مرّ العصور ولا سيّما بعد انضمام كنائسنا إلى الوحدة مع الكرسيّ الرومانيّ، بدءًا من القرن الثامن عشر، وتأثّر كثيرًا بالنظام الطائفيّ أو نظام الملل منذ منتصف القرن التاسع عشر، حيث كان العلمانيّون يشاركون في السينودس كـأعضاء. لكنّ تدخّل الشؤون السياسيّة والمصالح الشخصيّة أفضى إلى إبعاد المؤمنين العلمانيّين عن المشاركة في السينودسات، ممّا أفسح في المجال أمام شكلٍ من أشكال الإكليروسيّة والتفرّد بممارسة السلطة وبسط القرارات. وها نحن نعود اليوم، بدعوةٍ من قداسة البابا فرنسيس إلى تفعيل دور جميع الأعضاء في الجسد الواحد، وإلى عيشِ السينودسيّة في أبعادها كافةً.
- السينودسيّة في الشرق أمرٌ لا مفرّ منه كسبيلٍ لإدارة التنوّع في مختلف أشكاله. وهي ممارسةٌ معتمدة في سينودسات كنائسنا البطريركيّة، حيث قرار الأوّل (Protos) يرتبط بموافقة الجميع وحيث موقف الكلّ لا يتنافى مع قرار الأوّل، كما جاء في القانون 36 من مجموعة قوانين الرسل. كما طالت هذه الممارسة أيضًا مجالس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في بلدان المنطقة، حيث العمل على التعاون في تحقيق الرسالة الواحدة من خلال خطّةٍ راعويّة مشتركة. وقد عزّز إنشاء مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك هذا التعاون وبيّن أهميّة السير معًا، خصوصًا من خلال الرسائل الراعويّة التي وجّهها إلى المؤمنين بدءًا من سنة 1991، مستعرضًا فيها أهمّ المسائل المرتبطة بحضورهم وببشارة الإنجيل في الشرق الأوسط. أمّا ما يميّز السير معًا في كنائسنا الكاثوليكيّة الشرقيّة فهو انضمامها، بصفتها عائلةً كنسيّة واحدة، إلى مجلس كنائس الشرق الأوسط منذ 1990، في سبيل عيش الشراكة مع الإخوة المسيحيّين في المنطقة، والالتزام معًا بمواجهة التحدّيات الصعبة، والحوار مع المسلمين واليهود وسائر مكوّنات المجتمع، والسير معًا نحو إعلان الإنجيل إعلانًا لائقًا وفاعلاً.
- في هذه المسيرة السينودسيّة، اغتذت كنائسنا من الكنيسة الجامعة والشركة مع الحبر الرومانيّ لتسهم في بناء جامعيّة الكنيسة، مغنيةً إيّاها، بحضورها ومشاركتها في المجامع والمجالس الكاثوليكيّة، بغنى تراثها الكنسيّ واللاهوتيّ والآبائيّ والحضاريّ، ومذكّرةً على الدوام بأهميّتها كعلامة لكنيسة المسيح الواحدة، تحت شعار البابا يوحنا بولس الثاني القائل بأنّ: “الكنيسة تتنفّس برئتيها، الشرق والغرب” (ليكونوا واحدًا، 54). كنائسنا تجد في المسار السينودسيّ فرصةً فريدة لتجدّدها في أمانتها لسيّدها القائم من الموت، بالانقياد لإلهامات الروح القدس وما يقوله لها اليوم.
د – خبرة الجمعيّة السينودسيّة القاريّة
- لقد عبّر المشاركون المنتدَبون إلى الجمعيّة السينودسيّة القاريّة للكنائس الكاثوليكيّة في الشرق عن صعوبة التواصل معًا في ظلّ الظروف العصيبة التي مرّت، ولا تزال تمرّ بها بلدان المنطقة، لا سيما لجهة الاضطرابات والصراعات والحروب. وإنّ الاهتمام بشؤون النضال من أجل البقاء والوجود كان له الأثر البالغ على المسار السينودسيّ، والتفكّر معًا والإصغاء بعضنا إلى بعض، ولا سيّما إلى من يبدون وكأنهم قائمون على أطراف الحياة الكنسيّة وهوامشها. وقد ترك الزلزال الذي أصاب قسمًا من تركيا وسوريا في قلوب المجتمعين الكثير من الحزن والأسى فحملوا أهل هذه المناطق المنكوبة في صلواتهم وتفكيرهم، على مدى أيّام لقائهم، وعملوا ما باستطاعتهم للتعبير عن شركتهم مع الضحايا وتضامنهم مع ذويهم. إنّ الجمعيّة السينودسيّة أحيت الأمل بانطلاقةٍ جديدة لكنائسنا لتعود إلى السير معًا، فتؤدي شهادتها ورسالتها في خدمة الإنجيل، لا سيّما حيث الاختلاط بالحضارات المتنوّعة، والديانات المتعدّدة، والتيّارات الفكريّة المختلفة، والسياقات الخاصّة بكل بلدٍ ومجتمعٍ وشعبٍ. لقد أتاح المسار السينودسيّ، حيث تمّ التقيّد بتوجّهاته، عيش خبرة السير معًا والإصغاء والتعبير بحريّة ولا سيّما من قبل النساء والشبيبة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 1.1، ص 3).
- لقد أجمعت خلاصات الكنائس التي عُرضت خلال الجمعيّة السينودسيّة ومداولات حلقات العمل على أهميّة المسائل التالية : الوحدة في التنوّع، الليترجيا حياتنا، دعوة إلى مسكونيّةٍ خلاّقة ومتجدّدة، كنيسةُ الانفتاح على الآخر المختلِف، شركة ورجاء في قلب المعاناة، في سبيل بنى متجدّدة من أجل كنيسة أكثر سينودسيّة، وسائل الإعلام والثقافة الرقميّة.
أولاً : الوحدة في التنوّع: مصدر غنىً أو سبب عثار؟
- عرفت كنيسة أنطاكيا منذ نشأتها أنماطًا متنوّعة من الحياة الكنسيّة والليتورجيّة، وانفتحت على حضارات الشعوب المستقرّة فيها ولغاتها وتقاليدها. وكذلك عاشت كنائس المنطقة وحدتها في تنوّعها في خدمة بشارة الإنجيل والشهادة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 5.1، ص 4). لم تكن هذه الوحدة تعني التوحيد أو الذوبان (الكنيسة الكلدانية، 1، ص 3)، بل كانت تشاركًا في الخير عينه، وإجابةً على التساؤلات المطروحة، ومواجهةً للتحدّيات المشتركة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر، ص 1). أساس هذه الوحدة المعموديّة الواحدة، والشركة في جسد المسيح الواحد، والدعوة إلى تحقيق الرسالة الواحدة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 4,1، ص 4). الكنيسة الواحدة والمتنوّعة هي كنيسة متجدّدة على الدوام بروح الله الذي يكمّلها بالمواهب والخدم والبنى على أنواعها، وبوحدة التنشئة فيها واحتضان الجميع دون إقصاء أحد (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر، ص 2).
- تعتلن الوحدة بالتنوّع في الكنيسة البطريركيّة ضمن المجمع الواحد حيث الأبرشيّات تتشارك المسؤوليّة والرعاية، وتتعاون في الاهتمام بشعب الله، من خلال وحدة الليتورجيا والتاريخ والهويّة والمرجع. وتمتد هذه الوحدة إلى الشركة مع الكنائس الكاثوليكيّة في البلد الواحد والمنطقة الواحدة، مما أدّى إلى قيام بنى تشاركيّة على مثال مجالس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في كل بلدٍ، ومجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، وذلك للتعاون معًا في المساحة الراعويّة المشتركة وفي خدمة البشارة الواحدة. فكلّ كنيسة تحافظ على هويّتها الخاصّة وتقليدها العريق، ممّا يؤكّدالوحدة في التنوّع، ويُبرز غنى التعدّدية وأهميّتها في التعبير عن الإيمان الواحد، وتجسيد جامعيّة الكنيسة، سواء بين الكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة، أو مع الكنيسة الكاثوليكيّة الرومانيّة، أو مع الكنائس الأرثوذكسيّة والبروتستنتيّة وغيرها المتواجدة في منطقة الشرق الأوسط.
- يتمتّع أبناء كنائسنا وبناتها بالكفاءة والمواهب المتنوّعة التي يضعونها طوعًا في خدمة وحدة الكنيسة وتجدّدها (الكنيسة السريانيّة الكاثوليكيّة في العراق، فقرة 17، ص3). لذلك لا بدّ من أن تسهر السلطة الكنسيّة ومعها الشعب كلّه على حسن تمييز المواهب والخدم، ليتحمّل جميعهم المسؤولية المشتركة، في شتّى مجالات الحياة الكنسيّة (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 21 و 23، ص 10و11). وفي هذا الشأن، تمّت الإشارة إلى دور الحركات الكاريزماتيّة في مصر، في تقريب الشباب الكاثوليكيّ بعضه من بعض عن طريق التسبيح والصلاة معًا (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر، ص2)، وأثنى البعض على سعي الرهبانيّات إلى عيش الفضائل الروحيّة (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 5، ص 4)، وطالبوا بتقدير خدمة الكهنة حقّ قدرها ولا سيّما في الظروف الصعبة الحاليّة (الكنيسة السريانيّة في العراق، فقرة 15، ص 3)، كما أشاروا إلى رسالة الكهنة المتزوجين وتأثيرها الإيجابيّ في العائلة والأولاد والشباب. كما ورد طلبٌ بإعادة النظر في مستلزمات إعداد المتزوّجين لقبول الرتب المقدّسة، آخذين بعين الاعتبار للجوانب اللاهوتيّة والقانونيّة والراعويّة والإنسانيّة والاجتماعيّة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 13.3، ص 8).
- لكنّ الحفاظ على الوحدة في التنوّع ليس بالأمر السهل بل هو عطية من الروح القدس. وفي سبيل حسن إدارة التنوّع ضمن حدود الوحدة، لا بدّ من بذل الجهود الكبيرة والتضحيات بروح التواضع والأخوّة والتوبة والأمانة للمسيح. وقد أشار المشاركون في الجمعيّة السينودسيّة إلى بعض الأمور التي تسيء إلى اعتلان الوحدة في الكنيسة الخاصّة، وتؤدّي إلى التفرّق في شعب الله وشرذمته، من مثل التوتّر في العلاقة بين الإكليروس والعلمانيّين وتعاظم الهوّة بينهم (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 7.1، ص 4)، والتجاوزات الأخلاقيّة التي يرتكبها بعض الإكليريكيّين والمكرّسين والعلمانيّين، وسعي بعضهم وراء البذخ. هذه الأمور أبعدت العديد من الشباب عن الكنيسة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 3.2، ص 5-6)، وأسهمت في أرهاق الكهنة بازدياد الضغوط عليهم وفي تراجع عددهم (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 7.1، ص 4).
- إنّ عدم معالجة بعض التوتّرات قد يؤدّي إلى تشويه غنى التنوّع، وكذلك سوء ممارسة السلطة التراتبيّة بالتخلّي عن روح الشركة والمشاركة. فممارسة الخدم المرسومة وغير المرسومة تهدف إلى بنيان جسد المسيح بنيانًا متناسقًا. فحيث لا تكون ممارسة السلطة بروح الخدمة، تَضعف الثقةُ بين المؤمنين والرؤساء الكنسيّين (مجلس الكنائس الكاثوليكيّة في سوريا، فقرة 6، ص 2)، وتنتشر الروح الإكليروسيّة التي من علاماتها استغلال الأساقفة والكهنة والمكرّسين سلطتهم بطريقة مفرطة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر، ص3). وقد أبدى بعض المشاركين انزعاجهم من تفرّد السلطة الكنسيّة بقراراتها من دون العودة إلى استشارة المؤمنين (الكنيسة السريانيّة في العراق، فقرة 21، ص 4)، وكذلك من عدم التنسيق بين الخدّام المرسومين وشركائهم العلمانيّين (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 8، ص 5). وقد أشار البعض أيضًا إلى النقص في التنسيق والتعاون بين الرهبانيّات والأبرشيّات (الكنيسة الكلدانيّة في العراق ، فقرة 4، ص 5). وقد أدّت هذه الأمور إلى تفاقم الروح السلبيّة والإفقار الروحيّ لمعنى الشركة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر، ص 3)، وإلى تشكيك المؤمنين بصوابيّة قرارات السلطة الكنسيّة، كلّ مرةٍ استأثرت بالقرارات على حساب روح الخدمة ممّا حال دون اعتلان الوحدة بالتنوّع.
ثانيًا: الليتورجيا حياتنا
- يؤكّد الدستور الراعويّ في الليتورجيا أنّها “القمّة التي يرتقي إليها عمل الكنيسة والمنبع الذي تنبجس منه كلّ قوّتها. فجميع الجهود الرسوليّة تهدف إلى أن يتوحّد الجميع، وقد أصبحوا أبناء الله بالإيمان والمعمودية، ويسبّحوا الله في وسط الكنيسة، ويشتركوا في الذبيحة، ويأكلوا فصح الربّ” (المجمع الفاتيكاني الثاني المسكونيّ، دستور في الليتورجيا المقدّسة، الفقرة 10). الليتورجيا هي حياة الكنائس في الشرق، والاحتفال بها هو محور الحياة الكنسيّة (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 13، ص 8)، وذروة الاحتفالات الليتورجيّة هي الإفخارستيّا لأنّها تبني الكنيسة جسد المسيح (1 كور 12).
- مع التأكيد على الإقرار بجمال ليتورجيّات الكنائس الشرقيّة وروحانيّاتها (الكنيسة اللاتينيّة في الأراضي المقدّسة)، تشير التقارير عمومًا إلى توتّرات حولها، نتيجة التطبيق الحرفيّ أحيانًا لقواعد التقليد على حساب فهم المؤمنين ومشاركتهم في فعل العبادة والصلاة، والمشاركة الفاعلة في الأسرار. من هذه التوتّرات على سبيل المثال : ظهور بعض التعبّدات الزائفة والظواهر المنحرفة وربطها بالظهورات (مجلس الكنائس الكاثوليكيّة في سوريا، فقرة 3، ص 3)، واعتبار الخروج عن الأنماط الليتورجيّة التقليديّة مشكلة كبيرة (الكنيسة السريانيّة في العراق، فقرة 17، ص 3)، بالإضافة إلى عدم قناعة الجيل الجديد بأهميّة الطقوس والرموز (مجلس الكنائس الكاثوليكيّة في سوريا، فقرة 1، ص 4)، وذلك بسبب النقص في التنشئة الليتورجيّة (الكنيسة السريانيّة في العراق، فقرة 16، ص 3). كما أن الحساسيّات أو الارتباط بهذه الطريقة أو تلك في الاحتفال الليتورجيّ، تؤدي أحيانًا إلى الانقسامات، وتُضعف علامات الشركة والثقة في حبّ الكنيسة الأموميّ. وتبرز كذلك إشكاليّة العظة في أسلوبها ومضمونها وهدفها، بالإضافة إلى الفوضى في اختيار الترانيم، وغياب مرجعيّة مراقبة النصوص، وتحديد طبيعة استخدامها في الكنيسة نصًّا ولحنًا. لذلك طالب البعض بعدم التزمّت الليتورجيّ، وبضرورة الانفتاح على تطوير الصلوات الليتورجيّة وتناغمها بشكلٍ يجذب المؤمنين ولا سيّما الشباب منهم (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 2,1، ص 3) والقيام بإصلاح ليتورجيّ يأخذ بعين الاعتبار الحفاظ على الثوابت والتقليد، من جهة، والانفتاح على الحداثة، من جهة ثانية (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، الفقرة 4,2، ص 6). من هنا تبرز أهميّة مواكبة الليتورجيا للواقع والسياق، ووجوب العمل على تجديدها (تقرير الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 2، ص 3. ومجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر، ص 5)، تجديدًا مُلائمًا يستند إلى العودة إلى الجذور.
ثالثًا : دعوة إلى مسكونيّة خلاّقة ومتجدّدة
- الكنيسة السينودسيّة مسكونيّة لأنّها تحقيق لسير شعب الله معًا (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 19، ص 10)، الذي لا يكتمل من دون لقاء الإخوة والأخوات من الكنائس الأخرى (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 3.1، ص 3-4). في الشرق، نبقى مسيحيّين معًا نشهد للقائم من بين الأموات أو لا نبقى، لأنّ الحضور المسيحيّ مرتبط بشهادة كلّ مؤمن وكلّ كنيسة، وقائمٌ خصوصًا على شهادة المسيحيّين المشتركة. وممّا لاريب فيه أنّ الحركة المسكونيّة في الشرق الأوسط قد ساعدت في خلق واقعٍ حواريّ أدّى إلى التعاون والتفاعل الناشط بين الكنائس (الكنيسة السريانيّة في العراق، فقرة 6، ص 2)، وإلى القيام بعملٍ مشترك في الرعاية الإنسانيّة وخدمة المحبّة، وذلك من خلال خبراتٍ روحيّة وكنسيّة على أرض الواقع (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 7,3، ص 7). رأى البعض في خبرة الزيجات المختلطة أمرًا إيجابيًّا في تمتين العلاقة بين الكنائس (الكنيسة السريانيّة في العراق، فقرة 6، ص 2). وقد برز تباين حول هذا الموضوع، لا سيما مع الكنيسة القبطيّة الكاثوليكيّة.
- الوحدة مسألة حياة أو موت للمسيحيّين في الشرق (البطريرك مكسيموس الرابع الصايغ). لذلك جاء انضمام عائلة الكنائس الكاثوليكيّة إلى مجلس كنائس الشرق الأوسط سنة 1990، تعبيرًا جليًّا عن الرغبة في تحقيق الوحدة في التنوّع، من خلال التلاقي والتعاون في مجالات الحياة الكنسيّة، ولا سيّما خدمة البشارة، ومن خلال المعيّة مع سائر المواطنين على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم. وقد أسهم المجلس في نشر الروح المسكونيّة بين الكنائس، وعزّز التقارب والتعاون الراعويّ والشهادة المشتركة. ولذلك اعتُبرت الحركة المسكونيّة في الشرق الأوسط نموذجًا فريدًا من السير معًا بما يتخطّى أطر العائلة الكنسيّة الواحدة، والالتزام بالمعيّة بين الكنائس على تنوّعها واختلافاتها العقائديّة والليتورجيّة والقانونيّة.
- إنّ الانطواء على الهويّة الطائفيّة والخوف من الانفتاح على الآخر المختلف (الكنيسة السريانيّة في العراق، فقرة 3، ص 1) والنقص في الشفافيّة (الكنيسة اللاتينيّة في الأراضي المقدّسة، فقرة 5، ص 2)، وتفشّي ظاهرة الاقتناص التي تمارسها بعض الجماعات الإنجيليّة الحديثة العهد بذريعة تقديم المساعدات الماليّة والطبيّة والغذائيّة في قلب الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة الحادّة، أمورٌ خلقت ارتباكًا على صعيد العلاقات بين المسيحيّين وأساءت إلى الروح المسكونيّة ( مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 8,2، ص 6). أضف إلى ذلك بعض التوتّرات والاختلافات في علاقة كنائس الغرب بالكنائس في الشرق (مجلس الكنائس الكاثوليكيّة في سوريا، فقرة 2، ص 3)، وإشكاليّة القانون الكنسيّ بين الوحدة واللامركزيّة، والتداخلات السياسيّة في الشؤون المسكونيّة (الكنيسة اللاتينيّة)، التي جعلت البعض يتكلّم عن الشتاء المسكونيّ (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر، ص 4)، بعد عصر المسكونيّة الذهبيّ في السيتينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي.
رابعًا : كنيسة الانفتاح على الآخر المختلِف (توسيع أرجاء الخيمة)
- يعيش المسيحيّون في منطقة الشرق الأوسط المتوتّرة سياسيًّا وأمنيّا واجتماعيًّا، خطر التهجير والسبي والتهديد بدمار التراث المسيحيّ، بوجود الصراع الشيعيّ-السنّي في العراق واليمن وسوريا، وسيطرة المنظّمات الأصوليّة والحركات في بعض الدول (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 11,2، ص 6). أشارت تقارير الكنائس الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط، وأعمال الجمعية السينودسيّة، إلى توتّرات متعدّدة وهي: الخوف من عودة أعمال العنف (الكنيسة السريانيّة في العراق، فقرة 2، ص 1)، وخطر الذوبان في الثقافة الإسلاميّة الطاغية (الكنيسة السريانيّة في العراق، فقرة 13، ص 3)، وتأثير التطرّف الدينيّ على الحضور المسيحيّ (مجلس الكنائس الكاثوليكيّة في سوريا، فقرة 9، ص 3)، وعدم ابتداع طرق جديدة للإصغاء وإزالة الحواجز (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة10، ص 6)، وعدم توفّر مناخ ملائم للحوار (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 11، ص 7)، واستقرار اللامبالاة بالآخر المختلِف وعدم الاهتمام به (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 24، ص 11) وعقم محاولات الحوار والتقارب في بعض الحالات (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 18، ص 9)، وإشكاليّة توطين اللاجئين الفلسطينيّين والنازحين السوريّين ذات الأغلبية الإسلاميّة، بما يلحقه من خلل في إمكانيّة عيش حرية الإيمان عمومًا، وممارسة الشعائر الدينيّة المسيحيّة بانتظام وحريّة خصوصًا (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 10,2، ص 6). على الرغم من كلّ ذلك، برزت تأكيدات جليّة، لانفتاح الكنائس المحليّة على الآخر المختلِف، سواءٌ في الإيمان أو في الثقافة، أو في المفاهيم والخيارات. وقد شدّدت هذه التأكيدات على ضرورة الإصغاء والحوار والمعيّة، فخيمة الرّب أي الكنيسة، التي نصبها في قلب الإنسان وفي العالم، تتّسع للجميع ولا تستثني أحدًا البتّة.
- مفهوم الآخر المختلِف لا ينحصر في النساء والرجال الذين ينتمون إلى كنائس أخرى، ولا إلى ديانات أخرى. الآخر المختلف قد يكون الأقرب لكلّ شخص. الكنيسة بأمانتها للمسيح تواصل فعل الفداء عينه، في محبّتها لكلّ إنسانٍ دون تمييز، ولا يمكنها أن تقصي أحدًا، لأنّها تفقد عندها هويّتها ورسالتها التي هي مواصلة الفداء بالمسيح. وقد أتت مشاركة مؤمنين من أصحاب الاحتياجات الخاصّة، المعوّقين جسديًّا والمجروحين بذكائهم، سواءٌ بالصلاة أو في حلقات العمل والنقاشات، تعبيرًا بليغًا عن وساعة خيمة الكنيسة خلال هذه الجمعيّة، إذ أكّد المشاركون فيها، من ذوي الاحتياجات الخاصّة، ميزة اشتراكهم في حياة الكنيسة ورسالتها وفق ما تتيحه لهم قدراتهم (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 11,1، ص 4) ففي جميع الأحوال، لا بدّ من المحافظة على كرامة الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصّة من جهة، ومن تنظيم دورات تنشئة وتوعية على هذا الأمر في الرعايا والمدارس والمعاهد والجامعات، من جهةٍ أخرى. من هنا تبرز أهمية تنشئة مرشدين كفوئين يرافقون هؤلاء الأشخاص وعائلاتهم.
- الكنيسة تكون أكثر سينودسيّة، بسعيها الحثيث إلى التعايش والحوار مع الأديان الأخرى وإظهارها وجه الله الواحد (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 6، ص 5). ويشكّل الإصغاء الخطوة الأولى للترحيب بالآخر المختلِف (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 9، ص 6). في هذا الخصوص، أثنت التقارير وحلقات الحوار على المبادرة التي قام بها قداسة البابا فرنسيس مع الإمام الأكبر أحمد الطيّب شيخ الأزهر الشريف، بإصدارهما وثيقة الأخوّة الإنسانيّة، ورحّبوا بثمارها الإيجابيّة على أرض الواقع، وأثنوا على ما تركته زيارات قداسة البابا فرنسيس الى بلدان المنطقة من أثرٍ بالغ ولا سيّما زيارته للمرجعيّة الشيعيّة آية الله السيستانيّ (الكنيسة السريانية في العراق، فقرة 13، ص 3)، أكّدت إيجابيّة الحوار ولا سيّما مع المسلمين.
- تتعزّز فرص الحوار من خلال المشاركة في المؤسّسات والمؤتمرات الحواريّة (الكنيسة الكلدانية في العراق، فقرة 18، ص 10)، وفي اللقاءات والتجمّعات التي تضمّ مؤمنين من ديانات مختلفة، وفي العمل مع المرجعيّات الدينيّة كافةً لإرساء قواعد مشتركة للحوار (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر، ص 2). وكان تشديدٌ على أهميّة التنشئة على الحوار، وتشجيعٌ لمبادرات الانفتاح على أبناء الديانات الأخرى، وتجسيد الأخوّة الإنسانية (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 5,1، ص 4)، وعلى أهمية ابتداع طرق جديدة في الحوار تسهم في نقله من المكاتب الإدارية إلى الرعايا وأرض الواقع (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 2,4، ص 8).
خامسًا : شركةٌ ورجاء في قلب المعاناة: نحو كنيسة متواضعة (حبة الخردل،مرقس 4، 30-32)
- ولدت الكنائس في الشرق الأوسط من رحم المعاناة ووسْط الاضطهادات، وتاريخها كتب بالدم. فسير الشهداء شكّلت القسط الأوفر من السنكسار، ومصدر إلهام للعديد من المؤمنين والمؤمنات الّذين استمدّوا منها طاقة الرّجاء للبقاء والاستمرار، ووأمّا ذخائرهم فهي إلى يومنا هذا، مصدر نعم ومعجزات. هذه الحقيقة لم تمنع بروز توتّرات وتحدّيات أشارت إليها بوضوح خلاصات الإصغاء في الكنائس، وكذلك حلقات الحوار في الجمعية السينودسيّة، وفي طليعتها تحدّي الهجرة (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 3، ص4). لقد أشارت التقارير والمحادثات إلى إشكاليّة أساسيّة تعاني منها كنائسنا، وهي تزداد حدّةً وخطورة، ألا وهي هجرة أبناء الكنائس الكثيفة، مما يؤدي إلى إفراغها من قدراتها وطاقاتها (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 7,1، ص 4)، وإلى تشتّت العائلات في بلاد الاغتراب، والنزوح الداخليّ (الكنسية السريانيّة في العراق، فقرة 2، ص1). وقد أصبحت هذه الهجرة خطرًا وجوديًّا (مجلس الكنائس الكاثوليكيّة في سوريا، ص 1-2).
- على الرغم من المبادرات الحثيثة التي قام ويقوم بها قداسة البابا فرنسيس من أجل الحفاظ على الوجود المسيحيّ في المنطقة، وعلى الرغم من جهود أصحاب الغبطة البطاركة والأساقفة للحفاظ على أفضل العلاقات مع السلطات المدنيّة، ومع أبناء الديانات الأخرى، تزداد المخاوف من عودة موجات العنف الأصوليّة، وتفاقم الهجرة، وتحدّيات استقبال المهاجرين والنازحين (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر، ص 4)، وكيفيّة الحفاظ على هوية المهاجرين وتقاليدهم وطقوسهم في بلدان الانتشار، وعلى انتمائهم الكنسيّ من جهة، والعلاقة مع الكنيسة اللاتينيّة، وتوازن الاندماج في بلدان الانتشار، من جهة أخرى (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 9,2، ص 6). كما طرح بعض المشاركين تساؤلات حول نقاط دقيقة يواجهها المؤمنون في بلدان الشرق الأوسط، منها: موضوع حمل السلاح، والخدمة العسكريّة الإلزاميّة ولاهوت التحرير… (مجلس الكنائس الكاثوليكيّة في سوريا، فقرة 2، ص 4)، وموضوع التزام القادة المسيحيّين بالقيم الروحيّة خلال تولّيهم المسؤوليّة السياسيّة، ولا سيما عند اتخاذ قرارات الحرب والسلم (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 6,3، ص 7).
- أمّا التأكيدات التي أبرزتها التقارير وعمل الفرق فتُختصر بثلاث:
- التأكيد الأوّل: إن انفتاح الكنيسة والإصغاء إلى الآراء المختلفة، فتح آفاقًا للرجاء ووحّد المسيحيّين في الشهادة لإيمانهم، وأذكى الشعور بالانتماء إلى الكنيسة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 1,1، ص3) .
- التأكيد الثاني: الثقة بمبادرات الكنائس المحليّة والمجلس الوطنيّة، وعدم انتظار الحلول من الخارج (جلسة عموميّة 2، الثلاثاء 14 شباط/فبراير 2023).
- التأكيد الثالث: الشهادة بأنّ نموذج الحياة المكرّسة يمثّل نموذجًا جيدًا في عيش الأمانة وفي الشهادة للرجاء في قلب المعاناة (محادثة روحيّة، فريق اللطف).
سادسًا : في سبيل بنىً متجدّدة لكنيسة أكثر سينودسية
- لقد تبيّن في الجمعيّة أنّ الكنائس الشرقيّة في بنيتها سينودسيّة. ولكي تكون هذه البنى على اختلافها في خدمة الشركة والشراكة والرسالة، لا بدّ من تجديدها باستمرار، ولا سيما من خلال تفعيلها على المستويات المختلفة بدءًا من المجالس الراعويّة والأبرشيّة، وصولاً إلى مجالس البطاركة والأساقفة الوطنيّة، ومجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، حتّى تكون أكثر تشاركيّة واحترافيّة وشفافيّة، ولا تشكّل عائقًا أمام نقل الرسالة إلى الناس أجمعين. وقد طالب بعض العلمانيّين والعلمانيّات بعيش الشراكة في قلب الكنيسة بالاشتراك في تحمّل المسؤولية، وفي تحمّل عبء الرسالة مع أساقفتهم وكهنتهم (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 4,4، ص 8)، وأوصوا بالسهر على عمل اللجان الماليّة واللجان المعنيّة بتوفير الإغاثة والمساعدة للمحتاجين والمعوزين والمنكوبين (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 11، ص 22).
- في سبيل تلبية دعوة قداسة البابا فرنسيس إلى كنيسةٍ أكثر سينودسيّة، تسهر الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة على مقاربة التعدّدية الثقافية بوعيٍ أكبر وتقديرٍ للآخر، ولا سيّما عند مرافقة الشبّان والشابّات الذين يشعرون بالغربة عن الكنيسة، لئلا يتحوّل شعورهم هذا مع الوقت إلى لامبالاة. فقد أشار عدد من المشاركين في الجمعيّة إلى تردّد العلمانيّين والعلمانيّات أحيانًا في المشاركة في حياة الكنيسة بسبب قلّة الشفافيّة، وسيطرة الذهنيّة السلطويّة عند بعض الإكليريكيّين (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 8,1، ص 4). كما لفت البعض الآخر من المشاركين إلى غلبة الطابع المؤسّساتيّ في الكنيسة ممّا يؤدّي في بعض الأحيان إلى تغيير أسس الخدمة الكنسيّة والكهنوتيّة والرهبانيّة، وذلك بسبب ابتعادها عن روح الرسالة المجانيّة والشهادة الشخصيّة. وفي بعض الأحيان اكتسبت مؤسسات كنسيّة طابعًا تنظيميًّا أفاد منه الميسورون أكثر من الفقراء (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 6,2، ص 6). وقد أعرب البعض عن حاجة الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة إلى مراجعة مفهوم القيادة الكنسيّة ومهامها ومبادئها، واعتماد أسس الإدارة الحديثة والحوكمة. إنّ تجديد البنى الكنسيّة يقتضي اعتبارًا خاصًّا واهتمامًا أكبر براعويّة العائلة والمرأة والشباب.
- راعويّة العائلة
- رأى المشاركون في الجمعيّة وجوب السهر على تنشئة العائلة، وتربية الأولاد على الصلاة وقراءة الكتاب المقدس والتدرّب على الإصغاء لكلمة الله (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 1,4، ص 8). وضمن هذه التنشئة لا بدّ من إيلاء المواضيع الأخلاقيّة المستجدّة الأهميّة الواجبة بجرأةٍ وشفافيّة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 4,4، ص 9). لذلك أوصى المشاركون بتخصيص برامج خاصّة للمتزوّجين والمخطوبين (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، المقطع الأخير في فقرة 5، ص 5)، ولمرافقة الأزواج والأسر الذين يواجهون صعوباتٍ من جرّاء التحوّلات الثقافيّة. وهكذا تنكبّ الكنيسة على معالجة ظاهرة تفكّك العائلة، وتعمل على حمايتها وتحصينها، لأنّها نواة الكنيسة والمجتمع (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 2,3، ص 7).
- تشهد الكنائس في الآونة الأخيرة تزايدًا في عدد الأزواج المنفصلين، وأولئك الذين يلجأون إلى تغيير مذهبهم أو دينهم للحصول على الطلاق، والنساء اللواتي يعمدن إلى الإجهاض… (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 13,2، ص 7) ، ومجتمع الميم LGBTQ)) الذي يسهم في بعض الأحيان في نقل أفكار ومفاهيم من المجتمع الغربيّ، وانتشار نظريّة الجندرة في عالم التواصل الاجتماعيّ الإلكترونيّ وتأثيرها على شبيبتنا (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 12,2، ص 6).
- غالبًا ما تطرح مسألة التقرّب من الأسرار في بعض الحالات المذكورة سابقًا إشكاليّة في الكنائس. ويسود السؤال حول التمييز الصحيح، في مثل هذه المسائل، في ضوء كلمة الله وتعليم الكنيسة وفق المعطيات المطروحة. ويرى البعض وجوب تحديد موقف الكنيسة الكاثوليكيّة من قضايا الجنس والمسائل الأخلاقيّة المرتبطة به، في حين يشدّد البعض الآخر على أمورٍ قد تؤدّي إلى تفادي بعض المشاكل والصعوبات من خلال إيجاد وسائل جديدة لدعم العائلات من قبل المؤسسات الكنسيّة (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 14، ص 8)، وتأمين برامج الإعداد لسرّ الزواج على وجهٍ صحيح (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 17، ص 10)، والتواصل مع العائلات التي ابتعدت عن الكنائس (مجلس الكنائس الكاثوليكيّة في سوريا، فقرة 1، ص 4)، والسعي إلى عدم إقصاء أو استثناء أحدٍ في المسيرة السينودسيّة.
- دعوة المرأة وحضورها
- لقد أكّد المشاركون في الجمعيّة على دور المرأة وحضورها في حياة الكنيسة ورسالتها، لكونها عنصرًا أساسيًّا وفاعلاً ورائدًا في المسار السينودسيّ (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 3,3، ص 7). وقد جاءت مشاركتها في هذا المسار نتيجة التزامها في رسالة الكنيسة على الرغم من غيابها عن مراكز القرار، مما دفع مكتب راعويّة المرأة في الكنيسة المارونيّة إلى المبادرة في سبيل عقد سينودس خاص بالمرأة. وهذا ما يشكّل سابقة في كنائسنا الشرقيّة، من حيث معانيه ومناهجه اللاهوتيّة والأكاديميّة والراعويّة والاجتماعيّة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 14,3، ص 8). وقد ارتدى هذا المسار السينودسيّ بعدًا مسكونيًّا وشاملاً يطال أعضاء الكنائس الأخرى، بل والمسلمين أيضًا.
- تركّز التمييز خلال النقاش في حلقات الحوار بشأن دعوة المرأة وحضورها في الكنيسة، على مشاركتها في الإدارة والحوكمة. ويترجّى المشاركون في هذه الجمعيّة من الكنيسة، خطواتٍ صريحة وملزمة بشأن المرأة ودورها (الكنيسة السريانيّة في العراق، فقرة 16، ص 3). هذا الأمر يتطلّب جرأةً نبويّة لا سيما عند طرح مسألة خدمة المرأة على بساط البحث (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 14,1، ص 5). ولكن قبل البحث في هذه المسألة، يتوجّب تأمين تنشئة لاهوتيّة وكنسيّة وتقنيّة للنساء الملتزمات في الكنيسة، قبل قيام بعضهن بدورٍ فاعلٍ في الإدارة أو قبولهن رتبةً مقدّسة، مثل الشمّاسيّة لخدمة المحبّة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 16,1، ص 5).
- راعويّة الشباب
- شدّد المشاركون في الجمعيّة على حضور الشباب ودورهم في حياة الكنيسة، وعلى مرافقتهم وتنشئتهم، ولا سيما أولئك الذين ابتعدوا عن شركة الكنيسة (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر، ص 3)، ومداواة جراحات ضحايا التجاوزات الأخلاقيّة التي ارتكبها بعض الإكليريكيّين والعلمانيّين بحقّهم، ومساعدتهم على مواجهة التحدّيات التي يصادفونها (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 3,2، ص 5-6(.
- ورأى الشباب المشاركون في الجمعيّة ضرورة تشجيع وتعزيز مبادرات واقعيّة من شأنها حثّ الشباب في الكنائس على التلاقي والعمل معًا في خدمة البشارة والشهادة. من هذه الخبرات، على سبيل المثال، اللقاءات التحضيريّة الخاصّة بالشباب لمواكبة الجمعيّة السينودسيّة، والعمل الراعويّ الجامعيّ، ولقاءات الصلاة وفق روحانيّة جماعة تيزيه المسكونيّة، والأيام الوطنيّة للشباب، والخبرة السينودسيّة المسكونيّة التي تجمع الشباب من دول الشرق الأوسط برعاية مجموعة “نختار الحياة” ومؤسسة “برو أورينتي” (من أجل الشرق)، وغيرها من اللقاءات والتجمّعات… فالشباب بحاجةٍ اليوم إلى أن يجدوا في خلاصة هذه الجمعيّة السينودسيّة دلائل على التزام السلطة الكنسيّة بهذه الأمور، من خلال الاعتراف بعلامات الضعف، وقدرتها على التطرّق إلى أمورٍ دقيقة تتطلّب كلمة نبويّة وموقفًا صريحاً. فتعاطي المسؤولين الكنسيّين بشفافيّة وصدق على الصعد كافةً، يُسهم في إعادة بناء ثقة الشباب بهم، مع ما يتطلّبه ذلك من تنقية الذاكرة وعيش مسيرة التوبة. كلّ هذه الأمور تؤدّي إلى تجدّد راعويّة الشباب وجذبهم إلى شخص يسوع المسيح، كما يؤكّد البابا فرنسيس في الفصل السابع من الإرشاد الرسوليّ : “المسيح يحيا”. وبذلك تكون الكنيسة أكثر سينودسيّة (الشبيبة، مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان).
سابعًا : وسائل الإعلام والثقافة الرقميّة وإساهاماتها في جعل الكنيسة أكثر سينودسيّة
- الإعلام ُوالإعلانُ يندرجان في أساس رسالة الكنيسة المؤتمنة على حمل بشرى الخلاص للعالم. وقد كانت الكنيسة في استنباط أساليب وتقنيّات ووسائل إعلاميّة وإعلانيّة لإيصال بشرى القيامة والخلاص. لقد برزت منذ القديم في كنائسنا الشرقيّة نُسخ الكتاب المقدّس والصلوات المخطوطة يدويًا، كوسيلة نشر وإعلام مكتوبة، ثمّ اعتُمدت الأيقونة التي كانت تنقل أحداث الخلاص الكتابيّة وتجسِّدُها، كوسيلة إعلان مرئي. ومن ثمّ برزت في الكنائس ذات التقليد السريانيّ ظاهرة استخدام الألحان الشعبيّة واستبدال نصوصها بنصوص نثريّة وشعريّة للآباء القدّيسين، ومن أبرزهم القديس أفرام السريانيّ كنّارة الروح القدس، فكانت هذه وسيلة إعلاميّة مسموعة.
- واكبت الكنائس الشرقيّة تطوّر وسائل الإعلام، فأنشأت المؤسّسات الإعلاميّة على أنواعها في مختلف البلدان، وعزّزت بناها الهيكليّة بمراكز إعلام كاثوليكيّ، تُشرف عليها لجان أسقفيّة مختصّة. ونظرًا لما لهذا القطاع من أهميّة، تتوقف مسألة خدمة البشارة و”الأنجلة الجديدة” على حسن استعمال الكنائس لوسائل التواصل والثقاقة الرقميّة. برزت خلال المشاورات السينودسيّة وأعمال الجمعيّة، التأكيدات التالية: أهميّة الإعلام كأداة تواصل فعّالة لنقل البشارة (الكنيسة الكلدانيّة في العراق، فقرة 12، ص 7) ودوره ورسالته، والتأكيد على واجب الإعلاميّات والإعلاميّين المسيحيّين، إكليروسًا وعلمانيّين، مسؤوليّة الشهادة للمبادئ والقيم المسيحيّة (الكنيسة اللاتينيّة)، في مواجهة المفاهيم والأفكار التي تسيء إلى كرامة الإنسان، وتبثّ روح الابتعاد عن الله، وتُسهم في إشاعة الانحلال الأخلاقيّ (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 18,3، ص 8(. كما أكّدت على ضرورة السهر على الإعلام الرسوليّ وتنشئة أخصائيّين في هذا المجال (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 3,4، ص 8(، وحذّرت خلاصات الكنائس والمناقشات التي تمّت خلال الجمعيّة، من تبعات سوء استعمال وسائل التواصل الاجتماعيّ على الجميع، ولا سيّما على الشباب (مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، فقرة 7,2، ص 6(.
ه- كيف تكون كنائسنا الكاثوليكيّة الشرقيّة أكثر سينودسيّة؟
- “ويكون اسم الكنيسة سينودسًا”. هذا التحديد يوضح جوهر طبيعة الكنيسة ووحدة أعضائها وتكامل أدوارهم فيها واتحادهم برأسها يسوع المسيح، بفعل الروح القدس الحاضر والمقدّس. الكنيسة في التاريخ شعب الله السائر معًا نحو تمام ملكوت الآب. ولكن كيف يمكنها أن تنمّي هذه السينودسيّة وما هي السبل إلى تحقيقها على أرض الواقع؟
- برزت خلال الجمعيّة السينودسيّة، في الصلاة والتأمل والمحادث الروحيّة، وكذلك في النقاشات والحوارات بين الأعضاء، بعض الأفكار التي تساعد الكنائس لتكون أكثر ملاءمةً لطبيعة الكنيسة، أي أن تكون أكثر سينودسيّة. فما هي أهمّ هذه الأفكار؟
- السعي إلى إحداث تغييرٍ في ذهنيّة الجميع دون استثناء، علمانيّين وإكليريكيّين، في فهم شموليّة سرّ المسيح، وآداء الرسالة التي يفرضها هذا الفهم، فيقدّم كلّ عضوٍ في شعب الله إعلانًا حياتيًّا بالكلمة والقدوة وسيرة الحياة والشهادة.
- تعزيز التكامل بين الكهنوت الملوكيّ وكهنوت الخدمة أو الرتب المقدّسة، الشموسيّة والقسوسيّة والأسقفيّة، لأنّهما اشتراك في كهنوت المسيح الواحد، ومرتبطان أحدهما بالآخر. اعتماد التمييز الروحيّ منهجًا للإصغاء والسير معًا، واستجلاء إرادة الله.
- الاعتراف بحسّ الإيمان لكلّ شخصٍ مؤمن، إكليريكيّ أو علمانيّ، مع الأخذ بعين الاعتبار بأنّ رسالة الكنيسة تتحقّق في الدعوة الشاملة إلى القداسة، أي عندما يصبح المسيح “كلاًّ في الكلّ” (1 كور 15، 28). اختيار السير معًا والالتزام بما يتطلّبه ذلك من إخلاءٍ للذات وانفتاح على الآخر وقبوله كما هو.
- العمل على تجدّد الحياة الليتورجيّة في الكنائس بما يحافظ على صلب التقليد المقدّس، ويتلاءم في الوقت عينه مع احتياجات شعب الله الراهنة، ولا سيّما ما تفرضه الظروف والأحوال في البلدان المختلفة. الليتورجيا حياة الشعب كلّه ولذلك لا بدّ في عمليّة التجدّد هذه، من الحفاظ على دور جميع أبناء الشعب وتنشئة أعضائه وفق مواهبهم ورتبهم المقدّسة.
- تطهير الرسالة الكهنوتيّة من تبعات الضعف الفاضح عند البعض أحيانًا، التي تتنافى وحقيقة الدعوة المقدّسة إلى الخدمة على مثال المسيح، الخادم الأعظم. ويتطلّب هذا الأمر إعادة النظر في آليات اختيار الدعوات الإكليريكيّة إلى الرتب المقدّسة الثلاث، الشموسيّة والقسوسيّة والأسقفيّة، فلا تقتصر معاييرها على الكفاءة العلميّة واللاهوتيّة وعلى المواصفات الخارجيّة كالإدارة والتنظيم، بل تعتمد على قدرة المرشح الالتزام بالعهد المقدّس، وسيرة الحياة الفاضلة، ومحبّة المسيح الراعويّة حتى الشهادة (الآراء الحرّة الملصقة على الحائط).
- الالتزام بالسعي إلى تحقيق الوحدة المنظورة وبالحركة المسكونيّة التزامًا لا رجوع عنه، مع الكنائس والجماعات الكنسيّة المتواجدة في المنطقة، والقيام بمبادراتٍ نحو الكنائس الأخرى، ولا سيّما في مجالات التعاون والشهادة المشتركة. تفعيل دور الكنائس الكاثوليكيّة في مجلس كنائس الشرق الأوسط والسعي إلى توحيد الاحتفال بالأعياد والشراكة المسكونيّة (من المحادثة الروحيّة). إنّ خبرة الاتّفاقات الراعويّة حول الهويّة الكنسيّة، والتعليم المسيحيّ المشترك، والمناولة الاحتفاليّة، والزيجات المختلِطة (الشرفة 1996) يمكن أن تُعتمد كنموذج لمثل هذه المبادرات ولا سيّما بما يختصّ بتوحيد تاريخ الاحتفال بعيد الفصح.
- الإقرار بقيمة التعدّدية الدينيّة والحضاريّة والإنسانيّة في منطقة الشرق الأوسط، واختيار المعيّة وسيلة لفتح صفحة جديدة من العلاقات مع المسلمين واليهود وغيرهم من أبناء الديانات، وأيضًا مع الذين لا ينتمون إلى ديانةٍ أو تيّارٍ فلسفيّ أو فكريّ معيّن. العمل على تنقية الذاكرة والانخراط في حوار صادق وجريء مبنيٍّ على المحبّة والاحترام المتبادل. عندها تتمكن كنائسنا من تبنّي راعويّة المصالحة في سبيل الخير العام ومستقبل شعوبنا.
- الخروج عن منطق إقصاء المرأة من المشاركة في حياة الكنيسة والقرار الكنسيّ. يمكن بدء التفكير في كنائسنا بإعادة إحياء رسامة النساء إلى رتبة الشموسيّة. والجميع يتطلّع إلى خلاصات المسار السينودسيّ الخاص بالمرأة التي أطلقته الكنيسة المارونيّة لكي يكون حضور المرأة فاعلاً ومشاركًا في حياة الكنائس الكاثوليكيّة الشرقيّة.
- الثقة بالشباب والإيمان بمواهبهم ومشاركتهم بالمسؤوليّة ولا سيّما في خدمة البشارة. هذا الأمر يتطلّب مرافقةً راعويّة تقوم على الإصغاء إليهم ومساعدتهم في اكتشاف دعوة كلٍّ منهم في قلب الكنيسة.
- الإيمان بشراكة أصحاب الاحتياجات الخاصّة وقيمتهم ودورهم في حياة الكنيسة. انطلاقًا من ميزة حضورهم في قلب الكنيسة، يصغي الجميع إلى نضج خبرتهم الروحيّة، وإلى ما يحملونه من رجاء يفوق قدرة المعافين وإعاقاتهم في نقله وإعلانه.
- اعتماد مبادئ الحوكمة والشفافيّة في إدارة المؤسّسات الكنسيّة، في مختلف القطاعات. لقد ارتفع العديد من الأصوات من أبناء الكنائس الشرقيّة، مطالبةً باعتماد مبادئ الحوكمة والشفافيّة في إدارة المؤسّسات في الكنيسة، وطرق الإدارة واتخاذ القرارات. وكما دعت إلى فهم السلطة كعملٍ من أعمال المحبّة والخدمة.
- الخروج من منطق الأقليّات والخوف بسبب كثرة المحن والاضطهادات، والهجرة وغيرها من الأوضاع الصعبة، والتمسّك بروح الإيمان والرجاء. والعمل على تثبيت المسيحيّين في أرضهم والسعي إلى عدم تفريغ الشرق من حضورهم، وتبديل هويته الديمغرافيّة، وذلك بالتنسيق مع السلطات المدنيّة للحفاظ على وجودهم. لكي تكون كنائسنا كنيسة الرجاء في الشرق الأوسط، لا بدّ من أن تتحلّى بالروح النبويّة بالإصغاء إلى كلمة الله والعمل وفق إرادته، لأنّ الله هو سيد التاريخ. وهكذا تكون الكنائس في الشرق الأوسط علامةً للرجاء وواحةٍ له.
و– أولويّات ثلاث
- من هذه الخلاصات السينودسيّة برزت أولويّات ثلاث تستحق، برأي الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة أن تُدرج على جدول أعمال الجلسة العموميّة لسينودس الأساقفة المنعقد في روما في تشرين الأول-أوكتوبر 2023:
- تمكين الكنائس الخاصّة من تعزيز الجامعيّة بتناغم الوحدة في التنوّع، مع الحفاظ على خصوصيّة كلّ منها. وما هو في هذا المجال دور الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة وإسهامها في تعزيز الشركة بين الكنائس.
- تحديد بنى الشراكة والروابط القانونيّة بين الكنائس البطريركيّة الكاثوليكيّة وخليفة بطرس على كرسيّ روما، وإعادة النظر في طبيعة علاقة هذه الكنائس مع الدوائر الرومانيّة القائمة على خدمة الشركة في الكنيسة الجامعة.
- تحديد وتعزيز الأطر والآليّات الأكثر ملاءمةً لتحقيق السينودسيّة في حياة الكنيسة، شعب الله، مع الأخذ بعين الاعتبار لتنوّع السياقات الدينيّة والاجتماعيّة والثقاقيّة على امتداد العالم.
خاتمة
- بفرح اللقاء كنيسةً واحدة، وبالرغم من الحزن الذي ساد على المجتمعين، بسبب ما أوقعه الزلزال القاتل من ضحايا في تركيا وسوريا، تمّ الاحتفال بالجمعيّة السينودسيّة القاريّة للكنائس الكاثوليكيّة في الشرق الأوسط. لقد أصغينا بعضنا إلى بعض، وإلى ما يقوله لنا الروح اليوم. وأعرب المشاركون والمشاركات فيها عن فرحهم وآمالهم، وعن مخاوفهم والتحدّيات التي يواجهونها، وقد حركّت فيهم مبادراتٍ واقعيّة بدأوا العمل عليها في كنائسهم والالتزام بها . هذه المشاركة جعلت من السينودسيّة خبرةً واقعيّة ومساحةً للتعبير الحرّ، خصوصًا من جانب النساء والشباب، والعديد ممّن لم تكن تُسمع أصواتهم من غير الملتزمين، ومن أصحاب الإعاقة والاحتياجات الخاصّة، ومن جميع الّذين استقرّوا على الهوامش، معتبرين أنّ الكنيسة لا تأخذهم على محمل الجد، ولا تُشركهم في حياتها. كما أتت خبرة الجمعيّة السينودسيّة علاجًا للعديد من المواقف المتشنّجة في قلب الكنيسة الواحدة، وفي العلاقات بين الكنائس. ودلّت هذه الخبرة بوضوح على بعدين أساسيّين، من دونهما تفقد الكنيسة علّة وجودها في الشرق، البعد الاوّل العلاقات المسكونيّة مع الكنائس الشقيقة والجماعات المسيحيّة، والبعد الثاني الانفتاح بالحوار على الديانات الأخرى.
- لقد تبيّن بوضوح خلال هذه الجمعيّة أنّ شعب الله في هذه المنطقة مدعوٌّ لتقديم الشهادة عن حياته ورجائه وفقًا للسياق الخاصّ به. الدعوة إلى التجدّد والسير والإصغاء والتحاور والتمييز معًا جليّةٌ وآنيّةٌ ولا تحتمل التأجيل أو التأخير. وإنّ جني الثمار من السينودسيّة يقوم باستمرار الالتزام بالسير معًا وراء المسيح، بهدي الروح القدس، إخوةً تجمعنا الإنسانيّة الصادقة. هكذا نتجاوب مع دعوة قداسة البابا فرنسيس، ونحقّق ما ينتظره الله من كنيسته في الألفيّة الثالث، أي أن تكون “سينودسًا”.
الفهرست
المقدمة | § 1-3 | ص 1 |
أ – “ونصب خيمته بيننا”(يوحنا 1، 14) | § 4-7 | ص 2 |
ب – الكنيسة سينودسًا في طبيعتها وبعلاماتها | § 8-11 | ص 2-3 |
ج – السينودسيّة في تقليدنا اللاهوتيّ الشرقيّ | § 12-16 | ص 3-4 |
د – خبرة الجمعيّة السينودسيّة القاريّة | § 17-46 | ص 5-13 |
ه- كيف تكون كنائسنا الكاثوليكيّة الشرقيّة أكثر سينودسيّة؟ | § 47-48 | ص 13-15 |
و- أولويّات ثلاث | § 49 | ص 15 |
خاتمة | § 50-51 | ص 15-16 |
الفهرست | ص 17 |
[1]Jean Chrysostome, Explicatio in Psalmum 149 : PG 55, 493.