Almanara Magazine

جوزف راتسنغر … البابا بندكتوس السادس عشر لأنه كان عظيمًا ، صار حبرًا أعظم

الأب مالك أبو طانوس، م.ل

في 2 نيسان 2005 ودّع العالم البابا يوحنا بولس الثاني، “البابا الكبير” كما سموّه، وفي 19 نيسان 2005 أصبح للعالم “بابا” جديد: بندكتوس السادس عشر. بسرعة كبيرة تمّ الانتخاب – وقد راهن الكثيرون في العالم على “بابا” من أميركا اللاتينيّة أو “بابا ” أميركي أو “بابا” روماني… لكن البابا الألماني البافاري ليس مفاجأة لأحد – كما نظن – ولا يمكن أن يكون مفاجأة لأحد، إذ كان على مدى 24 سنة، “الرجل الثاني” في الفاتيكان، و”الرجل الأول” لوديعة الإيمان.  

صحيح أنّه هو كان قد حضّر أمتعته ليذهب إلى الاستراحة والتقاعد مع شقيقه في البيت العائلي، كما أخبر هو بعد أسبوع من انتخابه لحجّاج ألمان جاؤوا لزيارته. لكن الروح أتى به إلى كنيسة القرن الحادي والعشرين نائبًا للمسيح على الأرض واستبقاه في قصر الفاتيكان أهمّ وأكبر شخصيّة في العالم. يصفه البعض لاهوتيًّا بالتقليدي المحافظ، لكن يجهل هؤلاء راتسنغر الشاب المجدّد في المجمع الفاتيكاني الثاني؛ وهو المجدّد الكلاسيكي الفكر والمنطق – ويتناسى ربّما هؤلاء أيضًا محاورات كتابيه “ملح الأرض” و”نور العالم”. إنّه المتجدّد الرصين والواضح في التقليد. أوليس التقليد في صميم اللاهوت والإيمان الكاثوليكيّين؟

كتبت صحافية مجلة[1] Time  (2 أيار 2005) متسائلة: “من الصعب خلافة النجوم البارزة “superstar”؛ فهل البابا الجديد ذات السمعة الحادة والمتشدّدة أن يكمل حيث وصل البابا الراحل ذات السمعة الكبيرة؟ البعض رأى في انتخاب البابا البالغ من العمر 78 عامصا والأوروربي القديم عوض “بابا” أميركي أم من العالم الثالث رجوعًا إلى كنيسة قديمة بالية، وخبأوا هذا الخيار تحت فكرة تحت فكرة إرجاع أوروبا التي تهلّنت إلى المسيح. والبعض الآخر رأى اختيار راتسنغر “بابا” خطوة كبيرة لرجل ذات خبرةٍ إدارية ممكزوجة بروح أكاديميّة عالية، يستطيع أن يقود السفينة الأكبر في العالم إن من حيث العدد، وإن من حيث الماضي العريق.

كتب مجلة Der Spiegel الإلمانية[2] في 17 / 5 / 2005 مقالاً بعنوان  “الغريب عن العالم”، وهكذا تصف البابا الجديد. غريب ما يكتبه الصحافيّون وكم يبدون هم أنفسهم غرباء بما يتصوّورون وينادون. “غريب عن العالم”، رآه هكذا صحافيّو مجلة  Der Spiegel،  لأنه انتقد كثيرًا هذا العالم المعاصر المبني على النسبيّة العقلانيّة الماديّة. أمّا هو فيعرف حقًّا ما هو هذا العالم وكيف عليه أن يكون مع الله.

مجلة Le Point الفرنسيّة[3] في 21 / 4 / 2005 وضعت عنوانها عن بنديكتوس السادس عشر: “بابا الصّدمة”. هي الصَدمة أن يكون هذا الكاردينال الأكثر شهرةً في الكنيسة والأكثر حفاظًا على العقيدة هو البابا الجديد وهنا كان السؤال: هل سيسهر البابا الجديد على العقيدة أم على كلّ الكنيسة وهمومها ومعاناة العالم؟

ومجلة[4] Paris Match (25 / 4/2005) رأت في “بابا” قبل أن يصبح “بابا”. في نظرته صواب رؤية، وفي فكرة صواب مبدأ، وفي كلمته صواب تعبير، وفي طلّته صواب اقمة. قدرته على إرادة العلاقات وتنظيم النقاشات صنعت منه “بابا” قبل أن يُنتخب “بابا”.

ماذا يقول العالم اليوم بعد سبع سنوات من رئاسة بنديكتوس السادس عشر للكنيسة؟

جوزف راتسنغر هو الحبر الأعظم، لكنّه كان عظيمًا قبل أن يصبح حبرًا أعظم…وهو عظيم وهو الحبر الأعظم.

  1. ما هو مفهوم هذه العظمة؟ كيف نفهم “العظمة” في المسيحية؟

العظمة في المفهوم المسيحي، هي خاصة الله. وحده الله عظيم. له العظمة والمجد والقدرة والسلطان.  له تجثو كلّ ركبة ممّا في السماء وعلى الأرض (فليبي 2/10) هو راعي الخراف العظيم (عبرا 13/20).

في الكتابي المقدّس مواقع كثيرة يتجاوز عددها الثلاثماية تخبر عن عظمة الرب[5]، “هو الإله العظيم”، “هو الذي بيده أعماق الرض وله قمم الجبال، له البحر وهو صنعه…” ومريم أمّ الله، في نشيدها (لو 1/46) تعظّم الرب الذي صنع بها العظائم- وكأنها تقول: إن كان هناك من عظائم، فهي أعمال الرب، من خلالها تمتّ. فهي عظيمة لأنّه هو الربّ باركها.

وعن الفرح العظيم والنور العظيم أيضًا يتحدث الكتاب – “إني أبشركم بفرح عظيم، وُلِدَ لكم مُخلص”(متى 2/10)، الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا”(أشعيا 9/1).

أمّا عن البشر العظماء فلا نجد في الانجيل سوى آيتين تتكلمان عليهم. الآية الأولى في متى 5/19 يقول المسيح: “ذاك الذي يعمل ويعلم، ذاك يُدعى عظيمًا في ملكوت السماوات”. فالعظمة عند المسيح ليست في وفرة المال والثروة كما عند أهل العالم، ولا في قوة الشخصيّة والنفوذ والسلطة كما عند أهل السياسة، ولا في الجاه والجمال واللباس والفخفخة كما عند مراهقي هذا الزمن: ملوك الأرض وسلاطينها يسودونها أما عند المسيح: فالعظيم هو الخادم.

العظيم هو الذي يعمل بوصايا الربّ وأحكامه وهو الذي يعلّمها.

وهكذا يفعل وفعل بندكتوس السادس عشر.

أما الآية الثانية التي تتكلّم على لابشر العظماء فهي في رسالة بولس الثانية إلى كورنتس (2كور11/5 و12/11). يتحدث بولس عن “الرسل الأعاظم” المتفوقيّن، الذين يتفوّقون على غيرهم في المتاعب والشدائد والجوع والسهر والأخطار والهموم وحالات الضعف و…

وهكذا يوميات البابا بنديكتوس السادس عشر مليئة بكلّ هذه الهموم – مَن يضعف في العالم ولا يهتمّ هو؟ مَن يعاني ولا يتحرك له؟ أين يحترق مكان في العالم ولا يتعاطف معه؟ “إنّ العلامات المميّزة للرسول العظيم قد تحقّقت فيه” كما تحقّقت في بولس (2 كور12/12).

هذه هي العظمة التي تطبع حياة البابا بنديكتوس السادس عشر. ليست أبدًا كما تجنح في عالم السيكولوجيا لتصبح جنون العظمة وحبّ الظهور وأوّل المتكآت في الولائم والتحيات في الأسواق – كلا. عظمته ليست أبدًا كهذه العظمة المجنونة التي غرق فيها سلاطين هذا العالم وأغرقوا معهم العالم. يختلف بنديكتوس السادس عشر كثيرًا عن هؤلاء هو الذي، حين أطلّ لأول مرّة على شرفة الفاتيكان، وصف ذاته “بآلة ضعيفة غير كافية في يدي الربّ”. هو الأكاديمي الرفيع المستوى هو الذي سهر طوال 24 سنة على سلامة العقيدة المسيحيّة في كل أقطار العالم، هو الذي كتب أكثر من مئة كتاب، هو الذي حاضر في اكبر جامعات العالم، هو الذي ناظر مع أكبر مفكّري العصر، وه الذي كان راعيًا لإحدى أكبر أبرشيات العالم، هو، ىهذا الرجل العظيم، متواضع في أجمل مظاهر التواضع.

  • جوزف راتسنغر: رجل الفكر العظيم.

كتابات راتسنغر تتجاوز المئة كتاب، هذه غزارة فكريّة نادرة. وهذا رغم الأشغال والهموم الكنسيّة الكبيرة الملقاة على عاتقه. قال عنه أحد الصحافيّين في مقالة مجلة Der Spiegel أنّ باستطاعته أن يكتب 14 ساعة في اليوم دون أن يتعب. من الكتب التي طُبع منها أكثر من 20 مليون نسخة حتى الآن والتي تُرجمت ألى اكثر من 20 لغة والتي لا تزال تُقراء بالكثير من الشغف والتي لها وزنها في عالم الفكر المسيحي والإنساني كتابه الذي صدر لأوّل مرّة سنة 1968 وهو مجموعة دروس الأستاذ الجامعي آنذاك جوزف راتسنغر حول الايمان الرسولي:  Einfuhrung das Glauben[6]

أضف إلى ذلك كتبه: “العقيدة والوحي” (مجموعة أبحاث وأفكار رعائية)، “لماذا لا زلت أحيا في الكنيسة على لارغم من كل شيء؟” و”في مدرسة الحقيقة” ولا ننسى كتبه الحواريّة الثلاثة: سنة 1985: “العلاقة بالايمان”، سنة 1996 “ملح الأرض” وسنة 2010 “نور العالم”. الكتابان الأخيران كانا مع الصحافي الإلماني Peter Seewald  الذي اكتشف من خلال هذه الحوارات الإيمان المسيحي وارتدّ إلى الدين.

وقد أصدر خلال حبريّته كتاب “يسوع الناصري” الذي يحمل توقيع” جوزف راتسنغر – بنديكتوس السادس عشر”، ليؤكد أنّه بدأ وضعه قبل انتخابه، وواصل ذلك في الفترة اللاحقة. يتألف هذا لاكتاب من ثلاثة أجزاء صدر منها الجزءان الأوّلان وسيصدر الثالث قريبًا.

جوزف راتسنغر “مفكّر” لاهوتي فلسفي بامتياز. في طرحه الفكري عمقٌ وفي الوقت نفسه بساطة تعبير. كيف يطرح سؤال الإيمان في عالم اليوم وهو الذي خصّص هذه السنة الجديدة 2013 لتكون “سنة الإيمان”؟ سنختصر في صفحات قليلو إشكاليّة الإيمان التي يطرحها راتسنغر في مقدّمة كتابه الشهير الي ذكرناه. 

أ – اللاهوتيّون أمام سؤال الإيمان

طرح مسألة الإيمان رجال اليوم تبدو محاولة غريبة للذي يقوم بها ويشبه وضعه وضع الذي يصفه كبير كيغارد في مَثَله الشهير الذي استعاده حديثًا Harvey Cox في كتابه “المدينة الزمنيّة”، مثل البهلوان الذي اخذ يصرخ “النار، النار”. القصة تجري حوادثها في الدانيمارك، وتروي أنّ النار اندلعت فجأة في مدينة ملاهي متنقلة. للحال أرسل مدير هذه المدينة بهلوانًا، كان قد أرتدى زيّ الاستعراض، إلى القرية المجاورة التي يتهدّدها المتداد النيران عبر حقول القش. أسرع البهلوان إلى لاقرية يستغيث بسكّانها لنجدة مدينة الملاهي المنكوبة. لكنّ القرويّين الذين تراكضوا على صراخه، ظنّوا في الأمر خطّة دعائية ماهرة تروم استجلابهم إلى حفلة الاستعراض، فطفقوا يصفّقون له مستغرقين في الضحك. أمّا البهلوان فكان يودّ بالحريّ لو تمكن من البكاء. وعبثًا راج يبذل جهده في استمالتهم وإقناعهم بأنّ المسألة ليست مسألة داعية، بل إنّ مدينة الملاهي تلتهمها النيران فعلاً. لكن كلّما ازداد إصرارًا ازدادوا هم استغراقًأ في الضحك وإعجابًا بحسن إدائه لدوره المفترض. في الأخير، حينما ضربت ألسنة اللهيب في القرية، أدرك الجميع أنّ أوان التصدّي لها قد فات. وهكذا خربت لاقرية ومدينة الملاهي على السّواء.

يستعين  Cox بهذا المثل لتصوير وضع اللاهوتّي الماعصر؛ فالبهلوان العاجز عن جعل الآخرين يفهمون كلامه، يرمز إلى هذا اللاهوتي، لاذي تدثّر بزيّ القرون الوسطى، لا ينظر إليه الناس النظرة الجديّة المبتغاة، إذ مهما كان نوع الكلام الذي يقوله، يظلّ هو موسومًا بسمة دوره. أيّ إنّ الناس يظلّون ينظرون إليه نظرتهم إلى صاحب دور يقوم بالدور الموكول إليه مهما بذل هو من جهد ومهما اعتمد من أساليب لإقناعهم بجدّية الوضع الذي يعرضه، فهم مقتنعون، مُسبقًا، وبأنّه يؤدي دورًا تمثيليًّا لا علاقة له بالواقع. لذا نراهم يستمعون إليه باسترخاء غير عابثين بأقواله. إنّها لصورة تعكس الواقع البائس الذي يكتنف في أيّامنا، نشاط اللاهوتي الذي يبتغي التعليم.

القرويّون الذين قصدهم، أي الناس الذين لا إيمان لهم، فهم على العكس منه، يعمهون في جهل مطبق ينبغي تبديد ظلماته عنهم عن طريق إرشادهم. ول  غيّر البهلوان زيّه، ونزع قناعه، لاستقام الحال تمامًا. هل المسألة، في الواقع، هي على هذه الدرجة من البساطة؟ وهل يكفي، حقًا الحلّ لهذه المعضلة، أن تتحقق فكرة التحديث، أن نسقِط القناع الموروث، أن نعّلمِن اللغة وأنّ ندعو إلى مسيحيّة لا دين فيها؟ هل يحمل تغيير الزيّ الروحي البشر على الإقبال بفرح على الدّعوة، من أجل إخماد الحريق الذي يتهدّدهم، على حدّ رأي اللاهوتي؟ إنّ أملاً كهذا يبدو مغرقًا في السّذاجة.

ب- الشكّ والإيمان: حالة الإنسان أمام مسألة الله.

إنّ عالم اليوم، الزافل بكلّ مظاهر الأمان، يتكشّف فجأة، لمن ينظر إليه بعميق، عن هوّة تكمن تحت عمارته المتينة على الحقائق المتعارف عليها. هناك لدى المحذور الذي يمثلّه الشكّ، والذي يطلّ في لحظات التجربة ويُظهر بطريقةٍ شرسةٍ هشاشة ما كان يعتقد أنّه حقيقة واضحة. هذه تريز دو ليزيو، تلك القديسة المحبّبة جدًا والتي تبدو متّسمة ببساطة بالغة لا تعتريها مشكلة. لقد نشأت تريز في كنفٍ من المناخ الديني المستقرّ، في معزل عن أيّ خطر. فحياتها، من البداية إلى النهاية، وحتى في أدّق تفاصيلها، مُشبعة بإيمان الكنيسة، بحيث إنّ العالم غير المنظور أصبح يشكّل جزءًا من وجودها اليومي، أو بالحريّ كانت تعيش فيه باستمرار، حتى إنها تبدو وكأنها قادرة أن تلمسه لمسًا، وبات من المستحيل تصوّر قدّيستنا من دونه. كان “الدين”،  بالنسبة يقينها، مُعطًى طبيعيًا من معطيات حياتها، تتعامل معه كما نتعامل نحن مع وقائع حياتنا الحسيّة. رغم ذلك فها هي نفسها التي كانت تبدو آمنة مُطمئنة، وفي منأى تامّ عن أيّ خطر، تفضي بمكنونات مُذهلة ممّا عانته إبّان الأسابيع الأخيرة من مرحلة عذابها النفسيّ،  وهو ما أفزع أخواتها الراهبات: “ثمّة أفكار تهاجم ذهني هي أشبه بأفكار أردإ دعاة المذهب المادي”. في هذه الأقوال نُدرك كم من حجج مناوئة للإيمان كانت تحاصر عقل القديسة تريز جعلتها تبدو وكأنّها فقدت عاطفة الإيمان، وتشعر بذاتها غارقة في “إرهاب الخطأة”.

وقد صوّر بول كلوديا هذه الحال من أحوال المؤمن بطريقة إيجابيّة، ووصفها في المشهد الأوّل من مسرحيته “الحذاء الحريري”. نرى في هذا المشهد مُرسلاً يسوعيًّا، هو شقيق بطل مسرحيّة رودريغ، الرجل الذي استبدّت به الميول الدنيويّة، والمغامر التائه الدائم التقلُّب بيد دعوة الله ودواعي العالم. ويبدو المرسل اليسوعيّ على المسرح في ضوع الغريق، فقد أغرق القراصنة مركبه، أمّا هو فربطوه إلى قطعة من صاري المركب ورموا به في اليمّ فأخذت الأمواج العاتية تتقاذفه. يصلي ويقول: “أشكرك يا ربّ لأنك ربطتني هذا الربط! لقد حدث لي أحيانًا أن شعرت بقسوة وصاياك، وأحْسَست إرادتي تجمع بوجه تدبيرك المحيّر. أمّا اليوم فما من وسيلة تجعلني أوثق ارتباطًا بك مما أنا الآن، إذ كلّما تفقّدت أعضاء جسدي عضوًا عضوًا ازددت يقينًا بأنّ أيًّا منها غير قادر على الابتعاد عنك أقلّ ابتعاد. صحيح أنّني رمبوط إلى الصليب، إلاّ أنّ الصليب رُبطت إليه لم يعد مرتبطًا بأيّ شيء؛ إنّما هو عائم على صفحة البحر”.

المربوط إلى الصليب فيما لم يعد الصليب مربوطًا إلى اي شيء، إنّما يعوم على أديم الأغوار! ليس من صورة تمثّل حال المؤمن أفضل من هذه الصورة. إذ يبدو الصفيحة الخشبيّة العائمة على سطح العدم وحدها تحمله، ممّا يتيح للمشاهد أن يتوقّع، مسبقًا، حلول اللّحظة الحاسمة حيث تبتلعه الأمواج ابتلاعًا محتومًا. أجل! مجرّد صفيحة خشبيّة هي التي تربطه بالله يعرف الرجل أنّ هذه الخشبة هي، في نهاية الأمر، أقوى من العدم الذي يُرغي ويُزيد من تحته؛ لكنّه يعي أيضًا أنّ قدرة العدم لا تني تؤلف تهديدًا مستمرًا للواقع الحالي.

في هذا المضمار يقول راتسنغر: “لئن كان المؤمن لا يستطيع أنّ يمارس إيمانه على صفحة أوقيانوس العدم والتجربة والشكّ، ولئن كان أوقيانوس الرّيب هذا هو المكان الوحيد الذي يمكن المؤمن أن يمارس فيه إيمانه، فإن غير المؤمن لديه، هو أيضًا، مشاكله، ومن الخطأ اعتباره مجرّد إنسان ليس لديه إيمان. فكما وجدنا المؤمن ينوء تحت عبء المشاكل، ويتهدّده على الدوام، خطر السقوط في الفراغ، كذلك يقودنا الواقع إلى رؤية تحابك المصائر البشريّة في حالة غير المؤمن: فهو أعجز من أن يعيش حياة خالية من لاكدر. فعلاً، فإنَّ غير المؤمن لن يستطيع، أبدًا، أن يتخلّص من السؤال المنغّص: هل المذهب الوضعيّ في التفكير هو الحقيقة؟ وذلك بالرغم من مفاخرته بكونه صاحب موقف وضعي صرف، وبأنّه قد تخلّص، منذ أمد بعيد، من كلّ نزعة إلى التفكّر الماورائي، ولم يعد يوقن إلاّ بالحقائق المحسوسة. إنّ ما يحدث للمؤمن في صراعه مع وساوس الشكّ، يحدث أيضًا لغير المؤمن، إذ ينتابه الشكّ حيال كفره؛ فهو لا يستطيع أن يُثبت أنّ هذا لاكون المرئي الذي أعلن أنّ كل الوجود ماثل فيه يؤلف، حقًا، الوجود بأكمله. لن يكون غير المؤمن أبدًا واثقًا الثقة التامّة باقتصار الوجود على هذا العالم المرئي الذي اعتبره شاملاً الوجود بكلّيته: وسيظلّ يتعذّب على الدوام من جرّاء مسألة الإيمان الذي يخطر له، بالرغم من استعصائه على الفهم العقلانيّ، أنّه ربّما كان يعبّر عن الحقيقة. وهكذا يظل المؤمن مهددًا على الدوام بخطر الجحود، ويظلّ غير المؤمن مهددًا على الدوام بخطر الإيمان وتجربة الشكّ بعالمه المحسوس الذي يعتبره مكتملاً بصورة نهائيّة. فمن أراد الهروب على الشكّ الذي يرافق الإيمان يقع في الارتياب الذي يلازم الجحود”.

ما من أحد يقدر على الإتيان ببرهان رياضيّ على وجود الله وحقيقة ملكوته، با إنّ المؤمن نفسه عاجز عن ذلك حيال ذاته. لكن مهما حاول غير المؤمن ان يجد في هذا العجز مُبرّرًا لعدم إيمانه، فإنّه لن يفلت من الانشغال المُقلق الذ تُثيره عبارة “ربّما يكون هذا حقيقيًّا!” ذاك هو حجر العثرة الذي تحتّم عليه أن يصطدم به والذي سيجعله يختبر استحالة رفض الايمان من خلال فعل هذا الرفض عينه. بتعبير آخر، فإنّ المؤمن، نظير غير المؤمن، أو كلّ واحد منهما على طريقته، يختبر الشك والإيمان، إذا كان كل منهما لا يحاول إيهام نفسه وإخفاء حقيقة وجوده عن ذاته. فلا أحد يستطيع أن يتملص تمامًا من الإيمان. فالإيمان موجود لدى الواحد منهما بصورة النقيض للشكّ، وموجود لدى الآخر بفضل الشكّ وعلى شكل الشكّ. إنّه لناموس أساسيّ من نواميس المصير البشريّ أن تحقّق البشريّة وجودها عبر هذه الجدليّة الدائمة بين الشكّ والإيمان وبين التجربة واليقين.

ما هو معنى هذا الموقف الإنسانيّ الذي يعبّر عنه فعل أوّمن تعبيرًا أصليًا، والذي يجعل الإيمان يؤلّف جوهر الديانة المسيحيّة؟

ج- الإيمان: حلم أم واقع – عضلة الإيمان اليوم

غاص راتسنغر في سؤال الإيمان في العمق في مقدّمة كتابه: “مدخل إلى الإيمان”، ومن خلال هذه المقدّمة وقف في صفّ المفكّرين الكبار العظماء. والإشكاليّة التي طرحها ذهبت أبعد من “نزع الميتولوجيا” (demythologization) التي طرحها Bultmann، فهو ينظر إلى الإيمان الذ لاي نحصر فقط في الأيدي، أي بما قد يظلّ خارجًا عن عالمنا وخراج الزمن، بل إنّ الموضوع المباشر للإيمان هو، بالأصحّ، الله الذي دخل في التاريخ؛ الله الذي صار بشرًا. هكذا يثبت الإيمان المسيحي أنّه موحىً به، وذلك لكونه يبدو قادرًا على ردم الهوّة الفاصلة بين ما هو أبديّ وما هو زمنيّ، وبين المنظور وغير المنظور، بفعل تمكنه إيّانا من لقاء الله بصفته إنسانًا، واطّلاعًا على الموجود الأبديّ بصفته كائنًا خاضعًا للزمن. “الله لم يره أحد قطّ. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو أخبر عنه” (يو1/18).

يبدو هذا على أنّه أعلى ما في الوحي، وعلى أنّه قمّة تجلي الله، وتبدو القفزة في العالم اللاّمتناهي وكأنها انخفضت إلى ما بتناسب والمستويات البشريّة، فلم يبقَ علينا سوى علينا سوى القيام ببضع خطوات للوصول إلى قرب هذا الإنسان في فلسطين حيث الله بالذات جاء إلى لقائنا.

لكن المفارقة أنّ الله دنا منّا إلى درجة أصبيح من الممكن لنا أن نقتله، ممّا جعله يبدو وكأنه بَطُل أن يكون الله. وهكذا غدونا في موقف محيّر حيال هذا “الوحي” المسيحيّ، إذ إنّ مقارنته بالتديّن الأسيويّ تحمل على التساؤل هل كان من الأسهل للبشر لو أنهم عبدوا ما هو أبديّ وخفيّ، واستسلموا له، مطمئنين، عبر التأمل والتوق إليه. أوَلم يكن من الأجدى لو أنَّ الله تركنا في مكاننا القصيّ عنه؟ أوَلَم يكن من الأسهل لو ارتفعنا فوق أباطيل هذا العالم فأدركنا، في هدأةٍ من التأمّل الخاشع، روعة سرّه الفائق، فلا نُضطر، كما هي حالنا الآن، إلى الاستسلام لواقعيّة الإيمان، وإلى الاقتصار على رؤية وجه واحد، وإلى ايقاف خلاص الإنسان وخلاص العالم عند نقطة عرضيّة من المكان والزمان هي أشبه دقّةً برأس الإبرة؟ أليس محومًا على هذا الإله، الذي صُغِّر في حجم نقطة واحدة، بأن يموت نهائيًا في عالم أخضع الإنسان والتاريخ فيه لجور المقولة النسبوية، وصُغّر إلى حجم ذرّة هباء ضائعة في خضمّ الكون الفسيح؟ كان باستطاعة الإنسان، في كنف السّذاجة التي ميّزت سنوات طفولته، أن يعتبر نفسه، عند الاقتضاء، وكأنّه مركز الكون؛ لكن، ألا يجدر به لايوم، وقد بلغ رشده، أن يتجرأ ويستيقظ من سُباته، وأن يفرك عينيه، وينفض عن وجدانه ذاك الحلم الأخرق، مهما كان بهيًّا؟ ألا يجدر به الاندماج من دون تردّد، في هذا الكلّ الشاسع حيث نُفيَت الحياة البشرية البالغة القصر، فيقبل ببساطة هذه الضآلة القصوى عاملاً على منحها معنىً جديدًا؟

أما زال يحقّ لنا أن نؤمن؟ أليس الأحرى بنا أن نقلع عن هذا الحلم ونرضخ لحكم الواقع؟

ما هو الإيمان؟ الإيمان هو موقف من المواقف التي يتخذها الإنسان حيال الوجود بمُجمله؛ إنّه الشيء الذي يعطي حياة الإنسان معناها، إذ يوفّر لها قاعدة ترتكز عليها، وهو معنى أسبق من التفير ومن العمل الإنساني، ومن دونه لا يستطيع الإنسان، في نهاية المطاف، لا أن يخطّط ولا أن يعمل، نظرًا إلى افتقاره إلى الأساس الذي لا بدّ منه. في الحقيقة، لا يحيا الإنسان بخبز فعاليّته التقنيّة فقط. إنّه إنسان؛ لذا فهو يحيا بما يميّزه كإنسان: بالكلمة وبالحبّ وبالمعنى. المعنى هو الخبز الذي يُقيت أعماق كيانه. فمن دون الكلمة، ومن دون المعنى ومن دون الحبّ، يغرق الإنسان في لجّة اليأس، وإن كان ينعم باليسير والرخاء. لا أحد يجهل أنّ حالات الإرهاق والتضايق غالبًا ما تتفشى في أوساط البحبوحة الماديّة. والحال أن المعنى لا ينشأ من المعرفة، با إنّ استنباطه بهذه الطريقة، أيّ العمل على توليده من لامرعفة المتعلّقة بما “يمكن إحداثه”، أشبه ما يكون بحماقة مونشهاوسن الذي حاول إنقاذ مفسه من الغرق من لامستنقع بتعلّقه بشعر رأسه. أليست هذه الحكاية صورة دقيقة عن وضع الإنسان؟ لا أحد يقدر على إخراج نفسه من مستنقع الشكّ واليأس؛ فلن يتوفّر لنا ذلك بواسطة القياسات والبراهين المنطقيّة، أو من خلال مقالة “أنا أفكّر، إذًا أنا موجود” كما كان ديكارت لا يزال يعتقد. فالمعنى الذي يبتدعه الإنسان لنفسه لا معنى له في نهاية المطاف. لأنّ المعتى، أيّ الساس الذي عليه يقوم وجودنا كلّه، لن نستطيع أن نبتدعه بذاتنا، وليس لنا إلاّ أن نتلقّاه.

أن أؤمن مسيحيًا معناه أن أركن إلى المعنى الذي يحمل وجود العالم أيضًا، وأن أعتبره بمثابة صخرة صلبة يمكنني الإستناد إليها من دون خشبة. أن يؤمن المرء مسيحيًّا يعني أن يجعل من حياته استجابة للكلمة، اللّوغوس، الذي هو هو جذر كلّ شيء وأساسه. ويعني ذلك التسليم بأنّ المعنى الذي لا يتوقّف وجوده علينا، والذي ليس في مقدورنا غير اقتباله، قد أُعطي لنا سلفًا بحيث يكفينا أن نلتقطه وأن نستسلم له.

  • جوزف راتسنغر: الرجل العظيم لأنّه رجل الساعة.

في العام 2009 أصدر الصحافي التلفزيوني Bernard Violet [7] كتابه حاملاً العنوان: “Erratum XVI”، يصف فيه البابا بنيكتوس السادس عشر بالرجعي والتقليدي، وكأنّه في غربة كبيرة عمّا يجري في العالم. وهي دائمًا الأسطوانة ذاتها تعود إلى الساحة كلّما تلكم بعض الصحافيّين عن البابا: وسائل منع الحمل، الإجهاض، زواج المطلّقين، زواج الكهنة، كهنوت المرأة، المثلية الجنسيّة،…في كلّ هذه الأمور لم يتغيّر شيء في تعليم الكنيسة وحولها! ويذهب الكاتب في الفصل الرابعمن كتابه إلى القول: إنّه “الحاكم الكبر” على غرار زمن المحاكم في القرون الوسطى، خاصّةً وأنّه في السنة 1981 استدعاه البابا يوحنا بولس الثاني إلى مجمع العقيدة الفاتيكان، ويذكر عابرًا الصدامات اللاهوتيّة بين المجمع واللاهوتيّين أمثال: Schillebeeckx البلجيكي Curran الأميركي و Drewermann الألماني و Leonardo Boff البرازيلي…كلذ هذه الصعوبات اللاهوتيّة جعلت من صورة حارس العقيدة “حاكمًا ظالمًا”. كما رأى البعض بالوثيقة الفاتيكانيّة “Dominus Jesus” الصادرة سنة 2000 صفعةً للمسيرة المسكونيّة. لكن الجميع يجمعون أنّ جوزف راتسنغر هو ال “Panzer Kardinal” (الكاردينال الدبابة). هو الرجل الكبير.  

الغريب في الأمر: مَن يقرأ كل هذا، من يطلع على كلّ الملفات التي نشرها الصحافيّون عن الفاتيكان خلال هذه السنوات الأخيرة حول التعدّيات الجنسيّة للى الأطفال وحول الشواذات الجنسيّة لبعض الاكليروس (إكليريكيّة St Pol – ten في النمسا) أو وضع مؤسِّس رهبنة Legionnaires du Christ أو غيرها من الحالات في الكنيسة…يرى رغم ذلك إزدياد عدد الكاثوليك في العالم الذي أصبح سنة 2009: مليارًا وستة وثمانين مليونًا. هذه صفحة من صفحات الصحافيّين الناظرين إلى بنديكتوس السادس عشر تقليديًا غريبًا. في السنة عينها 2009 صدر أيضًا كتاب للصحافي[8] Guy Baret عنوانه: ”  Plaidoyer pour Benoit  XVI “. كما يدلّ عليه العنوان يحاول الكاتب الدفاع عن مواقف البابا شارحًا كلّ انتقاد تعرّض له. في بداية الكتاب يذكر جملةً من قداسته، يقول: “منذ أن فهمت أنّ عليَّ ألاّ أخاف إلاّ حكم الله، فلم يعد لديَّ خوف”. هذه الجملة تشرح رببّما شخصيّة بنديكتوس السادس عشر ومواقفه وتعاليمه وشجاعته في قول ما يناقض روح العصر.  

  • بداية الحملة ضدّ بنديكتوس السادس عشر كانت في الاطئرة التي تقلّه إلى الكاميرون حين قال أنّ الحلّ لمرض السيدا ليس في السماح باستعمال الواقي؛ إنما بأنسنة الجنس والحبّ البشري. لماذا يريد البعض تحقير الإنسان وتحويل الحبّ إلى عريزة جسديّة ليس إلاّ؟  
  • تأتي من بعد الحملة ضدّ قداسته في حالة الفتاة التي أجهضت في البرازيل والتي حسب التعليم المسيحي للكانيسة الكاثوليكية في العددين 2271 و 2272 تحرم بحكم الفعل. هي الكنيسة أرادت الوقوف إلى جانب الحياة والدفاع عن الحياة. والكنيسة تفهمت مع كلّ ذلك حالة الفتاة النفسيّةوتعاطفت معها ولم تذنّبها ولم تكن أبدًا كما وصفها البعض حاكمة ظالمة لا تعرف الرحمة والشفقة.  
  • صفحة أخرى هي ال motu proprio في 7 تموز 2007 حيث يسمح قداسته بالقداس اللاتيني التريدنتيني. وهنا وصفه البعض بالرجعي يريد العودة بالكنيسة إلى العصور الماضيّة. ولم يكن ذلك سوى خطوة تقارب من الكنيسة الجامعة إلى جميع تبّاع المطران المحافظ Lefevre الذين اتّهموا آنذاك بالعصيان للبابا بولس السادس.
  • قضية المطران Williamson – المطران المتطرّف ممسيحيًا المرتد من الانغليكانية، والذي أنكر المحرقة اليهوديّة. لكن ها هو قداسته في زيارته للقدس في أيار 2009 يُعبن أنّ آلام الشعب اليهودي لا تُنسى. وأيضًا يطلب من المطران ويليمسون الاعتذار.
  • محاضرة جامعة Regensburg في 12 / 9 / 2006 حول العقل والإيمان، وهنا أظهر العالم الإسلامي بعض العداوة لقداسته، ودفعت المسيحيّة الثمن شهيدًا. هي جملة واحدة يذكرها قداسته للأمبراطور – وهي جملة توسّع السورة: “لا إكراه في الدين” تجول العالم من خلال الإعلام لتصوّر قداسته متخوفًا ومضادًا للاسلام. لكن مَن سمع قداسته في 20 آب 2005 في كولونيا حين خاطب مسؤولي الجماعات الاسلاميّة يعرف ما هي حقًا مواقف البابا بنديكتوس السادس عشر من الإسلام.
  • البعض يبالغ ويتهم قداسته أنّه أفرغ الكنائس في أوروبا – لكن هذا غير صحيح، إنّ تراجع الممارسة الدينيّة بدأت منذ سنين كثيرة. وحسب إحصائيات مجلة Time إنّ أعداد المشاركين في احتفالات روما كما في أيام الشبيبة العالميّة كما في زيارات قداسته زادت بنسبة 9% عن قبل. وها هو قداسته اليوم بالذات يجتمع مع عدد كبير من أساقفة الكنيسة في سينودوس خاص حول التبشير الجديد للإنجيل وقد أسّس دائرةً خاصّةً لذلك في الفاتيكان للإهتمام بالممارسة الدينيّة.
  • ظاهرة تزدهر أكثر فأكثر اليوم في عالم الفكر: ظاهرة الملحدين الجُدد وكتاباتهم التي تسحر البعض وتسخر من الإيمان. كتاب Richard Dawkins[9]  “لننتهي مع الله”، “أكبر ليس أكبر – كيف أن الدين يسمُّ كل شيء!”. كتاب: Fernando Savater : “الحياة الأبدية: مديح البسيطي الفِكر” – كتاب  Michel Onfray[10], Traite d Atheologie  – هؤلاء يطرحون السؤال: متى ننتهي من الدين ومن الله؟ لا شيء صالح في الإيمان! ما هذه الديانة الملعونة! كلّ الديانات طالحة! لا شيء مقدّس! كل الآلهة قابلة للتعدّي والنقض! لا يجرؤ هؤلاء حتى بالقول: “إنّها إساءة للأطفال عندما نربيهم على الإيمان والدين!” هذا نوع من العنف الفكري بنظرهم. لا يسمح هؤلاء السموحون إلاّ بالإلحاد. وها هي بعض الحكومات في بعض الدول تمنع الدروس الدينيّة في المدارس بحجة احترام حرّية البشرية. والأخطر من هذا هو كتاب العلوم الحياتيّة Biologie  لصف الثالث التكميلي الذي يشرح النظرية الجديدة “الجندر” التي تعتبر أنّ هوية الإنسان الجنسيّة لا تستند في تحديدها إلى جنسه البيولوجي بل إلى ميوله الذاتيّة.  وهذه الكتب تفرضها هذه الدول حتى على المدارس الكاثوليكية. أضف إلى ذلك القصص والروايات والأفلام التي تتناول المسيح وحياته وإنجيله، Dan Brown وقصّته: Da vinci Code، أفلام Jun – Luc Godard.

كلّ هذا تنشره وسائل الاتصال الاجتماعيّة ويدخل إلى كلّ مكان ويزعزع الإيمان. وكأنّ هذا المجتمع اليوم بشبه مجتمع بولس آنذاك، يفضّل “قصص العجائز على التعليم الصحيح” (2تيمو 4/3 -4).

في هذا لاضياع الفكري العارم بنظر كثيرون إلى قداسته منتظرين منه كرّب عمل لشركة كبيرة، عليه أن يعمل ليربح زبائنه ولو على حساب الحقيقية الأساسيّة والإنجيل. لكن هذا لن يفعله بنديكتوس السادس عشر. لم يَعِد المسيح كنيسته ورُسله بالأزمنة السهلة والهنيئة، إنّما قال لهم أنهم سيعانون الشدّة وسيلقون حتى الاضطهاد، لكن ليثقوا به، هو غلب العالم (يوحنا 16 / 33).

ما قاله بنديكتوس السادس عشر وما يقوله وسيقوله هو جهدٌ فكري بشري وعمل لاهوتي علمي وجماعي، لكن هو قبل كلّ شيء من وحي إلهي فائق الطبيعة. إنّه رجل مملوء من الروح – إنّه رجل الساعة!.

“إذا جاء ابن الانسان إلى الأرض هل يجد إيمانًا؟” (لوقا 18 /8)

من سيُجيب على سؤال الإنجيل هذا؟

طبعًا، التاريخ – لكن الحاضر أيضًا يشهد أنّ كلّ ما يسعى له البابا بنديكتوس السادس عشر هو تعزيز الإيمان في شعب الله. وكما يقول [11] Philippe Levillain في كتابه ”  Le moment Benoit XVI“: بنديكتوس السادس عشر فَرَض مبتغاه الخاص المميّز: لقد زرع اللاهوت في مسيحيّة لاقرن الحادي والعشرين وجعل من علم اللاهوت شخصًا أساسيًا في مستقبل المسيحيّة”.   لقد تكلم اللاهوتي الفرنسي Henri de lubac [12]  سنة 1944 عن “مأساة البشريّة الملحدة” إذ إنّ التطور التكنولوجي أدخل  نوعًا ما العلم في الإلحاد ورفض الله – فما يحمل همّه اليوم في القرن الحادي والعشرين قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر هو إعادة الله إلى المجتمع والإنسان، فكم ردّد ويُردّد: “ما عندي لأعطيه للعالم هو الله!”.

  • بنديكتوس السادس عشر: الرجل العظيم وسط أزمة المجتمع

في السنين السبعين كتب اللاهوتي الفرنسي[13] Yves Congar كتابين شهيرين تحت العنوانين: العالم الواسع رعيتي” و”في مهبّ العواصف”، وكأن هذين الهنوانين يصفان حالة الكنيسة اليوم – “كنيسة العالم الواسع في مهبّ العواصف” – ماذا يقول بنديكتوس السادس عشر لهذا العالم اليوم؟ وماذا يعمل له؟ في الإرشاد الرسولي بشأن التوبة والمصالحة إستعاد البابا يوحنا بولس الثاني كلمات الأديب بول كلوديل ليصف العالم ب: “عالم مُحطّم”  (un monde casse). هذا العالم الحديث الذي طوّر تقنياته وتكنولوجيّته ووسائل اتصاله ومعلوماتيتّه وكلّ علومه واقتصاده يخسر رويدًا رويدًا إلهه وتتضاءل سعادة أبنائه. إلى أين يذهب هذا العالم دون الله؟ البابا بنديكتوس السادس عشر يُنادي بعمليّة “تقنية” في أساس قناعات والتزامات الناس، يريد أن يُعيد للعالم خسارته الكبيرة: الله والإيمان – الله الحيّ! هذا ما يقوله قداسته في بداية كتابه “يسوع الناصري”.  

“الكنيسة حيّة” – كلمة نبوية قالها قداسته في خطاب تنصيبه في 24 / 4 / 2005 ولا يزال يردّدها مردفًا، الكنيسة ليست من عمره هو الكبير السِنّ، إنّما هي من عمر العاملين فيها بكل ما عندهم من حيويّة ونشاط.

أزمة الكنيسة لا تأتيها من خارجها وحسب، بل هي أيضًا من الداخل، من إكليروسها – للأسف – وقد عبّر عن هذا قداسته قبل انتخابه في صلاة درب الصليب يوم الجمعة العظيمة سنة 2005 “كم من اللطخات في الكنيسة، وتأتيها من أهل الكهنوت، هؤلاء الذين مبدئيًا ينتمون إليها أكثر من غيرهم! ثياب كنيستك ووجها الموشخين تخيفنا. لكنّنا نحن لاذين نوسّخها بسقطاتنا وهفواتنا…”. “فالمسيح حقًا لم يتألم لِصدفة أحداث أو أعمال، إنّما “من أجل معاصينا”. الكنيسة ليست عمل البشر وحسب هي عمل الله.

في تشرين الثاني من العام 2007، أعلن الأمين العام للأمم المتحدة بان – كي مون الخطر المُحدق بالأرض والمناخ، وكأن كلّ ما صنعه الله ورآه حسنًا”(تكوين 1 / 31) يُخيف اليوم. التطوّر العلمي في العالم ليس دائمًا لصالح هذا العالم. إختراعات كثيرة وتطوررات شتّى لا تعطي العالم الحياة والنموّ والقيّم. الحاجة مُلّحة إلى “فحص ضمير كبير” لِلعلم وللعلماء ولكلّ من يتعاطون ورشة هذا العالم.

الكنيسة كانت وتبقى “ضمير العالم”؛ والبشرية تنظر دومًا إليها كضابطة إيقاع تطوّر العالم. فإذا كان العِلم ينحرف بالعالم أحيانصا إلى أخطار ومنزلقات، فمسؤولية الكنيّسة الضميرية تحثّها إلى إبقاء صوتها فاعلاً في آذان حكّام هذا العالم وعلى طاولات حواره وزتخطيطاته. حتى في الزمة الاقتصادية العالميّة المتفاقمة التي زادت ديون بلدان العالم بنسبة 45% والتي تحملّها للأجيال القادمة، ينتظر الناس صوت لاكنيسة يُعيد نوعًا ما الصواب إلى حكامه. في هذا المجال تأتي رسالة قداسته “المحبّة في الحقيقة” صوتًا صارخًا وسط هذه الأزمة. 

لكنّ الأزمة العميقة التي تضرب العالم اليوم هي أزمة فكرّية، يُسميها الصحافي الإلماني Peter Seewald: “دكتاتوريّة النسبيّة[14]، أي لا وجود لحقيقة مُطلقة ولا وجود للقيمة المُطلقة في الوجود. تبدو الحقيقة وكأنّها غير موجودة وغير ممكنة وغير مرغوبة. وكثيرون يدذعون أنّ الإنسان غير قادر على الحقيقة. فإلى ما سيركن الإنسان؟ على ما سيبني العالم قيمته؟ إذا كان الإنسان غير قادر على الحقيقة، فهو غير قادر على الخلقيّة.

أمّا صوت بنديكتوس السادس عشر فهو شجاعة في القول: “على الإنسان أن يبحث على الحقيقة. هي الحقيقة تعطي العالم عظمته وتعطيه أيضًا القيم. المسيح أتى إلى العالم ليشهد للحقّ. والمسيحيّون هم شهود الحق.

صراعٌ كبير يعبر في العالم ويستشهد قداسته بالقديس أوغسطينوس الذي يعتبر تاريخ العالم صراعًا بين حُبين: حب الذات حتى تدمير العالم، وحبّ الله والآخرين جتى نكران الذات. وقوّة الخير تبقى أقوى وتُنير العالم.  الإيديولوجيّات البشرية نادت بالوحشيّة واحتقار الآخر فكانت الحروب. لكنّ الله كان دومًا وسط العالم، لا أحد ينسى فرنسيس الأسيزي أو منصور دي بول أو الأم تريزا. كلٌّ في عصره أعاد للعالم حبّ الله.

في العالم اليوم علامات تُقلق وتُخيف: كل ثقافة المخدرات وما تحطمه في الشبيبة والعائلات، كلّ سياحة الجنس وما تُنزله في كرامة البشر إلى اللذة ليس إلاّ، كلّ خِدَع السعادة التي تنشرها افعلانات والدعايات، كلّ ثقافة الاستهلاك وتحويلها الإنسان إلى سلعة أو إلى استهلاكي ليس إلاّ…عالم مُزيف مبنيّ على لاسراب وعلى المادة، مجتمع مريض يُداوي ذاته بدائه، مُجتمع يزداد فيه مرضاة النفسيّون أكثر فأكثر وتزداد فيه أكثر وأكثر تجارة الحبوب المُهدّئة للأعصاب والمُعيدة للإنسان الهدوء والصواب…كلن قداسته يرى أيضًا في هذا العالم العلامات الأخرى الإيجابية وأوّلها: رغبة الإنسان بحضور الله، تفتيش الإنسان عن الإله، عطش الإنسان لنور كلمات الله يدخلها إلى حياته. لم تشهد الكنيسة يومًا مثل هذا العطش إلى كلمة الله كما في أيامنا. لم تتصبّر يومًا عيون البشريّة مثلما هي اليوم مصبّرة باتّجاه النور الحقيقي الأزلي، نور الإله القدير. وكما يقول الفيلسوف Habermas: “كم من المهمّ أن يكون لعالمنا لاهوتيون ليشرحوا كنز الإيمان، وكي يصبح هذا الكنز نورًا للعالم!”.

“مخطط الإيمان” أو “مشروع الإيمان” – على هذا يتكلّم قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر ويُسميه “المخطط – الله” – لا هو مخطّط “أ” ولا مخطط “ب” – وحده “مخطّط – الله”! ولهذا المشروع نادى لتكون سنة 2013 “سنة الإيمان”، وبدأها بسينودس خاصّ للكنيسة عن الأنجلة الجديدة وأنشأ دائرة جديدة في الفاتيكان لهذه الأنجلة.

  • خاتمة

لقد كان هذا الرجل حقًا عظيمًا…

وهو اليوم أيضًا عظيم.

لقد كان عظيّمًا كلاهوتي، فعلى الرغم من صغر سنّه آنذاك سنة 1962، اصطحبه معه كخبير مجمعي الكاردينال Frings  وكان من كبار لاهوتيّي المجمع الفاتيكاني الثاني، وقد أسهم في صياغة اهمّ الوثائق والدساتير والقرارات المجمعيّة.

لقد كان عظيمًا ولو لسنوات أربع فقط كان فيها رئيس أساقفة أبرشية ميونخ. حتى اليوم يذكره أهالي مقاطعة بافاريا، ولا زال فكرة اللاهوتي والاجتماعي يُنير المسؤولين هناك.

لقد كان عظيمًا خلال السنوات التي أمضاها أستاذًا للاهوت الأساسي والعقائدي في جامعات ألمانيا. لقد كتب العديد من الكتب والمقالات، ولا يزال كتابه :”المدخل إلى الإيمان” مرجعًا هامًا لكلّ طلاب اللاهوت في العالم.

 لقد كان عظيمًا في سهره المضني على العقيدة المسيحيّة في العالم، وذلك طوال ربع قرن. وكم واجهته الكثير من الصعوبات الفكريّة واللاهوتيّة والإنسانيّة. لقد دخل على العقيدة المسيحية الكثير من الانحرافات الفكريّة، إن تأثّرًا بالشيوعيّة وما أورثته للاهوت التحرير وإنّ تأثير سيكولوجيا الأعماق وما أخذ منها بعض اللاهوتيّين، وغيرها من تأثير “النسبيّة الفكريّة” في مطلقيّة الحقيقة الإلهيّة. فقد حافظ راتسنغر على صفاء العقيدة المسيحيّة ولم يسوح أبدًا لتشويهها.

  لقد كان عظيمًا، فهو من ترأس لجنة صياغة “التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية” سنة 1986، واستغرق العمل سبع سنوات، وعبّر بنفسه منذ سنتين حين أصدر YOUCAT (التعليم المسيحي للشبيبة) عن الصعوبات التي اعترضته آنذاك. لكن من خلال هذا العرض الصيل والمنسّق للايمان والعقيّدة وجد هذا التعليم طريقًا سويّة ليقدّم كلّ وجه من وجوه الرسالة المسيحيّة. وفيه يجد كل عامل في حقل التعليم الديني ما يساعده على نقل وديعة الإيمان إلى بيئته ومجتمعه. واستعمال هذا التعليم أعطى اندفاعًا جديدًا للكنيسة وشعب الإيمان.

لقد كان عظيمًا في عمل المحبة – ولكن شماله تجهل ما صنعت يمينه، فكم كان لأبرشيّة ميونيخ مساهمات مع كثير من بقاع العالم مشاريع إنمائيّة واجتماعيّة وراعويّة وبناء كنائس ومراكز لعمل الخير…ومؤخرصا حين حصل من دور نشر كتبه على حقوق المؤلف، فقد قدّم نصفها (خمسة ملايين يورو) للأعمال الخيريّة في الكنيسة والنصف الآخر كرّسه للأعمال الفكريّة اللاهوتيّة.

هو اليوم أيضًا عظيم...لا بل أعظم…

حين سُئل يسوع عن يوحنا المعمدان قال عنه أنه أعظم مواليد النساء، لكن الصغير في ملكوت السماء أعظم منه (متى 11 /11).

بنديكتوس السادس عشر، كما يقول عن ذاته في كتابه في كتاب حياته[15] ، إنّه من عائلة وضيعة وبسيطة، ليس من عظماء هذا الدهر وهذا العالم – لقد أصبح “الحبر العظم” وهو “الآلة الضعيفة في يد الرب”. كما قال حين أطل على العالم لحظة انتخابه. لأجله نرفع للربّ الصلاة والدعاء ليحفظة للعالم، ليبقى عظيمًا بين مواليد النساء، وليصبح عظيمًا أيضًا في ملكوت السماء.


[1]  مجلة ” Time Inside the mind of the Pope 2 أيار 2005.

[2]  مجلة Der Spiegel  «Der weltfremde»  17 /5/2005

[3] مجلة Le Point« Benoit XVI , le pape du choc»  في 21 نيسان 2005، العدد 1701.

[4]     Paris Match« Benoit XVI» 25 نيسان – 4 أيار 2005، العدد 2919.

[5] راجع فهرس الكتاب المقدّس، جمعيّة الكتاب المقدّس، سنة 2004، ص 1391 – 1394.

[6] “مدخل إلى الإيمان المسيحي”، ترجمه إلى العربية الدكتور نبيل الخوري، منشورات المكتبة البولسيّة، 1994.

[7], Edition FAVRE, Lausanne, 2009. “Erratum XVI”  Bernard Violet,

[8]Plaidoyer pour Benoit XVI, Ed. Alphee, 2009.  Guy Baret,

[9] Richard Dawkins, The God Delusion, New York, 2009  

[10] Michel Onfray, Traite d Atheologie, Ed. France Loisirs, 2005

[11]  , Fayard, 2008″  Le moment Benoit XVI Philippe Levillain,

[12]   Henri de lubac, Le drame de l humanisme athee, Ed. Spes, Paris, 1945.

[13] Yves Congar, vaste monde, ma paroisse, Paris, 1968.

[14] Peter Seewald, Lumiere du monde, Ed. Bayard, 2011.

[15]  Josef Kardinal Ratzinger, “Aus meinem leben, Erinnerungen”, DVA, Stuttgart, 1988.

Scroll to Top