الأب فيليب الخازن – بوانس أيرس
يسأل: “لماذا تركتُ بيت أبي، وأخوتي وأصدقائي ووطني وأتيتُ قاطعاً سماوات وبحار؟ ما هو المطلوب مني هنا في بوانس أيرس وبلاد الأرجنتين؟”
يسأل مرسَل اليوم، الشاب المكرّس المنطلق بحماس وزخم في سعي إلى عيش الرسالة في حياته التي كرّسها بالكلية للرب. ويصعب عليه إيجاد الجواب المقنع أو الذي يفي تساؤلاته غايتَها. يصعب عليه في واقع الحياة اليومية التي تميز عالم اليوم والمجتمع الحالي أن يجد الجواب. يصعب على المرسل الذي تطأ رجلاه أرض الجمهورية الفضية – كما كان يحلو للمرسلين الأولين تسميتها في كتاباتهم – أن يتقبل الواقع المغاير في أكثر تفاصيله عما استعد له ووطّد الرأيَ والعزمَ على عيشه والإلتزام به “لأجل مجد الله الأعظم، وخلاص نفسه، وإفادة القريب الروحية”.
التاريخ: يعود إلى التاريخ ويراه مفعماً برائحة القداسة، ممهوراً بأختام التوسّع والإنتشار والإنتصار في الكرازة والوعظ والرياضات الروحية، لا في بوانس أيرس وضواحيها والمقاطعة ككل، إنما أيضاً في سائر المدن والمقاطعات من تيك الجمهورية.
إن تاريخ الرسالة اللبنانية المارونية في الأرجنتين يعود إلى يوم “لمعت في خاطر البطريرك الياس الحويك فكرة إرسال مرسليه اللبنانيين نحو أميركا بهدف مرافقة خراف القطيع في مغامرتهم الناجحة في اكتشاف أمصار جديدة لتحقيق عطشهم للحرية وإيجاد أراض شاسعة لإرواء غليل نموهم وازدهارهم”[1].
الوصول: منذ مائة عام ونيّف، في اليوم الخامس من شهر تموز من العام 1901، وصل إلى مرفأ بوانس أيرس، آتيَين من لبنان، الأبوان المرسَلان يوحنا غصن ومخائيل حجار. وقد أرسلهما الرئيس العام قدس الأب يوسف مبارك بهدف مساندة المهاجرين من الشرق الأوسط، وبخاصة من لبنان، والحفاظ على الإيمان الكاثوليكي ثابتاً في نفوس المتجذرين منهم في الأرجنتين منذ عدة عقود والإهتمام بتربية أبنائهم.
ليسوا عن عبث بمرسلين ومربّين!
عبر السنين ومع مرور الزمن، كان على الرسالة اللبنانية المارونية، – كما عُرفت الجمعية خلال مائة عام قبل أن تسجَّل سنة 1999 تحت إسم جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة في وزارة الخارجية والأديان، أن تمرّ في خضمّ صعوبات جمّة لا مجال لسردها في هذا المقال. وكان لها من الإنتصار على العوائق التي كانت تعترض سبيلها الرسولي وتخطّيها، ملاحم وسجالات كثيرة جداً.
“ومن ضروب عناية الله بهما (بالأبوين المذكورين أعلاه) وبغايتهما من السفر أنهما تعرّفا وهما على ظهر الباخرة إلى راهبة عازرية، هي الأخت مارغريت فاريّو (Marguerite Vareillaud) الرئيسة الإقليمية لرهبنتها في الأرجنتين… وأصبحت ملاكاً حارساً لهما إن بمشوراتها وإن بمساعداتها الفعالة في قيام عمل تأسيس الرسالة في هذه الديار”[2]
أما أبناء الجالية فتباعدوا عنهما في بداية الأمر حين “كلّماهم بقضية إستئجار محلّ لإقامة معبد يقضون فيه فروض الديانة وأسمعوهما كلاماً ناشفاً وتناقضت آراؤهم”. ولما “زارا ملاكهما الحارس، ألحّت عليهما بفتح معبد ومدرسة ووعدتهما بالمساعدة… وبمثل ذلك ألحّ رئيس الأساقفة ونائبه والسفير الرسولي” (البابوي)[3].
سنة 1902، “إبتدأ الأبوان غصن وحجّار بتحقيق فكرتهما بإنشاء مدرسة للرسالة في هذه البلاد وبعناية الله ستكون يوماً ما من أعظم مشاريع رسالتنا في هذه الديار”. والجدير بالذكر هو أن من كان يلحّ على الأبوين بالإستمرار في المدرسة ويعدهما بالمساعدة هنّ سيّدات الأسَر الشريفة الأرجنتينية وشكّلن في ذلك الوقت “كوميسيون” (لجنة) لمناصرة وحماية الرسالة.
تنقّل الأبوان كثيراً في بادئ الأمر واستأجرا بيوتاً في شوارع مختلفة واستعملاها كمعبد ومدرسة وهمّهما الوحيد جمع أبناء الجالية دون فقدان التلامذة الأرجنتينيين الذين بدأوا بالتوافد إلى مدرستهما. وفي سنة 1905، ما بين تاريخ الشراء 29 آب وتاريخ انتهاء أعمال الترميم، إنتقلا في 18 كانون الأول، وكان قد انضمّ إليهما مرسَل ثالث هو الأب فرنسيس شمعون، إلى دار الرسالة الحالي في شارع باراغواي رقم 834.
دور الجمعية: واليوم، يُطرح السؤال: هل ستبقى رسالة الكرازة هي هدفنا الدائم؟ وهل يمكننا عيشها بين أبناء المهاجرين من أصل ماروني، لبنانيين كانوا أو سوريين وعرباً؟ وما هي الرسالة التي علينا أن نوصلها إليهم وبأي وسيلة أو طريقة ومضمون؟ هذا مع العلم أن التعامل بعد اليوم يتمّ مع أناس يعتبرون أنفسهم بالكليّة أرجنتينيين.
في الواقع الذي نعيشه ككريميين في بوانس أيرس، تمّ تدشين كنيسة مار مارون في العام 2001. وهذا أمر تحزن له النفس لأن الجمعية خلال مائة سنة ولأسباب يذكرها التاريخ في سجل الرسالة لم تستطع تحقيق حلم الآباء المؤسّسين حتى وصول الأب حنون أندراوس (وهو المرسَل رقم 33 عمر المسيح) إلى الأرجنتين وعقد العزم على بناء صرح لبنانيّ مارونيّ يكون الحدّ الفاصل ما بين مائة من السنين مضت على وجودنا الكرَيمي الرسولي وسنين أخرى تبدأ على ما قدّر الله وشاءت عنايته.
حتى ذلك التاريخ، وهو اليوبيل المئوي الأول لوجودنا في الأرجنتين، اقتصر الآباء المرسلون على القيام بواجباتهم تجاه أبناء الجالية في كابيلا تتسع لثلاثين شخصاً على مدخل معهد مار مارون. وكنّا قد حصلنا على الإعتراف الرسمي بإنشائها رعية منذ عام 1962. فنشأ وترعرع الأرجنتيني المتحدّر من أصل لبناني على أنه مسيحيّ كاثوليكيّ تابع لروما؛ وكنيسته الحجر هي الرعية حيث يقيم حتى ولو كان أبواه قد سبق وعمّداه في كنيسة مار مارون.
ونعود إلى السؤال: في الحقيقة، (كأننا نقول: في الواقع) هل تستمرّ الرسالة كأنها شيء من الواقع؟ فينطلق المرسل. ولكن نحو مَن وإلى أين؟
لم تكن لنا الجرأة في الماضي، منذ أكثر من عشرين سنة، على أن نجيب على الطرح في مجامعنا العامة، ولا في دراسات خاصة. أما اليوم، في الواقع، فالرسالة هي أكثر صعوبة في الجالية بسبب المسافة وبعد الزمن. فاهتمامات أبناء اليوم، وهمومهم وشجونهم لا صلة لها بالدوافع والأهداف التي على أساسها ينشأ المرسل اللبناني الماروني.
بلاد الله واسعة، وبلدان الإنتشار اللبناني تحديداً أوسع. ومنذ ما قبل عام 1975، تاريخ وفاة الأب ميخائيل لطوف العنداري، إقتصر انتشارنا في أميركا اللاتينية على وجودنا في الأرجنتين والبرازيل حيث ابتدأت الهجرة بكثافة حتى نشوب الحرب العالمية الثانية إذ من بعدها أي في الخمسينيات وما بعد، توقّف نهائياً النزوح والترحال أقلّه نحو تلك البلاد. والأب لطوف العنداري كان مميزاً بحضوره وقوة شخصيته، وقدامى المعهد يرددون اسمه بكل مهابة واحترام وما زال ذكره حياً في النفوس. من بعده، تبدّل النهج في التواصل مع الناس، وتغيّر بالكليّة نهج التعاطي ما بين الناس وسيطر التحول الإجتماعي عبر السنين على كل الأصعدة وأهمها الإقتصادي والسياسي وأثّر كل ذلك على أبناء الجالية في تموضعهم في قلب المجتمع.
الواقع الحالي: وفي الوقت نفسه، على امتداد تلك الحقبة، بدأ حصر عمل الآباء في مدينة بوانس أيرس وفي المعهد تحديداً. فكان وما زال منارة يهتدي بها كل أبناء الجالية ويعتبرونه بذات الفعل مرجعاً.
كيف ننظر إلى المستقبل؟ وعلى ما نركّز للإستمرار في عملنا؟ بعد تدشين مرآب السيارات في سنة 1992 وتدشين كنيسة مار مارون في اليوبيل المئوي على وجودنا الرسولي في الأرجنتين عام 2001، أضحى همنا الأول العمل الراعوي بالذات أي بعد الإنتهاء من ورشة الحجر ننطلق نحو البشر.
وليس بالأمر السهل التواصل مع جيل اليوم إذا امتنع الآباء عن تخطي الأمر الواقع والتخطيط معاً في درس مشروع رسولي رائد يسعون إلى تنفيذه على مراحل ولمدة عشر سنوات.
عدا ذلك يمكن التركيز على الناحية المدرسية التربوية وإنعاش المدرسة من خلال استثمار مردود المرآب لتطويرها وإنمائها بحكمة وبُعد نظر قد يسمح لنا في السنين القادمة بزيادة عدد التلامذة، وتطوير الأساليب التربوية وتقديم الأفضل في الشكل والمضمون.
كان معهد مار مارون وما فتئ منارة في التعليم والتربية. وما نتمنى له هو أن يواكب التطوّر في طرق التعليم والمنهجية، والوسائل التقنية المعاصرة مما يساهم في الإستمرارية بنجاح وقدرات عالية.
رسالة جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة في الأرجنتين هي حقل واسع جداً يتطلب تنشئة دعوات مكرسة رسولية ذات جهوزية عالية، ونفوس متجرّدة جداً نشأت على الإلتزام والصبر وقراءة الواقع وقادرة على الذهاب إلى أبعد حدود في التصميم والتنفيذ. لا تعبأ بالمخاطر، ولا تتراجع أمام العقبات لا بل تذللها؛ ولا تهاب المصاعب لا بل تتخطاها.
[1] (البابا فرنسيس، آنذاك الكاردينال خورخه برغوليو (Jorge M. Bergoglio) في رسالته بمناسبة اليوبيل المئوي الأول، 21 أيلول 2001).
[2] “سجل أعمال الرسالة اللبنانية المارونية في الأرجنتين”
[3] المرجع السابق.