الأب مارون مبارك م.ل
الوعظ والأرشاد تعبيران متلازمان في لغتنا، نحن المرسلين اللبنانيّين. هما أكثر من عبارتين لأنّهما يشكّلان بابين رسوليّين واسعين، يختلفان في الطرق والأساليب وتنوّع الوسائل، ويلتقيان عند هدف «الكرازة بالإنجيل» لهداية النفوس في «سُبُل الربّ القويمة».
«لقد التزمت جمعيّتنا منذ نشأتها، الرسالة في مداها الأوسع، لا سيّما حقلَي خدمة الكلمة والتربية المسيحيّة، بهدف إمداد الناس بكلّ عمل روحي يفيد خلاصهم»[1]؛ فآثرت الغيرة في الخدمة على الظهور في العمل، وأخضعت كلّ ما توافر لديها من وسائل وإمكانات لرأس رسالتها، «الكرازة بالإنجيل» فكثفت عملها ولم تبخل، على مدى تاريخها، بأيّ جهد في سبيل «إعلان سرّ المسيح بالوعظ والتعليم وإمداد الشعب بنِعم الخلاص»[2].
لقد أسرّ المؤسّس المطران يوحنا حبيب نفسه هذه الرغبة منذ الانطلاقة وشجّع عليها، فنراه يؤكّد على ضرورة هذه الخدمة قائلاً: «… أعرض أن أخصّ الأسباب التي نبّهتني إلى تأليف جمعية المرسلين، نظري إلى أن عصرنا الحالي يحتاج إلى تأليف صنفٍ كبير من كهنة غيورين على خير القريب الروحي، يُعدّون أنفسهم للجهاد إزاء العدو الجهنّمي، متجرّدين عمّا سوى ذلك من الأشغال، لأجل صرف اهتمامهم مع الرعاة وكهنة الرعايا بهذا الجهاد العظيم الشأن»[3].
خصّص المؤسّس كلّ ما وصلت إليه يداه وخبرته ومعرفته للحثّ على هذا النوع من الجهاد، فحرّض وشجّع ونبّه لكي «يجتهد الذين آمنوا بالله في القيام بالأعمال الصالحة» على ما قال بولس الرسول في رسالته إلى تلميذه طيطس 3/8. وعند اقتراب زمن الصوم الذي ينشط فيه المرسلون بإلقاء المواعظ ومتابعة النفوس بالإرشاد والانذار بكلمة الله، كرّر المؤسّس توصيته للآباء لكي يستعدّوا خير الاستعداد لهذه المهمّة المتخصّصة، قال: «حيث إنّكم قادمون على موسم الصوم المقدّس، فلينشط كلّ منكم ويستعدّ للاتجار بوزنات دعوته، لا بكلام الوعظ والارشاد فحسب، بل وبالعمل المطابق لأقوالكم، حتى إذا نظر الشعب إلى سلوككم وإلى حركاتكم اتّعظ بمرآكم ومجّد الله»[4].
لقد اعتنت الجمعيّة، محتذية مثل المؤسّس، أشدّ العناية في خدمة الكلمة، لا سيّما حقلَي الوعظ والارشاد، وراحت «تحدّد لنفسها، عبر مجامعها العامة الدوريّة، خياراتها الرسوليّة، وترسم نهجها وفق مقتضيات الزمن ومستجداته، كي تؤدّي في نطاق قدراتها الخدمة المؤاتية والمفيدة»[5]. فأرسلت أبناءها للدرس والتثقّف في أهم الجامعات الكنسية في أوروبا وغيرها، لكي يحصّلوا العلوم التي تفيد رسالتهم، وتحقّق أمنية المؤسّس وتجسّد عطية الربّ في الموهبة التي خصّها بها، ليصيروا «رجال علم وعمل». هكذا نجحت المساعي واتّسعت الخدمات كيلا تكون «كلمة الله موثقة» (راجع 2طيم 2/9)، بل تدخل في كلّ «قلب مصغٍ» (راجع 2 أخ 1/10)، وتُنير كلّ فكر جاهز وتعمل في نهضة شعب الله، القطيع الصغير حتى لا يخاف بل يثبت في محبّة الله.
الوعظ، خدمة الكلمة.
للوعظ مكانة أساسيّة في مسار الجماعة المسيحيّة، فهو يُنير، يعلّم، يبني ويشجّع ويرسل. نظراً لخطورة هذه المهمّة في تربية شعب الله وصيانة نفوس المؤمنين وحماية إيمانهم، خصّص المطران يوحنا الحبيب فصلاً كاملاً في كتاب قوانين الجمعيّة[6] والذي خطّه بيده أمام القربان في كنيسة دير الكريم، ليشرح بالتفصيل إتقان هذا الفن الروحي والكنسي. انطلق فيه من أهميّة الوعظ إلى تفنيد الطُرُق العمليّة في التحضير والإلقاء والتمرّس عليه. ركّز المؤسّس على قاعدتين أوّليتين:
- البساطة في الكلام أي اللغة التي يفهمها الناس؛
- والاختصار في الكلام، كما يؤكّد صاحب الحكمة: «قلِ الكثير بما قلَّ من الكلام» (سيراخ 32/8).
لقد اعتمد المرسلون نهج الوعظ كما اقتضاه المؤسّس وكما يتطلّبه حسن «خدمة الكلمة»، وكما تتوخاه حاجة النفوس. منذ انطلاقة الرسالة عكف المرسلون، ولا يزالون يواصلون «نشر الإنجيل»، الخبر السعيد الذي يفيض السلام في القلوب. فلم يألوا جهداً إلاّ وسعوا في سبيل إيصال الكلمة. كتب الأب يوحنا العنداري يشرح انطلاقة المرسلين إلى الوعظ في الرياضات الروحيّة، في كتابه حول حياة المؤسّس ما نصّه: «وبدأوا يجوبون القرى، القريبة منها والبعيدة للوعظ، وسماع الاعترافات، وتعليم الأحداث التعليم المسيحي، وفضّ مشكلات الناس ونزاعاتهم، فيمكثون في كلّ موقع قدر ما توجب الحاجة. وكانوا إذا قصدوا الأمكنة النائية يُتبعون الرياضة بالرياضة، فلا يعودون إلى ديرهم إلاّ بعد بضعة أشهر. ولا يستقرّون فيه إلا لفترات قصيرة، يعودون على أثرها إلى مزاولة عملهم من جديد»[7].
لقد آثر المرسلون وعظهم وتوسّعوا فيه من الرعايا إلى الجماعات الرهبانيّة وكهنة الأبرشيّات حتى وعظ السيد البطريرك والسادة الأساقفة في رياضاتهم السنويّة. ولكي تطوّر الوعظ وتوسّع مداه خصّصت الجمعية، ضمن تنظيمها للعمل الرسولي، «لجنة رسوليّة» تُعنى بتوزيع الرياضات الروحيّة لا سيّما في زمن الصوم على الرعايا والمنظّمات الكنسيّة، وتعمل منذ سنة 2000، سنة اليوبيل الكبير، على إعداد كتيّب مواعظ الصوم يتناول مواضيع السنة ويوزَّع على كلّ كهنة الرعايا في الأبرشيّات وعلى كلّ الجماعات الرهبانيّة في لبنان؛ وهي حاليًّا بصدد إعداد دليل الواعظ ترسم فيه نهج الوعظ والرياضات الروحيّة بحسب الروحانيّة الكُريميّة وروحها.
«إعلان الإنجيل» موضوع خطير في أهميّته وواسع في مضمونه، أخذ حيزاً كبيراً في تفكير الكنيسة وفي تعليمها، ولأهميّته كرّس البابا فرنسيس في إرشاده الرسولي الأخير تحت عنوان «فرح الإنجيل»، فصلاً كاملاً تناول فيه الموضوع بعنوان «إعلان الإنجيل». شدّد قداسته على أوجه هذا الاعلان، وتوقّف عند شرح مسهب حول الوعظ ومفهومه في الإطار الليتورجي، والطُرُق العمليّة في تحضير العظة إلى الأساليب المساعدة على الوعظ الإيجابي[8]. «الله يريد أن يبلغ إلى الآخرين من خلال الواعظ، إنّه يبسّط قدرته من خلال الكلام البشري»[9]، ولهذا «عُهِدَت إلى الواعظ المهمّة الجميلة والصعبة جداً بأن يجمع القلوب المتحابة: قلب الربّ وقلب شعبه… يزيد في تقوية العهد القائم بينهما ويشدّ أواصر المحبّة»[10]. ولهذا، على الواعظ أن يمارس «عبادة الحقيقة»[11]. عندها يكرّس لها «الوقت والاهتمام والتفاني المجاني»[12].
بناءً عليه، يتأكّد لنا أنّ مهمّة الوعظ خدمة كهنوتيّة كنسيّة، تنهل قدسيّتها من كلمة الله، وترتكز في طُرُقها على اختبار الخادم نفسه، وتهدف في مآلها إلى تحريك القلوب لتمتلئ من حرارة اللقاء مع الله في كلمته. إنّ سرّ نجاح الوعظ يكمن في العلاقة مع كلمة الله، حتى تنتقل من قلب إلى قلب، من قلب اختمر إلى قلب يختبر. وهنا، لا نطرح السؤال: ماذا يقول الواعظ في عظته حول كلام الله؟ بل يسبقه سؤال: ماذا تقول له كلمة الله التي يستعذب تذوّقها كأنّه يقرأها للمرّة الأولى؛ لأنّه بقدر ما تكون قريبة منه تقترب من السامعين له. «في ذاتك تجد الحقيقة»، يزفّ مار اغوسطينس للواعظ الذي يلج إلى ذاته، إلى قلبه؛ وهذه الحقيقة بدورها تسهّل له بأن يصبح قادراً على التواصل في كلّ الاتجاهات، وتسمح له بأن يحرّك قلب كلّ من يصغي إليه[13].
هذا ما خبره المرسلون في وعظهم وفي رسالتهم حيث التحم اسمهم مع الكرازة، وباتوا معروفين «بالواعظ الكُريمي». وما اليوبيل المئة والخمسين سنة لتأسيس الجمعية سوى دعوة للعودة إلى الينابيع والتجدّد في الانطلاقة لتبقى «الكرازة بالإنجيل»، موهبة متألّقة في خدمة الكلمة.
الإرشاد الروحي.
وجه آخر في «خدمة الكلمة»، يتعاطى شأنها في خفائها؛ ففي حين أنّ الوعظ يعلنها بعد اللقاء معها في إلفة عميقة، يأتي الارشاد الروحي ليدلّ عليها كما يوحي إليها الروح القدس عينه في النفوس بالخفاء. لذلك سمّى الآباء الروحيّون ومن بعدهم العلماء الروحيّون والاختصاصيّون بالمادة، الارشاد الروحي، عملية مواكبة النفوس في الإجابة على دعوة الروح القدس الخفية. فتعدّدت تحديداتهم للارشاد وتنوّعت توصيفاتهم له، مما يدلّ على غنى هذه المهمّة وأهميّتها في تحقيق قداسة النفس.
«إنّه علم وفن قيادة النفوس في كمال الحياة المسيحيّة»[14]، «إنّه المساعدة التي يقدّمها مسيحي لآخر حتى يثير انتباهه في لقاءاته مع الله الذي يتحدّث إليه شخصيًّا، ولكي يجهزه حتى يُجيبه، ويجعله قادراً على النموّ في لقائه العميق معه وتحمّل عواقب هذه العلاقة»[15].
بدأت أولى معالم هذه الخدمة البنّاءة في تلمّس بعض الساعين إلى عيش كمال الإنجيل، لطرق اختبرها من سبقهم ليدلّهم على سرّ النجاح فيها؛ إنّهم الآباء الروحيّون الذين يولّدون الأبناء الروحيّين في الحياة الرهبانيّة بأوائل ظهورها. يقدّم مار أنطونيوس في مطلعها خير دليل على مهمّة الإرشاد الذي مارسه هؤلاء الآباء الروحيّيون والذين منه نبعت سلطتهم نحو الآخرين لأنّهم كانوا يمشون الطريق مع غيرهم، «إنّهم أفراد بين عديديدن يبحثون عن الله، إلاّ أنّهم أوائل في خبرة الطريق، سبّاقون فيها، ولذا اكتسبوا القدرة على الإرشاد على الطُرُق، توجيه الطريق، بحيث يدعون الآخرين ليطرحوا الأسئلة الناجعة ويعطوا عليها الأجوبة الناجحة»[16]. فالمرشد بهذا المعنى هو العارف بشؤون الله، والعالم بالطرق التي تقود إليه، هكذا عبّر أنطونيوس نفسه حيث قال: «تكفي الكتب للتعليم، أما نحن فمن جهّتنا، نرى أنّه من الجيد أن نحرّض بعضنا البعض على الإيمان، وأنّ نسم النفس بالأقوال. وأنتم كابناء، احملوا إليَّ، كما إلى أب، الأمور التي تعرفونها وقولوها لي. أما من ناحيتي، ولكوني أقدم منكم سنًّا، فإنّي أضعكم في أجواء ما أعرفه وما قد اختبرته»[17]. ثمّ تطوّرت هذه المواكبة الشخصيّة في طُرق الكمال إلى «كشف الضمير» للرئيس الذي يساعد في توجيه الشخص في طرق القانون السليمة والهادفة إلى القداسة. «ينشأ الراهب برويّة. ينشّئه التعليم، قدوة أحد الشيوخ ومثل الرئيس الذي يجب أن يفتح الراهب له قلبه ويكشف عن أفكاره ويفصح عن تجاربه»[18]. تابعت المواكبة الروحيّة طريقها في كلّ الأحوال بين رئيس ومرؤوس إلى أن وجدت تفرّعاً مع القديس اغناطيوس دو لويولا في القرن السادس عشر، حيث بدأ يظهر إلى جانب الرئيس معاونون، «معلّمو الروح القدس»، يساعدون الرئيس في عمليّة النموّ الروحي عند المرؤوسين وكان أغناطيوس «يحرّضهم على أن ينشطوا في تعزية الذين يعانون التجارب ومساعدتهم، وعلى العناية لإيجاد الأدوية الملائمة، وأيضاً على الإيعاز عن أيّ تراجع روحي إلى الرئيس، وعلى التعليم وتقديم الوسائل للتقدّم الروحي والنموّ في الفضائل»[19]. على هذا النحو سارت خدمة الارشاد الروحي، وشدّدت عليها التعاليم الكنسيّة الرسميّة وبالأخصّ منها المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أعطى التنشئة الرهبانيّة والكهنوتيّة أهميّة كبرى، ومن أركانها الارشاد الروحي، فرأى أنّه «من واجب الرؤساء أيضاً أن يحسنوا اختيار المدراء والمرشدين الروحيّين والأساتذة ويعنوا بإعدادهم»[20]. أما فيما يخصّ تنشئة الكهنة «فيجب تدريبهم بدقّة على فنّ إرشاد النفوس، إذ يستطيعون به أن يربّوا جميع أبناء الكنيسة ليحيوا أولاً حياة مسيحيّة… وليتدرّبوا أيضاً على مساعدة الرهبان والراهبات ليثبتوا في نِعمة دعوتهم الخاصة، وأن يتقدّموا وفقاً لروح مؤسّساتهم المتنوّعة»[21].
في الإطار نفسه، حرصت جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة على تأدية هذا الواجب والمواظبة عليه مستندة إلى القوانين الكنسيّة وتوجيهاتها[22]. فحدّدت الإرشاد الروحي كوسيلة روحيّة «باعتباره أداة لفعل الروح الإلهي، وسبيل هداية فريدة في دنيا النِعمة»[23]. ورسمت طرقه الداخليّة والخارجيّة وهي أن «تلج النفس بواسطته إلى أعماقها لتقايس ذاتها بدعوة الله ومقاصده عليها، وتنقاد من ثمَّ لمرشدها، لتنهج وإيّاه معارج التنقية والترقية الروحيّة»[24]. وهنا أبرزت مبادئه إذ فيه تزداد النفس «سخاء مع الله وتسمو حتى ذروة الاتحاد به تعالى»[25]. وبالأخير وصلت إلى تسديد موضعه في عمليّة التنشئة مع إبراز ثماره الفاعلة في عالم الإنسان وعالم الروح، فاعتبرته «سند التنشئة، بل وحجر الزاوية فيها، كي يسلك المكرّسون طريقته بانفتاح وطواعية، ويألفوها، فتسدّد خطاهم وتقيهم العثرات، وتنمّي مواهب الله فيهم، وهكذا يرقون بأمن وثبات نحو كمال المحبّة»[26].
هذا فيما يخصّ ممارسة الارشاد الروحي كوسيلة نموّ ذاتي. أما بالنسبة إلى ممارسته كوسيلة رسوليّة لاجل «هداية المؤمنين في سعيهم نحو الكمال، وفق مواهبهم الذاتيّة وضمن حالاتهم الخاصة»[27] فلقد شدّد المرسلون على هذه الخدمة لما تؤتيه من نفع لنفوس المؤمنين في «إيقاظ حسّهم في حياة الكنيسة ورسالتها»[28]. ولقد سعى المرسلون أيضاً إلى تحقيق هذه الخدمة في أوساط كنسيّة عديدة للفائدة الروحيّة الجلّى التي تؤدّيها فرديًّا وجماعيًّا «ليس فقط حيال الجماعات المكرّسة والاكليريكيّة، وفي مضمار تنشئة المدعوّين إليها، إنّما أيضاً تجاه مختلف الحركات والمنظّمات المسيحيّة العلمانيّة»[29]. أما الأهداف التي يتوخَونها في خدمة هذه المنظمات فقد حدّدوها في أن «نحضن إيمانها ونغذيه، وننمّي طاقاتها الفرديّة والجماعيّة، ونطلقها لتكون خميرة البركة في البيئات المختلفة، والقوّة الدافعة نحو تجديد المجتمع وتقديسه»[30].لقد خصّصت مقالة في هذا العدد من المجلة تتناول هذا الموضوع مباشرة.
1- إرشاد راهبات العائلة المقدسة المارونيّات:
أما ما نخصّه بالذكر هنا هو إرشاد الجماعات الرهبانيّة والذي برز في انطلاقة جمعيّة راهبات العائلة المقدسة المارونيات والرباط الروحي الجامع بين الجمعيَتين، والذي تعود أصوله إلى العلاقة الروحيّة والوديّة بين المؤسّسين. حتى إنّه غداة تأسيس جمعية راهبات العائلة المقدّسة في جبيل، بادر المؤسّس المطران الياس الحويك إلى الطلب من آباء جمعية المرسلين إلقاء مواعظ الرياضة الروحيّة على الراهبات وإرشادهنّ؛ وكان قد كتب للرئيسة العامة الأولى الأم روزالي نصر بهذا الشأن: «… قد سعينا بإرسال أحد الآباء المرسلين لأجل عمل الرياضة الروحيّة لكم ولكامل لفيفكم المبارك، فوفق الله بإنهاض غيرة الأب الفاضل الخوري اسطفان قزاح رئيس عام جمعية المرسلين الكرام إلى أن يتوجّه بنفسه إليكم لأجل إتمام هذا العمل الروحي…»[31]. ثم تلا الأب العام حضرة الأب يوحنا السبعلي، وبعده أكمل الآباء بالتوالي كلّ سنة القيام بهذه المهمّة؛ حتى سنة 1928 في 13 حزيران، حيث تمّ الاتفاق بين الرئيس العام قدس الأب يوسف مبارك والرئيسة العامة الأم جوزفين الحويك على «تسليم الإدارة الروحيّة لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات إلى يد جمعية آباء الرسالة»؛ وقد حرّر نصّ الاتفاق قدسه بيده في سجل الجمعية[32]. وعليه، كان الرئيس العام يعيّن من ينوب عنه لأداء هذه المهمّة، كما وأنّ عدداً من آباء الجمعيّة تولّى، حتى يومنا، إلقاء المواعظ على الراهبات وسماع اعترافهنّ. توقّف العمل بمعاهدة 1928 بموجب التشريعات القانونيّة الصادرة سنة 1952 حول «الرهبان»، فاستبدلها غبطة البطريرك أنطون عريضة بتعيين زائر مندوب بطريركي مع الحفاظ على روح المعاهدة. لا يزال المرسلون يهتمّون برعاية الراهبات الروحيّة عن طريق إلقاء المواعظ وإرشاد الراهبات؛ ويصدر في تعيينات الآباء الرسميّة، وبالتوافق مع الرئيسة العامة، تعيين مرشد روحي، وأحياناً تسمية معاونين له، إما حسب التعيينات الرسميّة، وإمّا حسب الاتفاق بين الرؤساء الأعلين في الجمعيتَين.
2- إرشاد راهبات القربان الأقدس المرسلات:
أما من ناحيتهنّ، فإنّ راهبات القربان الأقدس المرسلات، وبحكم المعرفة المتبادلة مع آباء الجمعيّة، والمجاورة بين دير الكريم ودير عين ورقة، وعلاقة الجمعيّة التاريخيّة بهذا الدير، فكنّ يستعنَّ بالآباء المرسلين لإلقاء المواعظ وسماع الاعترافات في أديارهنَّ لفترة زادت على الثلاثين سنة. لقد تقدمّن، بعد مجمعهنّ العام الأخير، بالطلب إلى صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي لتعيين الأب مارون مبارك مرشداً ومعرّفاً عادياً مألوفاً للراهبات، والأب يونان عبيد مرشداً معرفاً خارق العادة»، وقد أصدر غبطته مرسوماً بالموافقة، بتاريخ 12 كانون الأول 2011[33]. وعليه، يتعاون مع المرشدين المكلّفين آباء مرسلون في إلقاء المواعظ والمرافقة الروحيّة وإرشاد الراهبات منذ صدور التعيين.
بالإضافة إلى هذه الخدمات الروحيّة المعيّنة رسميًّا، لا ينفكّ آباء الرسالة يلقون مواعظ الرياضات الروحيّة على عدد وفير من الجماعات الرهبانيّة اللبنانيّة والأجنبيّة، ومن مختلف الطوائف المسيحيّة، في لبنان والقطر العربي، نذكر هنا بعضها على سبيل المثال لا الحصر، والبعض منها يتمّ إلقاء مواعظ الرياضات عليها سنويًّا وبشكل دوري.
الراهبات الأنطونيات، راهبات القديسة تريز المارونيات، الراهبات الافراميات بنات أمّ الرحمة، راهبات الوردية، راهبات الصليب الفرنسيسكانيات، الراهبات الباسيليات الشويريات، الراهبات الباسيليات المخلصيات، الراهبات الباسيليات الحلبيات، راهبات المعونة الدائمة، الراهبات اللبنانيات المارونيات، راهبات الناصرة، راهبات الراعي الصالح، راهبات الكلاريس في اليرزة، راهبات الكلاريس في بارما إيطاليا،… الرهبان الأنطونيّون ، الرهبان المريميّون، الرهبان الكبوشيون، الرهبان الكرمليون في مصر، الرهبان المخلصيون، الرهبان الشويريون، الآباء البولسيون…فغدا صوت الكُريمي يصدح بكلمة الله في الرعايا، في زوايا الأديار وفي أرجاء بيوت الرياضات الروحيّة، حتى عمّ صيتهم من جديد «الواعظ الكُريمي، اختصاصي الكلمة»، تسمعه من أفواه المكرّسين والمكرّسات المتشوّقين إلى كلام الله. هو الوسام الذي نتقلّده، إلاّ أنّه بالوقت نفسه المسؤوليّة التي يكبر حملها.
خدمة الكلمة تدوم ما دامت الكلمة؛ وخدمة الكلمة تفعل ما دام توجد حاجة للكلمة. يشبه مجتمعنا اليوم حياة الوردة التي تتربّع على عرش من شوك، لا تطول حياتها حتى تذبل؛ وعليه يحتاج إنسان عصرنا إلى من يواكب مسيرته حتى ينجح في خياراته ويُحقّق أهداف وجوده، وبالأخصّ المقدّسة منها.
جاءت خدمة الكلمة، «الكرازة بالإنجيل» لتجيب على هذه الضرورة بالوعظ والارشاد، فشكّل نقلة نوعيّة في عالم الروح ومسار الحياة الروحيّة، وهي لا تزال تخدم، تُنير، ترشد، تبني وترسل!
[1]. قوانين جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، عدد 12.
[2]. المرجع السابق، عدد 13.
[3]. الأب يوحنا السبعلي، سمط الحبيب، المجلد الثاني، عدد 491.
[4]. المرجع السابق، عدد 512.
[5]. قوانين جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، عدد 12.
[6]. كتاب قوانين جمعيّة المرسلين اللبنانيّين، مطبعة المرسلين اللبنانيين، جونية 1929، الباب الحادي عشر، في الواعظين، عدد 1-13.
[7]. الأب يوحنا العنداري، المطران يوحنا حبيب، رئيس أساقفة الناصرة شرفاً مؤسّس جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، جونيه، 1980، ص 174.
[8]. البابا فرنسيس، «فرح الإنجيل»، الارشاد الرسولي حول البشارة بالإنجيل في عالم اليوم، حاضرة الفاتيكان، 2013، الأعداد 110-175.
[9]. المرجع السابق، عدد 138.
[10]. المرجع السابق، عدد 143.
[11]. البابا بولس السادس، «التبشير بالإنجيل»، الارشاد الرسولي، 8 كانون الأول 1875، عدد 78. (يقصد بالتعبير أنّ كلمة الله التي ندرسها ونتأمّل فيها تسمو دائماً فوقنا جميعاً ونحن لسنا سوى خدّام لها، مؤتمنين عليها وننادي بها، ولذلك نسعى إلى فهم الرسالة التي تتضمّنها).
[12]. البابا فرنسيس، «فرح الإنجيل»، …، عدد 146.
[13]. Cf. MARTINI Carlo-Maria, Il predicatore allo specchio, ed. Ancora, Milano, 1986, pp. 99-105
[14] A. PASQUETTO, «direzione spirituale», in Ermano ANCILLI (ed.), Dizionario encyclopedico di spiritualità, Studium, Roma, 1975, pp. 600-610.
[15]. William A. BARRY et William J. CONNOLLY, pratica della direzione spirituale, O.R., Milano, 1990, p. 13.
[16]. Michelina TENACE, Servir la sagesse, les supérieurs dans la vie religieuse, Lessius, Bruxelles. 2009, p. 18.
[17]. أثناسيوس، حياة القديس أنطونيوس، 162.
[18]. القديس مبارك، القوانين II/31-32.
[19]. القديس اغناطيوس دو لويولا، قوانين المعاهد، 1، ص 19.
[20]. المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني، الوثائق المجمعيّة، «قرار مجمعي في تجديد الحياة الرهبانية الملائم»، طبعة رابعة منقَّحة، البولسية، 1991، عدد 18.
[21] المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني، الوثائق المجمعيّة، «قرار مجمعي في التنشئة الكهنوتيّة»، البولسية، 1991، عدد 19.
[22]. راجع مجلة القوانين الشرقيّة، ق. 538 بند 3 معطوف على ق. 473 بند 2 عدد 2.
[23]. قوانين جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، عدد 87.
[24]. المرجع نفسه.
[25]. المرجع نفسه.
[26]. المرجع نفسه.
[27]. قوانين جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، عدد 20.
[28]. المرجع نفسه.
[29]. المرجع نفسه.
[30]. المرجع نفسه.
[31]. أرشيف دير العيلة، عبرين، سجل رقم 2، ص 15، عدد 13. راجع ماري ريتا مخول (الأخت)، جمعية المرسلين وراهبات العائلة المقدّسة، في المنارة، 2-3 (1994)، ص 273.
[32]. سجل الرسالة اللبنانية، المجلد الثاني، ص 30، عدد 27. أما نص المعاهدة فمنسوخ على السجل نفسه، ص 39-40، رقم 103. راجع ماري ريتا مخول (الأخت) المرجع السابق، ص 275-276.
[33]. بطريركية أنطاكية وسائر المشرق المارونية، بكركي، سجل التفويضات عدد 81/2011، تاريخ 12 كانون الأول 2011.