الأب عمر الهاشم م.ل.
لمناسبة اليوبيل وتحضيرًا للدخول في غمار معانيه، عقدت لجنة التحضير النية على تجهيز الأجواء بالاستعداد له روحيًا، فأوكلت إلى اللجنة الروحية أن تعدّ برنامجًا خاصًا للرياضات الروحية والتركيز على المواضيع التي تطال الحدث الكبير من الناحية الروحية، وكانت أولى الخلوات الروحية في بدء السنة الطقسية يوم السبت الواقع فيه الثامن شهر تشرين الثاني 2014، ألقى فيها الموعظة الأب عمر الهاشم حول موضوع “الموهبة البنوية للتأسيس وكيف نجسّدها ككريمين في عالم اليوم”. يسرّ إدارة مجلة المنارة أن تنشر بالمناسبة العظة كاملة لما فيها من إفادة للقريب وللبعيد، تخليدًا للذكرى القيّمة التي تعيش جمعيتنا.
من ليس له ماضٍ ليس له حاضر، ولا هو الى المستقبل ناظر. نلتقي وإياكم في بداية السنة الطقسية لنتأمل في الدعوة والموهبة النبويّة المميزتين اللتين خصّ الله بهما مؤسّسنا المطران يوحنا الحبيب والرئيس العام الأول اسطفان قزاح، في ذكرى يوبيل المئة والخمسين عاماً لتأسيس جمعيتنا، جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة، مكتنـزين بما تركه الآباء من ذكرى طيّبة، فرحين بما يحقّق إخوتنا في حقول الرسالة اليوم، آملين بمستقبلٍ زاخر بالدعوات المقدسة التي تكمّل مسيرة المؤسّسين وكل من ساروا على خطاهم.
أولاً: في أصل كلمة الموهبة الروحية؟
تُترجم كلمة موهبة روحية اللفظة اليونانية charisma ومعناها “الهبة المجانية”، ويشترك في نفس الأصل الذي يشتق منه لفظ charis أي النعمة. ولا يستعمل العهد الجديد هذه الكلمة دائماً بمعناها الإصطلاحي الدقيق. فقد تشير الى جميع هبات الله التي لا رجعة فيها، وبالأخص “هبة النعمة” هذه، التي تأتينا بالمسيح وتثمر الحياة الأبدية. ففي المسيح، قد غمرنا الله حقاً بنعمته وسوف “يهب لنا معه كل شيء”. ولكن الهبة الاولى هي الروح القدس ذاته، الذي أفيض في قلوبنا، ويغرس فيها المحبة. والاستعمال الاصطلاحي للفظ charisma يأخذ مفهومه أساساً انطلاقاً من حضور الروح القدس الذي يتجلّى بواسطة أنواع المواهب المجانية كافة. أما الموهبة بحسب مفهوم لاهوت الحياة المكرّسة فهي إعطاء يسوع ذاته بكلّيتها للعائلة المكرسة مع التركيز على ناحية من نواحي سرّه، أو ملمح من ملامح وجهه.
ثانيًا: من هو النبي، وما هو التعليم النبوي؟
النبي هو الشخص الجدير بتلقّي رسالة من الله، هو من تلجأ الجماعة اليه وهو يحمل دعاءها الى الرب. والتعليم النبوي يشكّل تقليداً، له مكانته الخاصة في جماعة اسرائيل. فيُعتبر النبي مكمّلاً للجماعة، ونراه دوماً بجانب الكاهن، يعاونه في تنصيب الملك. فالملك والكاهن والنبي هم، خلال حقبة طويلة من الزمن، الأقطاب الثلاثة لجماعة بني اسرائيل. وهم يختلفون فيما بينهم الى حد التعارض احياناً، الا انهم يحتاجون في العادة الى بعضهم البعض. فخلال ملكية بني إسرائيل أرشد الأنبياء الملوك: ناتان، جاد، أليشع، ولا سيما اشعيا. واحياناً إرميا، واليهم يؤول الحكم اذا ما كان العمل الذي شرع به الملك يريده الله ام لا، او إن كانت سياسة معينة تندمج تماماً او لا تندمج في تاريخ الخلاص. منذ 1300 سنة حدّد البابا غريغوريوس الكبير عمل النبي بقوله:” هو تكهّن للمستقبل، وكشف ما هو مخبّأ، ليس بواسطة العلم، انما من خلال عطية خاصة معطاة من الله، اذ انه يعتبر الناطق الرسمي باسم الله، او فم الله”. في يومنا هذا، أصبحت رسالة النبي ترتكز على شجب النقص، أينما وجد في المؤسسات المدنيّة والروحية.
ثالثاً: كيف أسست جمعية المرسلين، وكان تأسيسها علامة نبوية في الكنيسة المارونية
- لا شك في ان القرن الماضي كان بالنسبة للموارنة في لبنان عهد تثبيت هيكلية الكنيسة المارونية، التي كان قد أقرّها المجمع اللبناني سنة 1736، وكان عهد تفعيل مؤسساته الثقافية والدينية وبناء الجديد منها. ولم يكن ليحصل ذلك الا لوجود قياديين بارعين، دينيين بالدرجة الاولى، وثقافيين، عملوا من اجل مصلحة الشعب العامة بتجرّد وكِبَر، اذ انه ما زلنا حتى يومنا هذا نتمتّع بثمار مواقفهم الايجابية ورؤيتهم الثاقبة وننعم بفضائلها.
- الوضع السياسي: ان التحولات التي طرأت على النظام السياسي الذي كان معمولاً به في جبل لبنان، أبّان الحكم العثماني، في القرن التاسع عشر، أدّت ايضاً الى تبدّل في النظام الاجتماعي. لقد ضعف تاثير رجال الإقطاع عند الموارنة، وعظم شأن الاكليروس الذي كان أقرب منهم الى حماية مصالح الشعب والفلاحين.
- الوضع الاقتصادي: لم يُكتب للهجمة السياسية النجاح الا لأنها اقترنت بمصالح اقتصادية تتعلق بتوظيف رأس المال الاوروبي في الشرق. وظهرت النتائج سريعاً على الارض، اذ ضعفت الزراعة لصالح التبادل التجاري، وانتشرت السلع والبضائع الاجنبية، الأمر الذي بدّل رويداً رويداً عادات الشعب وتقاليده.
- الوضع الثقافي: لقد استتبع النشاط السياسي والاقتصادي اهتماماً ثقافياً مكثّفاً ومبرمجاً، أبطاله المرسلون البروتستانت، الذين أتوا من اميركا وانكلترا، يقابلهم المرسلون الكاثوليك الذين كانوا من فرنسا خصوصاً ثم الارثوذكس من روسيا.
- الوضع الديني: كان مزدهراً اذ ان حضور المرسلين الاوروبيين والامريكيين، اي البروتستانت، قد وصل الى قدر من النمو في القرن التاسع عشر، فربَّ سائلٍ ما الحاجة اذن الى تأسيس جمعية جديدة للتعليم والرسالة؟ ألا تغطي كل هذه الجهود حاجة البلاد وحاجة الكنيسة؟ اذا عدنا الى خريطة انتشار المرسلين البروتستانت والكاثوليك على السواء، والى عدد كلِ من افرادهم في الإرساليات المختلفة، واذا عرفنا مدى المستوى اللغوي الذي كانوا يتحلّون به، ومدى عملية التواصل بينهم وبين أبناء وطننا لبنان، وكيف انهم لم يذهبوا الى الأرياف بل استقروا في المدن الكبيرة، وانهم لم يتقنوا اللغة العربية بشكلٍ جيّد، نعلم لماذا لم يستطيعوا التأثير بسهولة، بعامة الشعب، بل بالنخبة الاجتماعية والسياسية التي كانت تجمعهم بهم المصالح المشتركة.
امام هذه العوامل الثقافية والاجتماعية والدينية المذكورة أعلاه، أدرك الخوري يوحنا الحبيب انّ لا مستقبل للجمعيات المدعومة من الخارج اذا لم تحزم الكنيسة المحلية أمرها، فتقوم هي بما يقوم به المرسلون عندها. فدوام الرسالة يكون بتبنّي أبناء البيت تدبير شؤون البيت. ( هذا ما ألهمه الروح القدس للخوري يوحنا الحبيب، وهذا ما وعاه القاضي يوحنا حبيب بحنكته وحكمته)، وحمله على إحياء ( تأسيس) جمعية المرسلين. وكان في سلّم أولوياته تربية الاكليروس في الكنيسة المارونية، اذ ان الإصلاح يقع بادىء ذي بدءٍ على عاتقهم. فإكليروس الكنائس المشرقية، أيام الحبيب، كان ينوء تحت احمالٍ تلّخص بما يلي: نقص في التربية، نقص في التعليم، نقص في احترام الكرامة الكهنوتية. نذكر الإكليريكيات الخمس في الكنيسة المارونية: مار انطونيوس عين ورقة، مار عبدا هرهريا، مار سركيس وباخوس ريفون، مار جرجس الرومية، ومار يوحنا كفرحي. ثلاثة من بينها قليلة الاعتبار حتى عند الموارنة انفسهم، يبقى اثنتان: عين ورقة ومار عبدا.
رابعاً: شخصية يوحنا حبيب الفذة، اين هو من صفات النبي الآنفة الذكر؟
المطران يوحنا حبيب شخصية سَحَرَ كل من عرفه والتقاه، عزيمة صلبة، رجل عصاميّ، منذ ان كان تلميذاَ في مدرسة عين ورقة، ثم قاضياً للنصارى، ومجدداً للجمعية فاسقفاً زاهدا في البطريركية والمراكز والسلطة. استقامة واخلاق حميدة، روحانيّته مميزة وتواضعه لافت. عانى في القضاء وعانى في الترجمة والتدريس. عرف شعبه ووعى مشاكله تماماً من خلال تجواله ومعاطاته اليومية في سماع الدعاوى وإصدار الأحكام. و”يد الرب كانت معه” تشخيصه لوضع الكنيسة المارونية “جعله جاهزاً للإنقياد لالهامات الروح القدس، الذي دفعه لايجاد العلاج الناجع الذي يتلخص بـ”الاتّجار بالوزنات الانجيلية” وبأهمية الرسالة في بلادنا التي قبلها الناس بأنها خير كبير”. عمله يُعد مخاطرة وجرأة وتحدياً لأوضاع مجتمعه، وقفزة نوعية في الكنيسة المارونية، اذ يحمل في طيّاته اسلوباً جديداً في إيصال كلمة الله. انها محاولة ناجحة في التأقلم وفق متطلبات الكنيسة المحليّة وحاجاتها، معتمدةً طريقة جديدة للحضور تركّز على العلم والنضج والتقوى ولطف الأخلاق وحسن السيرة. كل هذه الصفات حملته الى إعادة إحياء الخط الإرسالي في الكنيسة المارونية، متجاوباً مع إلهامات الروح القدس، مؤسساً الجمعية التي حاول أبناؤها التعويض عن الفراغ الناتج عن الجهل عند مَن يفترض بهم ان يكونوا منارة الشعوب والخمير في العجين والملح في الطعام. هناك سبب وجيه آخر، يرتبط بالاوّل ارتباطاً وثيقاً ألا وهو الالتزام بالخط الارسالي في الكنيسة المارونية من داخلها وليس انتظار الاجانب ليقوموا بذلك. الكنيسة المارونية حتى ذلك الحين كانت حقل استثمار من قبل الرهبانيات والبعثات الاوروبية، لا بل كانت في مكانٍ ما أتكالية. زد على ذلك انها منذ ايام المدرسة المارونية في روما، الى مدرسة عين ورقة، كانت تستهلك اللاهوت والفلسفة اللذين يأتيان من الغرب وتسير وراء كل غريب وأجنبي وجديد.
من هنا أهمية النهج الرسولي في بلادنا كما يراه الحبيب، هذا النهج الذي يرتكز على الموهبة التي وضعها الروح القدس في شخص الحبيب. فالرسالة في الكنيسة، لا تقوم فقط، على وضع آليات وبُنيات معيّنة على غرار ما يحدث في الشركات الصناعية، انما تقوم على الشهادة الحياتية ليسوع القائم من بين الاموات. من هنا تصبح الرسالة عطاءاً للغير بدون مقابل وبدون بدَل، انها تبادل وحوار وشهادة لحضور أخوي وإغناء متواصل بيسوع المسيح.
خامساً: كيف تجلّت الروح النبوية في ميادين رسالتنا او بالحري كيف نعيش النبوّة في ميادين رسالتنا، جاعلين منها انعكاساً ليسوع المبشّر. (الموهبة الرسولية)
الدعوة الى اعتناق المشورات الانجيلية في الحالة المكرسة هي احدى المواهب المتنوعة التي بها يقود الروح القدس الكنيسة ويهديها ويزيّنها ويوحدها ويجدّدها. وهكذا كل مؤسسة (هي موهبة من مواهب الروح القدس في الكنيسة، تحمل في ذاتها موهبة خاصة من مواهب الروح القدس). هذه الموهبة تكوّن المؤسسة تكويناً عميقاً وتدخل في صميم وحدتها وتضفي عليها طابعها الخاص. هذه الموهبة هي عطيّة مجانية يجود بها الله كيفما شاء على المؤسس لأجل منفعة الكنيسة وبنيانها. انها تشمل تحديد المهمة الرسولية اي عمل الخدمة التي يعهد بها الله الى المؤسس وبواسطته ومن بعده، الى المؤسسة للقيام بها ضمن نطاق رسالة الكنيسة الخلاصية.
فموهبة المؤسس الخوري يوحنا الحبيب، هي موهبة رسولية في جوهرها، نطاقها الارتباط بوجه يسوع ” المبشّر” من خلال الوعظ والإرشاد والتعليم كما تقول قوانيننا. نظراً الى افتقار شعبنا الماروني لمن يعوله بالامور الروحية كالوعظ والارشاد والرياضات والمثل الصالح…فتحمس بالغيرة على خير القريب..ولم يحتمل ان تفترس الذئاب الخراف. وحملته غيرته على ان يترك وظيفة القضاء ويكرّس في سبيل إنشاء الجمعية “كل ماله وأحواله وكدّه وتعبه حتى عافيته…ويجاهد ويحتمل ما لا يُحتمل من المكاره والإضطهادت”.
هي نفس الغيرة الرسولية التي أضطرمت في قلب الأب اسطفان قزاح الرئيس العام الأول للجمعية، فكان التقاء رغبة واحدة عند المؤسس والرئيس العام تمثلت:” في خلاص النفوس، والمناداة بالكلمة”، هذا ما حملهما على تنشئة المرسلين لينادوا بالكلمة على مثال الرسل:” بكل مجانية مبشراً لا مستجدياً ولا مكتسباً”.
سادساً: وجوه الخدمة لرسولية، ويمكننا ان نلخصها في بابوابٍ ستة
- الكرازة بالانجيل: هي التبشير بكلمة الخلاص التي تبعث الايمان في قلوب غير المسيحيين، وتغذّيه في قلوب المسيحيين وتلد شعب الله وتنمّيه. وهي تشمل الوعظ والرسالات في الرعايا والرياضات الروحية في الأديار والمدارس الرسولية وحركات الشبيبة، وشرح التعليم المسيحي للاولاد وغير المتفقهين بأمور الديانة. منذ البداية انطلق المرسلون في المدن والقرى للوعظ والرياضات، فسمع صوتهم في كل كنيسة وكان لهم لكل مشكلة في الرعية حل، ولحقوا المزارعين الى البيادر ليعظوهم في الحقول، وبالموظفين الى دوائر الحكومة، فجعلوا منها منابر للوعظ وكراسي للاعتراف.
- الارشاد الروحي: يتصل بالوعظ وينبثق منه الإرشاد الروحي اي تربية الايمان وتقويم الضمائر وتصوير المسيح في النفوس. ويشمل هذا النوع سماع الاعترافات وتدبير النفوس والتوجيه الروحي في الجمعيات الرهبانية والإكليريكيات والأخويات ومنظمات الشبيبة والحركات الرسولية. هذا النوع من العمل الرسولي شاق وشّيق. انه فن الفنون، وباب لا يلجه بحق الا من ارتوتْ نفسه من كلمة الله، وتجرّد عن ذاته من كل وجه ليتدبر ويدبّر الآخرين بروح الرب. خدمة جليلة، أوصى المؤسس بوجوب إتقان مقتضياتها.
- رسالة التعليم والتربية: انها من صلب موهبة الجمعية واهدافها. تشمل ليس فقط أنشاء المدارس من اكليريكة وعلمانية على مختلف انواعها ودرجاتها ومزاولة مهمة الادارة والتدريس فيها، بل ايضاً التأليف والنشر بشتى وسائل الاعلام. ولقد نهض المرسلون، ومنذ اول عهدهم، والى جانب الوعظ والرسالات، برسالة القلم والكتابة والتعليم وإدارة المدارس. وها هو المؤسس نفسه يحرّض في بنود القوانين على ان يكون من اخص اعمال المرسلين أمران: التصنيف والتأليف والترجمة في العلوم اللاهوتية والفلسفية وتفسير الكتب المقدسة وباقي العلوم الكنائسية العائدة الى خير القريب الروحية – الكرازة بالايمان الكاثوليكي والوعظ والارشاد وباقي أعمال الرسالات المقدسة وتعليم الناس العلوم الرياضية والآداب الحميدة وكل ما فيه خير القريب.
- الخدمة الرعائية: حرّمها المؤسس على المرسلين في المعاهدة الملحقة بالنذور والمؤكدة باليمين، ذلك حرصاً منه على “تجنّد” المرسل بكامل قواه ووقته لمباشرة أعمال الرسالة وما تقتضيه من قدرة على التحرك والانتقال من رعية الى اخرى لتعميم الفائدة، وتلبيةً لحاجات الشعب الماسة الى الخدمة الروحية وتوزيع الكلمة بصورة منتظمة متواصلة، وليس فقط موسمية عابرة، وامتثالاً لإرادة الكنيسة وتجاوباً مع نداءاتها في مجمعها المسكوني الفاتيكاني الثاني يمكن اعتماد الخدمة الرعائية حين وحيث تعدو الحاجة، شرط ان تُصان مقتضيات النذور والحياة المشتركة وطابع الجمعية الرسولي.
- الخدمات الاجتماعية: وجه آخر من وجوه الرسالة لا يقل قدراً ولا فعالية عما سواه؛ لا بل هو خاتم مصداقية الدعوة الرسولية وأصالة شهادتها امام الله والناس. فالقول انما يجمل حين يكمل بالفعل. وعلى مثل هذه الخدمات سنؤدي الحساب يوم الدينونة: تعالوا يا مباركي ابي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالم، لأني جعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني، وكنت غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضاً فعدتموني، وسجيناً فجئتم اليّ. عاش المرسلون هذه التعاليم خلال الحرب العالمية الأولى مما حملهم الى رهن أرزاق الجمعية من اجل تقديم القوت والكساء لكل من قصد دير الكريم طلباً المساعدة.
سابعاً: امتاز المرسلون بنهجهم الرسولي المميز ونلخصه بما يلي:
- روح الغيرة: في جوهرها، الخدمة الرسولية هي غيرة للرب خالصة منـزهة، لا تحتمل قسمة ولا خلط، بل تُلزم من جُند لها ان يضبط نفسه عن كل شيء ليرضي من جنّده. لذلك وضع المرسلون في رأس المبادىء الناظمة لحياتهم الابتعاد عن مشاغل الأرض وعن المقامات والوظائف، والانقطاع الكلي للرسالة لتكون هذه شغلهم الشاغل على مدار السنة. وجاءت المعاهدة المؤكدة باليمين الملحقة بالنذور لتوّطدهم في هذا العزم وتجندهم بكلّيتهم للعمل الرسولي إتماماً للغاية التي لأجلها تأسست هذه الجمعية. على خطى مؤسسهم سار المرسلون جيلاً بعد جيل وتوالت دفعات الغيرة يوماً بعد يوم. فذهبوا افراداً وجماعات يزرعون كلمة الخلاص ويحصدون غلال النفوس في أهراء الملكوت.
- روح التجرد: ولن تصفو الغيرة وتثمر الا اذا اقترنت بالتجرد، فهو بمثابة المحك والامتحان لمن يبغي اعتناق الدعوة الرسولية. ولقد ورث المرسلون روح التجرد من مؤسسهم ومعاونه الأول الأب قزاح. فكلاهما زاهد كلياً وبكل شيء. فالخوري اسطفان قزاح منذ ان افاق على صوت لله، أخلى تعبه ورزقه لمعلميه اليسوعيين عطاءاً مجانياً بلا بدل. ولم يعد بعدها، ولا بعد كهنوته، ليتعرف الى اي شيء مما يؤخذ ويُجمع. والخوري يوحنا حبيب بعد ما قطع ربطه بالارض، جمّع كل ما جنت يداه عبر السنين ليبذله تقدمةً سخية كاملة على مذبح الكريم، ولسان حاله ما كتب هو نفسه لصديقه المطران يوحنا الحاج (البطريرك فيما بعد):” لو شك الجميع بتجرّدي، فسيادتكم لا تشكّون. والآن اصرّح، ولو جاز لي القسم لأقسمت، انه ما عندي ادنى تعلّق لا بدير الكريم ولا بشيء من أرزاقه، انا راضٍ من الدنيا بالقوت والكسوة”.
- روح البساطة: البساطة هي من أخص ميزات الموهبة الرسولية في الجمعية. انها وليدة التجرد وثمرة إخلاص النيّة، والاعتصام بفضيلة التواضع تتناول مجمع حقول الحياة: أكل ولبس وحركات وأثاث الأديار والغرف، ووسائل النقل، والاستعدادات الباطنية وبالأخص اسلوب الوعظ. مراراً في القانون وفي كتاباته ومواعظه، يبالغ المؤسس في تحريض المرسلين على التحلّي بهذه الميزة. فيأمر بوجوب إخلاص النيّة في اعمال الرسالة، فلا يقصد المرسل في عمله سوى مجد الله فقط وإتمام مشيئته. وبالتالي، لا يعجب بنفسه اذا نجح عمله ولا يقلق من عدم نجاحه، لأن النجاح يختص بالله، ولو راق للناس عمل احدهم دون صاحبه، وجب على من فلح ألا يفرح إلا لإتمام مشيئة الله. وبشأن السلوك والمظهر الخارجي، فيوصي بإتقان فضيلة الحشمة وحفظ الرزانة اشد الحفظ حتى يتعظ الناس بمجرد النظر الى هيئتهم. غير ان رزانتهم يجب ان تكون مصحوبة بطلاقة الوجه والبشاشة، لأن تقطيب الوجه مكروه عند الناس جداً فينفرون، فيفوت الغرض. والأولى ان يُبدوا لهم البشاشة ويحاسنوهم ويحدثوهم باللين والرقة عملاً بقول الرسول: وصرتُ لكل احد لأحيي الكل.
- روح التناسق والالفة: حدّدته القوانين والتقاليد الموروثة في الجمعية. فنظّمت علاقات المرسلين مع اساقفة الابرشيات وكهنة الرعايا والأهلين كافةً وبعضهم مع بعض ومع رؤسائهم. وفي نظر المؤسس وقناعاته السيد البطريرك هو مصدر الجمعية وعمادها وعلى اهل الجمعية إجلال وتعظيم مقامه السامي وابداء جميع إمارات المهابة لذاته الكريمة والامتثال لأوامره والخضوع لأحكامه. والأساقفة هم مدبّرو كنيسة الله ووكلاء رب الكرم. والمرسلون عملة هذا الكرم وجنود لأساقفة الرعايا في الجهاد الرسولي. ومن بعد المؤسس وعلى مثاله، حمل المرسلون القلم، وأداروا المدارس وقاموا برسالة التربية والتعليم. فكان منهم الكتّاب والعلماء في حقول اللاهوت والروحيات والآداب والشعر والأبحاث التاريخية. ومن هذا المنطق تعتبر الجمعية ان النشرات الدينية والأدبية وسائر وسائل الاعلام جزء لا يتجزأ من رسالة ابنائها، فأولتها عناية كبرى في لبنان كما في بلدان الانتشار اللبناني. وفي جوار كل دير او مركز رسالة تنشىء مدرسة وتصدر مجلة او جريدة. وبلغ عدد المدارس التي أدارتها الأربعة عشر مدرسة. هذا بالاضافة الى مجلة “سيدة لبنان” للعائلات المسيحية (وهي الآن محتجبة) ومجلة “المنارة” العلمية، ومجلة صوت الحبة (وهي الآن محتجبة) ودار نشر حملت اسم “منشورات الرسل” لطباعة وتوزيع شتى المؤلفات الدينية والادبية والعلمية.
ثامناً: الجمعية في عصرنا الحاضر، هل ما زالت الروح النبويّة تعصف فينا؟
في عصرنا الحاضر يعمل المرسلون في لبنان وبلدان الانتشار متحدّين كل الصعاب وعلى كل الصُعد. فنجدهم الخدّام الأمناء في قضايا التربية والتعليم جاعلين من مؤسساتهم التربوية باباً رسولياً فريداً، وفي بلدان الانتشار كانوا وما زالوا يعملون حسب رغبة قلب مؤسسنا البار التي تجلّت في لمّ شمل الموارنة حول كنيستهم والحفاظ على رباطهم بالوطن الأم لبنان. في مجال الاعلام، كانوا وما زالوا السبّاقين في رسالة الكلمة التي أصبحت منارةَ في ظلمة هذا العالم: فقد أطلقت الجمعية يوم عيد العنصرة من سنة 1984 اذاعة صوت المحبة التي اصبحت اليوم، وحسب قول المستمعين، الاوكسيجين الذي يحييهم طيلة ال 24 ساعة، واصبحت الصوت الصارخ الصادح في برية هذا العالم. ولم يُحرم المغتربون من المتاجرة بهذه الوزنة، فكان لإذاعة صوت المحبة فرعٌ في استراليا يستعين ببرامجها وهو لها امتداد ورفيق درب. كما أطلقت من اربع سنوات مشروع تلفزيون المحبة كي تصل الصورة صافية ناصعة لكل ذي ارادة صالحة. ولا يمكننا الا ان نقف عند رسالة مطبعة الكريمة الحديثة التي خطت خطوات جبارة على طريق الحداثة بالرغم من كل المنافسات التي تواجهها من قبل دور النشر والمطابع التي اصبحت لا تحصى ولا تُعد. ولخدمة المهمّشين والاكثر فقراً اطلقت الجمعية عبر أثير صوت المحبة برنامج المنسيين لخدمة كل ذي حاجة مادية ومعنوية في آن. ولأن الإرشاد هو من صلب جوهر رسالة الجمعية، يجهد الآباء المرسلون من خلال مركز الاصغاء في صوت المحبة ومزار سيدة لبنان وكل مراكز الجمعية لإيصال كلمة التعزية والرجاء الى كل من يقرع ابواب اديارها ومؤسساتها. لا بدّ من تسليط الضوء على المسرح الديني الاجتماعي وكل ما يقدمه من خدم وطنية اجتماعية ثقافية ودينية، ولا ننسى معهد التثقيف اللاهوتي للعلمانيين الذي أنشأته الجمعية في مدرسة الرسل منذ عام 1991، لتقديم الثقافة اللاهوتية بكل مجانية وسخاء، لكل راغبٍ بالتعمق في معرفة الله وبناء ملكوته. لن نغفل عن ذكر جهد الكريميين لجمع الراغبين في العمل بكرم الرب، ضمن عائلات “كريميّة” تبذر معها بذور الملكوت، وتحصد غلال المحبة، وصولاً لبلوغ “ملء قامة سيّدنا يسوع المسيح”.
هذه هي جمعية المرسلين: بشرٌ وحجر، كلٌ يعمل حسب ما منحه الله من مواهب في إطار الموهبة النبوية العامة التي استلمها المؤسس. انها ورشة بناء الحجر في دير الكريم غوسطا، في دير مار يوحنا جونيه، في زوطر جنوب لبنان، وفي بلدان الاغتراب: رسالات جديدة، دعواتٌ متزايدة، وعملٌ رسولي يرتكز على حياة روحية مشبعة من التأمل بكلمة الله.
هذه هي الدعوة النبوية التي تسلّمها مؤسسنا البار وجسّدها على هدي الروح القدس، فكانت جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة ابنة ال 150 سنة. منّا مَن يقول انها قد شاخت وتجعّد وجهها، لكنني ادعو ذاتي واياكم الى ان نردّد مع كارل راهنر: لو مهما شاخت وتجعّد وجهها، احبها لأنها امي، احبها لأنها مؤتمنة على ارث المؤسسين والمرسلين الذي ساروا على خطاهم، احبها لأنها تنبض بقلوبٍ شابة تعمل من اجل مستقبلٍ افضل يرتكز على الروح النبوية لمؤسسنا المطران يوحنا الحبيب.
كل هذا التطور والنمو لا يمنعنا من الغوص في خضّم البعد النبوي الذي يرتكز على الإعتراف بأخطائنا، عندها تكون الخطوة الاولى نحو البنيان والإصلاح، حذار ان ندّعي التحرير ونصنع لنا عبيداً، حذار ان ندّعي الخدمة، ونحن نُخدم. اخيراً حذار من ان نقتل فينا البعد النبوي والإرسالي لحياتنا المكرّسة.