Almanara Magazine

المزار هو بإمتياز مكان الرحمة الإلهيّة

الأخت أنطوانيت القاضي

المقدّمة

       لبنان أرضٌ مقدّسة. تغنّى به الكتاب المقدّس، وزاره المسيح أكثر من مرّة. فيه حلَّ الرسل، شهود القيامة، وعلى ترابه جثا بولس الرسول ليُصلّي مع الجماعة المسيحيّة الأولى، على شاطئ صيدا وصور.

       كونُ لبنان أرضًا مقدّسة، تكثر فيه، بشكل لافت، أماكنُ العبادة. والمسيحيّون، بجميع طوائفهم، يجدون في هذه ” الأرض المقدّسة” السلامَ والصفاءَ والتأمّلَ ولحظاتِ الخشوعِ للصلاةِ في سكون تلك الكاتدرائيات والكنائس والمعابد والأديار والمناسك، وحتى في تلك المغاور التي كان ينسحب إليها النّساك والُّزهاد. هذه المعالم للعبادة المسيحية، محفورةٌ بثباتٍ على كامل الأرض اللبنانية التي غنّاها ” نشيد الأناشيد”، والتي أرزُها رمزٌ وحقيقة، باركهما الرّب شاهدَيْن على شعلة الإيمان والجمال والطراز المعماري.

       إنَّ لبنان حقًا أرضُ الصلاة والنُسك والتقوى. من شمال لبنان إلى جنوبه، على ساحله كما في عمق بقاعه، تنتثر للعبادة المسيحية معالِمُ محفورةٌ في صخور الوديان المهيبة، أو معلّقةٌ على رؤوس الجبال في إطلالةٍ تأخذ بالقلب والعين، كنائس ومعابد متواضعة مزروعة على هامة صخرة، أو في قلب غابة صنوبر، أو على كتف تلة، أو في حمى زيتونة مباركة أو تحت ظلال سنديانة عتيقة. كلُّ ذلك في تعاكُسٍ صافٍ ومتناغمٍ، وفي حوارٍ حَيٍّ دائمٍ يروي بصمتٍ وسكونٍ قيمَ الأقدمين على هذه الأرض التي لا يخبو فيها وهجُ الإيمان والسماح والصداقة[1]“.

       كُثرٌ هم شفعاء الناس المؤمنين، وكثيرةٌ هي المزارارت في لبنان، وكثرٌ هم الذين يؤمّون هذه المزارات. هكذا يبدو لبنان ” سُبحَةً ” تقيةً موزَّعَةً في ” بيوت الله ” التاريخية العتيقة، حيث يكون دومًا وقتٌ للإصغاء لكلمة الله، والإحتفال بالأسرار وعيشها، أو لإضاءة شمعة، أو تمتمة صلاة، أو الهمس بنذر، أو الاحتفال بمعمودية أو موكب حجّ.

       لبنان وطن القدّيسين. فيه وادي قاديشا، وقد ضجّ بالشهداء والمعترفين والبابوات. وفي زمننا هذا، عمّت العالم عجائب شربل ورفقا ونعمة الله والأخ إسطفان.

لبنان رسالة للعالم، يُطلّ منه أبونا يعقوب الحدّاد، الراهب الكبّوشيّ، الذي عاش حياه القداسة على خُطَى القدّيس فرنسيس الأسيزي، فكان حاضرًا في كلّ الميادين، يُداوي البؤس النفسيّ والجسديّ؛ وقد أسَّس جمعيّة راهبات الصليب لتحمل شعلة الخدمة الرسوليّة. أَمضى أبونا يعقوب عمره مُبَشِّرًا، مُصليًّا، رسولًا للرحمه والرجاء. إِنّه طوباويّ الألفيّة الثالثة!

  1. ‌ما هو المزار ؟

       المزار مكان مقدَّس، يؤم إليه الحجّاج من كلّ مكان، للصلاة والعودة الى الذات بمسيرةٍ روحيّة صامتة وبجوٍّ من الخشوع. يصبح مرور الوقت في هذا المكان المقدّس محطة مقدّسة. نشأ الحج منذ القدم وما زال حتى أيامنا. فلا يمكن الحديث عن المزار من دون ذكر الحج الذي يرتبط إرتباطًا وثيقًا بالمزار. فلا مزار من دون حجّ ولا حجّ من دون مزار.

إذًا، المزار هو المكان الذي يؤمّه المؤمنون للصلاة والتبرك وممارسة الواجبات الدينية،
فهو بالتالي مكان تتأمن فيه الخدمة الكهنوتية. المزار يمكن ان يكون ذات حق بطريركي، أو أبرشي، أو تابع لمؤسّسة رهبانيّة.

       المزار هو أيضًا مكان يسود فيه الصمت ممّا يجعل الإنسان يعود الى ذاته، ويبدأ بالبحث عن الله في داخله، ويلتقي بيسوع القائم من الموت والحاضر في حياته، بمعنى آخر يعيش “الحاج” في المزار حالة من العودة الى الذات.

  • ما هو الحجّ ؟

       الحجّ هو السير مع الربّ، وطريق الربّ طويل، فهو ينتظر قدوم المؤمنين في نهاية الطريق. لكنه أيضًا يرافق السائرين في الطريق كما رافق تلميذي عماوس (لو 24: 13-35). فالحجّ إذًا هو الطريق الذي نتخطى به نحو الربّ. لزيارات الحجّ المقدّسة مفعول خفي يرتقي بالنفوس الزائرة بروح الإيمان نحو الأفضل، فلا تعود من الزيارة كما ذهبت بل تتغَيَر لأنّ القلوب تتليَّن والنفس تنضج بعمل النعمة. وهكذا فعلى المؤمن بعد العودة أن يستمرّ في طريق الإيمان.

  • ما هي مقوّمات المزار؟

       إنَّ زيارة المزار لا تأخذ معناها وبعدها الرسوليّ إلاّ باللقاء مع المسيح، لقاءً شخصيًا ومباشرًا، بعد مسيرة حجّ وتوبة. فلا معنى مثلاً لزيارة ضريح القدّيسة رفقا، ومحبسة مار شربل، ومار نعمة الله، وضريح الطوباوي أبونا يعقوب والأخ إسطفان، ومعبد سيدة لبنان، إذا اقتصرت
على بعض الصلوات والنذور لصاحب المقام، وعلى التبرك بالتراب والزيت والبخور ولبس الثوب، دون اللقاء الشخصيّ بيسوع المسيح القائم من الموت من خلال سماع  كلمة الله، وممارسة سرّ التوبة، والاحتفال بالافخارستيا، والعودة بفرح وصفاء القلب.

       هذا واقعٌ معروفٌ، غير أنّ الملفت فيه هو أنَّ غالبيّة الزوّار تؤخَذ بشفيع المزار، القدّيسين أم الطوباويّين أو المكرّمين، وتغفل، وطبعًا عن غير قصد، أَنَّ هذا الشفيع ليس سوى دليل إلى يسوع. لذا، علينا أن نساعد زوّار المزارات ونجعل من زيارتهم فرصة ليلتقوا فيها وجه يسوع، الألف والياء، البداية والنهاية.

       وعلى كلّ زائر ألاّ ينسى لحظة، أنَّ شفعاء المزارات هم أُناسٌ أَحبُّوا يسوع في حياتهم وعملوا لإرضائه وقدّسوا أنفسهم من خلاله. وجديرٌ بالزوّار أيضًا، أن يعرفوا، أنَّ إيمانهم هو بالربّ الإله، الذي سيساعدهم على نيل النعمة، وليس الشفيع وحده، متذكّرين كلّ أعاجيب يسوع التي تمحورت حول إيمان الشخص أولاً ثم حول قدرة الربّ ثانيًا: ” قُمْ وامشِ، إيمانُكَ خلَّصك. إذا كان لكم إيمان بقدر حبّة الخردل، وقلتُم لهذا الجبل: إنتقل، لانتقل…”

       عملاً بتوصيات الجمعيّة الخاصّة من أجل الشرق الأوسط لسينودس الأساقفة حول موضوع الكنيسة الكاثوليكية في الشرق الأوسط ” شركة وشهادة”، التي شاءت أن يكون الحجّ إلى المزارات ” فرصة ملائمة لتعليم مسيحيّ معمّق من خلال العودة الى الينابيع [2]“.

  • المزار شهادة المحبّة والرحمة

       ” لا بديل لمزاراتنا، لأنّها تُبقي التقوى الشعبيّة حيّة، وتُغنيها عبر تنشئةٍ تدعم وتقوّي الإيمان، فيما تغذّي في الوقت عينه شهادة المحبّة والرحمة[3]“، هذا ما قاله البابا فرنسيس ضمن لقائه المشاركين في المؤتمر الدولي لخدّام المزارات والعاملين فيها تحت عنوان “المزار باب مفتوح للأنجلة الجديدة.”

       أصرّ البابا في كلمته التي ألقاها على مسامع زوّاره على نوعيّة الترحيب بالحجّاج قائلاً إنّ “جوّ الصداقة هو بذرة خصبة يمكن لمزاراتنا أن تزرعها في أراضي الحجّاج، فتسمح لهم بإعادة إيجاد الثقة بالكنيسة، كما يمكنها أن تزرعها في الصلاة التي تجعل من المزارات أماكن خصبة لكي تتغذّى التقوى دائمًا وتنمو في معرفة حبّ الله”. تطرّق الأب الأقدس إلى أهمية سرّ المصالحة: “عندما نعيش الرحمة، تصبح الأخيرة شكلاً من أشكال الأنجلة الحقيقيّة، لأنّها تحوّل مَن يتلقّونها إلى شهود للرحمة. المزار هو “بيت الرحمة”.

       المزارات هي أماكن يشعر فيها المرء بأنّه في منزله، حيث يختبر المرء كرم الضيافة الذي يوسع القلب للقاء الله وإخوانه. أن تكون في المنزل لا يعني فقط أن تكون تحت سقف وبين أربعة جدران؛ بالنسبة لنا، تثير هذه الكلمة الأسرة، ودفء الحب، وإمكانية مشاركة الوجبة والحوار، وإمكانية أن نكون أنفسنا وأن نكون موضع ترحيب ومحبوب كما نحن.

       المزارات هي مكان للصلاة، ومناسبة للرجوع إلى الذات، لذا يجب أن تتميّز المزارات بأهميّة الترحيب للحجّاج والزوّار. سنتناول كلاً من هذه المقوّمات حسب ما قاله البابا فرنسيس.

       أولاً، نوعية الترحيب Accueil في المزارات، تتميّز بمناخ الصداقة الذي هو “بذرة خصبة” يمكن إلقاؤها في حقل الحجّاج، مما يسمح لهم باستعادة تلك الثقة في الكنيسة.

نحن نعلم أن المزارات هي هدف أكثر فأكثر، ليس للمجموعات المنظّمة فقط، بل للحجّاج الفرديّين أو المجموعات المستقلّة الصغيرة التي تحجّ للوصول إلى هذه الأماكن المقدّسة. إنه لأمر محزن عند وصولهم، لا يوجد أحد ليستقبلهم بكلمة الترحيب كحجّاج، الذين قاموا برحلة طويلة في كثير من الأحيان للوصول إلى الضريح. إنه أسوأ عندما يجدون الباب مغلقًا. نحن بحاجة إلى الانتباه إلى كل واحد منهم وجعلهم يشعرون “في المنزل” ، مثل أحد أفراد الأسرة الذي يأتي إلى بيته بعد فترة طويلة[4].

       ثانيًا، المزار هو مكان للصلاة. معظم مزاراتنا مكرّسة لتقوى مريميّة. هناك، تفتح مريم العذراء ذراعيها من حبّها للاستماع إلى صلاة كلّ واحد والإستجابة عليها. المشاعر التي يشعر بها كل حاجّ في أعماق قلبه هي تلك التي يلتقي بها أيضًا مع والدة الله. تتجاوب العذراء مع الجميع من خلال نظرتها الشديدة.

هناك، تبتسم وتعطي عزاءها.

هناك، تذرف الدموع مع أولئك الذين يبكون.

هناك، تقدّم لكلّ واحد ابن الله الممدود بين ذراعيها.

هناك، تصبح مريم رفيقةً لنا في الطريق، نحن الذين نرفع أعيننا تجاهها لطلب نِعمة.

المزار هو مكان مقدّس، تُعلَن فيه كلمة الله، والاحتفال بالأسرار المقدّسة، ولا سيّما المصالحة والإفخارستيا، وشهادة المحبّة. بهذه الصلاة، تتغذى تقوى الناس وتنمو بمعرفة محبّة الله. بالإضافة إلى ذلك، الزائر يطلب شفاعة قدّيس المزار، في صمت قلبه. كثير من الناس يأتون إلى المزار لأنّهم يحتاجون إلى الحصول على النعمة ثم يعودون ليشكروا القدّيس على هذه النّعمة، وغالبًا ما حصلوا على القوّة والسلام في المحنة. هذه الصلاة تُغَذي تقوى الناس دائمًا وتنمو بمعرفة محبّة الله.

       ثالثًا، أهمية سرّ المصالحة Sacrement de la Réconciliation، الرحمة هي شكل من أشكال التبشير الحقيقيّ، لأنّه يُحَوّل أولئك الذين يتلقون الرحمة إلى شهود الرحمة. يجب ألا يشعر أيّ شخص في مزاراتنا بأنّه غريب، وبخاصّة عندما يذهب إلى هناك بثقل خطيئته. المزار هو المكان المميّز لتجربة الرحمة التي لا تعرف الحدود. يتمّ الاحتفال بسرّ المصالحة في كثير من الأحيان في المزارات، بوجود كهنة قدّيسين ورحمين قادرين على تذوّق اللقاء الحقيقيّ مع الربّ الرحوم والذي يسامحنا. لا ننسى أهميّة الحس الديني للّمس. عندما يلمس الناس الصور فإنّهم “يلمسون الله”. السير نحو المزار والمشاركة في الروحانيّة التي تعبّر عنها هذه الأماكن هي بالفعل عملية التبشير التي تستحق تسليط الضوء عليها بسبب قيمتها الرعويّة الشديدة.

“علم أصول التبشير” La pédagogie de l’évangélisation لكلّ مزار، وفقًا لكاريزماه Charisme الخاصة، التي تشمل التنشئة والتعليم المسيحي كإحدى شهادات المحبّة من خلال ” فتح الأبواب على مصراعيها” للمرضى، يشجّع الفقراء والمهمّشين واللاجئين والمهاجرين. تتميّز المزارات  بـ” التقوى الشعبية” وبـ “الإيمان البسيط والمتواضع للمؤمنين” والثقة ” في رحمة الله.” وهي أيضًا أماكن تجذب الناس بحثًا عن “توقّف” ، “صمت” ، “تفكير” ، مدفوعة “بالحنين إلى الله”، يمكن أن يكون المزار ملجأً لإعادة اكتشاف الذات وإيجاد القوّة للتوبة.

  • المزار شهادة المحبّة والرحمة

أربعة مزارات تابعة لجمعيّة راهبات الصليب، وهي: مزار سيّدة البحر – ضريح الطوباويّ أبونا يعقوب، ومزار صليب دير القمر، ومزار المسيح الملك ومغارة العذراء الملكة، ومزار بيت الطوباويّ أبونا يعقوب في غزير.

 في مقالنا هذا، سنتناول مزار سيّدة البحر، ضريح الطوباويّ أبونا يعقوب.

  • لمحة تاريخيَّة

       على رابية في جَلّ الديب من ساحل المتن، وقد عُرفَت بـِ “عريض سلوان” ، أو ” تلّة الجنّ”، بنى أبونا يعقوب الحدّاد الكبّوشيّ، سنة 1919، مركزًا لتجمّع رهبنة مار فرنسيس للعلمانيّين، خصّصه للصلاة لأجل المسيحيّين الذين قضَوا على الطرقات قتلاً وجوعًا في أثناء الحرب العالميّة الأولى، من دون أن يُرفع الصّليب فوق مثواهم.

       في 3 أيّار 1923، تمّ تدشين كنيسة سيّدة البحر – جَلّ الديب، على نيّة اللبنانيّين، الذين هاجروا سعيًا وراء رزقهم. وقد سبّبت هذه الهجرة الكثيفة ألمًا عميقًا في نفس أبونا يعقوب. وبقيت جمعيّة راهبات الصليب تحتفل بعيد سيّدة البحر، في هذا التاريخ من كلّ عام، واضعةً تحت حماية العذراء سيّدة البحر جميع اللبنانيّين المنتشرين في أربعة أقطار العالم.

وفي 3 أيلول 1927، تحقّقت أمنية أبونا يعقوب الغالية، فرُفع فوق الكنيسة صليبٌ من حديد، عليه المصلوب، علوّه 10 أمتار، باحتفال مهيب شارك فيه آلاف المؤمنين.

تحوّل المركز إلى دير صغير ضمّ عددًا من الكهنة المرضى والعاجزين. واليوم يضمّ كنيسة سيّدة البحر وضريح الطوباويّ أبونا يعقوب ومتحفه، في قلب مجمّع ضخم يُعرَف باسم دير الصليب، وهو مهد تأسيس جمعيّة راهبات الصليب.

ب- محتويات المزار

يتوسّط الكنيسة – المزار تمثال سيّدة البحر اشتراه أبونا يعقوب، وهو يرمز إلى السيّدة العذراء حاملة الطفل يسوع، وعند قدمَيها مركب يحمل أناسًا مسافرين. وقد شاء أبونا يعقوب أن يضع هؤلاء المسافرين في حمايتها لتردّهم إلى بلادهم سالمين، وألّف على هذه النيّة عددًا من الصلوات والترانيم.

وتضمّ الكنيسة لوحة زيتيّة لشفيعة المزار سيّدة البحر، تقابلها لوحة زيتيّة رُسمت خصّيصًا لمناسبة تطويب أبونا يعقوب في العام 2008، تُعَبِّر في أبعادها عن غاية جمعيّة راهبات الصليب وهي العناية بالكهنة، الاهتمام بالمرضى العقليّين والنفسيّين، وبالعجزة، وبالمهمّشين والعميان، والأيتام والأولاد.

وإلى يمين المذبح ذخيرة من عظام الطوباويّ أبونا يعقوب. داخل المزار، إلى يمين المدخل، يوجد ضريح الطوباويّ أبونا يعقوب في فسحة ملؤها الخشوع، تخرق صمتها موسيقى ناعمة تساعد الزائر على التأمّل والصلاة، وعلى الصمت والإصغاء إلى همس السّماء.

أمّا الغرف التي تزنّر جنوبيّ الكنيسة، فتحتوي على النعش الخشبيّ الذي ضمّ رفات أبونا يعقوب عند مماته في العام 1954، وعلى أوعية الماء الذي غسل بها الأطبّاء عظام الطوباويّ، وعلى الثياب والأدوات التي استُخدمت يوم الكشف على جثمانه. كما تضمّ خزائنها شهادات وأوسمة خاصَّة بالطوباويّ.

أمَّا الطابق الثاني الذي تحوّل لمناسبة التطويب إلى متحف ثمين خاصّ بالطوباويّ أبونا يعقوب، فيضمّ مكتبته الشخصيّة وغرفة نومه، ولوازمه الخاصّة والأدوات التي كان يستخدمها، وملابس ليتورجيّة وأواني مقدّسة، ومسبحته التي لم تكن تفارقه وقد برت أنامِلُهُ صليبَها الخشبيّ.

لدى الخروج من المزار، يتوقّف الزائر أمام تمثال برونزيّ للطوباويّ أبونا يعقوب، ومعرض للتذكارات والمطبوعات والمنشورات. وإذا رغب بإضاءة الشموع وإعلان النوايا، فهناك مكانٌ استُحدِث خصّيصًا لذلك.  

يجوب الزائر حرم دير الصليب بساحاته الفسيحة، ويزور الصليب المطلّ على الجبل والساحل، وكنيسة الجلجلة التي بناها وقد ضمّت جثمانه لسنوات عدّة. كما يمكنه التعرّف إلى المهمّة الإنسانيّة الفريدة التي يقوم بها مستشفى الصليب للأمراض العقليّة والنفسيّة في لبنان والشرق الأوسط، ويحتوي هذا المستشفى على 1000 سرير؛ يستقبل جميع المرضى إلى أيّ مذهب انتموا، برهانًا على مصداقيّة أبونا يعقوب في ما كان يقول: ” طائفتي لبنان والمتألّمون.”

       يؤمّ المزار آلاف الزوّار من لبنانيّين مقيمين ومغتربين، إمّا لطلب شفاعة أبونا يعقوب، وإمّا للصلاة عند الصليب وأمام العذراء سيّدة البحر، وإمّا للتبرّك من المكان المقدّس. هناك راهبة مهمّتها الإرشاد والتوجيه داخل المزار.

ج- شفعاء المزار

شفعاء المزار، هم: الصليب، العذراء سيّدة البحر، الطوباويّ أبونا يعقوب.

       دُعي المزار باسم سيّدة البحر، وفيه: ضريح الطوباويّ أبونا يعقوب، والمتحف الخاصّ به، من خلالهما يتوجّه الزائر مباشرةً نحو يسوع المصلوب الذي جسّد محبّة الله غير المتناهية لنا، وقد تجلّت في سرّ موت ربّنا يسوع المسيح على الصليب. فمريم أمّ يسوع الواقفة قرب الصليب قد نالت أمومتها الشاملة لجميع المؤمنين به، وعلى مدى التاريخ؛ وأبونا يعقوب العاشق في حياته ومماته المصلوب، قد صار كسمعان القيروانيّ، ليساعد الربّ يسوع في حمل صليبه من أجلنا أجمعين، وبخاصة المرضى والمهمّشين.

       هناك كلّ يوم عشرات الزوّار يركعون عند الصليب الذي رفعه أبونا يعقوب ليبارك سكّان بيروت والجبل، طالبين رحمةَ المصلوب وشفاعته، وهم يدركون في عمق أعماقهم أنْ لا مخلّص سواه. ويدركون أيضًا أنّ هذا الصليب الذي أحبّه أبونا يعقوب وتسلّح به طيلة حياته، وكرَّمه ورفعه فوق تلال لبنان، لا بدّ من أن يشفي أمراضهم، ويعينهم في صعوباتِ حياتهم، ويساعدهم على النهوض من عثراتهم، ويستجيب طلباتهم. كيف لا، وفي حمايته منذ ستّين عامًا، تَعالج ويتعالج آلاف المرضى من أبناء الإنسانيّة المصلوبين مع المسيح والمضمومين إلى جراحاته.

       أمّا الشفيع الثالث الذي يقصده المؤمنون في مزار سيّدة البحر،  بعد الصليب والسيّدة العذراء، فهو الطوباويّ أبونا يعقوب. أبونا يعقوب هو خليل الحدّاد، الابن الثالث لبطرس وشمس، المولود في بلدة غزير الكسروانيّة في الأوّل من شباط سنة 1875. قَبِلَ سرّ العماد بعد عشرين يومًا من مولده، ثمّ نشأ يتعلّم في مدرسة الرعيّة – مار فرنسيس، فمدرسة القدّيس لويس في غزير، ثمّ في مدرسة الحكمة – بيروت متخرّجًا فيها سنة 1891.

سافر إلى الإسكندريّة في مصر، حيث علّم اللغة العربيّة في معهد القدّيس مرقس طيلة سنة كاملة. وهناك تفتّحت براعم دعوته من خلال علامات وضعها الله في حياته.

عاد إلى لبنان، ودخل الابتداء لدى الرهبان الكبّوشيّين في دير مار أنطونيوس البادوانيّ )خشباو – غزير( متّخذًا اسم يعقوب، بانيًا مع الربّ العهد الآتي: ” لقد دخلتُ حيًّا، ولن أخرج إلاّ ميتًا.”

سيم كاهنًا في الأوّل من تشرين الثاني 1901. عُيّن سنة 1905 مديرًا لمدارس الآباء الكبّوشيّين في لبنان، وراح يُنشئ المدارس الصغيرة لتعليم الصغار والأحداث.

أسّس سنة 1906 رهبنة مار فرنسيس للعلمانيّين التي نشرها في كلّ لبنان. في أثناء الحرب العالميّة الأولى، اهتمّ بتوزيع الخبز على الجائعين، ودفن الموتى، ضحايا الجوع والقتل، ولقد نجا مرّات عديدة إبّان الحرب من السجن والاعتقال وحبل المشنقة. أسّس سنة 1930 جمعيّة راهبات الصليب، وجعل من أعمال الرحمة طابعها المميّز، وأوّلها إيواء الكهنة العاجزين عن متابعة خدمتهم، والعناية بالبؤساء والعميان والمقعدين والمختلّين عقليًّا والعجزة، وبالأيتام بنين وبنات، وبتربيتهم تربية صالحة. أسّس عددًا من المستشفيات والمدارس ودور الأيتام وفي طليعتها مستشفى الصليب – جلّ الديب، الذي تحوّل سنة 1951 إلى مستشفى خاصّ للأمراض العقليّة والنفسيّة، وهو يضمّ حاليًّا حوالي ألف مريض. توفّي أبونا يعقوب في 26 حزيران 1954.

أعلنه الطوباويّ البابا يوحنّا بولس الثاني مكرّمًا سنة 1992؛ ثمّ أعلنه قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، ممثَّلاً بالكاردينال خوسيه سارايڤا مارتينس، طوباويًّا في 22 حزيران 2008، باحتفال كنسيّ مهيب في وسط العاصمة بيروت. وكان تطويبه حدثًا فريدًا في لبنان، جمع كلّ أبناء الوطن على مختلف انتماءاتهم وطوائفهم، حيث أجمعوا على الاحتفال بهذا الطوباويّ المميَّز، وبخاصة في حقل العمل الاجتماعيّ.

       أبونا يعقوب هو الشفيع الثالث الذي يؤمّ الزوّار ضريحه في كنيسة سيّدة البحر، الواقعة على الطرف الغربيّ من دير الصليب. ” هذا الصليب الذي يرشد ويثقّف الجاهل، هذا الكنز الذي يغني الفقير، هذا السلاح الذي يقهر عدوّ البشر، هذا الدليل الذي يقودك إلى النعيم أنت المسافر على طرقات هذا العالم.”)من أقوال الطوباويّ أبونا يعقوب(. هو رسول الرحمة، الذي اهتمّ بالمرضى والمعاقين في عقولهم وأجسادهم، يقصده الزوّار لطلب شفاعته لشفاءٍ من مرض أصابهم أو أصاب شخصًا قريبًا منهم، ولطلب نعم مختلفة. يصلّون أمام ضريحه، يلمسون صوره وتماثيله، يقبّلون صليبه وجدران كنيسة سيّدة البحر وأيقونتها بصمت وخشوع، وبالدموع أحيانًا. هو شفيع الإنسانيّة المعذّبة التي تتابع جمعيّة راهبات الصليب احتضانها بإيمان ورجاء ومحبّة، تتلمَّس وجه المسيح في وجوه إخوته المعذّبين. كيف لا يأتي الناس إليه، وقد نال في حياته كلّ ما طلب، وبإيمانه الكبير استطاع أن يفعل وحيدًا ما يعجز عنه الكثيرون؟!

د- نشاطات المزار

يشرّع مزار سيّدة البحر أبوابه أمام الزوّار يوميًّا من السابعة صباحًا وحتّى الثامنة مساءً، حيث يجدون في استقبالهم إحدى راهبات الصليب ترحِّب بهم، وترشدهم وتبسط أمامهم روحانيّة المزار.

كل ثلاثاءعند الثامنة مساءً، ساعة سجود صامتة أمام القربان المقدّس، يتخلّلها الإعترافات؛ وزياح  القربان حول المزار وسط التراتيل والشموع.

كل نهار سبت، تُتلى المسبحة عند الساعة الخامسة والنصف مساءً مع الإعترافات، ويليها القدّاس الإلهيّ في تمام السادسة مساءً.

وكل أحد وأيام الأعياد، يؤمّن المزار القدّاسات 9،30 و 11،00 قبل الظهر؛ وتُتلى المسبحة عند الساعة الخامسة والنصف مساءً مع الإعترافات، ويليها القدّاس الإلهي في تمام السادسة مساءً.

يأتي الزائرون الى هنا للتعرّف إلى روحانيّة الطوباويّ أبونا يعقوب الذي عشق يسوع المصلوب وجسّده في حياته من خلال أعمال الرحمة.

ومزار سيّدة البحر ليس فقط مزارًا، إنّما هو مساحة للتلاقي وللنشاطات والرياضات الروحيّة، وبخاصة لتلاميذة المدارس، والأساتذة، والمتدربّين  Stagiairesوالشبيبة، والرعايا…

ه- كيف تقودنا المزارات إلى يسوع؟

       يشعر الزائر في زيارته مزار سيّدة البحر، وكأنّ المسافة بينه وبين المصلوب قد قصرت، فهو الحاضر فيها بقوّة لا تدع مجالاً للزائر أن يغفل عن الأساس الذي هو يسوع المسيح المخلّص، ولطالما ناجاه الطوباويّ بحرارة وشوق:  ” يا صليب الربّ، يا حبيب القلب.” فالصليب هو الحبيب، والمصلوب عليه هو الحبيب الأكبر. فصليب أبونا يعقوب البارز في كلّ زاوية من الزوايا، يعلّم الزائر الثقة برحمة الله ويمنحه القوّة والرجاء، بخاصّةً عندما يتأمّل الصليب الخشبيّ الصغير الذي رافق أبونا يعقوب في حياته، والذي بري خشبه لشدّة لمسه إيّاه حبًّا له واستنجادًا به.

الخاتمة

       كان المصلوب موضوع تأمّل لكلّ القدّيسين، وبينهم الطوباويّ أبونا يعقوب، فكيف لا يكون موضوع تأمّل للزّائرين القاصدين طلب شفاعة، حيث يتماهى الصليب ووجها المصلوب والطوباويّ معًا، فيشعر هؤلاء الزوّار بواسطة إيمانهم القويّ بأنّ الله موجودٌ وحاضر، حتّى إنّهم يرونه في كلّ شيء وفي كلِّ موضع، وإذا ما صلّوا فإنّهم بصلواتهم يرفعون عقولهم وقلوبهم نحو الله.

       لا عجبَ إطلاقًا، فمواهِبُ الله ونعمه وعطاياه تتجلّى كلّ يوم، في هذه المزارات، شفاءاتٍ وعجائب وسلامًا داخليًّا وسكينة روحيّة. وإن أنتَ أصغيت لهمس قلوبهم، لسمعتَهم يقولون: الشكر لك يا ربّ! الشكر لك يا أبونا يعقوب!

       وإذ نرجو أن يُحَقِّق هذا المقال أهدافه، فينطلق قرّاؤه في مسيرة حجّ، صلاة وتوبة على خطى تلميذَي عمّاوس، ليعودوا ممتلئين رجاءً، مُفْعَمينَ أملاً ومزوّدين نعمة. وقد أسبغ عليهم وجه يسوع الذي التقوه هناك مسحة من جمال ما بعدها جمال، عندئذٍ، تكون زيارتهم قد بلغَت مراميها.


[1] موقع لبنان – السياحة الدينيّة http://www.destinationlebanon.gov.lb/ar/tourismtype/details/10/17in

[2]  مزارات لبنان… طريقك إلى يسوع، فريق وزنات، مؤسّسة تنمية الحج والسياحة الدينيّة في لبنان 2014، 243 ص

[3]  لقاء البابا فرنسيس مع خدّام المزارات في المؤتمر الدولي، “ المزار باب مفتوح للأنجلة الجديدة ”، 27 -29 تشرين الثاني 2018

[4]  لقاء البابا فرنسيس مع خدّام المزارات في المؤتمر الدولي، “ المزار باب مفتوح للأنجلة الجديدة ”، 27 -29 تشرين الثاني 2018

Scroll to Top