Almanara Magazine

المذبح في الطَّقس المارونيّ. أفكارٌ لاهوتيَّة

الخوري دانيال زغيب

“كان (المذبح) دلالةً على السيد المخلّص وكل موضع أَوى اليهِ كالمذود الذي ولد فيه والسفينة التي رقد في مؤخّرها والجبل الَّذي تجلى عليه والصليب الذي اهرق عليه كل دمه واسلم الروح والقبر الذي دُفن فيه الى غير ذلك (…). وبما ان الآباء الاطهار اعتقدوا منذ البداية ان جسد الرب يحضر على التحقيق والتأكيد في القربان المقدس دعوا الموضع الذي يقدّم عليه مذبحًا ومائدة ومنبرًا وقبّة وخدرًا وكرسيًّا ومضجعًا ومرقدًا وما شاكل ذلك”([1]).

   يتميَّز الطَّقس المارونيّ عن غيره من الطُّقوس الشَّرقيَّة، بوجود رتبةٍ طقسيَّةٍ خاصَّةٍ لتقديس (أو لتكريس) المذبح ومنفصلةٍ عن رتبة تقديس البيعة، ومحفوظةٍ في كتاب التَّكريسات([2]) الخاصّ برؤساء الكهنة([3]). ولهذه الرُّتبة نصوصها النَّثريَّة وألحانها وقراءاتها وأعمالها الطَّقسيَّة الخاصَّة بها؛ ويمكن الاحتفال بها بمعزلٍ عن رتبة تقديس البيعة (طكسا لقودش عدةا). وفي ذلك إشارةٌ إلى الموقع الـمُميَّز والفريد الَّذي يتمتَّع به المذبح في الكنيسة المارونيَّة([4]).

   لذا، جئنا في مقالنا هذا الَّذي هو المقال الأوَّل -على حدِّ علمنا- الَّذي يتطرَّق إلى موضوع المذبح انطلاقًا مِنْ رتبةُ رَسْم المذبح (طكسا درشم مدبحا) أي تكريسه، بحسب مخطوط بكركي رقم 4 (الَّذي يعود إلى العام 1694)([5])، النَّاتج عن الإصلاح الَّذي أنجزه البطريرك إسطفان الدُّويهيّ لكتاب التَّكريسات المارونيّ. وهذه الرُّتبة لم تعرف بعدُ طريق الطِّباعة والنَّشر، إذ ما زالت مخطوطةً، وقد أَنْـجَزنا عنها دراسةً لاهوتيَّةً وليتورجيَّةً لنَيل الدُّكتوراه في العلوم اللِّيتورجيَّة.

   سنسلك، هنا، طريقَين اثنَين بغية الوصول إلى تبيان قيمة المذبح في الطَّقس المارونيّ وأهـمِّيَّته: يقودنا الطَّريق الأوَّل إلى مقاربةٍ لغويَّةٍ تستند إلى نصوص رُتبتَـي تقديس البيعة ورسْم المذبح([6])، بحسب المخطوط الَّذي ذكرناه أعلاه، لنكتشف التَّسميات الَّتي تُطلَق على المذبح وما تكشفه من مضامين لاهوتيَّة. ويُبرِز الطَّريق الثَّاني المعنى اللاهوتيّ للتَّقديس الَّذي يطاول المذبح، وذلك من خلال الأفعال الَّتي يستعملها رئيس الكهنة الَّذي يحتفل برتبة تكريس المذبح.

  1. مقاربة لغويَّة

   على عكس الألفاظ الَّتي ترتبط بالبيعة([7]) والَّتي هي عديدةٌ ومتنوِّعة، لا تُورد رتبتا تقديس البيعة ورَسْم المذبح([8]) سوى ألفاظٍ أربعٍ تتعلَّق بالمذبح([9])، وهي الآتية:

  • لفظة “المذبح” (مدبحا):

   تشتقُّ لفظة «المذبح» (مدبحا) من الفعل السُّريانيّ دبَِّح، أي «ذَبَحَ». وتشتقّ، من هذا الفعل أيضًا، كلمة “الذَّبيحة” (دِبحُا، دِبَحةُا)([10]). ونجد، في اللُّغة العبريَّة، لفظة «مِيذْبِـيَحْ»، أي «الموضع الَّذي يتمُّ الذَّبْحُ عليه»، من الفعْل العبريّ «ذَبَحْ»، أي ذَبَحَ وأراق([11]). “وكان نوح اول من بدأَ بنَصْب المذابح بعد الطوفان (راجع تك 8: 20) فتقبّل الله تعالى عمله وسُرَّ بالذبائح الطاهرة التي قدّمها له وتنشَّق روائحها”([12]). ونجد، في العهد القديم، ذكرًا للمذبح في سفر التَّكوين (راجع تك 12: 7، 8؛ 13: 18؛ 26: 25؛ 33: 20). وفي سِيَرِ الآباء، كان يكفي أنْ يُشير النَّصُّ البيبليّ إلى بناء مذبحٍ ما للإشارة إلى تأسيس هيكلٍ للعبادة. كما نجد ذكْرًا “للمذبح الَّذي من التُّراب” (مدبحا دُادَمةُا) (خر 20: 24)، وللمذبح الَّذي أمرَ الرَّبُّ موسى أنْ يبنيه (راجع خر 27؛ 29: 36-37؛ 30: 10)، ويُدعى “مذبح قُدْس الأقداس” (مدبحا قدوش قودشين)؛ ولمذبح البخور (راجع خر 30: 1، 27)، ولمذبح المحرقة (خر 30: 28)، إلخ.

   أمَّا إسطفان الدُّويهيّ فيتوسَّع في شرح العلاقة الَّتي تربط المذبح بجسد الرَّبِّ ودمه؛ ونقتطف من شرحه، ما يلي:

“وبما ان الآباء الاطهار اعتقدوا من البداية ان جسد الرب يحضر على التحقيق والتأكيد في القربان المقدس دعوا الموضع الذي يقدَّم عليه مذبحًا ومائدة ومنبرًا وقبّة وخدرًا وكرسيًّا ومضجعًا ومرقدًا وما شاكل.

فاولًا. يسمّونه مذبحًا او مذبح الغفران وما شاكل ذلك من التسميات لان السيد المخلص كما بذل نفسه دوننا واهرق دمه لآخر نقطة على مذبح الصليب لاجل استفكاكنا من اسر الخطية هكذا يرتضي ان نقدّم على المذبح، لذكر موته، جسدَه الذي جعلهُ لنا عهدًا الى نهاية الدهر. وبسببه قبل جميع قرابين الآباء المتقدّمين”([13]).

   ولا نجد ورقةً من أوراق رتبة رَسْم المذبح، إلَّا وترِدُ فيها لفظة “المذبح”. وتَرِدُ هذه الأخيرة في أربع صيَغٍ وهي الآتية: “مذبح القُدْس” (مدبح قودشا)، و”المذبح المقدَّس” (مدبحا قديشا)، و”المذبح الغافر” (مدبحا محسينا)، و”مذبح الحياة” (مدبح حيًا).

   وإذا كان الله هو القدُّوس والصَّباؤوت الَّذي لا يمكن الإنسان أنْ يدنو منه إلَّا إذا قدَّسَ ذاته وتطهَّر وتنقَّى، هكذا أيضًا على المذبح الَّذي سيُذبَح عليه “حَـمَلُ الله” أنْ يكون مُقدَّسًا ومُطهَّرًا و”يليق بقبول الذَّبيحة الرُّوحيَّة والدَّم المقدَّس” (الورقة 34ب). ونقتطف بعض الأبيات، من مخطوط بكركي 4 (جميع الاستشهادات مأخوذةٌ من هذا المخطوط، إلَّا إذا أشرْنا إلى عكس ذلك)، كالآتي:

  • “إرتكضي جدًّا وافرحي يا بيعة القُدْس المؤمنة (…)،

                وها (…) الكهنة على مِثال الملائكة،

        مُـحيطون بمذبح القُدْس” (الورقة 9ب-الورقة 10أ).

  • نتضرَّعُ إليكَ ونبتهلُ إليك، لكي تُقَدِّسَ هذا المذبحَ الَّذي هو على اسم القدِّيس مار فلان،

               (…) لكيما يكونَ، بواسطة المسحة السِّرِّيَّة،

                مذبحًا مقدَّسًا يليق بقبول الذَّبيحة الرُّوحيَّة والدَّم المقدَّس” (الورقة 34أ-34ب).

  •  هذا هو المذبح المقدَّس الَّذي عليه حملُ اللهِ الحيُّ يُذبَح للغفران.

               وها (…) أولادُ البيعة يأخذون، وبهِ يُسامَـحون من ذنوبِـهم” (الورقة 37ب-الورقة 38أ).

   ويُدعى المذبح، أيضًا، “المذبح الغافر” (مدبحا محسينا) لأنَّ القرابين، أي جسد الابن ودمه، الَّتي تُقدَّم عليه تمنح الغفران للَّذين يتقدَّمون ويأخذونها بإيمان؛ ألم يقُلِ الرَّبُّ لتلاميذه: “هذا هو دمي، دم العهد الجديد، الَّذي يُهرقُ من أجل كثيرين لِمَغفرة الخطايا” (مت 26: 28). ويُدعى ربُّنا، في القدَّاس المارونيّ، “الذَّبيح الغافر” (دبحا محسينا) الَّذي “قرَّب ذاتَهُ لأبيه”([14]). وعندما يمنح الكاهنُ الشَّعبَ البركة الختاميَّة، يقول:

“إذهبوا بسلامٍ، يا إخوتي وأحبَّائي،

مع الزَّاد والبركات الَّتي نلتموها

من مذبح الرَّبِّ الغافر (مدبحؤ محسينا دمريا)، …”([15]).

   فإذا كان ربُّنا هو “الذَّبيح الغافر”، وإذا كانت النُّصوص الطَّقسيَّة -ولا سيَّما نصوص رتبتَي تقديس البيعة ورَسْم المذبح- قد وصَفَتِ المذبح بالتَّعبير نفسه الَّذي يُطلَقُ على الابن، فصار المذبحُ “المذبحَ الغافر”، أي الَّذي يمنح الغفران للَّذين يدنون منه، فما ذلك سوى دلالةٍ واضحةٍ على قيمة المذبح في تقليدِنا الطَّقسيّ المارونيّ، إذ تكمن قيمته في قيمة مَنْ يُـمثِّل ومَنْ يُقرَّب عليه؛ فالمذبح يدلُّ على الرَّبِّ يسوع ويشير إليه. ولقد أورد إسطفان الدُّويهيّ، في هذا الشَّأن، ما يلي:

“ولا يُنصب المذبح في الكنائس لتُقدَّم عليه ذبائح زائلة كالثيران والخرفان بل ليُقرَّب عليه جسد ابن الله (…). ومن ثم كان دلالةً على السيد المخلّص وكل موضع أَوى اليهِ كالمذود الذي ولد فيه والسفينة التي رقد في مؤخّرها والجبل الَّذي تجلى عليه والصليب الذي اهرق عليه كل دمه واسلم الروح والقبر الذي دُفن فيه الى غير ذلك”([16]).

   نتوقَّف عن بعض النُّصوص الَّتي تُبرِزُ هذا الارتباط بين المذبح والغفران الَّذي ينبع من المذبح، والَّذي يناله المؤمن عندما يتناول من جسد الابن ودمه، كالآتي:

  • “(…) الأنبياء والرُّسُل والشُّهداء، الأبرار والكهنة والصِّدِّيقين؛

               والمعموديَّة والصَّليب، ومذبح القدْس الغافر (مدبح قودشا محسينا)

              وموضوعٌ عليه جسدُهُ ودمُهُ” (الورقة 10ب).

  • “وليَكُنْ (المذبحُ) مطهَّرًا ومقدَّسًا، فيُقدَّسَ عليه جسدُكَ ودمُكَ.

               وليَكُنْ غافرًا لجميع الَّذين يدعونَكَ” (الورقة 35أ).

  • “هذا هو المذبح المقدَّس، الَّذي كُمِّلَ اليوم (…)،

               وعليه يذبحون حملَ اللهِ الحيَّ (…).

              وينزل الخطأةُ (…) ويأخذون المغفرة من المذبح المقدَّس” (الورقة 37ب).

  • “تعالَوا نُقرِّبُ السُّجودَ للآبِ الَّذي أرسَلَ ابنَهُ الحبيبَ لخلاصِنا؛

              فوهَبَ لنا جسدَه ودمَهُ لِمُسامحة الذُّنوبِ ولمغفرةِ الخطايا،

              مِنَ المذبحِ الغافر” (الورقة 38أ).

   ونجد، في صلاة العطر الـمُتضمَّنة في المخطوط الباريسيّ السُّريانيّ (= ب.س.) 120، الورقة 134ب، تشديدًا على مفعول التَّقديس الَّذي يُطاول المذبح، إذ يجعله مانحًا الغفران لبني البيعة؛ وإليكم النَّصّ كالآتي:

“كمِّلْ أيُّها الرَّبُّ، نعمتَكَ ومراحمَكَ معنا،

وقدِّسْ هذا المذبح، برأفتِكَ،

وأهِّلْهُ أنْ يكون مائدةً حيَّةً ومذبحًا غافِرًا (ومدبحا محسينا) لجميع أبناء البيعة المقدَّسة”.

   وننهي، هذا المقطع، بالإشارة إلى لفظةٍ يتيمةٍ ومهمَّةٍ وردَتْ عن المذبح، في رتبة رسْم المذبح، وهي الآتية: “مذبح الحياة” (مدبح حيًا). فالابن الَّذي قال عن نفسه: “أنا هو الحياة” (يو 14: 6)، يحلُّ في البيعة على مذبح القُدْس، بكلا شكلَي الخبز والخمر، اللَّذَين يهبان الحياة لآخذيهما. لذا، يصبح هذا المذبح حامِلًا للحياة، أي للابن الوحيد، ومانِـحًا إيَّاها لِمَنْ يدنو منه بإيمان. ونستشهد بالبيت اللَّحنيّ الوحيد، كالآتي:

“ألكربون في العلاء يُزيِّـحونَكَ، وتحملُكَ المركبة.

وهنا، في داخل بيعةِ القُدْس

على مذبح الحياةِ حالٌّ” (الورقة 28ب).

  • لفظة “المائدة” (فةورا):

   لفظةٌ أخرى أساسيَّةٌ ومهمَّة، في القاموس الكتابيِّ والطَّقسيّ، مرتبطةٌ بالبيعة وبمذبحها هي لفظة “المائدة” (فةورا). ونجد هذه اللَّفظة، في سفر الخروج، لـمَّا تكلَّم الرَّبُّ مع موسى وقال له: “تصنَعُ مائدةً (فةورا) من خشب السَّنْط (…)، وتغشِّيها بذهبٍ خالص (…). وتُقدِّمُ على المائدة خبزًا أمامي دائمًا” (خر 25: 23، 24، 30). ويتوسَّع هذا السِّفر والأسفار الكتابيَّة الأخرى بذِكْر المائدة([17]) وشكلها ومحتوياتها وارتباطها بتقدمة الخبز، خبزِ التَّقدمة أو خبز الوجوه (لحِم آَفًِا)([18]). “وتبدو المائدة بعض أثاث الهيكل (1أخ 28: 16؛ 2أخ 4: 8، 19)، وتُغطَّى بمعدنٍ ثمين، ويُوضَع عليها خبز التَّقدمة (…). في الواقع، هذه الطَّاولة هي مذبح (حز 41: 22؛ رج 40: 39-43؛ 44: 16)، فيجب أنْ لا نستهين بها (ملا 1: 7، 12) كما لا نستهين بمائدة الملك (1صم 20: 29؛ 1مل 5: 7) أو الحاكم”([19]).

   ويتكلَّم بولس، في رسالته الأُولى إلى أهل قورنتُس (10: 21)، على مائدة ربِّنا (فةورا دمرن)، ويحذِّر المؤمنين من عدم قدرتهم على المشاركة في هذه المائدة وفي مائدة الشَّياطين. ويأتي كلامه إلى الجماعة المسيحيَّة، بشأن المائدة، في إطار كلامه على “كأس الشُّكر” (كسا ؤَّو دةوديةا) الَّتي “هي شركةٌ في دم المسيح”، وعلى “الخبز” الَّذي “هو شركةٌ في جسد المسيح” (1 قور 10: 16). نحن هنا، إذًا، في إطارٍ إفخارستيِّ الطَّابع والتَّوجُّه.

   نجد لفظة “المائدة” في مواضع عديدةٍ، في رتبة رَسْم المذبح. نجدها، أوَّلًا، في سياق الحديث عن المائدة الَّتي نُصِبَتْ في الهيكل، كالآتي: “أتى موسى ووضع المائدة، في المسكن الزَّمنيّ” (الورقة 32أ). ثمَّ يُستَخدَمُ التَّعبيرُ للإشارة إلى المائدة، أي المذبح، الـمُرَكَّزَة (مَّةقن) في البيعة. فإذا كانت الكنيسة قد حلَّت محلَّ الهيكل، وأصبَحَتْ مكان العبادة «بالرُّوح والحقّ» (يو 4: 23)، كذلك أَخَذَتْ مائدة الجسد والدَّم مكان الموائد الأخرى الَّتي كانت في الهيكل، ولا سيَّما مائدة خبز الوجوه. وإذا ما أوصى الرَّبُّ موسى أنْ يُقدِّم، على المذبح، كلَّ يومٍ، “حَـمَلَين اثنَين ابنَي سنة، على الدَّوام (…)، حَـمَلًا واحدًا في الصَّباح، وحَـمَلًا آخر في وقت المساء” (خر 29: 38-39)، فقد استُبدِلَ “حَـمَلُ الحقّ” (آمر قوشةا)، أي ابن الله، بالحملان الأخرى، وأصبح جسدُه ودمه يوضعان على المائدة بدلًا من الحمَلَين. وهذا يبدو واضحًا في نصوص رُتبتنا، كالآتي:

  • “إرتكضي وافرحي، إرتكضي وتَعظَّمي، يا بيعة القُدْس المؤمنة،

    لأنْ ها (هي) مُرَكَّزَةٌ فيكِ المائدة (فةورا)، جسدُ المسيح ودمُه” (الورقة 34ب).

  • “على حجر الماسِ موضوعٌ بُنيان بيعة القُدْس (…).

    توجدُ فيها (…)، والمائدة، موضوعٌ عليها جسدُ المسيحِ ودمُهُ.

    ويقترب الخطأةُ فيَأخذونَهُ، وبِهِ يُسامَـحون” (الورقة 38ب).

   كما تُستَخدَمُ هذه اللَّفظة أيضًا للإشارة إلى المذبح، في صلاة تقديس المذبح وفي استدعاء الرُّوح القدس عليه. وفي ذلك أيضًا توازٍ واضحٌ وجليٌّ بين تقديس المذبح والتَّكفير عنه، في العهد القديم([20])، الَّذي كان يتمُّ من خلال رشّ دم الثِّيران على قرونه وأسافله (راجع خر 29: 12؛ 30: 10؛ لا 4: 7؛ 8: 15)، وبين تقديس مذبح البيعة، الَّذي يتمّ بحلول الرُّوح القدس عليه:

  • “على جبلِ يعقوب نُصِبَتْ بيعةُ القُدْس، سرِّيًّا (…).

       وإيَّاها صوَّرَ يعقوب (…).

       وموسى وضَعَ فيها المائدة، في المسكن الزَّمنيّ (…)،

       وبدمِ الذَّبائحِ، نقَّاها وقدَّسَها (دكِّيؤَّ ؤٍِّّوا آف قِّدشؤَّ ؤٍِّّوا)” (الورقة 38ب).

  • “أجل، يا ربُّ، نطلبُ إليكَ،

     أرسِلْ إلينا موهبةَ الرُّوحِ القُدُسِ ونعمتَهُ،

     وكَمِّلْ (شمِّلا) معنا هذه الخدْمة،

     واجعَلْ، يا ربُّ، هذه المائدة،

     أنْ تُؤَهَّلَ لأسرارِكَ السَّماويَّة واللامائتة

     وللذَّبيحةِ (لدبحا) المقدَّسة” (الورقة 36أ-36ب).

   وتبرز، في دعوة الرُّوح القدس العلنيَّة، تسميةٌ جديدةٌ للمذبح، ألا وهي الآتية: “المائدة السِّرَّيَّة” (فةورا رازنيا). ويربط نصُّ الاستدعاء تقديسَ المذبح ليس بالرُّوح القدس وحده، بل بالأقانيم الثَّلاثة معًا. فالمائدة، وإنْ كانت تحمل “سرَّ” الابن، أي جسده ودمه، تقدِّم للمؤمن “السِّرَّ العظيم” (رازا ربا دةليةيوةا)، أي الله الثَّالوث: الآب المصدر والينبوع، والابن المولود من أبيه والـمُرسَل منه إلينا، والرُّوح مكمِّل الوحي ومانح التَّأليه([21]). ونذكر النَّصّ، كما يلي:

“إستَجبني أيُّها الرَّبُّ. إستَجبني أيُّها الرَّبُّ. إستَجبني أيُّها الرَّبُّ.

وأرسِلْ موهبةَ روحِكَ القدُّوس،

ولتُقدِّسْ هذا المذبح (مدبحا)،

فيكونَ مائدةً سرِّيَّةً (فةورا رازنيا) بالسِّرِّ العظيم (برازا ربا)،

(سرِّ) الثَّالوثِ الـمُمَجَّد، الآب والابن …” (الورقة 37أ-37ب).

   ونجد لدى إسطفان الدُّويهيّ، في مؤلَّفه شرْح التَّكريسات، عندما يتكلَّم على المذبح، إشارةً إلى “المائدة السِّرِّيَّة”، إذ يورد الآتي:

“أخيرًا يضع بخورًا ويدعو روح القدس ليحلّ عليه (للمذبح) ويقدّسه فيصير مائدة سريّة لتقدمة جسد الرب ودمه الكريمين لمغفرة خطايا شعبه ونموّهم في النعمة وتوريثهم ملكوت السماء”([22]).

   كذلك تستوقفنا لفظةٌ مهمَّةٌ لأنَّـها تُـمَكِّـنُنا من فهم الرِّباط الوثيق القائم بين المذبح والرَّبِّ يسوع؛ وهي: “مائدة الحياة” (فةورا دحيًا). قال يسوع عن نفسه لتوما: “أنا هو (…) الحياة (حيًا)” (يو 11: 25؛ 14: 6). وقال لتلاميذه أيضًا: “أنا هو خبزُ الحياة (لحما دحيًا)” (يو 6: 35، 48). يسوع هو الله، وهو الخبز الحيّ وهو الخبز الَّذي يُـحيي. وهو الخبز الَّذي يُعطي ملءَ الحياة للَّذين يؤمنون به. فمن آمن به شاركه في الحياة الحقيقيَّة (راجع يو 6: 51، 53). فالرَّبُّ هو القائل أيضًا: “أتيتُ لتكون لهم (للخراف) الحياة، وتكون لهم وافرة” (يو 10: 10). وبما أنَّ المائدة رُكِّزَتْ في البيعة ليُقرَّب عليها مَنْ هو الحياة، أي ربُّنا يسوع، فقد أصبَحَتْ تحمل الحياة للعالم، لا بل أصبَحَت المائدة الَّتي تعرض الحياة الحقَّة لِمَنْ يدنو منها بإيمان (راجع يو 6: 35ب): “منْ يأكل هذا الخبزَ يحيا إلى الأبد” (يو 6: 58). ومن المهمّ أنْ نشير إلى أنَّ “مائدة الحياة” هذه ترتبط بِـحَمَل الحقّ (آمر قوشةا) الَّذي يُذبَح (مَّةدبح) وبـ”الذَّبيحة الغافرة” (دبحك محسينا). وهذه التَّعابير الَّتي تُستَخدَم، هنا، هي ذو طابعٍ ذبيحيٍّ واضح، وتعيد رَبْط لفظة “المائدة” بلفظة “المذبح” الأساسيَّة. وهذا ما تبرزه النُّصوص الَّتي نجدها في الرُّتبة:

  • “قدِّسْ هذا المذبح برأفتِكَ،

     وأهِّلْهُ أنْ يكون مائدةَ الحياة (فةورا دحيًا)

     لذبيحتِكَ الغافرة” (الورقة 28ب).

  • “ها (هي) مُرَكَّزَةٌ فيكِ (للبيعة) مائدةُ الحياة،

     الَّتي عليها يُذبَحُ حملُ الحقّ (آمر قوشةا).

     (…) والجسدُ والدَّمُ يُقدَّسان فيكِ” (الورقة 30ب).

  • “كَمِّلْ، أيُّها الرَّبُّ، نعمتَكَ ومراحمَكَ معنا،

     وقدِّسْ هذا المذبح، برأفتِكَ،

     وأهِّلْه أنْ يكون مائدةً حيَّةً ومذبحًا غافرًا” (ب.س. 120، الورقة 134ب).

   كما تجدر الإشارة إلى تعبيرٍ وحيدٍ ورد في رتبة رَسْم المذبح أيضًا، ألا وهو: “المائدة الـمُمَجَّدة” (فةورا شبيحا). ويكشف هذا التَّعبير عن حركةٍ طقسيَّةٍ هامَّةٍ جدًّا، هي زيَّاح القرابين، أي حمل القرابين بأبُّـهةٍ وعظمةٍ وتكريمها. وهذا ما يتمّ، فعلًا اليوم، في جميع كنائسنا الشَّرقيَّة. ولقد ورد في النَّصّ ما يلي:

“(…) بارِكْ وقدِّسْ هذا المذبح،

لكيما يكون يكون مائدةً مُـمَجَّدةً

ليُزَيَّحَ عليه جسدُكَ ودمُكَ الـمُوقَّر والقدُّوس” (ب.س. 120، الورقة 141أ).

  • لفظتا “الخِدْر” (جنونا) و”المَلاذ” (بية أوبا):

   في ختام هذا القسم الأوَّل الَّذي خصَّصناه لدراسة الألفاظ الَّتي تتعلَّق بالمذبح، لفظتان أخيرتان تستوقفاننا، على الرُّغم من أنَّهما لم تَردا سوى مرَّاتٍ معدودة. إذ تتكرَّر لفظةُ “الـخِدْر” (جنونا) خمس مرَّات([23]) فقط؛ أمَّا لفظةُ “الـمَلاذ” (بية أوبا) فلا نجدها سوى مرَّةٍ واحدة([24]).

   تشتقُّ الكلمة جنونا من الفعل السُّريانيّ “جنن -جَن باةرا م (جنُنُا)، حلَّ بالمكان وقرَّ فيه ومنه في اشعيا وجَن بجنونا دحدوًةا، (…) وجنونا الخِدْر والحَجلة وهو موضع يُزيَّن بالثياب والأَسِرَّة والستور للعروس ومنه حديث بعض السُّريان جنونا دحَةنوةي”([25]). أمَّا إسطفان الدُّويهيّ، في مؤلَّفه منارة الأقداس، فيُعدِّد الأسماء الَّتي تُطلَق على المذبح، ويقول:

“رابعًا. يسمُّونه قبَّة وخدرًا لاننا نقول في تقديس البيعة بصوت آنا آٍّنا نوؤرا شريرا “استيقظي استيقظي ايتها البيعة وارفعي رأسك المتضع لان العريس في هذا الوقت يهبط من السماء الى خدركِ ويكسر فيكِ جسده الحي ويمزج بكِ دمه (…)”. وكما ان الرسول نهى خدّام قبّة الزمان عن الاكل من مذبح الرب كذلك البيعة تنهى عن الدخول الى قبّتهِ كل من لم يتطهر بحميم العماد (…).

خامسًا. يسمّون المذبح كرسيًا وسريرًا ومُخدعًا ومرقدًا ونحوها لان المخلص مثلما جلس مع تلاميذه في تقديس جسده كذلك يسرّ كل يوم ان يجلس معنا ويستريح فينا وان نتلذَّذ نحن واياه في مناولة جسده”([26]).

   وتشدِّد النُّصوص اللِّيتورجيَّة الَّتي بين أيدينا على هذا البُعد الَّذي يُشير إلى الحلول والسُّكنى، أي إلى حلول الابن على مذبح البيعة، أو على خِدرها (جنونكي)، عبر جسده ودمه. لا بل أكثر من ذلك، فإنَّ النُّصوص تؤكِّد أنَّ الابن الوحيد هو مَنْ بنى هذا “الخدرَ” للبيعة؛ وقد بناه في مَوضعَين اثنَين، إذا جاز التَّعبير: بنى المسيح “خدرًا” للبيعة في السَّماء، حيث يُزيَّح على مناكب الملائكة؛ وبنى “خِدْرًا” آخر في البيعة الأرضيَّة، حيث ينزل ويكسر جسدَهُ ويمزجُ دمَه، وحيث الكهنة هم الخدَّام؛ وفي كلا الموضعَين هو حالٌّ وحاضرٌ من أجل شعبه:

  • “يا مَنْ جَعَلَ له مسبِّحين، في البيعة السَّماويَّة، الأرواحَ الهيوليَّة (…).

     وعلى الأرضِ، ارتضى بأنْ يُـخدَمَ بالأيدي الجسديَّة، في البيعة الأرضيَّة.

     يَـحِلُّ في السَّماءِ بِصُروحِها، بكُرسيِّها ومقصورتِـها.

     على المركبة وعلى مذبحِها، وجعلَها هيكلًا لسُكناه” (الورقة 24أ).

  • “أُشكري أيَّتُها البيعة المسيحَ الَّذي عظَّمَكِ،

     ونَصَبَ خِدْرَكِ (جنونكي) في الأعالي الَّتي فوق” (الورقة 14أ).

  • “الخِدْرُ في العلاءِ يُعِدُّ لكِ سيِّدُكِ.

               وجموعُ العَلاءِ يُزَيِّـحونَ وليمتَكِ (مشةوةكي)” (الورقة 14أ).

   ويهمُّنا أنْ نشير إلى الرِّباط الوثيق بين “الـخِدْر” في البيعة الأرضيَّة وجسد الابن ودمه. إذ إنَّ غاية الابن الوحيد هو أنْ يبقى مع شعبه “كلَّ الأيَّام إلى نهاية العالم” (مت 28: 26)؛ لذلك ينزل العريس (نحَّة حةنا) يسوع إلى الخدر ليسكن مع عروسه البيعة، ويقدِّم لها جسده الحيّ وكأس دمه، فتأكل العروسُ البهيَّة جسدَه وتشرب دمَه فتتطهَّر وتتقدَّس وترتِّل المجد. كما أنَّ موضوع الخِدْر الَّذي يُـخصَّص للعروس فقط، ولا يدخله إلَّا العروسان النَّقيَّان والـمُؤَهَّلان للسَّكن فيه نتيجة الارتباط بسرِّ الزَّواج المقدَّس، يكشف لنا -بوضوحٍ- مَن هم الَّذين يستطيعون الاقتراب من الخِدْر في البيعة والانضمام إلى صفوف الكنيسة والمشاركة في مائدتها: هم الَّذين لبسوا “أثواب الغفران” (مًانا دحوسيا)، أي الَّذين تنقَّوا وتطهَّروا بسرِّ العماد. لذك، يأمر الشَّمامسةُ “السَّامعين” (شموعًا) بالخروج من الكنيسة، بعد سماع القراءات الكتابيَّة وقبْل بدء القسم القربانيّ من القدَّاس؛ إذ لا يُسمَح لهم مِنَ الاقتراب مِنَ الأقداس، لأنَّ “الأقداس للقدِّيسين”، ولم ينضمّ بَعدُ هؤلاء “السَّامعون” إلى “القدِّيسين” بسبب عدم قبولهم سرّ العماد.

  • “(…) ينزل الختنُ إلى خدْرِكِ (أيَّتُها البيعة).

يُكسرُ فيكِ جسدَه الحيّ (فجرؤ حيا)، ويمزجُ فيكِ كأس دمه (كسا ددمؤ).

              كُلِـي جسدَهُ وتطهَّري (آةِّحسي)، واشربي دمَهُ وتقدَّسي (آةِّقدشي)،

              ورتِّلي المجدَ لنِعمتِهِ” (الورقة 23ب).

  • “«إذهبوا بالسَّلام، أيُّها السَّامعون»، هتَفَتِ البيعةُ وقالتْ،

              لأنَّ الختنَ قد ضَفَرَ لي الخِدْرَ، وفي داخلِهِ أجلسَني.

              والَّذي لا يلبس أثوابَ الغفران،

              لا يستطيعُ أنْ يدخلَ ويقفَ بين صفوفي” (الورقة 32أ).

    وتبقى لفظةٌ أخيرة، وجدناها مرَّةً واحدةً فقط في نصوصنا، ألا وهي “الـمَلاذ” (بية أوبا). وتتشابه هذه اللَّفظة ولفظة أخرى هي “الـمَلجأ” (بية جوسا). ويُدعى الله، في بعض المزامير، “ملجأي” (بية جوسي)([27]). ولقد أورد جبرائيل القرادحيّ، في قاموسه السُّريانيّ-العربيّ، عن بية أوبا ما يلي: “ويُقال بية أَوبا قال مار اسحق عدةا ةؤوا بية أوبا: لاينا دبُطِل من عَملا اي مورد من تعطَّل”([28]).

   أمَّا في الجملة الوحيدة الَّتي ترد فيها كلمة “الـمَلاذ” بارتباطٍ والمذبح، فنجد أنَّ الفعل السُّريانيّ الَّذي استُخدِمَ هو الآتي: “إلتَجَأَ إليه واستغاث به” (آةجَوَس بؤ)([29]). ويصبح المذبح، إذًا، الملاذ الَّذي يلتجئ إليه المؤمن في ضيقه، أو في حال يريد التماسَ شيءٍ من الرَّبّ، وبخاصَّة عندما يرغب في الاتِّحاد به والاقتيات من جسده ودمه. وإذا كان الله هو “ملجأي”، كما أوردنا أعلاه بالاستناد إلى سفْر المزامير، فالمذبح هو أيضًا “ملاذي” و”موردي” الَّذي استَغيثُ به، وهو حمايتي وحصني ومنقذي (راجع مز 18 (17): 3). ويورد نصُّ رتبة رسْم المذبح، ما يلي:

“نصلِّي (…) مِنْ أجلِ هذا البيت، لكيما الرَّبُّ الإلهُ، يُرسلُ إليه نعمتَهُ.

فتَحِلَّ على هذا المذبح، وتُقَدِّسَهُ وتَـجْعَلَهُ مَلاذًا (بية أوبا)

للَّذين يَلجَأُون إليه (مَّةجوسين بؤ)” (الورقة 37ب).

   وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه اللَّفظة تَرِد أيضًا، مرَّةً واحدةً فقط، لتدلَّ على البيعة وليس على المذبح، في صلاةٍ نجدها هي نفسها في الصَّلاة الَّتي تلي التَّصليب على الجهات الأربع، في رُتبة تقديس البيعة، ولكن في صيغةٍ أطول. وهذا ما نجده في رتبة تقديس البيعة، كالآتي:

“لكي يُرسل الرَّبُّ الإله † النِّعمة،

وتـحِلَّ † على هذه البيعة،

وتُقدِّسَها †، وتجعلَها ملاذًا †

للَّذين يلجأون إليها (…)” (الورقة 25أ).

  • رَسْم (أو تكريس) المذبح

   نعمد، في هذا القسم الثَّاني من مقالنا، إلى مقاربة موضوع رسْم المذبح أو تكريسه من النَّاحية اللاهوتيَّة، وإلى التَّوقُّف عند الأفعال السُّريانيَّة الَّتي نجدها في الرُّتبتَين والَّتي تُشير إلى التَّقديس، ساعين إلى إبراز قيمة الأفعال وارتباطها بالرُّتب الطَّقسيَّة والأسراريَّة الأخرى.

   غنيَّةٌ هي الأفعال السُّريانيَّة الَّتي استُخدِمَتْ ليتحقَّق عبرها فعْل التَّقديس هذا؛ وقد ورَدَتْ في صيغٍ متنوِّعةٍ ومتعدِّدة، وهي الآتية: قَِّدِش (قدَّسَ)، ورشَِّم (رَسَم)، وشَمِّلٍي (كمَّلَ، أَتَـمَّ)، وحِّةَم (خَتَمَ). كما أنَّ الأفعال المرتبطة بالرُّوح القدس الَّذي هو الفاعل الأساسيّ في التَّقديس، غنيَّةٌ جدًّا ومهمَّة، وسوف نتطرَّق إليها أيضًا لدى محاولتنا تفسير دور الرُّوح في رسْم المذبح أو تقديسه؛ وهذه الأفعال هي الآتية: نحِِّة (نزَلَ)، وشِّرُا (حَلَّ)، ورَحِِّف (رَفّ، رَفْرَفَ)، وقَِّدِش (قدَّسَ).

  • فِعْل “قَدَّسَ” (قَِّدِِّش)

   يرد فعل قِّدش ومشتقَّاته، في العهد القديم، ويتكرَّر كثيرًا. ويشير إلى ما هو قُدْسيّ. ويُستعمَل، غالبًا، حين التَّحدُّث عن الله، وعن شعائر عبادته، وعن شعبه أو عن بعض أعضاء هذا الشَّعب. و”يعني الأصلُ العبريّ ق د ش (قدُّوس) القَطْعَ والفَصْل. أمَّا لفظة قَدِشْ (qadesh) فتُطلَق على بعض «الأماكن المقدَّسة» الَّتي وُضِعت على حِدة (فُصِلَتْ)”([30]). والله هو قدُّوس، ينفصل عن خليقته. وهو الـمُتسامي والـمُتعالي. والأشياء والأشخاص الَّذين يخصُّون الله يُقدَّسون، أي يُفصَلون، فلا يُستعمَلون في المجال الدُّنيويّ بعد أنْ يكونوا قد انتقلوا إلى الدَّائرة الإلهيَّة. ويستعمل التَّقليد الكتابيّ اليَهوهيّ([31]) «ق د ش» في سياق لقاءٍ مع يهوه (…)، “فالاستعمال الأوَّل للفظة «ق د ش» لا يرتبط بالعالم القدسيّ الإلهيّ الـمُجرَّد، بل بحضور يهوه في تاريخ شعبه (…)؛ ولا تعني (هذه اللَّفظة) الانفصال عن الله، بل الانتماء إليه (خر 3: 5) واستعداد الشَّعب للِّقاء به”([32]). ونذكر، على سبيل المثال، قول الرَّبّ: “ُأقدِّسُ (آقِّدش) المسكنَ الزَّمنيّ والمذبح، وهارون وأبناؤُهُ أُقدِّسُهم لي للكهنوت” (خر 29: 44).

   أمَّا في أدب ما بعد المنفى، وبخاصَّة لدى حزقيال النَّبيّ (حز 40-48)، فقد أتى التَّشريع من أجل جماعةٍ عباديَّةٍ ترتبط بالمعبد (أو الهيكل) وبالكهنوت. وصارَتِ الوجهة طقوسيَّةً بحتةً وتركِّز على شعائر العبادة وعلى التَّمييز بين المقدَّس والدُّنيويّ، وبين المقدَّس والنَّجس. لذا، نجد أشياءَ وأشخاصًا تُكرَّس لله بواسطة مراسيم دقيقة (تقدمات، ذبائح، مسحة، رشّ بالدَّم)، وتكون بالتَّالي محرَّمةً على الاستعمال العاديّ([33]).

   ونجد، في العهد الجديد، أنَّ الله قدُّوسٌ هو (يو 17: 11)، واسمه قدُّوس (لو 1: 49)، وشريعته (روم 7: 12) وعهده (لو 1: 72) أيضًا مقدَّسان. كما أنَّ أغراض العبادة مقدَّسة: المذبح (مت 23: 19)، والذَّبيحة (روم 12: 1)، والهيكل نفسه (مت 23: 17)، والمدينة -أي أورشليم- مقدَّسة (مت 4: 5). ولكنَّ الجِدَّة تكمن في قداسة الله الَّتي أظهرها لنا ابنُه الوحيد يسوع. فيسوع هو قدُّوس الله، وهو كامل القداسة (راجع أع 3: 14-15؛ رؤ 3: 7). ولقد جاء يسوع إلى الهيكل، ولكنَّه لم يُشارك أبدًا في الذَّبائح؛ لا بل قدَّم نفسه على أنَّه أعظم من الهيكل (راجع مت 12: 6). فالربُّ يسوع كرَّسَ ذاته وقدَّسها ليكون لتلاميذه ينبوع قداسة (راجع يو 17: 19؛ 1 قور 1: 30؛ عب 2: 11). أمَّا متطلِّباته على مستوى البرِّ والحقِّ والمحبَّة، فتُبعد تفكيرنا عن قداسةٍ طقوسيَّةٍ لتُشدِّد على قداسةٍ خُلُقيَّةٍ هي قداسة القلب (راجع مت 5: 8).

   وبالعودة إلى النُّصوص الطَّقسيَّة في رُتبتَـي تقديس البيعة والمذبح، نجد أنَّ تقديس المذبح يعني تأهيله ليكون “مائدة الحياة” وليحمل الذَّبيحة الغافرة. إذ كان المذبح حجرًا عاديًّا، وقد نُـحِتَ وصُقِلَ ليصير موضِعًا يحمل القرابين المقدَّسة:

“قدِّسْ (قِّدش) هذا المذبح برأفتِكَ.

وأهِّلْهُ أنْ يكون مائدةَ الحياة

لذبيحتِكَ الغافرة” (الورقة 28ب).

   وتُستعمَل صيغة المجهول الَّذي يُدعى المجهول الإلهيّ، أي أنَّ الله هو الفاعل في هذا التَّقديس، وليس الإنسان: “مذبحُ القُدْسِ ها (إنَّه) يُقدَّس (مَّةقدش) اليوم” (الورقتان 28ب، 32ب). وتُظهِرُ نصوصٌ عديدةٌ أنَّ للرُّوح القُدُس دورًا أساسيًّا في تقديس المذبح. وتستعمل النُّصوص أفعالًا سُريانيّة مهمَّةً تدلُّ على دور الرُّوح وفعاليَّته هذه. فالرُّوح “ينزلُ” (نحَّةا) وكأنَّه إنسان يتحرَّك ويأخذ المبادرة، ليُقدِّس ويحلَّ ويُنقيّ. ويستوقفنا فعل “نَـزَلَ” (نحِّة)، إذ يستخدمه الكتاب المقدَّس ليُشير إلى عمل الله الَّذي ينزل ليفتقد شعبه وينظر إلى ما يفعله: نزل الرَّبُّ إلى مدينة بابل (تك 11: 5، 7)؛ كذلك نزل على رأس جبل سيناء (خر 19: 20)، ثمَّ نزل في الغمام (خر 34: 5)، إلخ. وينزل الرَّبُّ، في كلِّ مرَّة، ويتدخَّل لكي يُكلِّم أو يؤنِّب أو يُرافق شعبَه أو أصفياءَه الَّذين يختارُهم.

   ثمَّ نجد فعل “يَـحِلُّ” (شَّريا)، وهو فعلٌ بيبليٌّ بامتيازٌ يُشير إلى حلول الله أو سُكناه أو مجده، وسْط شعبه([34])؛ كما يُشير إلى حلول روح الرَّبّ على عبيده([35]). فعندما تكلَّم الرَّبُّ مع موسى، بشأن خيمة الاجتماع، قال له: “ويصنعون لي مقدِسًا فأحِلُّ (وآِشِّرِا) بينهم” (خر 25: 8). وقال، في مكانٍ آخر، الآتي: “وأَحِلُّ في وسط بني إسرائيل” (خر 29: 45). ويُستعمل الفعل نفسه ليَصِف حلول الرُّوح على الشُّيوخ السَّبعين الَّذين اختارهم موسى؛ ولقد ورد في الكتاب، ما يلي: “وإذ حَلَّ (شِّرة) عليهم الرُّوح تنبَّأوا” (عد 11: 25). كذلك نجد، عند أفرام السُّريانيّ، فعل شِّرا والفاعل هو الرُّوح القدس؛ ونورد، على سبيل المثال، الآتي:

  •  “في هذا العيد، ليُكلِّلْ كلُّ إنسانٍ بابَ قلبِهِ،

             فيشتهيَ بابَهُ الرُّوحُ القدس،

             ويدخل ويحلَّ فيه ويُقدِّسَهُ (ةشِّرا وةقِّدش بؤ)” (أناشيد الميلاد 5، 10)([36]).

  •  “حضَنَتْهُ حنَّةُ ووضَعَتْ فمَها على شفتيه،

             فَحَلَّ (وشِّرة) الرُّوحُ على شفتَيها” (أناشيد الميلاد 6، 13)([37]).

   وهذا ما نجد، في رتبة رسْم المذبح، كما يلي:

  • “إرتكضي وافرحي أيَّتُها البيعة، في هذا اليوم المجيد،

              الَّذي فيه نازِلٌ (نحَّةا) الرُّوح وحالٌّ (شَّريا) على مذابِـحِكِ” (الورقة 30ب).

  • “نصلِّي (…) لكيما الرَّبُّ الإلهُ

    يُرسلُ إليه (هذا البيت) نعمتَه،

    فتَحِلَّ (ةاجِّني) على هذا المذبحِ

    وتُقدِّسَه (ةقِّدشيوؤٍّي) وتجعلَه ملاذًا” (الورقة 37ب).

  • “(…) ومن أجلِ هذا المذبح المقدَّس

    الَّذي قُدِّسَ ورُسِمَ (آةقِّدش وآةِّرشم)

    على اسم الهيكل المقدَّس، (هيكلِ) مار فلان” (الورقة 37ب).

    نستنتج، ممَّا سبق، أنَّ تقديس المذبح يعني فرْزه عن الاستعمال العاديّ والدُّنيويّ وتخصيصه بالله وحده، وجعله مكانًا يؤمِّن حضور الله وسط شعبه. وإذا قرأنا يوحنَّا الذَّهبيّ الفمّ لأيقَنَّا أنَّه يُشدِّد على أنَّ “المسيح مُظلَّلٌ بالرُّوح القدس كلِّـيًّا”، وهو “ممتلئٌ من الرُّوح منذ البداية”، وهو “ممسوحٌ بالرُّوح بشكلٍ كاملٍ”، وأنَّ “يسوع روحانيّ، لأنَّ الرُّوحَ نفسه قد كوَّنه”([38]). هذا بالنِّسبة إلى الرَّبّ يسوع. أمَّا بالنِّسبة إلى الكنيسة فهذا الرُّوح نفسه هو العامل الأساسيّ فيها أيضًا، وهو يبنيها ويجمع أبناءَها الـمُشتَّتين ويُـجدِّدهم ويوحِّدهم، ويوجِّه أنظارهم نحو الرَّبِّ يسوع ليقودهم -بواسطته- إلى الآب. وفي تقديس المذبح، نجد أنَّ الرُّوح القدس هو الفاعل الأساسيّ؛ فليس من تقديسٍ أو تكريسٍ إلَّا به وبواسطته. وإذا كان الرُّوح القدس، في صلاة الاستدعاء القربانيَّة، ينزل ويحلّ على الخبز والخمر ويجعلهما جسد الابن الوحيد ودمه، فهو ينزل أيضًا ويحلّ على المذبح ويقدِّسه ويجعله ملاذًا ومائدةً سرِّيَّةً وأهلًا ليُقرَّب عليه الجسد والدَّمّ.

  • فِعْلا “رَسَمَ” و”خَتَمَ” (رشَِّم وحِّةَم)

   أعطى الفعل “رَسَمَ” (رشَِّم) الاسمَ لرُتبة تقديس المذبح، إذ قد دُعيَتْ: “رتبة رَسْم (رشُم) المذبح” (الورقة 26ب). ونجد عنوانًا آخر لها، بالكرشونيَّة، في بعض المخطوطات، كالآتي: “رسامة المذبح”([39]). كما أنَّ عنوان رُتبة تكريس الكنيسة، هو الآتي: “رتبة تقديس البيعة، أي رسْـمِها (لرشمؤَّ)” (الورقة 9أ). وفي بكركي 8، ص 130، نجد العنوان الآتي: رسامؤً ءلبيعؤ (رسامة البيعه). أمَّا معنى هذا الفعل، بحسب قاموس اللُّباب، فهو كالآتي:

رشَم علوؤي زفلن م (روشما) رسمَ عليه كذا اي كتب (…)، رسمَ على كذا اي خطَّ، وأليبا عل آفوؤًي أشار بسمة الصليب على وجهه (…)، ورَشمؤ بزفلن وسَـمَهُ بكذا”([40]).

   ونجد فعلًا آخر مهمًّا، يُظهر أهـمِّيَّة العمل الطَّقسيّ ويُعطيه أبعادَه اللاهوتيَّة والرُّوحيَّة، وهو فعل “خَتَمَ” (حِّةَم). ويترافق هذان الفِعْلان، أحدهما والآخر، في النُّصوص الطَّقسيَّة الَّتي يرِدان فيها، في غالب الأحيان. ويُعرِّف قاموس جبرائيل القرداحيّ بكلمة حَةمِؤ م (حةُما)، كالآتي:

“ختَمه وطَبَعَهُ ويُقال حةَم علوؤي اي ختم عليه وطَبعَ (…) وحَةمِؤ ايضًا وَسَـمَهُ يُقال حَةمؤ بألٍيبا اي وسـمَهُ بسيماء الصليب (…). حَةمِؤ ختمَهُ وطبعَهُ ووسَـمَهُ وثبَّـتَهُ وحقَّقَهُ وأَتَـمَّهُ وأنجزَهُ مثل حةَم([41]).

   ويتكرَّر فِعلا “رَسَمَ” و”خَتَمَ”، في رتبة رسْم المذبح، مرارًا عديدة. ويشير هذان الفِعْلان إلى العمل الطَّقسيّ الَّذي يُــتَمِّمُه المحتفل لتقديس المذبح، إذ يرسم ويخطّ على المذبح شكل الصَّليب، بإصبعه -بالميرون أو من دون الميرون-، فيترك عليه أثرًا أو علامة. ولقد جاء في إحدى الرُّوبريكات، ما يلي:

“ويرسم (رشَّم) على قرون المذبح،

بالميرون، صليبًا، ثلاث مرَّات، قائلًا” (الورقة 35ب).

   أمَّا الصَّلاة الَّتي يتلوها المحتفل، وهو يرسم المذبح بالميرون، بشكلِ صليب، فهي كالآتي:

“نرسمُ ونختمُ (رشَّمينن وحَّةمينن) هذا المذبح،

باسم الآب †، والابنِ †، والرُّوح القدس، إلى الأبد آمين †” (الورقة 35ب). 

    ثمَّ تزيد روبريكةٌ أخرى التَّفصيلَ الآتي: “ويختمه (حَّةم لؤ) [للمذبح] بالصَّليب” (الورقة 35ب). ويترافق هذا الختمُ مع صيغةٍ ثالوثيَّةٍ أكثر تفصيلًا من الصِّيغة الَّتي أوردناه أعلاه. ونجد، في مكانٍ آخر من الرُّتبة عينها، ما يلي:

“فلنُصلِّ من أجل هذا المذبح،

الَّذي على اسمِ الرَّبِّ يُقدَّسُ (مَّةقدش)

ويُطبَعُ (ونِّةطبع) بالميرونِ المقدَّس (…)،

بواسطةِ حلولِ (مجننوةا) الرُّوحِ القدس” (الورقتان 33ب، 34أ).

   ولفعل “طَبَعَ” أهـمِّيَّةٌ أيضًا في اللَّاهوت الأسراريّ، إذ يرتبط بعمل الرُّوح القدس، كما هو بادٍ هنا. ولقد أورد القرداحيّ، في قاموسه اللُّباب، عن هذا الفعل ما يلي:

“طبَع أبوةا ج م طبعَ الشيءَ وختَـمَه وفي كلام يعقوب الرهاويّ طبوعيؤَّ لاجرةا بعِزقةك أي اطبع الرسالة بطابَعك”([42]).

   وهذا ما نجده أيضًا، في رُتبة العماد، عند وسم جبهة المعمَّد بالميرون، كالآتي:

“بميرون المسيح الإله (…)، طابَعِ وملءِ نعمة الرُّوح القدس،

يُطبَع عبدُ الله (فلان)، باسم الآب والابن والرُّوح القدس”([43]).

   وهكذا، يُطبَع المعمَّد الجديد بطابع الرُّوح ويصير هيكلًا له ويؤهَّل للتنعُّم بفرح التَّبنِّي. والمذبح الَّذي هو موضعٌ مهمٌّ في البيعة والَّذي يُقدَّس ويُطبَعُ بالميرون أيضًا، يصير هو أيضًا -على مثال المعمَّد- مطبوعًا بقداسة الله وموسومًا به، وموضِعًا مقدَّسًا انسَكَبَتِ النِّعمةُ عليه كما انسَكَبت على أولاد البيعة.

   وفي رتبة تقديس المذبح، علاقةٌ وثيقةٌ تربط ما بين الرُّوح القدس، وتقديس المذبح، ورسْـمِهِ أو خَتْمِهِ بالزَّيت والميرون. ونجد، في الكرازة الوسطانيَّة وفي البروديقي، ما يلي:

  •  “(…) ويُرسِل إليه الرُّوحَ القدسَ

             ليُقدِّسَ (نقِّدش) هذا المذبحَ

             المرسومَ (رشيم) بالزَّيتِ الـمُعطَّر” (الورقة 34أ).

  •  “من أجلِ هذا المذبحِ المقدَّس

             الَّذي قُدِّسَ ورُسِمَ (آةِّقدش واةِّرشم)

   على اسم الهيكلِ المقدَّس (…)” (الورقة 37ب).

   أمَّا الفعل الأساسيّ الَّذي يَرِدُ، في رتبة تقديس البيعة، لتقديس الكنيسة وتكريسها فهو “رَسَمَ”. وفي الحوارات الثَّلاثة الَّتي تدور بين المحتفل والكهنة الثَّلاثة الموجودين داخل الكنيسة، يقول رئيس الكهنة، ما يلي:

“أنا هو فلان الأسقف أتيتُ لأَرسُمَ (دآرشَّوم) هذا الهيكل،

(هيكل) القدِّيس مار فلان” (الأوراق 15أ، 16ب، 17ب).

   وبعد كلِّ حوارٍ من هذه الحوارات الثَّلاثة، يعمد المحتفل إلى رسْم بعض أقسام الكنيسة: فـ”يرشم” بالزَّيت عتبة الباب (الورقة 15أ)، ثمَّ “يرشم بيمينه باب الكنيسه، تلات صلبان” (الورقة 16أ)، و”يرشم بالميرون عتبة الباب” (الورقة 16ب). وعندما يطوفون في الكنيسة، “يرشم تلات صلبان في الدهن المقدّس” (الورقة 22ب) على حيطانها من الدَّاخل، قائلًا:

“تُرسَمُ (مَّةرشما) بيعتُكَ وتُقَدَّسُ (مَّةقدشا)،

الحجارةُ تَـتَجدَّدُ وتُعَظَّم،

بزيتِ المسحة (…)” (الورقة 22ب).

   وعند رسْم كلِّ جهةٍ من جهاتها، بالميرون، يستعمل النَّصُّ الفعلَ نفسه، فيقول:

“يُرسَمُ (مَّةرشم) هذا الهيكل، (هيكل) القدِّيس مار فلان،

ويكتملُ بالميرون الحيِّ والمقدَّس (…)” (الورقة 23أ).

   وتُعدِّدُ صلاةٌ أخرى مهمَّةٌ العناصر الأساسيَّة الَّذي يتحقَّق فيها الرَّسْمُ وبالتَّالي التَّقديس، ألا وهي الزَّيت والميرون والصَّليب، كالآتي:

“يُرسَمُ (مَّةرشم) هذا الهيكل، (هيكل) القدِّيس مار فلان،

بالزَّيت الـمُعطَّر (مبسما)، وبالميرون النَّقيّ، وبالصَّليب المقدَّس (…)” (الورقة 23ب).

   ويُستعمل فِعلا “خَتَمَ” و”رَسَمَ” في اللِّيتورجيَّا القربانيَّة، بحسب الطَّقس المارونيّ، في القسم الـمُعَنوَن: “الكَسْر والرَّسْم والنَّضْح والـمَزْج والرَّفعة”، كالآتي: “ؤَِّيمننن وَقِّرِبنن. حَّةمينن † وقَّأينن آوكريسطيا ؤدا (…)”([44]).

   وتشير الرُّوبريكة إلى وجوب رسم إشارة الصَّليب على القربانة الَّتي يحملها المحتفل بيده، ليختمها بالصَّليب ومن ثمَّ يكسرها. أمَّا الحركة الطَّقسيَّة على الكأس فهي “الرَّسْم”. إذ يأخذ المحتفل “الجزء الصَّغير (من القربان) ويغطِّسه بشكل صليبٍ قائلًا: وكسا دفورقنا ودةوديةا إشمينن بجمورةا محسينيةا (…)”([45]).

   ويُدعى “القدَّاس السَّابق تقديسه”، عند السُّريان عمومًا، باسم “رَسْم الكأس” (رشُم كسا). ونجد، في الرُّتبة السُّريانيَّة المخطوطة والمنسوبة إلى ساويروس، البطريرك الأنطاكيّ، ما يلي:

“يأخذ (المحتفل) الخمرة، ويرسم (رشَّم) بها ثلاثة صلبان قائلًا: كأسُ الشُّكرانِ والخلاصِ تُرسَمُ (مَّةرشم) بالجمرة الغافرة لمسامحةِ الذُّنوبِ ومغفرةِ الخطايا وللحياة الأبديَّة”([46]).

   أمَّا في الرُّتبة المارونيَّة فنجد الفعل نفسه “نَرسُمُ” على الكأس. ويوضح الفروميون معنى هذا الرَّسْم وهدفه، إذ يورد ما يلي: “في هذا الوقت الَّذي تتَّحِدُ فيه هذه الكأس بالجسد المقدَّس، فتتبارك وتتقدَّس”([47]). ويُضيف السِّدْرو النَّصَّ الآتي:

“نضرع إلى جودِكَ أيُّها الرَّبُّ الرَّحيم،

أنْ تُقدِّسَ هذه الكأسَ الموضوعةَ أمامنا (…)،

بقداسة توحيدها بجسدِكَ المقدَّس،

لكي تصير كأسَ خلاصٍ لكلِّ من يتناول منها (…)”([48]).

   فالرَّسْم، بحسب رتبة رَسْم الكأس المارونيَّة، وبحسب الرُّتبة اليعقوبيَّة أيضًا، بشكلٍ خاصٍّ، يؤدِّي إلى تحوُّل الخمر إلى دم المسيح([49]). هذا ما نجده، في سِدْرو الدُّخول اليعقوبيّ، كالآتي:

“(…) ولكن حَوِّلْ (شحِّلف) مزيجَ الكأسِ الموضوعِ أمامَنا إلى دمِكَ (دما ديلك) المقدَّسِ والصَّانعِ الحياة. وليَكُنْ لتنقية خطايانا وخطايا الشَّعبِ كلِّه؛ ولنأخذْ به المغفرةَ والخلاص، ولنُنَجَّ مِنَ فسادِ النُّفوسِ والأجساد”([50]).   

   كما نجد، في رتبة العماد المارونيَّة، استعمال فِعْل “خَتَمَ” أيضًا، في مواضِع كثيرة؛ نذكر على سبيل المثال، ما ورد في الرُّتبة المخطوطة الـمُتضمَّنة في المخطوط الفاتيكانيّ السُّريانيّ 313 (من القرن السَّادس عشر)، كالآتي:

“ويختمهم (وحَّةم لؤون) على جباههم (حرفيًّا: بين أعينهم)،

بشكل صليب، ثلاث مرَّات، من دون زيت،

قائلًا: ليُختَم (مَّةحةم) فلان، الَّذي أتى إلى المعموديَّة المقدَّسة،

حملًا في القطيع، باسم الآب، آمين (…)”([51]).

   وعندما يَسِمُ (رشَّم لؤ) الكاهنُ الـمُعَمَّدَ، بالزَّيتِ على جبهتِه، يقول هكذا:

“يُوسَم (مَّةرشِم) عبدُك فلان، حملًا في رعيَّة المسيح،

بزيت المسحة، باسم الآبِ الحيِّ مدى الحياة (…).

ليَأتِ، يا ربُّ، روحُكَ الحيُّ والقدُّوس،

ويَـحلَّ ويستقرَّ (نةةنيِّح) على رؤوسِ عبيدِكَ وإمائِكَ،

وليُوسَـموا (نةرشمون) باسمِك، أيُّها الآب (…)”([52]).

وعند سكب الميرون في الماء، تورد الرُّوبريكة النَّصَّ الآتي: “يأخذ الكاهن الميرون ويرسم (رشَّم) به الماء، قائلًا”([53]).

   إنَّ ما يمكننا استنتاجه واستخلاصه من هذه النُّصوص القربانيَّة والعِماديَّة([54]) المرتبطة بالرَّسْم (أو الوَسْم([55])) والـخَتْم، هو الآتي: إنَّ الكأس الَّتي تُرسَم بالجسد المقدَّس، تصبح كأس خلاصٍ وشكران، كأسًا تمنح مغفرة الخطايا والحياة الأبديَّة، وذلك لأنَّـها -وهي العاديَّة أو الدَّنيويَّة- عندما اتَّـحَدَتْ بالجسد المقدَّس، تقدَّسَتْ. أمَّا طالب العماد الَّذي يُوسَمُ بالزَّيت على جبهتِهِ أو بإشارة الصَّليب بين عينَيه، فيُصبح “حَـمَلًا في قطيع” المسيح، أي يصبح من خاصَّة المسيح “وفي عداد الرُّوحيِّين”، ويُـختَم بختْمِ المسيح -أي تُـجعَلُ عليه علامةٌ مميَّزةٌ يُعرَف بها- ليتميَّز عن الَّذين خارج القطيع أو الرَّعيَّة؛ ويتمّ ذلك بواسطة تغطيس طالب العماد بالماء والرُّوح القدس الَّذي “يحلُّ عليه ويستريح (نةةنيِّح)” فيه، فيُحصى “في عداد الأبناء”.

   وهكذا أيضًا، فإنَّ الكنيسة الَّتي يطاول الرَّسْمُ أقسامَها، إنْ عبر وَسْـمِها بالزَّيت أو بالميرون، وبرسْمِ إشارة الصَّليب عليها، تخرج -هي أيضًا- من الاستعمال العاديّ والدُّنيويّ لتصبح مكانًا مقدَّسًا مملوءًا من حضور الله وفعاليَّته. ويصبح الهيكلُ المكرَّس خاصَّةَ الله، فلا يمكن أنْ يُستخدَم لأيِّ استعمالٍ آخر. وكما أنَّ الكأس الَّتي رُسِـمَتْ بالجسد صارَتْ “كأسًا تمنح مغفرة الخطايا والحياة الأبديَّة”، هكذا أيضًا يصبح المذبح الَّذي رُسِمَ وَوُسِمَ بالزَّيت وبالميرون وبالصَّليب، مذبحًا مقدَّسًا “وغافِرًا لجميع الَّذين يدعونَك (للمسيح)”، بفعل الرُّوح القدس الكلِّيِّ القداسة. ونذكر، على سبيل المثال، الصَّلاة الآتية:

“وأرسِلْ إلينا، في هذا الوقت، روحَكَ الحيَّ والقدُّوسَ البرقليط،

ليأتيَ ويَرِفَّ على هذا المذبح، وليَرفَعْهُ بإشارة نعمتِكَ،

من البساطة (شحيموةا) إلى القداسة (لقديشوةا)،

وليَكُنْ مُطهَّرًا ومُقدَّسًا (…)،

وليَكُنْ غافِرًا لجميع الَّذين يدعونَكَ” (الورقة 35أ)([56]).

  • فِعْل “كَمَّلَ، أَتَـمَّ” (شَمِّلٍي)

   يستوقفنا، في هذا المقطع، فِعْلٌ آخر مهمٌّ يرتبط، ارتباطًا وثيقًا، بموضوع تقديس الكنيسة والمذبح، ألا وهو: “كَمَّلَ، أَتَـمَّ” (شَمِّلٍي). وإذا راجَعْنا قاموسَ اللُّباب، نجد فيه -بشأن هذا الفعل- ما يلي:

شَملٍي أبوةا أَتَـمَّ الشيء وأَكمَلَهُ وأَنجزَه وفرغَ منه (…)، وءلؤا عم فلن طيبوةا أسبغَ اللهُ النعمةَ على فلان وقال شملي عمن طيبوةك (…)، ومنه في الخروج وةشملا آيدؤ دآؤرون وآيًدا دبنوًؤي اي وتقدّس يد هرون، وعلى رسامة الكاهن يُقال شَمليؤ كؤنا اي رسَـمَهُ كاهنًا (…)، وآشةَملٍــي مجهولٌ، وآشةملــيَة أبوةا تَـمَّ الشيءُ وكَمُلَ وانقضى”([57])

   تستخدم نصوص الرُّتبتَين هذا الفعل في مجالَين محدَّدَين: يرتبط المجال الأوَّل بالمحتفل وبالخدمة الـمُؤدَّاة. ويتعلَّق المجال الثَّاني بعمل التَّقديس، مباشرة. فرئيس الكهنة يُصلِّي لكي يُتَمِّمَ اللهُ ويُـحقِّقَ ما يؤدِّيه هو بمشاركة الشَّعب، في هذا اليوم؛ ولكي يُفيض اللهُ، على الجميع، نعمَهُ وبركاتِه، فيتمكَّن المحتفل من إتمام الاحتفال وإنجازه، فيتقدَّس المذبح ويؤهَّل ليكون “مائدة الحياة”. ويستعدُّ رئيس الكهنة والمؤمنون، خير استعدادٍ، للقيام بما يُطلَب منهم عبر تَرَؤُّس الصَّلوات أو المشاركة فيها، كلٌّ بحسب دوره، ولكنَّ الله هو الَّذي يُقدِّس ويُنجِز التَّحوُّل الحقيقيّ في الطَّبائع العاقلة وفي الطَّبائع غير العاقلة، ويُكمِّل -أي يُـحَقِّق ويتمِّم ويُقدِّس- الخدمة الَّتي بدأها الحبر المكرِّس، والَّتي تشارك فيها الجماعة الـمُصَلِّية. وهذا واضحٌ في النُّصوص الآتية:

  •  “إقبَل، أيُّها الرَّبُّ، صلواتِ عبيدِكَ

    (…) وكَمِّلْ (شمِّلا) قيامَنا قُدَّامَكَ،

    برفرفةِ ملائكتِكَ القدِّيسين” (الورقتان 21أ، 25أ). 

  •  “كَمِّلْ (شمِّلا) معنا نعمتَكَ ومراحمك الكثيرة، أيُّها الرَّبُ،

    وقدِّسْ (قِّدش) هذا المذبح برأفتِكَ،

    وأهِّلْهُ (آشوِّيؤي) أنْ يكونَ مائدةَ الحياة” (الورقة 28ب).

  •  “أجل، يا ربُّ، نطلبُ إليكَ،

     أرسِلْ إلينا موهبةَ الرُّوحِ القدس ونعمتَهُ،

   وكَمِّلْ (شمِّلا) معنا هذه الخدمة (…)” (الورقة 36أ).

ويشدِّد البطريرك إسطفان الدُّويهيّ على أنَّ التَّقديس يُنسَب “إلى ثلاثة اي الله والخواطر العقلية والطبائع غير الناطقة”. ويقول، في الطَّبائع الناطقة، ما يلي:

“ثانيًا يُنسب التقديس الى الخواطر العقلية كالبشر والملائكة كما قال الرب «لاجلهم أُقدّس ذاتي ليكونوا هم ايضًا مقدّسين بالحقّ». والرسول قال «امتنعوا من كل شبه شرّ وليقدّسكم اله السلام نفسه تقديسًا كاملًا ولتُحفظ ارواحكم ونفوسكم واجسادكم سالمةً بغير لوم عند مجيء ربنا». واراد بذلك الطهارة من الخطايا والسعي في نعمة الله كالابناء الاحباء”([58]).

   أمَّا في ما يتعلَّق بالمعنى المرتبط بتقديس الكنيسة والمذبح فنجد أنَّ فعل شمِّلي يترافق وفعلَي قِّدش ورشِّم، وكأنَّ هذه الأفعال الثَّلاثة مرتبطةٌ بعضها بالبعض الآخر، ويكمِّل الواحد منها الفعلَين الآخرَين. ويهدف واضِعُ النَّصّ من استخدامها إلى إبراز الـمُعْطَى اللاهوتيّ الَّذي يتحقَّق في رتبة التَّقديس. فالكنيسة تُرسَم (أو توسَم) بالميرون وتُكمَّل به؛ ويُقدَّس الهيكل ويكتمل “برسم الثَّالوث الممجَّد”:

  •  “يُرسَمُ هذا الهيكل، (هيكل) القدِّيس مار فلان،

             ويكتمل (مَّشةملا) بالميرون الحيِّ والمقدَّس (…)،

             باسم الآب †، باسم الابن †، باسم الرُّوح القدس †” (الورقة 23أ).

  •  “(…) يوم تجديد هذا الهيكل المقدَّس، (هيكل) مار فلان،

             الَّذي قُدِّسَ وكُمِّلَ (آةقِّدش واشةِّملي)

   برسْمِ (بروشمؤَّ) الثَّالوث الممجَّد” (الورقة 25أ).

   إنَّ هذَين الفعلَين، أي ةقِّدش وةشِّملا، الـمُستخدَمَين لإبراز دور الثَّالوث القدُّوس وفعاليَّته، بواسطة الوَسْم بالميرون وبالزَّيت على المذبح، يُظهران التَّحوُّل الَّذي يطاول هذا الأخير: إنَّ فعل ةشِّملا الَّذي يُستخدَم في رسامة الكاهن، ويشير إلى التَّغيير الَّذي يطاول كيان الكاهن ويجعله في تماهٍ مع المسيح، الكاهن الأعظم، إذ “يُؤخَذ (الكاهن) من النَّاس، ويُقامُ عن النَّاس في ما هو لله” (عب 5: 1)، هذا الفعل نفسه تستخدمه رُتبةُ تقديس المذبح لكي تَصِفَ التَّغيير والتَّبديل اللَّذَين يطرأان على المذبح، هذا الحجر المأخوذ من الطَّبيعة. فتؤكِّد الصَّلوات على تقديسه وتكميله ليُصبح مؤهَّلًا “لأسرارِكَ (للابن) السَّماويَّة وللذَّبيحة المقدَّسة (…)، ولِـحَلِّ الخطايا ولِمَحو الجهالات الإراديَّة واللاإراديَّة، وللآخرة الصَّالحة (…)، ولكمال كلِّ برّ” (الورقة 36أ، 36ب). وبالتَّالي، يبقى الحجر حجرًا في طبيعته، ولكنَّه يتكرَّس ويتهيَّأ لقبول الخدمة الإلهيَّة الَّتي تتمُّ عليه؛ ويبقى الحجر حجرًا، ولكنَّه يصبح أيضًا “قائمةً مقدَّسةً تُرفَع القرابين عليها لله الواحد”. ويدلّ، أيضًا، “على السيّد المخلّص وكلّ موضع أوى إليه كالمذود (…) والسفينة (…) والجبل (…) والقبر”([59]). ولنقرأ على سبيل المثال، ما يلي:

  •  “نتضرَّعُ إليكَ ونبتهلُ إليك، لكي تُقدِّسَ (ةقِّدش) هذا المذبحَ (…)،

   وليُكَمَّلْ (نشةِّملا) بزيتِ نعمتِكَ وبميرون روحِكَ؛

             لكيما يكونَ، بواسطة المسحة السِّرِّيَّة،

             مذبحًا مقدَّسًا يليقُ بقبولِ الذَّبيحةِ الرُّوحيَّةِ والدَّمِ المقدَّس” (الورقة 34ب).

  •  “نتضرَّعُ إلى عذوبتِكَ (…)،

             أنْ تُقدِّسَ وتُكمِّلَ (ةقِّدش وةشِّملا) بالميرون (…)، هذا المذبح (…)” (الورقة 36أ).   

خاتمة

   قادنا هذا المقال إلى التَّعرُّف إلى قيمة المذبح وأهمِّيَّته استنادًا إلى رُتبة تكريس المذبح بحسب الطَّقس المارونيّ. وما قدَّمْنا هنا سوى بعض الأفكار اللاهوتيَّة الَّتي استنَدَتْ إلى نصوص الرُّتبة، ولا سيَّما إلى الأفعال الَّتي تُستَخدَم في التَّكريس؛ هذه الأفكار الَّتي يجب أنْ تُستَكمَل بدراسةٍ أوسع وأشمل تطاول الكتابات اللاهوتيَّة واللِّيتورجيَّة والقانونيَّة الَّتي ترتبط بالمذبح وتتوسَّع في تبيان دوره وموقعه. يهمُّني أنْ ألفت نظر القارئ إلى مرجعَين أساسيَّين يسهمان في إلقاء نظرةٍ أعمق إلى موضوع مقالنا، وهما منارة الأقداس([60]) وشرح التَّكريسات المقدَّسة([61]) للبطريرك إسطفان الدُّويهيّ. هذا بالإضافة إلى العودة إلى مقرَّرات المجامع المارونيَّة نستنطقها لنعرف ما تتضمَّنه من نصوصٍ مجمعيَّةٍ تتطرَّق إلى المذبح وقيمته ورمزيَّته. كما يجب علينا، استنادًا إلى ما اكتشفناه هنا، أنْ نولي المذبح الأهـمِّيَّة القصوى خلال الاحتفال الطَّقسيّ: فلا يكون طاولةً للزِّينة أو للزُّهور، ولا مكانًا لعرْض الإيقونات والشُّموع والتَّماثيل. ويفترض علينا، من ناحيةٍ أخرى، أنْ نهتمّ بنظافته وترتيبه وبنظافة الشَّراشف الَّتي تُغطِّيه. فالمذبح “هو بمنزلة القلب في البدن (…). و(هو) أقرب سائر الكنيسة الى جسد الرب”([62]).    


([1])        إسطفان الدُّويهيّ، منارة الأقداس، جزءان، عني بطبعه لأوَّل مرَّةٍ عن نسخة دير اللويزة رشيد الخوري الشرتوني، بالمطبعة الكاثوليكية، في بيروت، 1895 و1896 (طُبِعَتْ هذه النَّسخة، من جديد، في منشورات رابطة البطريرك إسطفان الدُّويهيّ الثَّقافيَّة-زغرتا-إهدن، على مطابع جوزف رعيدي، من دون مكان ومن دون تاريخ)؛ هنا، الجزء الأوَّل، ص 140، 141  (= منارة الأقداس).   

([2])         إنَّ كتاب التَّكريسات (أو التَّقديسات) المقدَّسة، بالسُّريانيَّة (كةبا) دةشمًشةا قديًشةا، هو كتاب رؤساء الكهنة فقط؛ إذ يتضمَّن الرُّتبَ الطَّقسيَّة الَّتي يحتفل بها هؤلاء لتكريس الكنيسة والمذبح وجرن المعموديَّة والطَّـبْلِــيت، وتقديس زيت العماد والميرون وزيت مسحة المرضى، إلخ..

([3])        إنَّ هذه الرُّتبة الخاصَّة بتكريس المذبح محفوظةٌ في مخطوطاتٍ مارونيَّةٍ عديدة. ونكتفي هنا بالإشارة إلى أبرز هذه المخطوطات كالآتي: الباريسيّ السُّريانيّ 120 (الَّذي يعود إلى العام 1505)، والفاتيكانيّ السُّريانيّ 310 (مخطوطٌ للبطريرك الدُّويهيّ، نُسِخَ في العام 1694)، والفاتيكانيّ السُّريانيّ 312، ومخطوطات بكركي، القسم الأوَّل، مخطوط رقم 4 (مخطوطٌ للبطريرك الدُّويهيّ، يعود إلى العام 1694)، ومخطوط رقم 36 (هو أقدم مخطوطٍ ويعود إلى العام 1411)؛ ومخطوط سلوان (sloane) 3597 المحفوظ في المكتبة البريطانيَّة (عن هذه المخطوطات وعن غيرها، راجع دانيال زغيب، رُتبة تقديس البيعة ورتبة رَسْم المذبح بحسب إصلاح البطريرك إسطفان الدُّويهيّ. دراسةٌ لاهوتيَّةٌ وليتورجيَّة، (أطروحةٌ لنيل الدُّكتوراه في العلوم اللِّيتورجيَّة)، الكَسْليك-لبنان، 2016 (أُطروحة غير منشورة)، المجلَّد الأوَّل: نصّ الرُّتبتَين السُّريانيّ وترجمته العربيَّة، ص 92-138).  

([4])        راجع مارسيل هدايا، “المذبح بحسب الكنيسة الأنطاكيَّة السُّريانيَّة المارونيَّة”، بحوثٌ مهداةٌ إلى المطران بطرس الجميِّل، الجزء الثَّاني، نشرها أيُّوب شهوان، منشورات جانعة الرُّوح القُدُس-الكَسْليك، معهد اللِّيتورجيَّا، 44،PUSEK، 2009، ص 557-594.  

([5])         راجع Abdo KHALIFÉ et François BAISSARI, Catalogue raisonné des manuscrits de la bibliothèque de la résidence patriarcale maronite (Bkerké), Première Série: Fonds Bkerké, Coll. «Textes et documents historiques», République Libanaise, Ministère du tourisme-Direction générale des antiquités, Beyrouth, 1973, Ms. 4, p. 12.

([6])         راجع مخطوط بكركي 4، طكسا لقودش عدةا آَوكية لرُشمؤَّ (رتبة تقديس البيعة أي رَسْمها)، الورقة 9أ-الورقة 26أ؛ وطكسا درشُم مدبحا (رتبة رَسْم المذبح)، الورقة 26ب-الورقة 39أ.

([7])     راجع دانيال زغيب، “البيعة، سُكنى الله وسط البشر. مقاربةٌ لاهوتيَّةٌ مارونيَّة”، المجلَّة الكهنوتيَّة 47، 1 (2017) 115-136؛ وراجع أيضًا دانيال زغيب، “«نؤمن بكنيسةٍ مقدَّسة». نظرةٌ لاهوتيَّةٌ وليتورجيَّةٌ مارونيَّة”، المجلَّة اللِّيتورجيَّة 9، 33-34 (2016) 30-37.  

([8])    عن هاتَين الرُّتبتَين، راجع دانيال زغيب، “رتبة تقديس الكنيسة ورتبة رسْم المذبح في اللِّيتورجيَّا المارونيَّة. قراءةٌ تمهيديَّة”، مجلَّة الإكليريكيَّة، العدد 16 (نيسان 2017) 79-100.  

([9])    بشأن المذبح، بشكلٍ عامّ، راجع بولس الفغالي، المحيط الجامع في الكتاب المقدَّس والشَّرق القديم، منشورات المكتبة البُولسيَّة/ جمعيَّة الكتاب المقدَّس، طبعةٌ أولى، 2003، ص 1172-1173.  

([10])   راجع جبرائيل القرداحيّ، أللُّباب. قاموس سريانيّ-عربيّ، إعداد وتقديم غريغوريوس يوحنَّا ابراهيم، سلسلة “التُّراث السُرياني”- 11، دار ماردين، حلب، الطَّبعة الثَّانية، 1994، ص 225-226.  

([11])   راجع P. RENARD, «Autel», Dictionnaire de la Bible, tome 11, F. VIGOUROUX (Édition), Letouzey et Ané, Paris, 1926, col. 1266-1277 (ici, col. 1266).                 

([12])    منارة الأقداس، الجزء الأوَّل، ص 138.

([13])    المرجع نفسه، ص 141.

([14])      راجع، على سبيل المثال، كتاب القدَّاس بحسب طقس الكنيسة الأنطاكيَّة السُّريانيَّة المارونيَّة، سريانيّ-عربيّ (الحجم الصَّغير)، بكركي، 2005، ص *47 (= كتاب القدَّاس).

([15])      المرجع نفسه، ص *61.

([16])      منارة الأقداس، الجزء الأوَّل، ص 140.  

([17])      راجع، على سبيل المثال، المراجع الآتية خر 25: 23، 27، 28، 30؛ 26: 35؛ 39: 36؛ 40: 4، 22؛ عد 3: 31؛ 2 أخ 9: 4؛ 13: 11؛ 1 مك 1: 22؛ 4: 49، 51؛ عب 9: 2.  

([18])      راجع خر 25: 30؛ 39: 36؛ عب 9: 2.  

([19])      بولس الفغالي، “طاولة، (الـ)“، في: بولس الفغالي، المحيط الجامع في الكتاب المقدَّس والشَّرق القديم، ص 778-779.  

([20])      لمعلومات أوسع وأشمل عن هذا الموضوع، راجع R. DE VAUX, Les institutions de l’Ancien Testament, Tome II, Les Éditions du Cerf, Paris, 1960, p. 289-290.                                 

([21])      بشأن الارتباط الوثيق بين الأقانيم الثَّلاثة في عمل التَّقديس، راجع Vladimir LOSSKY, Théologie dogmatique, édité par Olivier CLÉMENT et Michel STAVROU, Coll. «Patrimoines – Orthodoxie», Les Éditions du Cerf, Paris, 2012, p. 50-51, 168-169.         

([22])      إسطفان الدُّويهيّ، شرح التَّكريسات والشَّرْطونيَّة، نشرهُ لأوَّل مرَّةٍ عن نسخة الخزانة البطريركيَّة رشيد الخوري الشَّرتونيّ، المطبعة الكاثوليكيَّة، بيروت، 1902، ص 21 (= شرْح التَّكريسات). 

([23])      راجع مخطوطات بكركي، القسم الأوَّل، بكركي 29، الورقة 120ب؛ وراجع أيضًا بكركي 4، الأوراق 14أ (مرَّتين)، 23ب، 32أ.

([24])      راجع الورقة 37ب.  

([25])     جبرائيل القرداحيّ، أللُّباب. قاموس سريانيّ-عربيّ، ص 196.

([26])      منارة الأقداس، الجزء الأوَّل، ص 142.

([27])      راجع مز 18 (17): 3؛ 59 (58): 10، 18؛ 62 (61): 3، 7؛ إر 16: 19.

([28])      جبرائيل القرداحيّ، أللُّباب. قاموس سريانيّ-عربيّ، ص 976-977.

([29])      المرجع نفسه، ص 171.

([30])      L. MANLOUBOU et F. M. DU BUIT, Dictionnaire Biblique Universel, Desclée, Paris, 1984, p. 667-669 (ici, p. 667). 

([31])      إنَّه أوَّل التَّقليدَين الكتابيَّين اللَّذَين يرتبطان بالأسفار الخمسة الأولى من التَّوراة. وقد سُـمِّي باليَهوهيّ لأنَّه يستعمل دومًا لفظة “يهوه” كاسمٍ لله، منذ رواية الخلق الثَّانية (راجع تك 2: 4ب). أمَّا التَّقليد الكتابيّ الثَّاني فيُدعى باسم “الإلوهيميّ”، نسبةً إلى الاسم الإلهيّ “إلوهيم” (راجع بولس الفغالي، “تقليد (الـ  ̴  اليَهوهيّ)“، في: بولس الفغالي، المحيط الجامع في الكتاب المقدَّس والشَّرق القديم، ص 372-373).  

([32])      بولس الفغالي، “قدسيَّات، (الـ)“، في: المرجع نفسه، ص 963-968 (هنا، ص 964).  

([33])      راجع “قدُّوس، قدِّيس”، في: مُعجَم اللَّاهوت الكتابيّ، دار المشرق، بيروت، طبعةٌ ثالثة، 1991، ص 619-623 (هنا، ص 621).  

([34])      راجع خر 24: 16؛ تث 12: 11؛ 14: 23-24.  

([35])      راجع عد 11: 25؛ 1 أخ 12: 19؛ 2 أخ 15: 1؛ 20: 14.  

([36])      أفرام السُّريانيّ، أناشيد الميلاد، ترجمها وقدَّم لها يوحنَّا يشوع الخوري، منشورات جامعة الرُّوح القدس، كلِّيَّة اللاهوت الحبريَّة، سلسلة “مؤلَّفات مار أفرام السُّريانيّ”- 1، الكَسليك-لبنان، 1994، ص 123.

([37])      المرجع نفسه، ص 137.

([38])      راجعBoris BOBRINSKOY, Communion du Saint-Esprit, Coll. «Spiritualité Orientale»- 56, Abbaye de Bellefontaine, Bégrolles-en-Mauges, 1992, p. 66.                

([39])      راجع بكركي 8، ص 170؛ وبكركي 29، الورقة 132ب.

([40])      جبرائيل القرداحيّ، أللُّباب. قاموس سريانيّ-عربيّ، ص 1106.

([41])      المرجع نفسه، ص 466.

([42])      جبرائيل القرداحيّ، أللُّباب. قاموس سريانيّ-عربيّ، ص 472.

([43])      رُتبة سرِّ العماد وسرّ الميرون بحسب طقس الكنيسة الأنطاكيَّة السُّريانيَّة المارونيَّة، بكركي، 2003، ص 52.

([44])        كتاب القدَّاس، ص * 45.

([45])        المرجع نفسه.

([46])      Michel RAJJI, «Une anaphore syriaque de Sévère pour la Messe des présanctifiés», ROC, 3ème série, 21, I (1918-1919) 25-39 (ici, p. 34).                

([47])      القدَّاس السَّابق تقديسه يوم جمعة الآلام، (للاختبار)، الكَسْليك، 1997، ص 4. 

([48])      المرجع نفسه، ص 5.

([49])      راجع Ignace ZIADÉ, «Présanctifiés (Messe des)», DTC, 131, col. 77-111 (ici, col. 91) 

([50])     Michel RAJJI, Op. Cit., p. 33. 

([51])      أغوسطين مهنَّا، “لوحةٌ أولى من تاريخ العماد في الكنيسة المارونيَّة. عن المخطوط الفاتيكانيّ رقم 313″، المنارة 22، 2 (1981) 449-477 (هنا، ص 455). لا نجد النَّصّ السُّريانيّ في هذا المقال المكتوب باللُّغة العربيَّة، لذا عُدنا إلى المؤلَّف الفرنسيّ الَّذي كتبه المؤلِّف نفسه، وأخذنا منه الأفعال السُّريانيَّة الَّتي تهمُّنا، راجعAugustin MOUHANNA, Les rites de l’initiation dans l’église maronite, Coll. «Orientalia Christiana Analecta»- 212, Séries «XPICTIANICMOC»- N0 1, PIO, Roma, 1980, planches X-XI.

([52])      المرجع نفسه، ص 465-466 (planche XXVI).

([53])      المرجع نفسه، ص 471 (planche XXXIV).

([54])        لمعلوماتٍ أوسع وأشمل، راجع أغوسطين مهنَّا، “لوحةٌ ثانيةٌ من تاريخ العماد في الكنيسة المارونيَّة. اللاهوت العماديّ”، المنارة 22، 3 (1981) 621-632.

([55])        يُعرِّف المنجد في اللُّغة والأعلام بـ”وسم”، كالآتي: “وَسَمَ يَسِمُ وَسْـمًا وسِـمَةً هُ: كواه وأَثَّرَ فيه بسمةٍ أو كيّ اا جعلَ له علامةً يُعرَف بها”   (طبعةٌ جديدةٌ منقَّحة، الطَّبعة السَّابعة والثَّلاثون، دار المشرق، 1998، ص 900).

([56])      ونجد، في صلاةٍ أخرى تتوجَّه إلى الله، هذا التَّشديد نفسه على أنَّ الهدف من تقديس الهيكل هو أنْ يكون مكانًا تحلُّ فيه الألوهة، وعلى أنَّ التَّقديس يُـحَوِّل مكانَ العبادة هذا “من البساطة إلى القداسة”. وهذا نصّ الصَّلاة، كالآتي: “أنتَ، يا ربُّ، إستَجِبْنا، في هذا الوقت، وقدِّسْ هيكلَكَ هذا، (…)، ولتَحِلَّ فيه ألوهيَّتُكَ (ءلؤوةك) السَّامية، ولتُجَدِّدْهُ (ةحِّدةيوؤٍّي) من البساطة إلى القداسة” (الورقة 22أ).

([57])      جبرائيل القرداحيّ، أللُّباب. قاموس سريانيّ-عربيّ، ص 1170، 1171.

([58])      منارة الأقداس، الجزء الأوَّل، ص 186-187.

([59])      المرجع نفسه، ص 138، 140.

([60])      المرجع نفسه، ص 116-120، 138-145.

([61])      شرْح التَّكريسات، الفصل الثاني: في تكريس المذبح، ص 18-22.

([62])      منارة الأقداس، الجزء الأوَّل، ص 137.

Scroll to Top