Almanara Magazine

المجمع الفاتيكانيّ الثاني في ذكراه الخمسين من الحدث إلى واقع الحياة الكنسيّة

الأب كابي ألفرد هاشم

استهلّت الكنيسة الكاثوليكيّة في خريف 2012 الاحتفال بمرور خمسين سنة على انعقاد المجمع الفاتيكانيّ الثاني (1962-1965) الذي تعتبره بحقٍّ الحدث الروحيّ الأبرز في القرن العشرين. وفي خضمّ هذا الاحتفال، لا بدّ لنا، نحن أبناء الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة من المشاركة في عمليّة تفكّرٍ رصين لنلقي الأضواء على ما أصابنا من هذا الحدث الكبير، ولنبيّن إسهام آبائنا في أعماله، ولنتفقّد مدى تأثير نتائجه على حياتنا الكنسيّة من خلال قبولنا لنصوصه والسعي إلى شرحها وتمثّلها في حياتنا وواقعنا…

أوّلاً : المجامع في حياة الكنيسة وتاريخها

لا يسعنا دراسة المجمع الفاتيكانيّ الثاني باعتباره حدثًا منفصلاً عن ما سبقه من مجامع في تاريخ الكنيسة، فهو واحدٌ من سلسلة مجامع تنوّعت من حيث طبيعتها، والدعوة إليها، وطريقة إدارتها، وعدد المشاركين فيها وانتماءاتهم، والنتائج التي توصّلت إليها، وتقبّلها من الشعب أو رفضه لها. فلا بدّ أوّلاً من التذكير بأنّ الخبرة المجمعيّة تعبّر عن حالةٍ في الكنيسة التي نعرّفها، كما أكّد على ذلك المجمع الفاتيكانيّ الثاني نفسه، بأنّها شركةٌ تنحدر من الشركة الثالوثيّة. هي شركة حبٍّ وإخلاءٍ على مثال الشركة بين الآب والابن والروح القدس. وهي شركةٌ بالله وبالناس أجمعين. فلا كنيسة ما لم تكن “مجمعًا” أو “شورى” تهتدي بإلهام الروح القدس وأنواره، وتسير في خطى المسيح مؤسّسها ومعلّمها ومثالها، في العبادة التي تقودها إلى الحياة الإلهيّة التي يهبها لنا الآب. هكذا فهمت الكنيسة الأولى في أوشليم طبيعتها ورسالتها، وهكذا عاشت سرّ الشركة، كما ورد في أعمال الرسل، في الفصل الثاني: ” وكان جميع المؤمنين معًا. وكان كلّ شيءٍ مشتركًا فيما بينهم؛ وكانوا يبيعون أملاكهم ومقتنايتهم ويوزّعون على الجميع بحسب حاجة كلّ واحدٍ منهم…” (44-45). وقد عاشت الكنيسة في عهد الرسل أوّل خبرةٍ مجمعيّة في ما عُرف بمجمع الرسل، الفريد في تاريخ الكنيسة، والذي عُقد على الأرجح بين سنة 49 و50 للتداول في مسألةٍ خطيرة تتعلّق بدعوة الله الشاملة وخلاص المسيح الشامل على الصليب[1]. وقد خرجت الكنيسة من هذا المجمع بانفتاحٍ على العالم جعلها تتخطّى حدود الديانة اليهوديّة وشروط الانتساب إليها كعبورٍ ملزِمٍ للوصول إلى البشرى الصالحة التي نادى بها يسوع. وإن دلّ هذا الاختبار المجمعيّ إلى أمرٍ فإلى عمق الشراكة الروحيّة والحياتيّة بين جميع أفراد الكنيسة على الرغم من ترتيبهم ووظائفهم. فالجميع شاركوا في الحدث، ولكن كلّ على قدر مهمّته. الشعب المؤمن أصغى وتابع وتقبّل بفرح الروح النتائج. أمّا الرسل وشيوخ المدينة المقدّسة، فتداولوا وناقشوا وقرّروا بهدي الروح القدس. ومن الجدير بالذكر أنّ هذا المجمع جرت أحداثه ضمن إطار الصلاة والتفكّر والتمييز المتجلّي بأبهى حلاه.

إنّ ما جرى في مجمع أورشليم كان امتدادًا لما تعيشه كلّ جماعة مسيحيّة على مستوى ما قد نسمّيه الكنيسة الجامعة في مسألةٍ خطيرة تطال الإيمان ومصير الرسالة والأمانة في نقل إنجيل يسوع المسيح. وهذا يعني أنّ كلّ جماعة كانت تؤلّف مجمعًا حين تلتئم كنيسة للاحتفال بسرّ المسيح. فلا وظيفة كنسيّة ولا أسرار خارج هذا المحفل الإفخارستيّ : كنيسة الله في مكانٍ أو محلّ، في ما هو أبعد من المجال الجغرافيّ، أي في عمق النسيج البشريّ بشتّى قرائنه. من هنا أهميّة الكنيسة المحلّيّة في عيش سرّ المسيح ونقله. لكنّ ظهور البدع وتفشّي أخطارها حمل الكنائس في الإقليم الإنطاكيّ أوّلاً، حيث كانت تنعم بشيءٍ من الحريّة بخلاف الكنائس المنتشرة في رحاب الإمبراطوريّة الرومانيّة، بعد النصف الثاني من القرن الثاني، على الاجتماع مرّتين في السنة للتباحث في الشؤون المشتركة والتنسيق والتدبير. وهكذا وُلدت المجامع الإقليميّة التي كانت في أساس نظامنا البطريركيّ الحاليّ. وذلك قبل أن يعمد الإمبراطور قسطنطين الكبير، في الربع الأول من القرن الرابع، إلى الدعوة لانعقاد أوّل مجمعٍ مسكونيّ في مدينة نيقية، سنة 325، لدحض تعاليم آريوس الراهب الإسكندرانيّ المنكِرة لتجسّد كلمة الله الأزليّ. ومن الجدير بالذكر أنّ المجامع الإقليميّة كانت دوريّةً، أمّا المجامع المسكونيّة فهي استثنائيّة، عُقدت لمحاربة هرطقةٍ خطيرة أو درء خطرٍ على الكنيسة يهدّد طبيعتها أو رسالتها. ولقد بيّنت كلّ ذلك في مقالين نشرتهما حول النظام البطريركيّ والشركة الكنسيّة في أنطاكيا، وحول البنية والروح المجمعيّة في خضمّ التفكّر حول مستقبل الحضور المسيحيّ في الشرق[2].

إنّ الاعتراف بالمجامع المسكونيّة مرتبطٌ بقبول مقرّراتها وصحّة تعاليمها، ولذلك عددها يختلف من كنيسةٍ إلى أخرى. فالكنيسة الأشوريّة لا تقبل إلاّ بمجمع نيقيا وبمجمع القسطنطنيّة الأوّل (381) الذي يكمّل عمله لجهة صياغة قانون الإيمان. والكنائس الشرقيّة الأرثوذكسيّة، أي القبطيّة والسريانيّة والأرمنيّة مع تفرّعاتها الحبشيّة والهنديّة لا تقبل بمجمع خلقيدونيا (451) ولا بما يليه من المجامع. في حين تتوقّف الأرثوذكسيّة البيزنطيّة، أي كنائس الروم، في اعترافها وقبولها عند مجمع نيقيا الثاني (787) وهو السابع في لائحة المجامع. أمّا الكنيسة الكاثوليكيّة، فقد تابعت هذا التقليد المجمعيّ واحتفلت به على مرّ العصور، حتّى المجمع الفاتيكانيّ الثاني الذي هو الثاني والعشرون في سلسلة المجامع التي تدعوها مسكونيّة. ومن الغنيّ عن القول أن معايير مسكونيّة المجامع صعبة التحديد ولا تتيح أيّ توافقٍ كنسيّ حولها.

ثانيًا: ارتباط المجمع الفاتيكانيّ الثاني وأهدافه بالمجامع السابقة

إنّ تفرّد الكنيسة الكاثوليكيّة بعقد مجامع مسكونيّة طوال الألف الثاني من تاريخ المسيحيّة، على الرغم من مشاركة بعض الشرقيّين في مجمعي ليون الثاني (1275) وفلورنسا (1438-1439)، قد أسهم في التوصّل إلى تحديدات المجمع الفاتيكانيّ الأوّل (1870) حول صدارة البابا وسلطانه الشامل على جميع المؤمنين وكلّ الكنائس في المسكونة، وحول عصمته العقائديّة. وقد جاء تفسير هذين القرارين العقائديين، والاستناد إليهما في كلّ الشؤون الكنسيّة وما يرتبط بالبابويّة طوال الفترة الممتدّة من المجمع إلى سنة 1959، ليُبعدا عن أذهان المؤمنين الكاثوليك ورعاتهم النموذج المجمعيّ، الذي بدا وكأنّه ولّى إلى غير رجعة. وقد صار البابا هو مصدر السلطة بكاملها وصاحب العصمة، يعلو فوق المجامع ولا تعلو فوق سلطته سلطةٌ أرضيّة. لذلك فاجأت دعوة البابا يوحنّا الثالث والعشرين إلى عقد مجمعٍ مسكونيّ الكنيسة جمعاء والعالم بأسره[3]. فإنّ حبريّته بانت منذ لحظة انتخابه فترةً انتقاليّة بعد حبريّة البابا بيّوس الثاني عشر الطويلة (1939-1958) تتيح للكنيسة الكاثوليكيّة الاستعداد من خلال إعداد رؤيةٍ مستقبليّة واضحة لمرحلةٍ جديدة من تاريخ البابويّة. ولا ننسى أنّ تقدّم البابا يوحنّا في السنّ (77 سنة عند انتخابه) ومرضه يؤكّدان هذا الأمر. غير أنّ البابا تخطّى هذه الرؤية المرسومة وسار بهدي الروح واضعًا كلّ ما لديه من خبرة في خدمة  الكنيسة ورسالتها العظيمة. فما الذي حدا بيوحنّا الثالث والعشرين إلى القيام بمثل هذه الخطوة الجريئة؟

كانت الكنيسة الكاثوليكيّة تعيش في نوعٍ من الغربة عن العالم منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولا سيّما بعد لائحة الأضاليل التي أرفقها البابا بيوّس التاسع رسالته العامّة حول العناية بالأنفس، ليُطلق فيها الحرم ضدّ الديمقراطيّة والاشتراكيّة والحداثة الليبراليّة والماسونيّة… [4] وقد أدّى توحيد إيطاليا بعد الاستيلاء على الإمارات البابويّة إلى حصرها ضمن أسوار الفاتيكان وإصرار الباباوات منذ ذلك الحين على عدم الخروج منها احتجاجًا إلى تنامي هذه الغربة. كما أسهمت الأحداث والتغييرات التي شهدها القرن العشرون في مجال العلم والتقنيّة من حيث الاختراعات والتطوّر إلى ثورة حقيقيّة أثارت في نفوس المؤمنين التساؤلات حول علاقة الكنيسة بالعالم وحول مستقبل الإيمان. ولقد كان البابا يوحنّا الثالث والعشرون من الذين يعون حقيقة هذه الأمور لا سيّما وأنّه عاش خبراتٍ دبلوماسيّة ومسكونيّة فريدة في صوفيا وأثينا وباريس، حيث خدم كسفيرٍ بابويّ، ممّا أتاح له الاطّلاع عن قرب على أحوال العالم والكنائس. لذلك أصرّ عند إعلانه عن المجمع المسكونيّ على تحديد هدفين له: ملاءمة أحوال العصر من خلال إعادة النظر في فهم الكنيسة لطبيعتها ورسالتها على ضوء ما سلّمه إليها الربّ يسوع[5]، والسعي إلى الوحدة المسيحيّة. ولا ريب في انّ حركات التجدّد اللاهوتيّ والآبائيّ والليتورجيّ والكتابيّ التي تفتّقت في العقدين الرابع والخامس من القرن العشرين في الكنيسة الكاثوليكيّة قد أسهمت في التحضير لفكرة انعقاد مجمعٍ جديد. فمنذ 1943، أصبح بإمكان علماء الكتاب المقدّس الكاثوليك الانفتاح على علم التفسير، وعلى تحليل الفنون الأدبيّة، ودراسة النصوص في لغّاتها الأصليّة…[6] ممّا أفسح في المجال أمام انطلاقة العلوم الكتابيّة. وفي سنة 1942 نشر الأبوان اليسوعيّان هنري ده لوباك وجان دانييلو سلسلة الينابيع المسيحيّة التي تتضمّن كتابات الآباء القدّيسين في النصّ الأصليّ وترجمته الفرنسيّة مع دراسة نقديّة. أمّا التجدّد اللاهوتيّ، فتحقّق على صعد ثلاث، منها الخروج من اللاهوت المدرسيّ والتوجّه نحو لاهوتٍ يأخذ بعين الاعتبار المعطيات التاريخيّة وتطوّر الخطاب حول الإلهيّات، وتحسّس أهميّة الكهنوت العامّ ودور العلمانيّين في بناء الكنيسة انطلاقًا من حركة الشباب الكاثوليكيّ وغيرها من التيّارات الرسوليّة التي أعادت إلى الفهم اللاهوتيّ مسألة شعب الله، وأخيرًا الانفتاح على سرّ الكنيسة في بعديه الإلهيّ والتاريخيّ بعد الخروج من المفهوم القانونيّ الضيّق الذي جعل منها، طوال أجيال، مجتمعًا كاملاً ومكتفيًا بذاته، بل مستقلاًّ عن العالم ومؤسّساته. وغنيٌّ عن القول أنّ كلّ محاولات التجدّد هذه قد أفضت، بمبادرةٍ من دون لومبير بودوان الراهب البندكتي البلجيكيّ إلى حركة انتعاش ليتورجيّ تتوخّى إشراك المؤمنين في العبادة والطقوس وإحياء الليتورجيا من الداخل. فلا يسعنا عزل الدعوة إلى المجمع الفاتيكانيّ الثاني عن هذه الخلفيّة التي قامت خجولةً ولكن راسخة حتّى أتت ثمارها الوفيرة.

يبدو جليًّا أن المجمع الفاتيكانيّ الثاني لم يُعقد لمعالجة هرطقةٍ عظمى كغيره من المجامع السالفة، بل حدّد له البابا يوحنّا هدفًا نبويًّا يرتبط بتحديث الكنيسة لتعريفها عن ذاتها انطلاقًا من سرّ المسيح، من جهة، وواقع العالم الحاليّ، من جهةٍ أخرى. ولا يسع الكنيسة عندئذٍ أن تُغفل مسألة الوحدة المسيحيّة ضمن هذا الهدف. ولكنّ الدعوة إلى المجمع أمرٌ وسبل تحقيقه على أرض الواقع أمرٌ آخر أثار قلق الدوائر الرومانيّة وخشيتها من عدم القدرة على تأمين مستلزمات اجتماعٍ عالميّ كهذا لأكثر من ألفي اسقفٍ وما يرافقه من ترتيباتٍ وعمل خبراء على الأصعدة كافةً.

لقد أراد قداسة البابا يوحنّا الثالث والعشرون تجديد الكنيسة  الذي يكمن سرّه في عرفه “في أنّ الإصلاح فيها ليس ثورةً كسائر الثورات، بل تحوّلٌ في القلوب، وفي أنّ الترميم يتخطّى كونه العودة إلى حالةٍ سابقة وحسب، ليتحوّل إلى عودةٍ إلى الأصول، وإعادة اتّصال طبيعيّة بالإنجيل المقدّس والتقليد القديم…[7]. هذا كان قلب الرهان الذي جعل من المجمع الفاتيكانيّ الثاني “عنصرةً جديدة” تنطلق منها الرسالة انطلاقةً جديدة. وكلّ عنصرة اعتلانٌ بهيٌّ للوحدة التي تجلّت باتفاق الألسن الناريّة النازلة من الروح القدس، والألسن الكنسيّة الناجمة عن التناغم والتآلف بين الجميع. وعلى الرغم من الترحيب بهذه اللفتة المسكونيّة النبويّة، خيّم بعض الحذر والارتباك حيال إمكانيّة التقدّم في هذا المجال مع الكنائس والجماعات المسيحيّة على اختلافها. ولطالما تساءل المعنيّون ومنهم مساعدو البابا، حول السبل التي يجب اعتمادها لإضفاء الصفة المسكونيّة الموحِّدة على أعمال المجمع ووثائقه المرتقبة ونتائجه العمليّة.

ثالثًا: تنظيم المجمع وفق القانون الكنسيّ وسير الأعمال

  • قانون المجمع

خضع المجمع، من الناحية القانونيّة، لما نصّ عليه الحقّ القانونيّ الصادر سنة 1918. فكان مجمع الأساقفة الكاثوليك في العالم، بناءً على دعوةٍ من البابا الذي رئسه بنفسه أو أناب عنه من يترأس الجلسات وأعمالها[8]، و ثبّت مقرّراته ووثائقه. شارك في المجمع بصوتٍ تقريريّ الكرادلة والبطاركة ورؤساء الأساقفة والأساقفة الأصيلون والشرفيّون، وبعض الرؤساء العامّين للرهبانيّات الكبرى. وقد أضيف إلى هؤلاء بدءًا من الدورة الثانية النوّاب والزوّار الرسوليّون. كما تمّ تعيين لاهوتيّين بصفة مستشارين وضعوا في خدمة المجمع[9]، وسُمح للآباء الاستعانة بخبرائهم الأخصّاء. أمّا العلمانيّون، فلم يحضر منهم إلاّ من كان مدعوًّا بدعوةٍ شخصيّة من البابا نفسه، وجلسوا في المكان المخصّص للمراقبين، واقتصر دورهم على الاستماع وإبداء الملاحظات في أمانة سرّ المجمع. غير أنّ البابا بولس السادس قرّر إعطاء الكلمة لاثنين منهم، في الدورة الأخيرة، هما الأستاذ جان غيتون والسيّد فيتّورينو فيرونيز[10].

  • دعوة المراقبين من الكنائس والجماعات غير الكاثوليكيّة 

دار النقاش طويلاً في الدوائر الرومانيّة المختصّة، ولا سيّما في أمانة سرّ وحدة المسيحيّين، حول دعوة الكنائس والجماعات غير الكاثوليكيّة إلى المجمع. وأخيرًا قرّ الرأي على توجيه الدعوات لإرسال مراقبين. وقد لاقت هذه الخطوة استحسانًا كبيرًا عمّ الأوساط المسيحيّة بأسرها. وبين الدورة الأولى، حيث حضر عشرون مندوبًا والدورة الرابعة حيث قارب عددهم الأربعين، لعب المراقبون المنتدبون دورًا إيجابيًّا وكان لحضورهم الأثر البالغ[11]. وأُضيف إلى هؤلاء بعض الضيوف الذين دعتهم أمانة سرّ الوحدة ومن بينهم روجيه شوتز، مؤسّس مركز تيزيه المسكونيّ في فرنسا، والبروفسور أوسكار كولمن، اللاهوتيّ اللوثريّ الشهير، والدكتور بركوير من جامعة أمستردام، والأسقف الأرثوذكسيّ أنطوان من جنيف، والأسقف كاسيان عميد معهد سان سرج في باريس، والأب ألكسندر شميمان نائب عميد معهد القديس فلاديمير في نيويورك. وقد علّق الأخ شوتز على دعوة المراقبين بقوله : ” لقد لمسنا جرأة البابا يوحنا الثالث والعشرين ومحبّته، بدعوة مراقبين غير كاثوليك إلى حضور المجمع، وإقامتهم بين أبناءه، في حضن الأسرة الكاثوليكيّة. فلنكن بدورنا جريئين، ولا ننظرنّ إلى الوراء بل إلى ما يجب علينا القيام به الآن. إنّ إجماع الآباء على قبول المراقبين لخير مشجِّعٍ للحركة المسكونيّة…

جاءت دعوة الإخوة المراقبين إلى المشاركة في المجمع بمثابة خطوةٍ كبيرة تعد بالتقدّم على طريق الحوار في سبيل تحقيق الوحدة المسيحيّة. لقد احتضنت أمانة سرّ المسيحيّين المراقبين وأخذت ملاحظاتهم بعين الاعتبار وأفادت من خبرات كنائسهم اللاهوتيّة والروحيّة. لقد كانت لهم حريّة التعبير واللقاء والمشاركة في حلقات الأساقفة على اختلاف انتماءاتهم. وقد أسهموا من خلال المحاضرات التي ألقوها والدراسات التي تقدّموا بها في إغناء النقاش وعمقه، وفي إيضاح بعض المسائل الخطيرة مثل الجماعيّة الأسقفيّة، ومركزيّة الكتاب المقدّس وغيرها.

  • افتتاح المجمع وانطلاقته

افتتح البابا يوحنا المجمع في الحادي عشر من شهر تشرين الأول سنة 1962. وقد انطلق الطواف من القصر البابويّ إلى كنيسة القديس بطرس وضمّ حوالي 2540 حبرًا من أحبار الكنيسة، وجمعًا غفيرًا من المدعوّين الرسميّين. وبعد الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة التي ترأسها قداسته من على الكرسيّ البابويّ، تمّ إعلان الإيمان القويم وتلته لائحة الحرمانات التي لم تأخذ بعين الاعتبار ممثّلي الكنائس والجماعات الأخرى. لكنّ خطاب البابا أضفى على هذا الاحتفال الكلاسيكيّ الجامع شيئًا من الحيويّة الروحيّة وبثّ الأمل في قلوب المؤمنين في العالم بتبنّيه روح الانفتاح والمحبّة والتجدّد بخلاف سائر عناصر هذه الجلسة الافتتاحيّة التي ذكّرت بأجواء القرون الوسطى.

قلب البابا يوحنا الثالث والعشرون أمام العالم صفحةً جديدة من صفحات تاريخ الكنيسة، أرادها بيضاء نقيّة، تزيّنها المحبّة وتوشّيها روح الوحدة والإخاء. لفت في مطلع خطابه إلى الظروف المناسبة والاستثنائيّة التي استدعت عقد هذا المجمع مبديًا انزعاجه من المشكّكين بإمكانيّة تحقيقه تغييرًا في واقع الكنيسة. وقد أوضح المهمّة الأساسيّة الملقاة على عاتق الآباء والتي تتمثّل بالحفاظ على نصاعة الإيمان والتعبير عنه ضمن الأمانة بأسلوبٍ عصريّ ملائمٍ للحاجات والأوضاع، فلا يكون تكرارًا لما ورد في المجامع السالفة. كما شدّد على وجوب اعتماد روح المحبّة والرحمة والفقر الإنجيليّ بعد الأخذ بعين الاعتبار لمسؤوليّة الكنيسة في جمع شمل الأسرة البشريّة.

التقى قداسة البابا في اليوم التالي للافتتاح البعثات الدبلوماسيّة المشاركة في معبد سكستين الشهير وبيّن لهم اهتمام الكنيسة بحاجات العصر وانكبابها على لعب دورٍ إيجابيّ حتّى يتمكّن البشر من الانقياد بارتياحٍ إلى ما يقود إلى تحقيق الأخوّة الحقيقيّة بعيدًا من ذهنيّة الاستعمار والسيطرة، بل بالسعي إلى إنقاذ السلام العالميّ المهدّد الذي من شأنه إعلاء الشعوب في احترام الشخص البشريّ، وتأمين الحريّة المدنيّة والدينيّة العادلة للجميع. وفي الثالث عشر من تشرين الأول، استقبل رجال الصحافة والإعلام مشدّدًا على طبيعة المجمع الروحيّة وعلى رسالته طالبًا منهم الأمانة في تبيان حقيقة ما يجري فيه. ثمّ التقى المراقبين في حدثٍ ارتدى طابعًا عائليًّا، جلس فيه معهم، وتلا على مسامعهم آياتٍ من المزمور 67 قبل أن يكلّمهم بفيض ما في قلبه، في ما هو أشبه بشهادةٍ حيّة مذكّرًا بما عاشه خلال تولّيه مهمّاتٍ في صوفيا، واسطنبول، وأثينا، وباريس… والغنى الذي اكتسبه من العلاقات مع الكنائس والجماعات المختلفة. قال لهم : ” ليس في ذاكرتي أيّ أثرٍ لاختلافٍ على صعيد المبادئ، ولا على صعيد المحبّة في العمل المشترك الذي فرضته الأحداث لجهة إسعاف المحتاجين والمتألّمين. كلام ولا جدل؛ محبّة ولا نقاش؛ تلك كانت علاقاتنا… إنّ وجودكم الغالي بيننا، يملأ قلبي تأثرًا، قلب الكاهن والأسقف، وكذلك قلوب معاونيّ وقلوبكم… كلّ هذا يدعوني إلى أن أبوح لكم بأمنية قلبي الذي يتوق إلى العمل والألم في سبيل تقريب الساعة التي تتحقّق فيها، للجميع، صلاة يسوع في أثناء العشاء الأخير…

  • عمل الدوائر الرومانيّة

حاولت الدوائر الرومانيّة منذ انطلاقة المجمع الإمساك بزمام الأمور من خلال أمين سرّ المجمع المونسنيور فليتشي. وهذه الوزارات في خدمة البابا لمساعدته على الإدارة الكنسيّة العامّة، كانت تشكّل عنصرًا أساسيًّا في توجيه أمور الكنيسة. وتنظيمها كان لا يزال قائمًا إبّان الدورة الأولى على ما قرّره البابا سكتوس الخامس عام 1588، وبعض التعديلات التي أدخلها البابا بيوس العاشر سنة 1908، ومن ثمّ البابا بندكتوس الخامس عشر سنة 1917. وفيما بعد، قام البابا بولس السادس، الذي سلخ في ربوع هذه الدوائر السنين الطوال، بتجديد بعض مرافقها معتمدًا تدويلها بعد أن كانت محصورة بالإيطالييّن، وإشراك المصفّ الأسقفيّ العالميّ في مسؤوليّاتها، ونشر الروح المسكونيّة بخلق جوّ انفتاحٍ فكريّ وروحيّ، وتوجيهها نحو البعد الراعويّ في مساندة الأساقفة المحلّيين.

  • أعمال المجمع على امتداد دوراته

سارت أعمال الدورة الأولى بشيءٍ من التردّد والصعوبة بسبب قلّة خبرة الجميع في التعاطي مع هذه المسؤوليّة الخطيرة, ولضعف مشاريع النصوص المطروحة للبحث. كانت شبه مقدّمة تمهيديّة، بطيئة واحتفاليّة، وجهدًا بالغًا للدخول في صميم الغاية التي يريدها الله. ولكنّ الآباء، سرعان ما اختاروا في معظمهم التوجّه وفق تيّارٍ لاهوتيّ حيّ وديناميّ يختلف عن التيّار التصوّريّ العقليّ الذي غلب طابعه على المشاريع الأولى. وقد اقتضى الأمر إعادة النظر في معظم المشاريع المطروحة وأدّى إلى خلق أقليّةٍ متمسّكة ومحافظة لم تتبنَّ التوجّه الجديد. ولا ريب في أنّ التفاعل الفكريّ واللاهوتيّ بين الأكثريّة والأقليّة أسهم في حيويّة المجمع وسعيه إلى الحقيقة. وقد أصرّ البابا يوحنّا الثالث والعشرون على إعلان وثيقةٍ مجمعيّة دلالةً على إنتاجيّة المجمع وتشجيعًا للآباء وتأكيدًا للشعب المسيحيّ بتصميمه على استكمال المجمع ولو بدونه. هكذا ولد الدستور الراعويّ في الليتورجيا المقدّسة، أولى وثائق المجمع الفاتيكانيّ الثانيّ.

فيما جاءت الأصداء حول الدورة الأولى إيجابيّة، عملت اللجنة المكلّفة على إعداد النصوص، واستكمالها، ومتابعة التحضير للدورة الثانية. وفي الثالث من حزيران 1963 توفي البابا يوحنا فتوقف المجمع شرعًا. ولكنّ الأساقفة عمدوا، في الحادي والعشرين من الشهر عينه إلى انتخاب البابا بولس السادس الذي أدلى في تصريحه الأوّل بتكريس الجزء الأكبر من حبريّته لمتابعة أعمال المجمع. ولم تمضِ أيام قليلة حتّى باشر البابا الجديد الإجراءات اللازمة للدورة الثانية، فحدّد لها موعدًا في التاسع والعشرين من أيلول، وعيّن أربعة مدراء للمجمع وخوّلهم صلاحياتٍ واسعة لترؤس الجلسات العموميّة وتوجيه الأعمال المجمعيّة بتناسقٍ وسرعةٍ[12].

على الرغم من تساؤل البعض حول قدرة البابا بولس، الميّال بطبعه إلى البساطة والخجل والتواضع، على إدراة المجمع، سرعان ما تبدّدت المخاوف بعد سماع خطابه في افتتاح الدورة الثانية حين ذكّر بأهداف المجمع وبيّن مفاصل التحدّيات التي تنتظر الآباء، ودقّة المواضيع التي ستطرح على بساط البحث، ولا سيّما طبيعة الكنيسة ورسالتها، والنهضة المتوخّاة، والوحدة المسيحيّة والحوار مع الأديان الأخرى والعالم. وقد تميّزت هذه الدورة برصانة المداخلات وعمقها وتشعّبها، فاحتلّ مشروع “في الكنيسة” الذي يُعالج طبيعتها ورسالتها معالجة العقيدة واللاهوت مكان الصدارة لأنّه الوثيقة الأهمّ وأساس الوثائق المجمعيّة بأسرها. إنّه المنعطف الخطير الذي استوجب نقاشاتٍ حادّة وطويلة وضعت مصير المجمع على المحكّ إذ كان على الكنيسة أن تواجه ذاتها بمرآة الإنجيل والانفتاح على العالم المرسلة لتبشيره. ولم يكن الأمر سهلاً إذ كان يقتضي مواجهة تحدّي الخروج من الذات ومن القوالب العتيقة والمفاهيم القديمة للسلطة والإدارة في سبيل انطلاقةٍ نبويّة لا تخلو من المخاطرة بهدي الروح القدس. فبلغت ذروة الأزمة قبيل التصويت التاريخيّ الذي جرى في الثلاثين من شهر تشرين الأول سنة 1963 حول الأسقفيّة والسلطة البابويّة والمصفّ الأسقفيّ الذي يرئسه، وحول إعادة الاعتبار لرتبة الشموسيّة الدائمة. وبعد ذلك انتقل الآباء إلى معالجة مشروع دور الأساقفة الراعويّ وإدارة الأبرشيّات. كذلك بدأ النقاش حول مشروع “في الحركة المسكونيّة” المتعلّق بالوحدة المسيحيّة والذي شكّل تحوّلاً في الذهنيّة، وتبدّلاً في الرؤية بعد سنواتٍ بل عقودٍ من نضال روّاد العمل الوحدويّ من أمثال الأب كوتورييه من ليون، والراهب البندكتينيّ اللاهوتيّ إيف كونغار، والكردينال البلجيكيّ مرسييه وغيرهم.  ولكنّ المفاجأة الكبرى أتت من جانب البابا بولس السادس الذي أعلن في جلسة ختام هذه الدورة عن عزمه الحجّ إلى الأراضي المقدّسة لاستلهام الربّ يسوع من أجل الكنيسة والمجمع، ولقاء رؤساء الكنائس الشرقيّة، ولا سيّما البطريرك المسكونيّ أثيناغوراس الأوّل. وفي الخامس والعشرين من شهر أيّار من سنة 2014، سيعود البابا فرنسيس الأوّل والبطريرك المسكونيّ برتلماوس إلى القدس، حاجّين يستلهمان روح الربّ يسوع حول مستقبل الكنيسة والحوار اللاهوتيّ والحركة المسكونيّة. ولا ريب في أنّ هذا اللقاء سيكون تاريخيًّا كالحدث الأوّل وسيكون أكثر من ذكرى، بل تذكّرًا وتأوينًا واندفاعًا جديدًا في خدمة الكنيسة والعالم.

افتتحت الدورة الثالثة بالذبيحة الإلهيّة التي احتفل بها قداسة البابا محاطًا بأربعٍ وعشرين من آباء المجمع يمثّلون جميع شعوب الأرض للدلالة على الشركة في الكنيسة الجامعة. وهذا أمرٌ جديدٌ أتاحه الدستور في الليتورجيا الإلهيّة. وفي خطابه، شدّد قداسته على احترام حريّة النقاش المجمعيّ مستحضرًا قولاً للقديس غريغوريوس اللاهوتيّ : ” إنّ كرامتي من كرامة الكنيسة الجامعة؛ كرامتي إنّما هي بقوّة إخوتي. ولا تكون كرامتي مضمونة حقًّا إلاّ إذا كانت الكرامة التي هي من حقّهم مضمونة لكلّ واحدٍ منهم“. وقد أقبل الآباء على هذه الدورة وفي حقيبتهم ثلاثة عشر مشروعًا للدراسة والنقاش بالإضافة إلى استكمال البحث في المشاريع الثلاثة التي تداولوا حولها في الدورة السابقة. والمشاريع الجديدة تتعلّق بالوحي الإلهيّ، ورسالة العلمانيّين، وعلاقة الكنيسة بعالم اليوم، والكنائس الشرقيّة، والرسالات، ودور الرهبان، وخدمة الكهنة وتنشئتهم، والزواج والتربية الكاثوليكيّة في المدارس. لذلك امتازت هذه الدورة بالصعوبة وقساوة الجدل اللاهوتيّ ولا سيّما في الأسبوع الأخير، حين حاول المحافظون الحؤول دون الموافقة على ما ورد في الفصل الثالث من الوثيقة حول طبيعة الكنيسة بشأن العلاقة بين البابويّة والمصفّ الأسقفيّ، وما ورد في الوثيقة حول الحركة المسكونيّة. وهكذا طبعت هذه النقاشات ختام هذه الدورة وأبرزت المشادّة اللاهوتيّة بين نزعتين محافظة وديناميّة. لكنّ صبر البابا وحكمته أسهما إسهامًا كبيرًا في تخطّي هذه العقبة بروح الانفتاح والجدّية.

الدورة الرابعة انطلقت إذن وكثيرٌ من المسائل لم تزل شائكةً في حين أوشك المجمع على نهايته. المسؤوليّات جسامٌ تقضي الإصغاء بكلّ انتباه إلى صوت المرشد الروحيّ الأعظم، الروح القدس، كما ذكّر بذلك البابا بولس السادس في خطابه الافتتاحيّ : ” إنّ واجبنا في مقبل الأيام من هذه الدورة المجمعيّة الأخيرة أن نسمع صوت المرشد السريّ“. وهو شدّد على واجب المحبّة الذي هو من صميم جوهر الكنيسة. وفي الجلسة الأولى من الأعمال، حضر قداسته وأعلن عن إرادته الخاصّة إنشاء سينودس الأساقفة، مجلس شورى إلى جانبه. وقد كان العديد من الآباء، وفي مقدّمهم البطاركة الشرقيّون قد عرضوا قيام مجلسٍ أسقفيّ دوليّ حول الحبر الرومانيّ، يعاونه في إدارة الكنيسة الكاثوليكيّة العالميّة. وتتمحور أهداف هذا السينودس حول تعزيز التضامن والوحدة بين البابا وأساقفة العالم من جهة، وتسهيل انسجام الآراء في ما يختصّ بجوهر التعليم والرعاية بعد الاستناد إلى المعلومات الصحيحة المرتبطة بحياة الكنيسة ونشاطها في العالم، من جهةٍ أخرى. وقد ناقش الآباء إحدى عشر وثيقة وأقرّوها. غير أنّ النصّين حول الحريّة الدينيّة والكنائس الشرقيّة استوجبا الكثير من الجدل في جوّ من الحماسة وبشيءٍ من التوتّر.

رابعًا: حصيلة المجمع اللاهوتيّة وثماره الراعويّة

أقرّ المجمع ستّ عشرة وثيقة تتفاوت قيمتها العقيديّة واللاهوتيّة، توزّعت على ثلاث مجموعاتٍ : الدساتير[13]، والقرارات[14]، والبيانات أو التصاريح[15]. لكن يبقى أن الدستور العقائديّ في الكنيسة هو حجر الأساس ومرجع الوثائق الأخرى، حدّد على قدر المستطاع طبيعة الكنيسة ودعوتها ورسالتها انطلاقًا من الإنجيل ومن الكتب المقدّسة والتقليد الرسوليّ والآبائي وتعليم السلطة وهدي الرعاة الصالحين. وسأورد في ما يلي بعض الخلاصات حول قيمة بعض الوثائق من خلال المضامير الكنسيّة التي تطالها.

  • الحصيلة اللاهوتيّة المجمعيّة في خطوطها الكبرى
  1. في سرّ الكنيسة

أعادت الكنيسة اكتشاف طبيعتها العميقة بصفتها سرّ ينبع من سرّ الشركة الثالوثيّة التي تبقى مثالها وغايتها في كلّ زمانٍ ومكان. الكنيسة شركةٌ تأتينا هبةً مجانيّة من الله، شركة حبٍّ نعيشها بعضنا مع بعض في البنى الكنسيّة وفي علاقتنا بالعالم. الكنيسة شعب الله في رحلة حجّه إلى الملكوت. ترث خواصّ شعب الله المختار ورسالته. إنّها الملكوت بهيئة بذرةٍ لا بدّ وأن تنمو إلى أن تكتمل حين يصبح الله كُلاً في الكلّ. وهي علامة حضور المسيح الحسيّة والمنظورة واستمرار لهذا الحضور بعد الصعود حيث لم يزل حاضرًا بالروح معنا بعد أن بات محتجبًا عن ناظرينا وحواسنا البشريّة. إنّها جسد المسيح السريّ بأعضائه المتعدّدة والمتنوّعة والمواهب على أشكالها، يوحّدها الروح القدس ويحفظ تناسقها وتناغمها من أجل خير الجسد كلّه. وهي هيكل الروح القدس، فيها وفي قلب كلّ مؤمن يجد سكناه ويقيم الأسرار مأوّنًا حياة المسيح، ورادفًا الجسم بطاقات المسيح القائم من بين الأموات.

الكنيسة السرّ حقيقة أرضيّة واقعيّة ومجتمعٌ منظّمٌ تنظيمًا من حيث تراتب السلطات فيه. والسلطة فيها تقوم على أساس الخدمة الرسوليّة التي لا تزال قائمةً منذ العهد الرسوليّ في تسلسلٍ يسهر على الأمانة للتعليم وللتقليد المقدّس. والخدمة الرسوليّة هذه تتجلّى في سرّ الأسقفيّة بحيث أنّ الأسقف هو إيقونة المسيح في كنيسته، يعاونه على رعايتها الكهنة والشمامسة. الكنيسة شركة القديسين بالعماد المقدّس، وفي الوقت عينه جماعة خطأةٍ هم بشرٌ ضعفاء. شركةٌ بين المؤمنين وبين كنيسة الأرض المجاهدة والكنيسة الممجّدة. وحين ينال المؤمنون العماد يشتركون في كهنوت المسيح العضويّ أو العامّ ويمارسونه مع السلطة الخادمة في الأسرار وسائر مرافق الحياة الروحيّة. أمّا كهنوت الخدم فهو، على ما جاء في العدد العاشر من الدستور في الكنيسة، من طبيعةٍ مختلفة لها طابعٌ وظائفيّ يرتبط بالرئاسة في الكنيسة والرعاية والسهر على القطيع. الكهنوتان العامّ والخدميّ اشتراكٌ بكهنوت المسيح الكاهن الأوحد والأعظم، ومرتبطان الواحد بالآخر. لكنّ هذه الخدمة الرسوليّة لا يمكن أن تنغلق على نفسها إذ إنّها في اتّحاد صميم بالجسم الأسقفيّ بأسره وعلى رأسه الحبر الرومانيّ كما كان بطرس على رأس الجسم الرسوليّ. ولو أنّ سلطة البابا، بحسب المجمع الفاتيكانيّ الثاني مستندًا إلى عقيدة المجمع الفاتيكانيّ الأوّل، تعلو فوق سلطة الأساقفة (راجع الأعداد 21-23)[16].

إنّ سرّ الكنيسة يقوم في كلّ كنيسة محليّة أو خاصّة انطلاقًا من الخدمة الرسوليّة ولكنّ أيًّا من هذه الكنائس لا يمكن أن تحصر فيها وحدها سرّ الكنيسة الشاملة أو الجامعة التي هي شركة كلّ الكنائس بالإفخاريستيّا الواحدة وبسرّ المسيح الواحد. إنّها جامعة لأنّها جسد المسيح الواحد غير المجزّئ، المقدّسة والرسوليّة، تنادي بالإنجيل إلى منتهى الدهر.

  • في الوحي الإلهيّ

من الأمور الأساسيّة التي قبلتها الكنيسة في المجمع إعادة مركزيّة كلمة الله في الليتورجيا وحياة الجماعات المسيحيّة. وقد أسهم هذا القبول في اعتماد اللغات الحيّة في الكنيسة الرومانيّة، وفي الدخول في مجالات التفسير الكتابيّ على الرغم من تنوّع المدارس والمناهج في هذا الحقل الواسع. وفي المقابل، ذكّر المجمع بمصدريّ الوحي وبالوحدة العضويّة بينهما أي الكتاب المقدّس والتقليد. لقد بيّن المجمع في تحريره الوحي الإلهيّ من إطاره الضيّق الذي أغلقته فيه النظريّات اللاهوتيّة العقلانيّة المعنى الحيويّ والخلاصيّ لكلمة الله متجلّيةً في مسيرة الله مع شعبه. وفي الختام، تدعو الوثيقة إلى نشر كلمة الله عبر الترجمات الصحيحة إلى اللغات الحيّة والتعاون مع المسيحيّين الآخرين لتحقيق هذه الغاية النبيلة.

  • الكنيسة في عالم اليوم

تصالحت الكنيسة مع العالم في تطوّره السريع واستقلاله عن مؤسّساتها، بل في إحاطته بمجالاتٍ كانت حكرًا عليها مثل المستشفيات ودور التعليم والرعاية الاجتماعيّة… أجل كان التصادم والنفور مسيطرًا على علاقة الكنيسة بالعالم قبل المجمع، وبتأثيرٍ من حركة الإلحاد وانعكاساتها وردّ فعل الكنيسة العنيف في بعض الأحيان، لكنّ هذه الوثيقة والروح المجمعيّة على وجه العموم، خلقت الحوار وجوًّا من التعاون البنّاء لما يؤول إلى خير الكائن البشريّ والحفاظ على كرامته وهناء عيشه وسعادته. كلّ هذا يتطلّب الاطّلاع عن كثبٍ على أوضاع العالم الذي تعيش فيه الكنيسة وعلى التفاعل معها بإيجابيّةٍ وصدق. لقد عبّر هذا الدستور الراعويّ عن الهمّ البابويّ وغاية المجمع الأولى المتمثّلة في تجديد الكنيسة لتتلاءم وأحوال العصر، لذلك يحتلّ مكانةً رفيعةً بين الوثائق المجمعيّة لأنّه بيّن التماسك الوثيق بين الكنيسة والأسرة البشريّة بأسرها، وفتح باب الحوار مع العالم المعاصر برؤيةٍ جديدة تقرّ باستقلال الشؤون الزمنيّة عن السلطة الروحيّة.

تطرّق الآباء في نقاشهم مشاريع النصوص المتعلّقة بالعلاقة مع العالم إلى قضايا الإنسان المهمّة فشدّدوا على كرامة الزواج والأسرة، وعلى الصلات القائمة بين الإنجيل والثقافة الإنسانيّة، وعلى موقف الكنيسة من شتّى شؤون الحياة الاجتماعيّة، ولا سيّما من مبدإ الملكيّة الخاصّة، ووجوب توزيع خيرات الدنيا توزيعًا عادلاً. ولم يفتهم تبيان ما للمسيحيّين من دورٍ فعّال في الشأن العام والعمل السياسيّ الرصين بعيدًا من كلّ مطمعٍ أو تدخّلٍ غير مناسب لأن الغاية هي خلاص الإنسان والدفاع عن حقوقه المشروعة. لذلك وجّهوا نداءً حارًّا يحثّون فيه البلدان على تجنّب الحروب والسعي إلى إحلال السلام العادل والشامل، على أسس المحبّة الثابتة.

من الجليّ أنّ جديد هذه الوثيقة وهذا التوجّه الحواريّ مع العالم لا يقتصر على مفهومٍ لاهوتيّ لسائر الشؤون الأرضيّة ولا على إنشاء أنثروبولوجيا يلتقي فيها الطبيعيّ بالفائق الطبيعة على تمايزهما، بل إنّه يتعدّى ذلك إلى إعلان لاهوت التجسّد والفداء في رؤيةٍ إسخاتولوجيّة شاملة تقدّم للعالم معنىً لوجوده قد لا يجده في ذاته، بل في المطلق الذي يسمو فوق كلّ خليقة.

  • السعي الحثيث إلى الوحدة والانفتاح على الحركة المسكونيّة

قد يتساءل الكثيرون حول معايير المسكونيّة في مجمعٍ عالميّ وإن كان يحقّ للكنيسة الكاثوليكيّة أن تطلق هذه الصفة على مجامعها. لا ريب في أنّ هذه المعايير تغيّرت على مرّ العصور وأنّ الحوار لا يزال يبحث عن قواسم مشتركة يتفق عليها جميع المسيحيّين. غير أنّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني مسكونيّ بامتيازٍ لأسباب كثيرة هي أهم من المعايير التاريخيّة. فهو كرّس التزام الكنيسة الكاثوليكيّة في الحركة المسكونيّة التي نشأت في أوائل القرن العشرين في الأوساط البروتستنتيّة ومن ثمّ انضمّت إليها الكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة والبيزنطيّة. وقد كرّر الباباوات منذ المجمع أنّ هذا الالتزام لا رجوع عنه ليس لأنّه قرار استراتيجيّ، بل لأنّه يتعلّق بوحدة الكنيسة التي هي مكوِّنٌ أساسيّ من جوهرها، وعلامةٌ من علامتها الأربعة كما نعترف في قانون الإيمان، ووصيّة المسيح وأمنيته الغالية في صلاته الأخيرة إلى الآب، ليكونوا واحدًا. وقد عبّر المجمع عن هذا الالتزام بأكثر من أمرٍ ومنحىً. فحضور المراقبين من غير الكاثوليك ممثّلين كنائسهم وجماعاتهم الكنسيّة علامةٌ على هذا الانفتاح المسكونيّ، كما ذكرت أعلاه. وإفراد المجمع وثيقةً خاصّة هي القرار في الحركة المسكونيّة للتعبير عن الالتزام بمسألة الوحدة وتحقيقها في التاريخ، ولوضع القواعد العامّة لهذا السعي ينير أبناءها المؤمنين، أمران في غاية الأهميّة.أضف إلى ذلك الأحداث المسكونيّة التي رافقت أعمال المجمع وانعقاده وكان أهمّها زيارة البابا بولس السادس إلى القدس سنة 1964 ولقاء البطاركة الشرقييّن بمن فيهم البطريرك المسكونيّ أثيناغوراس؛ وإعادة ذخائر القديس أندراوس إلى مدينة بتراس (اليونان) والقديس سابا إلى ديره في القدس؛ والصلاة المسكونيّة في ختام أعمال المجمع لوداع الإخوة المراقبين، التي شكّلت استعادة للصلاة المشتركة في احتفالٍ ليتورجيّ بالكلمة لم يُقم منذ القرن السادس عشر، أي منذ الإصلاح البروتستنتي؛ ورفع الحرمات بين الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة والكنيسة الأرثوذكسيّة البيزنطيّة أي بين روما والقسطنطنيّة، عشية اختتام المجمع أيضًا. فهذه المبادرات الخطيرة على تعدّدها، والتي تنساب من روحٍ واحدة، فتحت باب حوار المحبّة واللقاء، وأتاحت الشروع بالحوار اللاهوتيّ، حوار الحقيقة بين الكنائس[17].

إنّ الرحلة المسكونيّة في المجمع انطلقت من إعلان البابا يوحنا الثالث والعشرون في 25 كانون الثاني 1959 أنّ الوحدة هدفٌ من هدفي المجمع، ثمّ مرّت عبر إنشائه أمانة سرّ وحدة المسيحيّين للتواصل مع الإخوة من الكنائس والجماعات المسيحيّة على اختلافها، وترسّخت في مشاريع نصّ عن الوحدة تطوّرت لتنتهي في القرار التاريخيّ حول الحركة المسكونيّة الذي أُقرّ سنة 1964، والذي يستند من حيث الأسس اللاهوتيّة إلى الدستور العقائديّ في الكنيسة. ويُقسم القرار إلى مقدّمة وثلاثة فصولٍ وخاتمة. في المقدّمة يعترف المجمع علنًا بأنّ الحركة المسكونيّة من عمل الروح القدس. وفي الفصل الأوّل يورد الأسس اللاهوتيّة فيما يشرح  الفصل الثاني كيفيّة ممارسة العمل المسكونيّ من قبل المؤمنين الكاثوليك. أمّا الفصل الثالث فيكرّسه المجمع للعلاقات مع الكنائس والجماعات الكنائسيّة الأخرى على كلّ الصعد، الروحيّة واللاهوتيّة والراعويّة من خلال القواعد والتعليمات العامّة. وفي الخاتمة يذكّر بالحقيقة الإسخاتولوجيّة المبنيّة على الرجاء الذي لا يُخيِّب (روم 5،5).

لم يكن انتقال الكنيسة الكاثوليكيّة من حال ردّ مبادرات الحركة المسكونيّة والدعوات التي وجّهها إليها مجلس الكنائس العالميّ قبيل تأسيسه سنة 1948 إلى حال الانخراط في الحركة المسكونيّة أمرًا سهلاً. فهي كانت ترتكز في رفضها هذا الانخراط، على الرغم من استمرار سعيها إلى الوحدة، على مبدإٍ إكليزيولوجيّ يؤكّد أنّها كنيسة المسيح في الاعتلان التاريخيّ وأنّ من هو خارجها لا ينال الخلاص. وبناءً على هذا المبدإ، لطالما فهمت طبيعة العمل الوحدويّ كعمليّة انضمامٍ إلى أحضانها، وعودةٍ إلى ربوع روما البابويّة. غير أنّ ما جاء في الرقم الثامن من الدستور العقائديّ المذكور، وإن أكّد حقيقة وجود كنيسة المسيح في الكنيسة الكاثوليكيّة بكامل عناصرها ووسائل الخلاص، بيّن بوضوحٍ أنّ بعضًا من هذه العناصر الذي لا يقلّ قيمةً متواجدٌ وقائمٌ في الكنائس والجماعات المسيحيّة الأخرى، وقد يقود إلى الخلاص كما هو قائمٌ في الكنيسة الكاثوليكيّة. وقد فهم المجمع وأقرّ بأنّ شركةً حقيقة ولو كانت ناقصة، تجمع الكنيسة الكاثوليكيّة بهذه الكنائس والجماعات. فكان هذا الفهم القاعدة الأساسيّة والمفتاح لقبول الحريّة الدينيّة، والحوار المسكونيّ، والعلاقات مع الأديان غير المسيحيّة.

  • الهمّ الراعويّ والعناية بشعب الله

أولى المجمع المسألة الراعويّة عنايةً خاصّة حتّى اعتبره الكثيرون مجمعًا راعويًّا بامتياز مع أنّه لم يكرّس وثيقةً خاصّة لهذا الأمر، ولم يدخل في تفاصيل الحياة الرعائيّة. لكنّه أزال الفصل الذي طال في التاريخ بين الخدّام المرسومين أي السلطة من جهة، والمؤمنين العلمانيّين من جهةٍ أخرى. وأعاد مفهوم شعب الله اللحمة بينهما وأبعد الحالة الإكليروسيّة من حيث المبدإ. فلم تعد القداسة مرتبطةً بالتكرّس الإكليروسيّ والرهبانيّ لأنّ المجمع أعاد ربطها بالعماد المقدّس ومفاعيله وثماره ومع سائر الأسرار الإلهيّة. كذلك فعل بالرسالة التي كانت حكرًا على المرسلين المكرّسين أيضًا وأفرد قرارًا حول رسالة العلمانيّين يبيّن فيها شراكتهم الكاملة في العمل الرسوليّ في بعديه الروحيّ والعمليّ. أمّا في ما يخصّ الرعاة فكرّس قرارًا لمهمّة الأساقفة الراعويّة يحثّهم فيه، بعد تعداد الأسس اللاهوتيّة لوظيفتهم السامية، على اعتماد الأبوّة الروحيّة أسلوبًا ونهجًا لرعايتهم. وفي القرار حول خدمة الكهنة ورسالتهم كما في القرار حول تنشئتهم يعيد المجمع وهج الخدمة الكهنوتيّة إلى مصادرها الأولى آخذًا بعين الاعتبار حياة الكهنة ودعوتهم السامية وفي الوقت عينه أبوّتهم ورعايتهم من خلال اشتراكهم أيضًا في وظائف المسيح النبويّة والكهنوتيّة والتدبيريّة.  وهكذا يتراءى لي أن المجمع ألمّ بالحالة الراعويّة من كافّة جوانبها ورسم لها إطارًا لم تغب عنه التوجّهات الليتورجيّة والأسراريّة ولا شؤون الحياة الاجتماعيّة وشجونها كما ورد في الدستورين الراعويّين الكنيسة في عالم اليوم والليتورجيا المقدّسة. غيّر المجمع وجه الكنيسة في حياتها وشهادتها فزادتها هذه الحيويّة الراعويّة المتجدّدة أمانةً لجذورها ولتقليدها الرسوليّ المقدس.

خامسًا: قبول المجمع في وثائقه ورؤيته

ليس قبول مجمعٍ مسكونيّ بأهميّة المجمع الفاتيكانيّ الثاني عمليّةً سهلة لأنّها تتعلّق بتمثّل الروح المجمعيّة في نسيج شعب الله، أي في الكنائس المحليّة الخاصّة، حتّى يسعى كلّ عضوٍ في الجسم الكنسيّ، لا الرعاة فقط، إلى تحقيق أهدافه والعيش بموجب توجّهاته. وبسبب الحصيلة اللاهوتيّة والراعويّة الكبرى الملتزمة التلاؤم مع أحوال العصر في نشر الإنجيل وعيش مستلزماته في الجماعة المسيحيّة، قد يستغرق الأمر سنواتٍ، بل عقودٍ قبل أن تصبح النصوص واقعًا لا سيّما وأن بعضها لاقى أثناء النقاش وفي مرحلة ما بعد المجمع التفسيريّة تباينًا في فهمه والتعبير عنه. لم يدّعِ المجمع يومًا الإحاطة بجميع أمور الكنيسة والحقيقة، بل قام بسعيه الدؤوب، وعلى قدر ما أتاحت له السنوات المجمعيّة من الجهد المبذول حتّى يقارب الأمانة في قالبٍ عصريّ، فتبقى الجذور راسخةً وتؤتي الشجرة ثمارها النديّة بما يتلاءم وحاجة الإنسان في ارتباطه بمحيطه. وفي المقاطع التالية، أجتهدُ في إظهار بعض الأمور المهمّة من حيث قبولها في النسيج الكنسيّ، وأبيّن قدر المستطاع ما يبقى أمانةً في أعناقنا حتّى لا يذهب المجمع سدىً.

  1. تقبّل مركزيّة كلمة الله في حياة الكنيسة
  2. أثمر المجمع في إعادة مركزيّة كلمة الله إلى صلاة الكنيسة ولاهوتها وحياتها. لقد انتشرت الترجمات وقام التعاون مع المسيحيّين الآخرين ضمن رابطة الكتاب المقدس على الصعد العالميّة والإقليميّة والمحليّة. وتبنّى العلماء والشعب الكاثوليكيّ مبدأ التفسير الكتابيّ، وانفتحوا على التقدّم الذي كان حاصلاً خصوصًا في بعض الكنائس والجماعات البروتستنتيّة الإنجيليّة في هذا المجال. وفي حركة تجدّد لاهوتيّ، سعت كليّات اللاهوت بأساتذتها وبحّاثها إلى تجديد الخطاب اللاهوتيّ انطلاقًا من كلمة الله، وارتكز على هذه الكلمة التعليم المسيحيّ في المدارس وحركات الشباب، وانتشر زرع الوحي الإلهيّ في كلّ مكان. ولكنّ التحدّي الكبير يتجلّى اليوم في استخدام وسائل الاتصال الاجتماعيّ التي غلبت على سائر الوسائل التعليميّة والسمعيّة-البصريّة باستقطابها ملايين المستخدمين على مدى ساعات النهار، وفي كيفيّة وضعها في خدمة البشارة الجديدة التي ما انفكّ الباباوات، من بولس السادس إلى فرنسيس الأوّل، يعملون على بلورة مستلزماتها ووضعها موضع التنفيذ.
  • سرّ الكنيسة والأسقفيّة والجماعيّة والمجمعيّة
  • في ما يتعلّق بسرّ الكنيسة، برز دور الأساقفة ووظيفتهم الكهنوتيّة والأبويّة والراعويّة في الكنائس الخاصّة بإشراف الحبر الرومانيّ وبالتعاون معه ومع المصفّ الأسقفيّ الذي يترأسه. وسينودسات الأساقفة التي عُقدت دوريًا أو استثنائيًّا، منذ اختتام المجمع، لأكبر دليلٍ على عيش الجماعيّة الأسقفيّة في الكنيسة والحفاظ على الروح المجمعيّة لما فيه خير الشعب المؤمن. وقد تطوّر العمل الراعويّ بتقنيّاته تطوّرًا بالغًا ولا سيّما في النطاق الأوروبيّ فطال شتّى مجالات الرعاية. واختبر المؤمنون الليتورجيا الإلهيّة اختبار المشاركة الفاعلة والديناميّة لا اشتراك الحضور فحسب إذ فقهوا قول المجمع بأنّ الكنيسة بأجمعها تحتفل بالأسرار الإلهيّة يرئس الاحتفال بها الخدّام المرسومون من أساقفة وكهنة. وانطلق العلمانيّون في تحقيق رسالة الكنيسة بإشراف رعاتهم ومعلّميهم ضمن شهادتهم في عالم اليوم، وتحمّلوا المسؤوليّة الراعويّة كفاعلين ومتفاعلين وليس كمتقبّلين ومشاهدين. لكنّ الكنيسة تعاني في المقابل من مشكلاتٍ متأتّية من علاقتها بالعالم وارتباطها العضويّ به من حيث البشارة، إذ ترتدّ عليها بقوّةٍ موجةُ الماديّة والعلمنة الملحدة والتمادي في بعض المناطق في الانفتاح الأخلاقيّ بما لا يتلاءم في جميع الأحيان مع قيم الإنجيل وممارسة الفضيلة والسعي إلى القداسة. إنّ التشريع في بعض الدول الأوروبيّة حول بعض المعضلات الأخلاقيّة، بات في السنوات الأخيرة في قلب تفكّر اللاهوتيّين والقانونيّن والرعاة نظرًا لما لهذه المسائل من تأثيرٍ على الحياة البشريّة وقيمها. كما زادت قلّة الدعوات الكهنوتيّة في كنائس الغرب في حدّة هذه المعضلات. أضف إلى ذلك ما يؤخذ على الدوائر الرومانيّة في تعاطيها مع الكنائس المحليّة وإدارتها للشؤون الكنسيّة من مآخذ تستوجب تجديد أطرها وتنظيم عملها لتكون أكثر فاعليّة. ولا بدّ من التنويه بما يقوم به قداسة البابا فرنسيس في هذا المجال مع مساعديه الثمانية الذين انتدبهم لهذه المهمّة الصعبة. فليس بالأمر السهل أن تحافظ الكنيسة بشموليّتها على الوحدة والشركة مصانتين دون أن تقلّل من أهميّة الكنائس الخاصّة وخبرتها وحياتها ونضالها في محيطها وضمن مسؤوليّتها.
  • رهان الوحدة والحوار المسكونيّ
  • منذ اختتام أعمال المجمع الفاتيكانيّ الثاني، خطى الحوار المسكونيّ خطوات كبيرة على طريق الوحدة المسيحيّة، وها هي الكنيسة الكاثوليكيّة ملتزمةٌ اليوم بأكثر من أربعين حوارًا رسميًّا مع كنائس وجماعاتٍ كنسيّة من الآفاق المختلفة. ففي سنة 1991، استُكملت الدفعة الثانية من الدليل إلى تطبيق مبادئ الحركة المسكونيّة، وفي سنة 1995، أصدر البابا يوحنّا بولس الثاني رسالةً عامّة بعنوان ليكونوا بأجمعهم واحدًا، ضمّنها أهمّ الأسس اللاهوتيّة والمبادئ العمليّة التي تقود الكنيسة الكاثوليكيّة في مسيرتها المسكونيّة مع الشركاء الآخرين، كما وجّه رسالةً بعنوان نور الشرق، بمناسبة مرور 500 سنة على وثيقة اتحاد برست ليتوفسك لأولى الجماعات الشرقيّة الأرثوذكسيّة التي عادت إلى الوحدة مع الكرسيّ الرومانيّ. وقد تطرّقت الحوارات المسكونيّة إلى دور كلمة الله المركزيّ في حياة الكنائس، وإلى مفهوم الأسراريّة وقيمة كلّ سرّ من الأسرار الكنسيّة، وإلى الخدمة الرسوليّة والسلطة ولا سيّما خدمة أسقف روما في الحفاظ على الوحدة والشركة في الكنيسة الجامعة، وإلى دور العذراء مريم في تاريخ الخلاص، وغيرها من المسائل انطلاقًا من الخلافات والعقبات التي أدّت إلى الانقسامات عبر تاريخ الكنيسة. ولا ريب في أنّ هذه الجهود المسكونيّة والوثائق الصادرة عن اللجان المشتركة العالميّة ستُسهم في استعادة الشركة الكنسيّة وفي تحقيق أمنية الربّ يسوع المسيح بأن نكون جميعًا واحدًا كما أنّه والآب واحدٌ. لكنّ تقبّل هذه النصوص والوثائق في النسيج الكنسيّ يشكّل الرهان المسكونيّ الأعظم في أيامنا وفي العقود القادمة.
  • الانفتاح المسكونيّ في الكنائس الشرقيّة
  • على صعيد الكنائس الشرقيّة، أتاح الانفتاح المسكونيّ أمامنا مجال الخوض في مغامرة الوحدة من خلال الروح المجمعيّة التي نشأت وتطوّرت عندنا. لقد أزكت الروح المسكونيّة السعي إلى التلاقي والتحاور بين كنائسنا على اختلافها، وتطوّرت الحركة الوحدويّة حتّى بلغت حدًّا كبيرًا من التعاطي الأخويّ، كما بين كنائس شقيقة، أفضى بدوره إلى قيام مجلس كنائس الشرق الأوسط وانضمام العائلات الكنسيّة الكبرى إليه: عائلة الكنائس البروتستنتيّة والإنجيليّة (1948)، وعائلة الكنائس الشرقيّة الأرثوذكسيّة (بدءًا من عام 1964)، وعائلة الكنائس الأرثوذكسيّة البيزنطيّة (1974). وكانت عائلة الكنائس الكاثوليكيّة في منطقة الشرق الأوسط آخر المنضوين تحت لواء المجلس (1990). لكنّ هذا الجسم المسكونيّ الثمين يعاني من مشاكل إداريّة وماليّة منذ سنة 2009، ولم يستطع بعد النهوض كما يجب على الرغم من الجهود المبذولة من رؤساء الكنائس الأعضاء، ومن الشركاء العالميّين والخبراء في هذا الحقل. وكلّنا أمل بأنّه سيستعيد عافيته بفضل وعي الكنائس المحلّيّة لحاجتنا الماسّة إلى هذا المجلس يجمع مسيحيّي المنطقة، ويساندهم في المحن التي تصيبهم وآخرها ما نجم عن الحروب المتتالية وما عُرف بالربيع العربيّ، وما لحق بالعراق ومصر وسوريا من عنفٍ وقتلٍ ودمار.

إنّ مجلس كنائس الشرق الأوسط هو مجال لقاءٍ وتقدّم على دروب الوحدة المسيحيّة أوجده الروح القدس وأهداه إلى كنائسنا. به نتقدّم معًا، ونتعاضد، ونستلهم الروح، ونقرّر، ونحافظ على الوجود المسيحيّ ليستمرّ حضور كنائسنا في هذه البقاع شهادةً ناصعة لإنجيل المسيح ورسالته. وقد أسهم هذا المجلس في إزكاء الروح المسكونيّة بين الشباب وعند المرأة، وسهر في الكوارث على إحياء التضامن واستنهاض الهمم لتخفيف المعاناة وإعادة البناء، ونظّم برامج تربية وتوعية وتنشئة قادت أجيالاً وأجيالاً نحو نهضة كنائسنا في العصر الحديث. لكن المسيحيّون المشرقيّون لا يزال ينتابهم الخوف على مستقبل وجودهم وحياة أولادهم وحضور كنائسهم. وحدها الثقة بأنّ الله تعالى دعانا إلى هذه الأرض الحبيبة، وأوكل إلينا خدمة المصالحة يحثّنا على التشبّث بتقليدنا وبأرضنا حبًّا بالمسيح والإنسان.

  • الحوار مع الأديان الأخرى والحركات العلمانيّة
  •   الانقياد لهدي روح المجمع الفاتيكانيّ الثاني لا بدّ وأن يقودنا إلى رحاب الحوار مع الآخرين. فقد بات الحوار مع الأديان الأخرى ومع جماعات الحركة العلمانيّة التي يناهض بعضها الدين على أشكاله حاجّةً ماسّة بل قل الحاجة الأكثر إلحاحًا. ونحن في الشرق، لا نملك خيارًا آخر سوى الحوار بالاستناد إلى ركائز العيش المشترك وأسسه. لقد خبرنا طوال قرونٍ التعايش والتواجد معًا على أرض الشرق الحبيب الواحدة، فجاءت النتائج خيّرةً في بعض الأحيان، ومؤلمةً وسيّئة في أحيان أخرى. ولذلك علينا أن نتعلّم من خبرة الماضي مستفيدين من ثمار الحوار والتعايش ومتحاشين عن الأخطاء على أنواعها، علّنا نستطيع أن نقدّم للعالم خلاصة هذه الخبرة وما يفيد على المستوى العالميّ في التعاطي خصوصًا مع الإسلام واليهوديّة. لم يعد مقبولاً في أيّامنا أن نحصر المجال الروحيّ في أطر المجال الدينيّ وحده إذ يقول البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته بمناسبة اليوبيل الكبير سنة 2000، الحوار هو الوجه الجديد للمحبّة.

إنّه لجليٌّ أنّ المجمع الفاتيكانيّ الثاني ترك منذ انعقاده الآثار العميقة في حياة الكنيسة، وأسهم في تجدّدها، وفي وعيها لطبيعتها ورسالتها، وفي إعادة بناء مؤسّساتها، وفي تنظيم أنشطتها وحياتها. إنّما ينبغي أن تبقى الروح المجمعيّة يقظةً كما في يوم العنصرة، علّها تضمّ في المجمع المقبل، الكنائس والجماعات المسيحيّة على تنوّعها، في مسعىً إلى إحلال الوحدة في شكلٍ وقالبٍ وحده الروح القدس يعرفهما. هذا المسعى يقتضي تمييزًا روحيًّا متقدّمًا، ووعيًا كبيرًا، واستعدادًا سخيًّا لتخطّي الهويّات الطائفيّة، والسياسات الكنسيّة في سبيل اعتلان كنيسة المسيح الواحدة كما يريدها وبالوسائل التي يريد. التاريخ وحده سيقول كلمته حول أمانة الكنيسة للمجمع الفاتيكانيّ الثاني وسيبيّن مدى أثره في حياتها.


[1]  إقرأ الفصل الخامس عشر من سفر أعمال الرسل الذي يروي تفاصيل هذا المجمع وكيف خبرته الكنيسة في أوائلها ملتئمةً حول الرسل القديسين.

[2]  راجع المنارة، (2002) 43، العددان 2 و 3، ص 265-282؛ ورابطتنا، 2012، العدد 15، ص 145-165.

[3]  في الخامس والعشرين من كانون الثاني، في ختام أسبوع الصلاة من أجل الوحدة، في بازيليك القديس بولس خارج الأسوار، أعلن البابا يوحنّا عن الدعوة إلى عقد مجمعٍ أبرشيّ لمدينة روما، ومجمعٍ مسكونيّ للكنيسة الجامعة. راجع:

Documentation Catholique, 29 mars 1959, n° 1300, col. 387-388.

[4]  Quanta Cura et Syllabus (1864).

[5] استعمل البابا اللفظة الإيطاليّة Aggiornamento التي تعني بالإنكليزيّة اليوم اللفظة الشائعةUpdating ، وقد يعرّبها البعض بلفظة تحديث العربيّة. وكأنّ المقصود بهذه اللفظة إعادة عقارب الساعة الكنسيّة إلى الزمن الراهن بعد أن بدا لقداسته أنّها لم تعد تسير على وقع ساعة العالم ورهان البشارة بالملكوت انطلاقًا من الاسباب الواردة في النصّ أعلاه.

[6]  ذلك بفضل الرسالة العامّة Divino afflante Spiritu

[7]  R. LAURENTIN, L’enjeu du Concile, Seuil, Paris, 1962, p. 104.

[8]  أوكل البابا يوحنّا الثالث والعشرون إدارة المجمع العمليّة إلى مجلسٍ من عشرة أعضاء هم : الكرادلة تيسران، لينيار، تبّوني، جيلروي، كاجيانو، روفيني، ألفرنك، بلاأي دانييل، سبلمن وفرنكر؛ أمّا البابا بولس السادس، فعيّن مجلسًا من أربعة مدراء.

[9]  وصل عددهم إلى 200 في الدورة الأولى، و400 في الدورة الثانية واستمرّ العدد بالارتفاع مع الدورتين الثالثة والرابعة.

[10]  دعا الباب يوحنا الأستاذ جان غيتون، عضو الأكاديميّة الفرنسيّة من جامعة السوربون. وارتفع عدد العلمانيّين المشاركين في الدورة الثانية إلى عشرة، جميعهم يرأسون حركاتٍ علمانيّة رسوليّة في الكنيسة الكاثوليكيّة.

[11]  تمثّلت الكنائس والجماعات التي من بينها الشركة الأنغليكانيّة والاتحاد اللوثري العالميّ، والاتحاد المشيخيّ العالميّ، والكنيسة المصلحة الألمانيّة، والاتحاد العالميّ لكنائس أو تلاميذ المسيح، واللجنة العالميّة للكويكرز أو الأخوة، المجلس العالميّ للكنائس السينودسيّة الإنجيليّة، والمجلس المثودي العالميّ، ومجلس الكنائس العالميّ، والاتحاد العالميّ لحريّة الأديان، زكنيسة الكاثوليك القدماء، والكنيسة الروسيّة الأرثوذكسيّة، والبطريركيّة المسكونيّة، والكنيسة القبطيّة، والكنيسة السريانيّة، والكنيسة الأرمنيّة…

[12]  البطريرك الكردينال أغاجنيان الأرمنيّ، رئيس مجمع انتشار الإيمان، والكردينال سوننس، رئيس أساقفة بروكسل (بلجيكا)، والكردينال دوفنر، رئيس أساقفة ميونيخ (ألمانيا)، والكردينال ليركارو، رئيس أساقفة بولونيا (إيطاليا).

[13]  وهي أربعة. دستوران عقائديّان : في الوحي الإلهيّ وفي الكنيسة، ودستوران راعويّان في الليتورجيا والكنيسة في عالم اليوم.

[14]  هذه قائمة القرارات : في مهمّة الأساقفة الراعويّة في الكنيسة؛ في خدمة الكهنة وحياتهم؛ في التنشئة الكهنوتيّة؛ في التجديد الملائم للحياة الرهبانيّة؛ في رسالة العلمانيّين؛ في نشاط الكنيسة الإرساليّ؛ في الحركة المسكونيّة؛ في الكنائس الشرقيّة؛ في وسائل الإعلام.

[15]  ثلاثه بيانات : في التربية المسيحيّة؛ في علاقات الكنيسة بالأديان غير المسيحيّة؛ في الحريّة الدينيّة.

[16]  يجد القارئ الذي يتوخّى المزيد من التعمّق الكثير من الشروحات في رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك الراعويّة الرابعة : سرّ الكنيسة، أنا الكرمة وأنتم الأغصان، يو 15، 5 سنة 1996. وهذه الرسالة متوفّرة على موقع مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان الإلكترونيّ. www.opuslibani.org.lb

[17]  لايسعني في إطار هذه المقالة أن أورد بالتفصيل هذه المبادرات أو أن أشرح محتوى القرار والوثائق الأخرى، مع أنّ هذا الأمر جليل الفائدة. وأنصح قرّاء اللغة العربيّة بالعودة إلى أعداد مجلاّت المنارة والمسرّة والوحدة في الإيمان – في السنوات المجمعيّة 1959-1965 لأنّ فيها كنوزًا من المعرفة. وقد سبق ونشرت سلسلة مقالات في مجلّة المسرّة حول هذه المسائل في السنوات 1992-1996.

Scroll to Top