(مقتطفات من رسالة الرئيس العام الأب مالك أبو طانوس في يوبيل الجمعية المئة والخمسين)
آبائي، إخوتي المرسلين اللبنانيّين،
1. اليوم في الذكرى المئة والخمسين لتأسيس جمعيتنا (1865-2015) لا زال المؤسّس المطران يوحنا حبيب يكلّمنا. لم تنتهِ حياته. حَدَّ الموت مداها الزمني، لكن مداها الروحي لا يُحَدّ. لقد سمع كلمة الربّ آنذاك وزُرِعت في قلبه كحبّة خردل لتثمر موهبةً روحانيّةً في جمعية رسوليّة لبنانيّة نمت وأصبحت شجرة كبيرة إنتشرت أغصانها وامتدت إلى كلّ أقطار الأرض. هذا هو سرّ حياة المؤسّس المطران يوحنا حبيب، «تجسَّدت أمانة في القليل، لتؤخذ في غمار المحبّة اللامتناهية، وتكثر في الكثير، فتأتي بالثمار وتدوم ثمارها. وهذه الأمانة خيط متواصل منه إلينا، تستمرّ وتتجدّد وتكمل في أمانتنا» (الأب يوحنا العنداري، المطران يوحنا حبيب، ص 489).
2. الكريم: رسالة كُتبت باللحم والدم.
المؤسّس حكى، لمئة وخمسين سنة خلت، كلماتٍ كثيرة زرعت في قلب آبائنا الذين سبقونا.
… المؤسّس كتب ساجداً أمام القربان قوانين جمعية المرسلين اللبنانيّين الموارنة وتركها لنا لا لتكون حبراً على ورق ولا في ألواح من حجر بل لتنمو في قلوب من لحم ودم وتضحيات (2كور 3/3). وبالثقة التي وضعها الله فيه ومكّنه أن يكون «خادم عهد جديد» في كنيستنا المارونيّة يدعونا اليوم بعد 150 سنة لنبقى أمناء لموهبة التأسيس، «ولئِلاَّ تفتر همّتنا، بل لنرفض كلّ الأساليب الخفية الشائنة ونظهر الحقّ ونوصي بأنفسنا لدى كلّ ضمير إنساني أمام الله… وما نكون إلاّ خدماً من أجل يسوع» (2كور 4/1-5). وإن أضاف بعد، فعبارات بولس إلى أهل فيليبي 2/12-19: «الآن يا أحبائي، كما أطعتم كلّ وقت… إعملوا أكثر عمل حياتكم بالخوف والرعدة. فالله هو الذي يعمل فيكم الإرادة والعمل على حسب مرضاته. إعملوا كلّ شيء، بغير تذمّر لتكونوا وديعين بلا عيب، كأبناء الله الأحرار الساكنين وسط جيل صعب وملتوٍ. واظهروا بينهم كالنيرات في العالم، متمسّكين بكلمة الحياة، لافتخاري يوم المسيح أني لم أسعَ عبثاً ولم أتعب باطلاً».
3. المؤسّس إن حكى…
أين صوت المؤسّس بعد لنا اليوم؟
صوته لنا اليوم بادئ ذي بدء في سيرته. لم يكتبها هو. لا مذكرات ولا مفكرات لديه، فقط أوراق منثورة متراكمة، منه وإليه، شواهد لغاية الله به ولعناء الإنسان وراء مقصد الله منه. كلّها تصبّ في هدف عمره الواحد: جمعية الرسالة اللبنانيّة.
سيرته مسيرة دائبة، محجّتها الكَريم. وطئ عتبته كمن يلقى حظّه، وما عاد ليتعرّف إلى مستقرّ سواه. وهكذا ارتبط الإسمان: كريم الحبيب. بين جدران الكريم استكنّت روحه وتمّت آماله. فلم يحيَ إلاّ لهذه الذرّة التي وهبه إياها الله، وما ترجى إلاّ بركتها بذرّية تنمو وتكبر وتثمر.
وهكذا حصر همّه وعمله بالمرسلين، إندفع متفايناً ليخدمهم ويحضنهم. قطع كلّ علاقاته مع أهله وذوي قرباه ليكون فقط للكريميّين.
هذه الصورة التي مثلت للعيان عنه، وهي تحكي – لا حاجة لصوته يشرحها. إنّه مقيّد بهواه الكبير: المسيح. يغالب الصعاب ويغامر المراد ويركض في غرامه الثاني: الجمعية.
سيرته المتقدة المشغفة بالكريم تبقى كلمته الأقوى والأفعل.
هلاّ سمعنا صوت سيرته في داخل قلوبنا!!
4. قانون المرسلين، خبرة صلاة وعهد حياة:
لا شك أنّ المؤسّس إن حكى اليوم، لأعاد لنا كلمات القانون التي كتبها بخط يده: «إنّ الغرض من تأسيس جمعية المرسلين اللبنانيّين الموارنة، أن يجري أبناؤها في قصد طريق الكمال، ويبذلوا جهدهم في أمر خلاص نفس القريب ونفعه الروحي بالكرازة بالإنجيل المقدّس، وبالإنذار والإرشاد، والتفقيه بالأمور الدينيّة، ومباشرة أعمال الرسالة، وتعليم العلوم الكنائسيّة والأدبيّة التي تؤول لنفع القريب، وذلك لمجد الله الأعظم».
هكذا افتتح المؤسّس قانون الجمعية وحدّد غايتها. وهذا ما نشدته طائفتنا المارونيّة أمداً طويلاً – ولم يكن للموارنة من قبل ولا للطوائف الشرقية الأخرى، جماعات رسوليّة، بل اقتصرت الحياة الرهبانيّة عندنا على وجهها النسكي والديري. حلول المرسلين الغربيّين في الشرق أيقظ الروح الرساليّة، وتطلّع الكثيرون إلى قيام جماعة مرسلين موارنة على غرار أولئك. انطلقت المحاولة الأولى في مدرسة عينطورة المارونية لتكمّل سيرها وتتحقّق في الكريم. وفي كنيسة الكريم قبالة المذبح وأيقونة العذراء خاشعاً متأمّلاً بين السنتين 1871 و1872 كتب يوحنا الحبيب قانوناً للمرسلين. وهنا في هذه الكنيسة، وأقلّه لسنةٍ في حياته، صلّى كلّ كُريمي منّا وسمع صوت الربّ وصوت المؤسّس.
فجمعية المرسلين اللبنانيّين نشأت في الكُريم وانطلقت ووضعت رسومها بمقتضى الأُسُس الروحيّة والنظم القانونيّة في صيغة جمعت التكرّس بالنذور والعمل الرسولي. شقّ يوحنا الحبيب طريق الرسالة بما ألهمه روح الله آنذاك، ولكن لم يغلق سبيلها نحو تطوّرات عتيدة منشودة، يوقظها الروح ساعة يشاء وتمليها علامات الأزمنة. وهكذا بدأت رسالة الوعظ والإرشاد والتعليم معه لتكمّل بعده إلى رسالة الانتشار ثمّ إلى رسالة الإعلام والتواصل الاجتماعي وغيرها من حقول الرسالة.
من هنا تظهر «الرسالة» ليس كغرض مضاف إلى الترهّب، إنّما جوهر التكرّس عينه، ومادة حياة المرسلين بأسرها؛ ويصفها هو المؤسّس «بالجندية» في سبيل الله وملكوته. «الرسالة» مُقامَةٌ بين «الرهبانية» و«الخورنية»، تأخذ من كلتيهما دون أن تتحوّل إلى هذه أو تلك. المرسل كالراهب باعتناقه النذور، وهو أيضاً مثل خوري الرعية في عيشه بين المؤمنين ولأجلهم، ولكن دون أن يحصره موضع ليظلّ يزاول خدمة روحيّة طليقة، ناشراً خيورها على المدى الأوسع.
* * * * * * * * * *
5. الكريم منبتنا! الكريم: منهل الكريميّين المقدس! الكريم: واحة نعمة!
«أنا الكرمة وأنتم الأغصان…
أثبتوا فيَّ وأنا فيكم
لا تستطيعون أن تثمروا ما لم تثبتوا فيَّ
مَن ثبت فيَّ وثبتُّ فيه فذاك الذي يثمر ثمراً كثيراً» (يوحنا 15/1-5)
ها كُريمنا ككرمة الإنجيل يدعونا لنثبت فيه أغصاناً حيّة تثمر ثمراً يدوم.
«الكريم» في وادينا المقدّس يبقى منبتنا، إليه نعود دائماً لننهل من صمت جدرانه سلامنا الداخلي ولنجد في جميع المستريحين في ترابه، من المؤسّس إلى سائر الآباء المتوفين، قدوةَ كمال وقداسة.
«كلّنا كُريميّون» ليس بالإسم ولا في الخارج ولا عن غير استحقاق، إنّما بالقناعة الداخليّة وبالسعي والجهد اللذين وضعناهما على مدى سنين عمرنا لتتكوّن فينا صورة المرسل اللبناني على صورة المسيح المرسل من الآب إلى العالم.
إلى «الكُريم» غوسطا اهتدى المطران يوحنا حبيب، وفيه أسّس أمنية عمره التي حملها جاهداً: جمعية مرسلين موارنة. هنا رأى يمين الربّ تستقرّ وتشقّ الطريق منطلقة إلى العالم. في هذا الوادي الظليل يقبع الدير الذي في رحمه سيتكوّن كلّ مرسل كُريمي. هنا أفرجت العناية الإلهيّة كربة نفس الحبيب وحقّقت له الحلم الكبير؛ وشابهت نفسُه نفسَ سمعان الشيخ في الهيكل الذي أبصرت عيناه الخلاص، هكذا أبصرت عينا الحبيب الدعوات تدخل إلى الكُريم لتعلن الخلاص للنفوس. ولا زالت – الحمد لربّ الحصاد – الدعوات السخية تؤمُّ الكريم وتتأصّل في الكريم وتحمل رسالة الكريم في العالم.
خلال السنوات الثلاثين التي طواها الخوري يوحنا حبيب في دير الكريم حوّله إلى «مكان مقدّس» يدعو إليه كلّ من زارته عناية الربّ ليخدم إخوته، وينادي: «تعالوا! كلّ شيء معدّ لكم» (لو 14/17). وحقيقةً لقد أعدّ كلّ شيء فيه: داره، أرزاقه، رواقه، مطبخه، خشبه… كما أيضاً مناخه الروحي وذخره الداخلي وهواءه الإنجيلي.
6. كانوا في كُريمنا غرسات برٍّ وقداسة، «أسماء في السماء»:
في كُريمنا الحبيب غرساتٌ كثيرة أعطت لبنان والانتشار ثمراً كثيراً. لا نذكرهم في يوبيلنا ذكرى عاطفة وحسب، إنّما لنا من حياتهم وحماسهم الرسولي أمثولات.
السبعون الذين أرسلهم يسوع أمامه ليعلنوا بُشرى الملكوت، عادوا كلّهم فرحين. كلمة الله التي استقرت في أفواههم ذات سلطان، وقدرته الصانعة المعجزات امتدت أيضاً إليهم. أمام نشوة الاقتدار هذه كشف لهم يسوع عن الفرح الذي لا ينزع منهم، «إذ أنّ أسماءهم كتبت في السماء» (لو 10/20). ما يُصنع في الأرض تعكسه السماء، حيث يصعد ويخلد. هكذا، فالاسم الذي هو على أرضنا مجرّد تسمية على الهوية، يصبح كلمة خلاّقة حين يدعوه الله ويتقدّس حينها كما اسم الله المقدّس (متّى 6/10). أسماء كلّ هؤلاء الذين حقّقوا السماء على الأرض تأتي استجابة للذي باسمه يخلص كلّ إنسان (أع 4/12) والذي هو الاسم الذي يفوق كلّ اسم (فيل 2/10).
باسم يسوع المسيح، ولأجل اسم يسوع المسيح، ولمجد اسم يسوع المسيح عمل التلاميذ والرُسل. هو الذي أرسلهم كما أرسل الآب (متّى 28/18)، حمّلهم الصليب (لوقا 9/23) وأعطاهم أن يعلّموا العالم ويعمّدوه. وجميع أفراد جمعية المرسلين اللبنانيّين «أسماء» دعاها الله ورسمها بشبه صورة ابنه. دعاهم وأحبّهم ومجّدهم (روم 8/28-30). دعاهم بأسمائهم البسيطة الوضيعة، وعاشوا معه بأمانة وإخلاص متمّمين الجواب على ندائه، وسارت بهم الطريق – على ما نرجوه – رغم تعرجاتها وصعوباتها صعوداً إلى السماء، إذ لا شيء على أرضنا يذهب هباء، لا كأس ماء يضيع أجره (مر 9/41)، لا وقفة إلى جانب جائع أو غريب أو مريض أو سجين تتلاشى في النسيان (متّى 25).
كلّ وجوه كُريمنا كنزت من وجه المسيح قوّةً وبركةً لحياتها ورسالتها، وحملت هذه البركة لنفوس لا تُحصى، أفاض الله عليها بواسطتهم روحه القدوس المعزي المشجّع. تبقى وجوه آبائنا وإخوتنا الذين سبقونا إلى بيت الآب وجوهاً لا تغيب. وسيرة حياتهم، بما ظهر منها وما خفي، تبقى لنا منارة ومثالاً و«مفكرة» نستمدّ من ذكرياتها سنداً لحاضرنا وذخراً ودفعاً لمستقبلنا. عبورهم إلى السماء كلّما تكاثر، إنّما رفع نقطة الثقل إلى فوق، جاذبيةً عكس الجاذبية الفيزيائيّة، وهكذا عائلة الكُريم السماويّة المنتصرة تساعد وتشفع بالعائلة الكُريميّة المجاهدة بعد على الأرض.
… الوقت يضيق بنا لنخبر مستفيضين عن كلّ واحد منهم. فهم، بفضل الإيمان، جابوا البلاد والاغتراب وتحمّلوا الصعاب وعانوا ما عانوه. «ونحن الذين يحيط بنا هذا الجمّ الغفير من المرسلين الشهود، لِنُلْقِ عنا كلّ عبء وما يساورنا من شك وَلْنَخُضْ بثبات صراعنا اليوم، محدقين مثلهم إلى مبدئ إيماننا ومتمّمه يسوع ولنقاوم ولنجاهد في سبيل الرسالة حتى الدم» (عبرا 11/32 و12/1-4).
7. صليب «الحبيب» وصليب الكريم:
لقد رسا الصليب على كتف الحبيب، وامتدت الدرب صاعدة مع العقبات. إنّها درب آلام، لكنه جمع كلّ قواه ولم يبغِ إلاّ واحدة: جمعية مرسلين. وهل ينشأ مرسل دون صليب؟
لقد قال يوماً: «لا بد في هذه الدنيا من الصليب. أفكروا في صلبان أهل العالم، من رفيع ووضيع، وخادم ومخدوم، كم يشقون ويقاسون. وافكروا أيضاً في صلبان الرعاة الروحيّين، كم يكابدون في سياسة رعاياهم من أنواع الأسواء وضروب المضادات… فهل يليق بنا بعد، أن نستثقل صليبنا؟».
هذا الصليب رَسَم المرسلين به، واتّخذوه لهم شعاراً وعلامةً بها يُعرفون. وكأنما ارتسمت في ناظريه واستقرت، منذ ولوجه كنيسة الكُريم، صورة المصلوب القائمة فوق المذبح. إنّها اللوحة القديمة النفيسة التي استبقاها لدى نزوح الأرمن عن الدير، وهي تمثل مشهد التجلّي على قمة الجلجلة: الابن المدلّى على صليبه، يحضنه الآب بذراعيه، ويظلّه الروح بجناحيه.
أمامها خشع الحبيب في النهار وفي الليل، في مجيئه ورواحه ووسط همومه، وانجلت له رؤيا الصليب وعمقت في وعيه حتى وجد ذاته مقرّباً إلى الصليب نظير مَن كان شفيعه واتخذه شفيع المرسلين مع أمه.
لا زالت هذه اللوحة مرتفعة في كنيسة الكريم – واليوم في حلّتها الجديدة المرمّمة المقلوشة. لا زالت تدعو إلى الصلاة والتأمّل – تنادينا نحن المرسلين لنلجأ إلى الصليب، لنحمله كلّ يوم بصبر وفرح، ولنعلن كنوزه للعالم أجمع. إنّه نفسه «الصليب الذي أصبح به العالم مصلوباً. وأصبحنا نحن عنده مصلوبين» (غلا 6/15)، إنّه الصليب نفسه ننادي به في وجه حماقة العالم كما في وجه حكمة هذا الدهر وجواباً على الآيات التي يبحث عنها هذا الجيل (1كور 1/17-23).
8. جمعية المرسلين على شبه حبة الخردل:
«على شبه حبة الخردل، صغيرة الحبوب كلّها، دخلت جمعيتنا الرسوليّة أرض الملكوت، وحلّت في موقعها المحدّد لها من الزمان والمكان لتنبئ عن سرّ الخلاص وتشهد له وتخدمه. فِعْلُها ضيّق المدى، ولما زاد على نقطة في بحرٍ لَو قِيسَ بمعيار الأرض. ولكن النقطة المأخوذة في الله تتحوّل إلى لجّة في بحره. ولذلك فالجمعية لا تقايس نفسها بمن سواها: غرضها الأول والدائم أن تقبل موهبة الروح التي أوجدتها وأفيضت فيها، وأن تجلوها وتحيا بها، وتمدّ ذخرها لتبلغ الحدّ الذي قسمه الله لها. والله القدير سبحانه الناظر إلى تواضعها هو يتمّ بها «العظائم»، بما يفوق جداً ما تسأل هي أو تتصوّر، بقوّته الفاعلة فيها» (الأب يوحنا العنداري، ص 205-206).
في هذا الدير الوضيع تحقّق الحلم الجميل وحلّت نِعَمُ الله. وأَمانة الحبيب التي صانت هذا العمل جعلت الجمعية كالشعاع يخترق المدى ويُنير وينتشر. ها اليوم المرسلون منتشرون في أكثر من 15 بلد في كلّ القارات، في قلبهم موهبة الحبيب الرسوليّة وأيديهم جاهدة لنشر الملكوت والخلاص.
9. جمعية مرسلين مغروم بها:
كتب الحبيب يوماً للسيد البطريرك في 21 آب 1882:
«… أنا مغرم بالجمعيّة وقد عبّدت نفسي لكهنتها، واحتملت ما لا يُحتمل من المتاعب… مع ما أنا عليه من حدة الطبع، لأنّ غرامي بها جعلني في طبقة عالية من الصبر العجيب، وشأن المغرم عدم المبالاة بالشقاء».
هل يتّقد فينا نحن اليوم بعد 150 سنة هذا الغرام للجمعية؟
«جئتُ ألقي ناراً وكم أودّ أن تكون قد اضطرمت» (لو 12/49).
هذه الشرارة الغرامية للجمعية زرعها الحبيب في قلبه لتنتقل إلى قلب كلّ مَن سينتمي إلى جمعيته، كي يُغرَمَ هو أيضاً بها ولا يبالي بشقاء في سبيل رسالتها.
لتكن جمعيتنا فوق كلّ اعتبار وقبل كلّ شيء!
لا يفصلنا عن محبّتها شيء، لا ضيق ولا شدّة ولا خطر، لا حياة ولا ممات، لا جوع ولا برد، لا مسافة ولا رئاسة، لا حاضر ولا مستقبل (روم 8/35-39).
لِنُخْلِصْ لها العمرَ كلّه!!
10. جمعية في ميدان الرسالة: «جنى الرسالة من فيض القداسة»!
الكريم والرسالة إسمان لمسمّى واحد. كان ذلك منذ البداية ولما يزل. منذ فتح الكُريم في 13 آذار 1865 وروّاده ينصرفون إلى الخدمة الرسوليّة في شتّى وجوهها.
تعرّف الناس إلى طغمة لم يعهدوها من الكهنة، يتردّدون بينهم وينتقلون من رعية إلى أخرى لنشر كلمة الله وهداية المؤمنين. وأجرى الربّ على أيديهم خيراً روحيًّا كبيراً، وتهافت الشعب لسماع مواعظهم وامتدح الرعاة غيرتهم.
هكذا غدت «الرسالة» شغل المرسلين الشاغل، يَصِلون الرياضة بالرياضة، يجوبون البلاد طولها وعرضها حتى الأطراف، وازدحمت الكنائس لسماع كلامهم. سجلات الجمعية مليئة منذ البداية بسلسلة الرياضات التي قام بها الآباء.
مع كلّ هذا الفخر الذي دخل قلب الحبيب لأخبار مرسليه ونجاحهم، تنبّه المؤسّس إلى ما سمّاه: «تجربة المرسلين»، التي سرعان ما تسوقهم إلى الانغماس في روح العالم وتشدّهم إلى مشاغل الأرض. وهذا ما حذّرهم منه، (ولا بدّ أن نبقى حذرين) أمرين: «الأول، التماس أي حسنة أو مكافأة، حفاظاً على شرف نفسهم وتحاشياً للدناءة والطمع، ولئلا تتعطّل سمعتهم وتسقط كرامة الجمعية. والثاني، الإفراط في البحث عما لا يعنيهم في المسائل السياسيّة والأمور العالميّة، ومن الدخول في أمر لا يتعلّق بالرسالة؛ بل ليظهر أنّ غرضهم الروحيات لا الزمنيات».
وأفرد المؤسّس في كتاب القوانين باباً خاصاً للواعظين (القسم الأول، الباب 11)، حيث يعطي وصيته الأهمّ: الاعتصام بالتواضع وتحريك القلوب لا سلب العقول بسحر الألباب… لكلمة الله حقّها وحرمتها، والخطر جسيم أن تضيع في زخرف كلام الناس، فيتعطّل فعلها. فلا يلتهي المرسلون في صناعة الكلام ودغدغة أسماع الهواة ولا بالقشور دون الجوهر، ولا تغويهم رغبة المناصب ولا المنابر الرنانة و«الوعظ العالي»!…. غاية الوعظ تبقى خلاص النفوس!
ما قاله المؤسّس آنذاك يخاطبنا – لا شك – اليوم، ويلتقي مع كلام قداسته البابا فرنسيس في إرشاده الرسولي «فرح الإنجيل»، حيث يتكلّم عن الوعظ والواعظ. ليتنا نعود إلى هذا الإرشاد ونرى فيه شرعةً نحن الوعاظ المرسلين في عالم اليوم!
* * * * * * * * * * * * *
«يوبيل لتجديد تكرّسنا»
يصادف يوبيلنا هذا «سنة الحياة المكرّسة 2015» التي أعلنها قداسة البابا فرنسيس، يدعونا فيها «لنشكر معه الآب الذي دعانا لنتبع يسوع بملء الارتباط بإنجيله وبخدمة الكنيسة، والذي نشر في قلوبنا الروح القدس الذي يمنحنا الفرح ويجعلنا نشهد للعالم أجمع لحبّه ورحمته».
في أهداف هذه السنة يدعونا قداسته «للنظر إلى الماضي بامتنان، لعيش الحاضر بشغف ولقبول المستقبل برجاء». هذا ما سنفعله في هذه السنة اليوبيلية، «سنحوّلها إلى زمن الله حقاً، زمن غنيّ بالنِعَم والتحولات».
1- النظر إلى الماضي:
يقول قداسته: «كلّ مؤسّسة أتت من تاريخ مواهبي غني. في هذه الأصول حضور لعمل الله الذي دعا بروحه القدوس بعض الأشخاص لاتباع المسيح بقرب أكثر، ولترجمة الإنجيل بطريقة عيش خاصة، ولقراءة علامات الأزمنة بعين الإيمان… ونمت خبرة البدايات وتطوّرت… ومثل البذرة أصبحت شجرة وامتدت أغصانها… من المناسب جداً أن نتذكّر مواهبية بداياتنا وتطوّرنا التاريخي… من أجل الحفاظ على الهوية حيّةً وإعادة تعزيز حِسّ الانتماء… ليس الأمر تنقيباً أثريًّا أو تنمية حنين، إنّما لنجني منه الشرارة الملهمة والمثاليات والقِيَم التي حرّكت الأجيال». هذه الشرارة في البدايات شكّلت «هبّة ريح» الروح القدس لكلّ رهبنة.
* ماذا لنا – نحن الكُريميّين اليوم – في ماضي كُريمنا؟
أليس لنا في ماضينا طريقاً خصباً وزمنَ نِعمة وخبرةً غنية؟
أليس لنا إرثاً ثميناً علينا استثماره؟
يتخطّى الإرث «التركة المادية» ليصبح تاريخاً حيًّا، عيشاً موروثاً وخبرة مكتسبة. الإرث صيت روح وروحانيّة وديناميّة لاستمراريّة ماضٍ حيّ يعطي ثقة بالذات وطاقة للحياة الوافرة. الإرث ذاكرة حيّة تدوم على مدى السنين، ذاكرة من أجل الأمل. إرثنا نعرفه مما يستذكره آباؤنا عن الذين سبقوهم، هو نهج سرى في عروق السالفين؛ فقرٌ مُعاش بصدقٍ وفرح، (الكُريمي لا يسأل عن المال ولا تشغله المادة)، طاعة أمينة ملتزمة (الكُريمي يرى في الطاعة أساس الجمعية وفي الرئيس إرادة الله)، حبٌّ أخوي وإلفة (الكُريمي يحبّ أخاه، يسهر عليه ويحميه، يقدّس ذاته لأجله)، عفّة طاهرة نقية (الكُريمي ما ارتبط يوماً صيته إلاّ بنقاوة السيرة وسموّ العلاقات البشريّة)، روحانيّة عميقة غنية (الكُريمي رجل صلاة وخلوة، يتأمّل يوميًّا بكلام معلّمه ويخشع دائماً أمام قربانه).
هذا الإرث أعطى الجمعية صيتاً معطراً بشذى القداسة الظاهرة في حياة المؤسّس ومعاونه الأب اسطفان وفي حياة سائر الآباء.
* قدوة الصلاح: كنز الأب إسطفان قزاح.
لم يفوّت الحبيب فرصة العمر، استرضى المشايخ وأقنع الأرمن وابتاع الدير والعقارات المحاذية في 18 شباط 1865، ووقفه وقفاً مؤبداً في الشهر التالي لجمعية المرسلين في 13 آذار 1865.
وفي 13 آذار 1866، دخل الآباء الباكورة اسطفان قزاح وفرنسيس الشمالي ويوسف العلم هذا الدير المنتظرهم دقيقة فدقيقة. هنا فاض الفرح في قلب الحبيب، خاصةً والتقى قلبه بقلب اسطفان قزاح. سيّرتهما العناية على خطّين متوازيين في اتجاه واحد، إلى أن إلتقيا، ساعة حلول النعمة، وكأنّهما على موعد، في دير الكريم. أرسى اسطفان في بنيان الحبيب كلّ ثقله الروحي، إندرج في صلب الموهبة الطالعة، عاشها وأغناها. أعطى الجمعية دفعها حيث جسّدت سيرته البرارة في وسطها. من روحه وقوله وفعله استمدّ الآباء الهداية، فَدَعَوْه بحق: «معلّمنا الخوري إسطفان»، كما دعاه المؤسّس بإجماع الآباء: «أبو الجمعية».
عن الخوري اسطفان قال الحبيب:
«اعتباري لك أنّك الرجل القديس، أنّك الشخص الذي أوجد روح الغيرة على خلاص النفوس في الطائفة المارونية، ولولاك لما انوجد فيها هذا الروح، أي روح الرسالة…».
«أنت السبب والدافع والمحرّك لعملي، أعني تجديد الرسالة. أعتبر باطناً شخصك بمنزلة قديس. فقط أريد منك أمراً واحداً، وهو اتخاذك ذخيرة للجمعية التي أنت أصلها».
كثيرون ممن عرفوه ردّدوا السؤال: «ألم يُجرِ العجائب بعد؟». ربما أعجوبته الدائمة الوضاءة، تلك التي تغني عن سواها، هي أنّه كان ويبقى «حجر الزاوية» في أُسس بناء الكريم الروحي، وهو البذرة السخية التي طمرت في تراب الكريم، فبعثت الكرمة الكبيرة الناشرة أغصانها اليوم في العالم.
«معلّمنا الخوري اسطفان» إن حكى…
اليوم ماذا سيقول لنا؟
ليتنا نتعلّم من سيرته، هي تكلّمنا. لا حاجة للكلام، الفعل والعمل لغة أجدى. بهما يظهر لنا اليوم الخوري اسطفان مثالاً جريئاً، عسانا نأخذ منه العبرة والغيرة.
2- عيش الحاضر:
القاعدة المطلقة للتكرّس هي الإنجيل. ومثالية المكرّسين هي الالتزام بالمسيح حتى درجة القول كبولس: «حياتي هي المسيح» (فيل 1/21). والنذور تكمن في تطبيق الحبّ المتيّم بالمسيح.
حاضرنا يدعونا لطرح أسئلة على أنفسنا، وهذا لا يكفي. إنّما يريدنا أن نعيش أصالة روحيّة إنجيليّة. فهل الإنجيل هو حقًّا خط حياتنا اليوميّة؟ هل نتأمّله ونعيشه؟ هل المسيح هو حقًّا حبّنا الأول والوحيد؟ هل نحن بكلّيتنا «بقلب غير منقسم له؟» هل نلبّي في رسالاتنا وأعمالنا ووظائفنا ما يطلبه الروح؟ هل نحن قريبون من كلّ إنسان وخاصةً الضعفاء والمنبوذين والمحرومين؟ هل نحن إخوة لبعضنا البعض؟ هل نعيش شراكة الجماعة الأولى قلباً واحداً وروحاً واحدة؟
لنطرح كلّ هذه الأسئلة اليوم ولنفتّش ليس فقط عن الجواب، إنّما عن العمل والحق (1يو 3/18).
3- معانقة المستقبل برجاء.
تحديات كثيرة تواجهها الحياة المكرّسة في واقع عالم اليوم السريع التبدّل مع تكنولوجياته ومعلوماتياته وعولمته؛ هذا عدا التجارب التي تهدّدها: النسبيّة والماديّة والذهنيّة الرأسماليّة والتهميش الاجتماعي و… فأين الرجاء لعالمنا وأين الرجاء لنا – نحن المكرّسين؟ هل نجده في أرقام ودراسات ومخطّطات أم نبنيه على الذي وضعنا فيه ثقتنا (2طيمو 1/12)، «وعنده لا أمر مستحيل؟» (لو 1/37).
إنّ الروح لا زال يعمل في العالم وفي الكنيسة، لا يزال يجدّد ويبعث الرجاء. كما قال الكاردينال Suenens أثناء المجمع الفاتيكاني الثاني: «نحن نؤمن بمفاجآت الروح السارة». قداسة البابا فرنسيس يدعونا في رسالته إلينا، مكرّراً كلام البابا بندكتوس السادس عشر: «ألا نتّحد بأنبياء الشؤم الذين يعلنون نهاية أو لا معنى الحياة المكرّسة، بل لنلبس بالأحرى يسوع المسيح ومعه أسلحة النور كما يدعو القديس بولس (روم 13/11-4) ونظل يقظين ساهرين».
* فما هي الآمال والانتظارات المعقودة علينا وعلى جمعيتنا؟
ألا يجدر بنا أن نحلم، إنما واعين، «حلم الكُريم» الجديد المستقبلي؟
* حلم الكُريم لبعد المئة والخمسين:
في السنة 2000، أصدر الكاردينال مارتيني Martini كتاباً ضمّنه عظاته لبداية الألفيّة الجديدة، ووضعها تحت عنوان: «حلم كنيسة الألفين». ما سأعرضه أمامكم اليوم، يشرّفني أن أسمّيه: «حلم الكُريم بعد المئة والخمسين». ليس الحلم دائماً هروباً من الواقع ولا أوهاماً صعبة المنال ولا مستحيلات من العالم الآخر. الحلم طموح جريء وسعي حثيث ورؤية مستقبليّة و«إقلاع على شراع الروح». لا نطفئنَّ الحلم الذي فينا، بهذا نطفئ الروح ونحزنه (أفسس 4/30)، إنّما لنشعل الحِلم من نور الروح القدس ومن حماس وشغف المرسلين الذين سلّمونا الوديعة، فنحمله إلى أجيال جديدة من بعدنا!
إنّنا وفيما نذكر المئة والخمسين سنة الماضية من حياة جمعيتنا التي لم تكن مليئةً دائماً بالنجاحات والهدوء، أحياناً مرّت عليها عواصف واضطرابات وآلام، لكنّها صمدت رغم كلّ شيء وسارت درب آلامها إلى القيامة والسلام. وطالما سكن الرجاء قلب المؤسّس والآباء أنّ الجمعية التي هي «عمل الروح»، «عمل الربّ»، هو الذي يعطيها أن تحقّق نجاحها. نحن مدعوّون اليوم أن نجدّد ثقتنا العميقة بالربّ، هو الذي يعمل فينا ويحفظ جمعيتنا وينمّيها. فلنحافظ على قوّة الصلاة وعلى روح المحبّة الأخويّة وعلى بساطة العيش وعلى الشهادة الإنجيليّة؛ وكلّ ما عدا ذلك هو من روح العالم. الجمعية سفينتنا تعوم على بحر عالم شرقنا المعذّب وتعبر إلى شطآن العالم الواسع محمّلة بآمال وانتظارات شعبنا. فلنكن أقوياء لنجذِّف ونجذِّف لتقوم هذه السفينة برحلتها الروحيّة؛ لا يهمّها أمواج ولا رياح الصعوبات، وليسهر المسيح المخلّص في مؤخّرتها (متّى 8/23-27) ولتعبر بالرجاء إلى كلّ الأحلام المنتظرة منها. لنكن هؤلاء «البحّارة المجذِّفين» الأقوياء الشجعاء!
* الحِلم الأول: حلم الفرح!
يقول قداسة البابا فرنسيس: «حيث المكرّسون هناك الفرح». حلمنا أن نزرع الفرح حيث نوجد. «حيث المرسلون هناك الفرح». نريد أن نكون مرسلين سعداء، وأن نجعل الآخرين سعداء. لنُعلن للجميع: لقد وجدنا سعادتنا في الربّ، ونتابع وجودها كلّ يوم في كلّ لقاء شخصي معه. هو فرحنا، ولا أحد باستطاعته أن يسلبنا هذا الفرح. لا شك أنّ لدينا أوجاع وصعوبات وخيبات أمل وأمراض وليالي وانهيارات، لكن لا نريد الاستسلام لها. نريد الصمود في الفرح، هذا الفرح الذي يعطيه الربّ. «والربّ يحبّ القلب الفرحان». نريد أن ننسى همومنا وأمورنا وقصصنا المعقّدة لنخرج إلى الناس حولنا نضمّد جراحهم ونخفّف آلامهم ونعيد لهم الفرح! يقول قداسة البابا: «المرسل ليس له وجه حداد» (فرح الإنجيل، عدد 10)
* الحلم الثاني: حلم إيقاظ العالم!
كلّ البشر يتعبون وينعسون وينامون. «وحده الله لا ينعس لا ينام» (مزمور 121/4) حتى التلاميذ والرُسُل يتعبون وينامون ويثقل النعاس أعينهم (متّى 26/36-45).
يقول قداسته: المكرّسون يتبعون الربّ بطريقة خاصة نبوية، فينالون قدرة على سبر التاريخ وتفسير الأحداث، لذا هم كالحرّاس يسهرون كلّ الليل حتى انبلاج الفجر. فلنستيفظ إذن لهذه المهمّة، ولنجعل أديارنا وجماعاتنا ومؤسّساتنا «مدينة على الجبل» تُعلن حقيقة يسوع. فلا نخاف ذلك، إنّما لنجهد في إيقاظ العالم على الحقّ والخير والتسامي!
في رسالة للمطران Carballo، أمين سرّ مجمع الحياة المكرّسة، يقول: «على المكرّسين أن يبقوا ساهرين، ليحافظوا على البحث على وجه الله واتباع المسيح ولكي ينقادوا للروح. لا يُسمح لهم أبداً أن يناموا، إنّهم مدعوّون للتجاوب مع كلّ مطلب ومع كلّ صرخة ومع كلّ رغبة للبشريّة. إنّهم مدعوّون ليفحصوا علامات الزمن كرقباء الصبح فاتحين أعينهم وآذان قلوبهم راصدين مرور الربّ في التاريخ سامعين صوته. إنّهم مدعوّون للعبور وراء الغمام ووراء «علامات الموت» لإبراز «علامات الحياة»، مميّزين الخير عن الشرّ.
لن ينتهي المكرّسون من التفتيش والرصد «لجديد الله»… ليسهروا، ليسهروا، ليسهروا واعين مميِّزين «علامات الربّ!»».
* الحلم الثالث: شهادة الحياة الأخوية المشتركة.
في مسرحية «الأبواب الموصدة»، يطلق جان بول سارتر جملته الشهيرة: «الجهنّم هو الآخر». وهي نتيجة حكم على ثلاثة أشخاص بالتواجد في غرفة مقفلة لا إمكانيّة للخروج منها؛ ويعيشون الواحد تحت نظر الآخر، لدرجة أنّ كلاًّ منهم يتمنّى لو يُحكَم عليه بعذاب جسدي حتى، لكان ذلك أفضل له من العيش تحت ضغط الآخر. فيصرخون الواحد للآخر: «أنت جهنّم لي». أما شهادة الحياة الأخويّة في التكرّس هي تماماً الشهادة العكس: مَن يعيشون في جماعة مع بعض يعلنون: «الحياة هي الآخر». أعيش مع الآخر ولأجله، وهو علّة وجودي ومعنى حياتي.
فلنعزّز إذن هذه الثقافة، ثقافة المشاركة والأخوّة في جماعاتنا وفي قلوبنا. ولتكن الانتقادات والثرثرة والحسد والصراعات سلوكيات غير مقيمة في بيوتنا، لا بل فلنتابع الاستقبال والانتباه المتبادل والشراكة في الخيرات الماديّة والروحيّة والنصح الأخوي والاحترام (قولسي 3/12-16)، وقد سمّى قداسة البابا فرنسيس هذه السلوكيات: «صوفية العيش معاً» التي تجعل حياتنا حجًّا مقدّساً (فرح الإنجيل، عدد 87).
* الحلم الرابع: «جمعية على أهبة الإقلاع»، جمعية إرساليّة بامتياز.
كما أراد البابا فرنسيس الكنيسة في تحوّل إرسالي، هكذا لتكن جمعيتنا إرساليّة بامتياز. كلّنا مدعوّون لهذا الخروج، الانطلاق الإرسالي، متجاوبين مع كلام الربّ: «إذهبوا في الأرض كلّها وأعلنوا البشارة إلى الخلق أجمعين» (متّى 28/19). لنخرج من رفاهيتنا وعاداتنا وكلّ ما يحمينا ولنرحل إلى الأطراف الجغرافية والسيكولوجية في العالم. الإنسانيّة كلّها تنتظرنا: أشخاص فقدوا الرجاء، عائلات تعاني الصعوبات، أطفال متروكون، شباب مستقبلهم غامض، مرضى ومسنّون متروكون، أغنياء قلوبهم فارغة، رجال ونساء يفتّشون عن معنى لحياتهم، متعطّشون للألوهة… لنخرج إلى كلّ الساحات والطُرُق، إلى الجبال والمدن، إلى العالم الواسع…
إلى «العالم الواسع» يدعونا الله. لنطلب منه أولاً نعمة «العين المفتوحة»، بها نلقي نظرة إلى العالم حولنا، لئلا نكون من هؤلاء الذين لهم عيون ولا يبصرون!
لنخرج، نعم، لنخرج، لتمتلئ حركة المطارات بإقلاعاتنا إلى كلّ البلدان التي انتشر فيها شعبنا. وكما يفضّل البابا فرنسيس كنيسةً مجروحةً وسخةً لأنّها خرجت إلى كلّ الطرقات على كنيسة مريضة مغلقة، فلنفضّل نحن جمعية منطلقة إرساليّة خرجت إلى شعبنا في البعيد والقريب على أن ننغلق على ذاتنا.
أحيّيكم تحيةً حارة ذات إكبار، إخوتي الآباء الذين خرجوا في الماضي إلى بلدان الاغتراب وأمضوا السنوات الطويلة بعيدين عن الوطن الأم لخدمة شعبنا؛ أحيّي الآباء العاملين اليوم في البعيد وعددكم يفوق نصف عدد آباء الجمعية. شكراً لكلّ ما تقومون به، مكافأتكم هي عند الربّ.
خاتمة
* اليوبيل: نعمة كبرى
شاءت العناية الإلهيّة أن يتمّ، في أيامنا، الاحتفال بهذا اليوبيل المميّز لجمعيتنا؛ من هنا كانت هذه الرسالة التي نوجّهها، علّها تساعدنا وتفتح أذهاننا وقلوبنا من جديد على جوهر دعوتنا وغاية جمعيتنا وسموّ رسالتنا!
وإذا كان أصل كلمة «يوبيل» يعود إلى كلمة YOVEL العبرية ومعناها «قرن الكبش»، الذي درج استعماله كبوق، والنفخ فيه في بعض المناسبات؛ فاليوبيل لنا اليوم بعد 150 سنة على تأسيس جمعيتنا هو «صوت بوق» مؤسّسنا يصفر في ضمائرنا، يحرّك عواطفنا ويشحذ هممنا لتعبر جمعيتنا إلى الأفضل والأكثر مرضاة والأكمل لدى الله. سنة اليوبيل في الكتاب المقدّس كانت سنة غفران الخطايا ومحو العقوبات، سنة مصالحة وتوبة، سنة تضامن ورجاء وعدل والتزام، سنة فرح وسلام وتعاون، سنة مكرّسة للربّ مانح النِعَم، «سنة مقدّسة» (أحبار 25/12). وفي التقليد الكنسي كانت هذه السنة تبدأ بافتتاح «الباب المقدّس» في بازيليك مار بطرس؛ الدخول من هذا الباب فعل رمزي كمن ينتقل من حال الخطيئة إلى حال النعمة. لقد قال الربّ: «أنا الباب. فمن يدخل منّي يخلص. يدخل ويخرج ويجد مرعى» (يوحنا 10/9-10) كما أنّه قال أيضاً: «هأنذا واقف على الباب أقرع، إن سَمِع أحد صوتي وفتح الباب، دخلتُ إليه وتعشيت معه وتعشّى معي» رؤيا 3/20).
في 4 حزيران من هذه السنة (ذكرى وفاة مؤسّسنا) افتتح صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي الكلي الطوبى يوبيلنا هذا، فلنفتح إذن أبواب قلوبنا وعقولنا للربّ. إنّه حاضر في جمعيتنا، ليجدّد فينا بركته ونِعَمَه!
ليس أجمل من ختام هذه الرسالة بكلمات قداسة البابا فرنسيس التي توجّه بها، في 21 تشرين الثاني 2014، إلى كلّ المكرّسين بمناسبة سنة الحياة المكرّسة: «إنّها صيغة جميلة وثمينة جداً لاتباع المسيح اعتمدها المكرّسون تاركين كلّ شيء مُعتنقين المشورات الإنجيليّة. لتكن شهادة حياتكم نوراً على منارة تُضيء منها أعمالكم الصالحة للعالم. أكرّر لكم الدعوة: أيقظوا العالم! أنيروه بشهادتكم النبوية في وقته وفي غير وقته!» وإلينا ثلاث كلمات برنامج:
- لنكن سعداء! لنظهر للعالم أنّ اتباع المسيح يملأ القلب فرحاً! ولننشر هذا الفرح إلى كلّ من حولنا!
- لنكن شجعاء! بقوّة الروح القدس الذي يرافقنا، لنذهب إلى كلّ طرقات العالم، لا نهاب شيئاً. لنظهر قوّة الإنجيل الخلاقة!
- لنكن رجال شراكة! لنكن بنّائين شراكة وأخوّة بين الناس، ولا نتعب من ذلك. لنظهر أنّ الأخوّة الشاملة ليست وهماً وخيالاً بل حقيقة!
بركة الله الآب الضابط الكلّ ونعمة الابن الوحيد وشركة الروح القدس تنزل علينا وتحفظنا إلى الأبد.