Almanara Magazine

المؤسِّس المطران يوحنا حبيب والشأن التربويّ

للأب ساسين زيدان

المرسل اللبناني

مقدّمة

في ضوء لهيب غيرته المتّقدة، ومن وحي موهبته الفريدة، حدّد المؤسِّس المطران يوحنا حبيب هويّة المرسل اللبناني الأصيل بقوله، في البند الثاني من القوانين، ما حرفيّته: «وجب أن تكون هذه الجمعيّة مؤلّفة من كهنة ورعين ذوي علم وعمل». وكان سبق له وعدّد، في البند الأول، الدوافع والأسباب الموجبة بالقول: «إنّ الغرض من تأسيس جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة أن يجري أبناؤها في قصد طريق الكمال، ويبذلوا جهدهم في أمر خلاص نفس القريب ونفعه الروحيّ، بالكرازة بالإنجيل المقدّس، وبالإنذار والإرشاد والتثقيف بالأمور الدينيّة، ومباشرة أعمال الرسالة، وتعليم العلوم الكنائسيّة والأدبيّة التي تأول لنفع القريب، وذلك لمجد الله الأعظم»[1].

ولكي يصبح المسيحي المؤمن من «الكهنة الورعين ذوي علم وعمل»، يعوزه تربية وتنشئة. وكان المؤسِّس، في البدايات، قد عقد الأمل بأنّ «سيادة الرؤساء مطارين الأبرشيّات الفخام، في هذا الأمر المهمّ، بلا محالة، يُعنَون بالتفتيش والفحص عمّن يصلح لفلاحة كرمهم، فيدّلونهم على هذه الجنديّة (أي جمعيّة المرسلين[2])، ويحمّسونهم. […] وذلك، لأنّه، من كَرَمِه تعالى يوجد في طائفتنا كهنة كثيرون من أهل العِلم والعمل يصلحون للتجرّد لهذا الجهاد»[3].

لكن، ويا للأسف، سرعان ما خاب أمله. إذ إنّه – وإن لم نأخذ بالحسبان الكاهنين العجوزين الذين انتقلا من مدرسة مار الياس – عينطوره إلى دير الكريم – لم يدخل الجمعيّة في الست سنوات الأولى سوى عشرة فقط منهم 7 كهنة و3 مرشَّحون للكهنوت. ولم يثبت منهم نهائيًّا سوى اثنين فقط هما الأب اسطفان قزاح، والأب نعمة الله سلوان (المطران فيما بعد)[4].

هذا ما جعل المؤسّس «يزداد يقيناً بما أوعز إليه، منذ عدة أعوام، السيّد البطريرك مار بولس (= مسعد) السامي الحكمة: أنّ جمعيّتنا لا تنمو وتنجح إلاّ بتربية شبّان نرشّحهم إليها»[5]. ونراه يبادر عندئذٍ (1872 – 1873) إلى بناء جناح جديد في دير الكريم، من الجهة الشرقيّة، يخصّصه مدرسة لتعليم وتربية عدّة أحداث، رجاء ترشيحهم إلى الرسالة[6]. وأخذ يجمع تلاميذ ويُعنى بتربيتهم على نفقة الدير، «على أمل أن يصمد أحد منهم»[7]. ومن ثمّ، وسنة بعد سنة، ستتوالى أفواج التلاميذ الوافدين. دخل الكثيرون، وقلّة قليلة ثبتت إلى النهاية. فصدق فيهم قول الربّ: «المدعوّون كثيرون، أمّا المختارون فقليلون» (متّى 22/14).

لم يَعمَد المؤسِّس إلى وضع دراسة أكاديميّة تعالج موضوع التربية على مثال «دليل التنشئة». لكنّه وعى تمام الوعي عظيم أهميّتها وضرورتها، وخَبرَ شؤونها وشجونها، واكتوى بلفحات معضلاتها ونيران مِحَنِها، وتألّم لإخفاقاتها، واغتبط بنجاحاتها، وجاد، في ما كتب من رسالات وإرشادات، بالوفير من النصائح والتوجيهات القيّمة. نستطيع اليوم، في ضوء ما عاش وعمل وعلّم، استخلاص الأصول الكفيلة بتنشئة سليمة، هادفة، ناجحة. في مجالات هذا المقال الوجيز، نلخّص كلامنا بثلاثة عناوين: التنشئة هي ورشة العمر؛ وفنّ الفنون؛ وعمل جماعي مشترك.

أولاً-ورشة العمر

التنشئة مشروع بناء، تكوين وصيرورة، الشخص البشري، من الحبل به في الحشا، حتى بلوغه نضوج «الإنسان الراشد، في القامة التي توافق كمال المسيح» (أف 4/13)؛ مسيرة عبور ورحلة حجّ، من الزمن إلى الأبديّة، من تراب الأرض إلى بهاء ضياء مجد الألوهة في أحضان الثالوث. «أما نحن فموطننا في السماوات، ومنها ننتظر مجيء المخلّص الربّ يسوع المسيح، الذي سيغيّر هيئة جسدنا الحقير، فيجعله على صورة جسده المجيد» (فل 3/20-21). بهذا المعنى، إنّها تستغرق كلّ حياة الإنسان، في كلّ أبعادها ومراحل نموّها وتطوّرها، وتستنفد كامل قواه ونشاطاته. إنّها حقًّا ورشة العمر. هكذا فهمها المؤسِّس، المطران يوحنا حبيب، وعاشها ولقّنها بنيه المرسلين.

1-في حياة المؤسِّس

من الحداثة إلى الشيخوخة والمرض الأخير، درس ودرّس؛ طالع وحضّ على المطالعة؛ تمرّس بالفضائل وأرشد إلى سلوك دروب الكمال. اهتمّ بالزمنيّات والأدبيّات والروحيّات؛ بصغائر الأمور: أكل وشرب، ولباس، وثقافة وتهذيب، وترفيه؛ وبكبائرها: حسن الاختيار، والتوجيه، وإتقان الإعداد للنذور أو الكهنوت، كما لمباشرة أعمال الرسالة، والسعي إلى القداسة.

في مدرسة عين ورقه، «أمّ المدارس»، حسب تعبيره[8]، كان «الطالب المثالي»، كما يشهد له راعي صفّه الخوري سمعان أيوب فرح الدلبتاوي[9]، جامعاً بين الذكاء الخارق والاجتهاد المتواصل، ولشدّة تعلّقه بالمدرسة وسكّانها، وأساتذتها، ولا سيّما برئيسها المطران يوسف أبي رزق الجزيني، مكث فيها سنة كاملة بعد إنهاء دروسه، يعاون الإدارة بتحمّل المسؤوليّات[10]، ويشهد له زميله ورفيق العمر، البطريرك يوحنا الحاج بما حرفيّته: «لم يمضِ علينا يوم من أيام المدرسة إلاّ رأينا الحبيب فيه مشتغلاً ومشغّلاً معاً. […] ولا تسل عن تقشّفاته وأصوامه، وباقي إماتاته، فإنّه كان في كلّ واحدة منها آية من الآيات. وأمّا اجتهاده في المدرسة فكان لرفقائه مدرسة للاجتهاد»[11]. ولم يرضخ لرغبة البطريرك بولس مسعد، ويرتضِ بدراسة الفقه الإسلاميّ، إلاّ لدى وعد رئيسه المطران أبي رزق بالسعي في إرجاعه إلى المدرسة لتدريس علم الشرع[12].

وبانتقاله من عين ورقه إلى بيروت ثمّ إلى طرابلس لدراسة الفقه، ازداد نشاطاً في تحصيل المعرفة، وانكبّ بكدٍّ وجدّ على الدرس، وراح ينقل الفتاوى والمسائل الشرعيّة بكلّ جلد وأناة، ناسخاً العديد من الكتب. فكان كدارسٍ ومؤلِّفٍ معاً. «وبين أضابيره خمسة دفاتر، مشحونة كلّها منثورات فقهيّة، وفوائد علميّة، واستفتاءات وفتاوى وتلخيصات…». ويذكر السبعلي أنّ الشيخ إعرابيّ الزيلع كان يردّد في مجالسه الطرابلسيّة: «عندي تلميذان ذمّيان، -(الحبيب والشيخ بشاره الخوري، جدّ الشيخ بشاره رئيس الجمهوريّة)، – لم أنظر بين كلّ مَن تتلمذ عندي نظيراً لهما في الذكاء والفطنة»[13].

ولم يحتفظ لنفسه بما حصّله من معارف بل حرص على نقله لطالبيه: فالتنشئة تسلّم وتسليم. وكما درس «الحبيب» بجدّ وكدّ، درّس بجدارة ومهارة. والتتلمذ له، أصبح أفعل واسطة لدى السلطات الكنسيّة والمدنيّة. خير شاهد ما قاله يوماً رستم باشا، متصرّف الجبل الثالث (1873 -1883)، لأحد المرشَّحين للقاضوية: «كفى بكونك تلميذ الحبيب شاهداً لي بصلاحتك للمنصب»[14].

ونراه، بعد تخلّيه عن القضاء -أو «عزله بالحيلة» حسب تعبيره –[15]، يُقيم في دير الشرفة، -أكثر من سبع سنوات – يتعاطى التدريس وشؤون تربية المرشّحين للكهنوت، ويعمل على إنهاء نقل كتاب اللاهوت الأدبي للعلاّمة يوحنا بطرس غوري اليسوعي، من اللاتينيّة إلى العربيّة[16].

وبعد فتح دير الكريم للرسالة، ودخول التلميذين الأوّلين: يوسف العلم -(الثاني) 1866، واسطفان الشمالي -1865، تجنّد لتعليمهما اللاهوت وأصول الفلسفة المدرسيّة، وإعدادهما للسيامة الكهنوتيّة. ومن ثمّ، بعد إنجاز ما سمّاه مدرسة الكريم، سنة 1874، «أخذت أجمع تلاميذ وأربّيهم […] ولقد صرفت وأصرف جهدي وكدّي في إتقان تربية تلاميذ الجمعيّة». ويقول في موضع آخر: «صارت هلّتي دايرة على التلاميذ وإتقان تربيتهم». وأيضاً: «أحضرت التلاميذ الصغار لأدرّسهم اللاتيني». وسيصرف زمناً يلقّنهم مبادئ اللغة اللاتينيّة في كورنيليوس نيبوتي. وفي حديثه يوماً مع التلاميذ يصارحهم بالقول ما حرفيّته: «أريد أن أصرف باقي عمري بخدمتكم غير مبالٍ براحتي، مع أني بلغت سنّ السبعين»[17].

خدمهم بتدريسهم هو شخصيًّا، وبتوفير المعلّمين، وإن من خارج الجمعيّة[18]؛ وتوفير الكتب اللازمة، باذلاً في سبيل ذلك الجهد الكبير والمال الوفير. فسعى في كلّ ظرف إلى تجهيز مكتبة الكُريم، ليس فقط بالكتب المدرسيّة، بل بكلّ المؤلّفات القيّمة المفيدة لتنشئة المرسلين ومن ثمّ لعملهم الرسولي مدى الحياة. فأنفق المبالغ الباهظة لجلب الكتب ليس فقط من لبنان، بل أيضاً من مصر، وروما، وباريس، مستنجداً بأصدقائه الكثر من الرهبان والكهنة الأبرشيّين والعلمانيّين[19].

وكان هو أوّل المستفيدين من هذا الكنز الثمين. «فقلّما وُجد أو جدّ كتاب في المكتبة، ولو مهما كان كبيراً «إلاّ أكبّ على مطالعته بإمعان، (سواء في شبابه أم في مشيبه)، واستدرك على مؤلِّفه عدّة استدراكات يكتبها […] في دفتر خاصّ. وكان يقصد من ذلك علاوة على طلب الإفادة تعليمنا الإكباب على العمل، حسب قوله يوماً: «تروني مثابراً على المطالعة والدرس، وأنا شيخ هرم مريض: فلا غرض لي من ذلك إلاّ أن أكون لكم مثالاً بل مهمازاً يسوقكم إلى العمل سوقاً متّصلاً»[20]. «وكان لا يغفل عن استعمال كلّ واسطة تساعدهم على إتقان دروسهم والتضلّع من العلوم التي يتلقّنونها. فلم يقع في يده كتاب نفيس أو صحيفة […] قويّة المبنى والمعنى في اللغة إلاّ أرسل ذلك إلى النائب، (نائبه العام زمن أسقفيّته، وهو الأب شكر الله خوري، المطران فيما بعد)، وأوصاه بإلزام التلاميذ تلاوته وإمعانهم النظر فيه»[21].

مع هذا التركيز على الدرس والمطالعة، كان يلاحظ راحة التلاميذ غاية الملاحظة ويوصي بتنزيههم عند الاقتضاء. بهذا المعنى كتب أيضاً لنائبه الأب شكر الله خوري، بتاريخ 27 تموز 1893، يقول ما حرفيّته: «اهتمّوا براحة تلاميذكم وأعدّوا لهم ما يلزمهم في ميروبا، وأعفوهم من الدرس، ونزّهوهم في المنشيّة الإسطفانيّة (أراد بها روضة الأزهار التي أنشأها أبونا اسطفان قزاح)»[22].

وتبقى في يقينه، أولى الأوليات التنشئة الروحيّة. وغالباً ما كان يتولاّها بنفسه، ويجود بها عبر الأحداث، من تدبير وتوجيه، بالقول أو بالكتابة، وقبلهما بالمثل وقدوة الحياة. وهو الذي رسم، في السطر الأول من كتاب القوانين، والهدف الأول من تأسيس الجمعيّة «أن يجري أبناؤها في قصد طريق الكمال». ولقد عاش العمر كلّه ساعياً إلى السير في دروب الكمال، والقداسة، وإلى تنشئة المرسلين وحثّهم إلى سلوكها هم أيضاً بورع وجدّية، وبحماس واندفاع. كلماته تتأجّج بالغيرة، لشدّة ولعه بما يسعى إليه. همّه الأوحد، أن يُلهب قلوب سامعيه بمثل ما يضطرم في قلبه، لتخطوا نحو الله بلا مردّ. رغبته القصوى إصلاح التربية من جذورها، بتثقيف وتهذيب التلاميذ حتى يحترّ دمهم ويشربوا حبّ الرسالة، بتنشئتهم الحثيثة على مغالبة طبعهم المائع الواني، وترسيخهم في التجرّد عن الذات، وفي همّة الروح وسخاء القلب. ليبلغوا مرتبة البذل الكامل والمطلق في سبيل الله. ولبلوغ هذا الهدف كرّس حياته وماله وعافيته، والكثير من وقته، حتى سنّ الشيخوخة. ولهذا كانت المذاكرات المتكرّرة، والإرشادات المتعدّدة، والأنظمة السديدة، والحفلات والصلوات والتأمّلات اليوميّة[23].

2– في حياة المؤسّسة

«في إتقان تربية التلاميذ، ينحصر ثبات الجمعيّة ونجاحها»[24]. بهذا الكلام عبّر المؤسِّس عن اليقين الذي تولّد لديه نتيجة تجاربه وخبرات الحياة. لذا رأيناه يجعل من تنشئة التلاميذ «ورشة العمر»، شغله الشاغل، والوصيّة الحازمة يتركها لبنيه. بدون التنشئة لا تقوم الجمعيّة ولا تدوم، وبدون إتقان التنشئة لا تنجح ولا تحقّق أهدافها وتزدهر. وبالتالي بات لزاماً عليها أن تجعل من التنشئة ورشة العمر، على مثال مؤسّسها. وتكون على مثال الكنيسة، التي هي جزء منها وفي خدمتها، «الامّ والمعلّمة»، تلد البنين وتربّيهم. وإلاّ أصابها العقم والدمار.

لا شك، الدعوة من الله. وهو سيّد عطاياه، يدعو من يشاء، ومتى يشاء، وكيف يشاء. إلاّ أنّ نعمة الدعوة، مثل كلّ نعمة، تقتضي مساهمتنا لِتنبت، وتنمو، وتثمر، وتستمرّ. وعلى المؤسّسة بأجمعها، وكلّ من أعضائها، ومن موقعه وأوضاعه، تقع مسؤوليّة السعي إلى إيقاظ الدعوات وتوجيهها، والمساهمة في تنشئتها وثباتها: هذا بالعمل المباشر، والآخر بالصلاة والمثل الصالح. الجميع، دون استثناء؛ معنيٌّ بهذه المهمّة، وعلى كلٍّ أن يجعلها همّه الأول وشغله الشاغل، في كلّ أين وآن، وجيلاً بعد جيل، وعلى الدوام[25]. وأليس هذا ما عناه المؤسِّس حين كتب يوماً بلهفة وتحرّق يناشد جمهور جمعيّته الفتيّه، قائلاً ما حرفيّته:

«عن ميروبا، في 29 أيلول 1885، رسالة تحميس وتنشيط لحضرات آباء دير الكريم الأفاضل الكرام. إذا تروّيتم وأمعنتم النظر في أمري، وما أنا عليه من إنشاء الجمعيّة إلى الآن، تجدوني مغرماً بنجاحها أي غرام. فإنّ أفكاري وأعمالي مصروفة إلى خيرها حتى تضاهي الجمعيّات الأوروبيّة، ويُخلق فيها روح المرسلين الأوروبيّين. فلا حاجة إلى بيان شدّة إلتهاب قلبي إلى الفوز بهذا المرام، ولا إلى تبيان ما قاسى قلبي من الحزن المفرط عند وقوع بعض الحوادث المزعجة التي أنذرت بخراب الجمعيّة، بخروج من خرج منها. […] أمّا ما ذكرته من حزن قلبي […] فيخفّفه رجائي العظيم المسند إليكم يا حضرات آباء الجمعيّة الأفاضل الذين أختارهم الله من بين عدد كبير إلى هذه الدعوة المقدَّسة. فأنتم القدوة لمن يقتفي أثركم بعدُ فيسلكون الطريق الذي تنهجونه لهم. وعليه فأرجو من غيرتكم على أمّكم الجمعيّة، المتوقّفة سعادتكم على نجاحها، أن تصرفوا كلّ ما في وسعكم من القول والعمل والمثال، ممّا يعود إلى تثقيف وتهذيب تلاميذ الجمعيّة حتى يحترّ دمهم ويشربوا حبّ الرسالة نظير المرسلين الأوروبيّين، ولا سيّما اليسوعيّين المأخوذ أكثر قوانين جمعيّتنا عن قوانين رهبانيّتهم المقدّسة. فهم قدوة لنا»[26].

وكان «الحبيب»، في كتاب القوانين المثبتة بتاريخ 31 أيار 1873، قد توسّع برسم الأصول والنصائح الآيلة إلى حسن اختيار الدعوات وتمييزها والسهر على تربيتها، التربية السليمة الناجعة والناجحة. وكرّس لهذا الغرض 7 أبواب كاملة من القسم الأول تملأ ما يزيد على 27 صفحة[27].

وعملاً بوصيّة المؤسِّس، وعت الجمعيّة، على مدى تاريخها، هذه المسؤوليّة الخطيرة وبذلت وسعها، – ولا بل أكثر – بالرغم من ضآلة مواردها، في سبيل نجاح هذا العمل الخطير، الشاق والشيّق، المتوقّف عليه ثباتها وتحقيق أهدافها. والقوانين المجدَّدة رسمت القواعد والمناهج والأساليب الكفيلة بإنجاحه. ولجنة التنشئة المولجة برعاية هذه «الورشة»، ومواصلة السعي إلى تطويرها وفق حاجات الأزمنة، والبلوغ بها إلى خواتمها السعيدة، لملمت محاصيل مختلف الحقبات والخبرات والمبادرات، ولخّصتها في كتاب «دليل التنشئة»[28]، ليكون بين يدي الجميع ولا سيّما القيّمين على شؤون التنشئة، «المرجع الآمن والهادي الأمين». بالعودة إليه يفقه المربّون معالم هويّة المرسل اللبناني وقسمات شخصيّته الفريدة، والميّزات الروحيّة والرسوليّة التي تتّصف بها الجمعيّة، وفق موهبة المؤسِّس، وروحه وروحانيّته: ويتمكّنوا من ثمّ، في وحيها، وضع برامج التنشئة، والبحث عن أشكال ملائمة وأساليب موآتية، تتماشى مع مقتضياتها، ومتطلبات العصر والتقدّم الثقافي والعلمي والاجتماعي[29].

3– في حياة كلّ مُرسل

حياة الجمعيّة من حياة أبنائها، وثباتها من ثباتهم. وتكون التنشئة ورشة العمر في حياة الجمعيّة إن كانت ورشة العمر في حياة كلّ من أبنائها. فإذا اقتصرت التنشئة على سنيّ الدراسة فقط، فقدت الجمعيّة هويّتها وبَطلت أن تكون «مؤلّفة من كهنة ورعين ذوي علم وعمل»، كما أرادها المؤسّس[30].  ليحقّق دعوته، ويكون ما يجب أن يكون، وما ينتظر منه الله والناس، على المرسل أن يكون تلميذ المسيح – قولاً وفعلاً في صميم كيانه. وتلميذ المسيح، هو دائماً في حالة تتلمذ. إنّه تلميذ المسيح المعلّم الأوحد. ولن «يكتمل علمه إلاّ يوم يصبح مثل معلّمه» (راجع لو 6/40). «ولن نصبح أشباهه إلاّ حين ظهوره في المجد، ونراه كما هو» (راجع 1يو 3/2). بهذا المعنى تنشئة المرسل هي ورشة العمر. وهكذا فهمها المؤسِّس وعاشها وعلّمها.

في كتاب القوانين، دستور حياة المرسلين، مراراً وتكراراً، يشدّد المطران يوحنا حبيب على أهميّة المطالعة والدرس، كلّ يوم، والسعي إلى الكمال دون كلل ولا ملل، «ليكونوا قدوة في الفضائل والمحامد؛ ليتأتّى لهم تعمير القريب كما يجب عليهم»[31]. يوصي معلّمي الاعتراف «ألاّ يملّوا من مراجعة درس المسائل الذميّة، ولا سيّما ما كان منها يتعلّق بالتأديبات والحفظ والردّ، لئلاّ يضلّوا فيضرّوا أنفسهم وغيرهم»[32]. ويحرّض الواعظ «على أن يلازم المطالعة في الكتاب المقدَّس، ولا سيّما العهد الجديد، وشروح هذا الكتاب الإلهي. وأن يحفظ عن ظهر قلبه كثيراً من الآيات الشريفة لتأييد عظاته بها؛ وأن يُكثر المطالعة في الكتب الروحيّة، حيث يعود موعوظاً وقادراً على الوعظ[33]. وفي باب «الرسالة ومباشرتها»، يذكّر المرسلين بأنّه «يلزمهم إخلاص النيّة في أعمال رسالتهم أي أن يعملوا إتماماً لمشيئته تعالى ومجده. […] والاشتغال بما يفيد خلاص نفس القريب، بحيث لا يغادرون الجدّ في طريق كمال نفوسهم لئلاّ يعرّضوا نفسهم لخطر الهلاك. فليتذكّروا قوله تعالى «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كلّه وخَسِر نفسه» (متّى 16/26). وعلى هذا يلزمهم أن يُتقنوا أمر صلواتهم وقدّاساتهم، ويمارسوا ما يتيسّر لهم من الأعمال الروحيّة المعيّنة في قانون الجمعيّة، ولا سيّما فحص الضمير اليوميّ. […] ولا ينبغي أن يتوخّوا رخاء العيش ورغده، بل عليهم أن يقنعوا بالقوت اللازم. […] ويُحرَّم عليهم حرمة شديدة إلتماس حسنة أو جائزة ممّن يتعاطون لهم الرسالة. بل يلزمهم المحافظة على شرف نفسهم بتحاشي كلّ ما يخلّ بالمرؤة، ويدلّ على الدناءة والطمع»[34].

وفي يقين المؤسِّس، دير الكريم هو مهد المرسلين، وتربتهم الخصبة، وبيئتهم الحاضنة. فيه ينشأون، ويترعرعون وينشَّئون، ومنه ينطلقون إلى ميادين الرسالة، وإليه يعودون للاستراحة واستعادة القوى – الجسديّة والفكريّة والروحيّة – وإعداد العدّة للانطلاق مجدّداً، بهمّة لا تني ونشاط متزايد. ولهذا الغرض، وكما يقول في إحدى رسائله: «جهّزت دير الكريم وأغنيته بأصناف مختلفة من الأمتعة المتقنة والتبليط بالرخام، وزيادة المفروشات من سجادات وتخوت […] ولم أقصد بهذا التحسين الغير المعتاد في أديرة طائفتنا إلاّ الترغيب في الإنضمام إلى سلك الجمعيّة»[35]. ورسم في كتاب القوانين نظام الحياة الديريّة الجماعيّة، وما تتضمّنه وتقتضيه من أوقات ترفيه واستراحة، وممارسات فروض روحيّة، – صلاة عقليّة، وتلاوة الفرض الإلهي، واحتفال بالقداس، والقراءات الروحيّة الفرديّة والجماعيّة، الخلوات والرياضات…-. وشدّد على وجوب خلق المناخ الموآتي من إلفة ومحبّة وتعاون، وسكينة، راسماً ما حرفيّته: «فليحفظوا السكوت في الدير إذ يكون كلّ منهم منفرداً في أوضته للاشتغال بالمطالعة أو غيرها من الأشغال الخاصة. فليس لأحدهم أن يكالم صاحبه إلاّ بطريق الاتفاق أو لداعٍ كاستفادة معنى أو استطلاع رأي في مسألة، وما أشبه، بحيث لا يرفع صوته لئلاّ يكدّر الآخرين، ويجب السكوت الأشدّ في المدّة المعيَّنة للرقاد»[36].

هذه الأنظمة، وما تتضمّنه من تركيز على الدرس والمطالعة، وإتقان فروض الحياة المشتركة الأخويّة، والحياة الروحيّة، حتى أثناء مباشرة الرسالة، ليست سوى تأكيد على أنّ التنشئة هي ورشة العمر، وتركيز مسبق على ما نسمّيه اليوم «التنشئة الدائمة». إنّها ضرورة حياتيّة، في كلّ عصر، وبخاصةٍ في عصرنا الحاضر «المتميّز بتغييرات عميقة وسريعة، وتبديلات جذريّة، وتطوّرات فوضويّة في الذهنيات والأوضاع، غالباً ما تقود إلى الشكّ في القِيَم الموروثة، وتنعكس نتائجها حتى على الحياة الدينيّة»[37].

ثانياً – فنّ الفنون

ورشة العمر، التربية هي أيضاً «فنّ الفنون»، كما سمّاها الأقدمون، لوعيهم أنّها، ليست فقط فنًّا مثل سائر الفنون، بل الأفضل، بسموّ مقامها وقيمتها وأهدافها وأصولها وتقنيّاتها. إنّها فنّ نحتٍ، وصقلٍ، وتجميلٍ، وتبدّلٍ، وتكوينٍ، وخلقٍ جديد، بهدف تصوير الإنسان الكامل «على صورة الله في البرّ وقداسة الحق» (راجع أف 4/24، وأيضاً 4/13)، وبالتالي «الكاهن الوَرِع، والمرسل رجل العِلم والعمل»[38].

في هذا المضمار، يقتضي فنّ التربيّة من جميع المعنيِّين، – ومهما تباينت الأدوار والأعمار والمواهب، – العديد من الخصال والكفاءات والمهارات. وبنوع أخصّ، يتوجّب عليهم الاقتناع بما يقوم عليه هذا الفنّ من أركان، واعتناقها، قولاً وفعلاً، في الوجدان وفي الممارسة، وفي كلّ مستلزماتها، إنّ راموا بلوغ الهدف المنشود. على ضوء ما عمل وعلّم المؤسِّس المطران يوحنا حبيب، نرى أنّ هذه الأركان تتمحور ما حول العناوين الثلاثة التالية: الاكتراث، والمثابرة، وحرارة الروح.

1– الاكتراث

«واعلموا أنّ الأعمال تقوم بالاكتراث، فبلا اكتراث لا يقوم عمل. فلا يعمر بيت، ولا يتربّى ولد، ولا تُحفَظ جماعة إلاّ بالاكتراث للعمران والتربية والمحافظة. فأكترثوا إذاً…»[39].

بهذه العبارات، خاطب المؤسِّس صغار المرسلين في إرشاد، عنوانه: «ترويض الأخلاق، تاريخ 19 آذار 1883، كما دوّنه بقلمه في دفتر مذكّرات سمّاه «السفينة». وفي أقلّ من 3 أسطر تتردّد ثلاث مرّات كلمة «اكتراث»، ومرّة فعل الأمر «اكترثوا». كلام وجيز بليغ، في أسلوب أدبيّ رفيع. تكرار كلمة «اكتراث» خير برهان على صوابيّة المبدأ وعظمة أهميّته. وختام الكلام بفعل الأمر: «اكترثوا»، أقوى حافز للمبادرة، عاجلاً، وفي الحال، إلى وضعه في العمل. وإن أوصى بالاكتراث فلأنّه سبق وعمل به وخبر عظيم فوائده. حياته كلّها، بكلّ تفاصيلها، كبيرة أم صغيرة، أكبر شاهد. منذ الحداثة، عُرف بوعيه وجدّيته وإتقانه، وحتى الرمق الأخير بقي على يقظته وانتباهه لكلّ شاردة وواردة. نراه يهتمّ بإصلاح برغي مكنة هرم التبغ، كما بتدبير موارد الجمعيّة ليضمن للمرسلين عيشهم وراحتهم. يذكّر بوقت زرع مسكبة النعنع والبقدونس، كما بأوقات الممارسات الروحيّة؛ يسهر على تأمين قرمة للجرس وحربة للصاعقة، كما بتجنيد الشبّان للرسالة وشؤون اختيارهم، ويوصي بحسن ملاطفة تلميذ يافع جديد لئلاّ يستفقد لفراقه ذويه؛ يسعى إلى إرسال التلاميذ إلى معاهد أوروبا الكبرى، كما بصحّة المرسلين ولوازم عيشهم، أو الحصول لهم على الإنعامات من السيّد البطريرك لتسهيل مهمّتهم. «ولشدّة حرصه ودقّته، ومخافة أن يغيب عن باله تدبير، أو يفوته أمر ممّا تقتضيه مصلحة الجمعيّة، دأب على تدوين المعاملات والإجراءات المتوجّبة في مفكرة خاصة أسماها: «مذكّرة أشغال ومصالح»، كانت دوماً في حوزته[40].

نكترث لأمر بقدر ما نفقه قيمته، ونتحسَّس ضرورته، فنندفع في طلبه، غير هيّابين، لا مبالين بصعوبة أو عناء. في مفهوم المؤسّس «الحبيب»، يولد هذا الاكتراث من رحم الوعي الباطني على أهميّة الموضوع وجسامة المسؤوليّة. «إنّ الذي حرَّكني إلى تجديد الجمعيّة، تصوّري ضرورتها في هذا العصر، وما يحصل عنها من الخير العظيم للطائفة»[41].

وحسّه بالمسؤوليّة يفوق الوصف، وكان هو المهماز المحرّك، في كلّ قول وفعل. «لا يحتمل أنّ الذئاب تفترس الخراف»، وهو مكتوف الأيدي. فيهبّ لنجدتها. ونجده، دائماً في الطليعة كلّما دعا الداعي لنجدة الطائفة وصون كرامتها وإعلاء شأنها. ولا يبالغ في قوله مخاطباً البطريرك بولس مسعد: «إنّي جنديّ غبطتكم، وجسمي انهرم من كثرة أتعابي قدّام الكنيسة»[42].

صحيح أنّ الأفكار هي التي تقود العالم. إنّما في الواقع المعيوش، لا يكفي التنظير، ولا الحسّ الداخليّ بالمسؤوليّة. «ليس من يقول، يا ربّ، يا ربّ، يدخل ملكوت السماوات» (متّى 7/21). العمل واجب. والاكتراث يقظة في سبيل العمل، سهر في سبيل الجهوزيّة للنزول إلى الميدان، وعناية عمليّة موآتية بكلّ ذي حاجة، على مثال السّامري الصالح (لوقا 10/25-37).

الاكتراث نقيض اللامبالاة. إنّه همّة واهتمام، مرؤوة وخدمة، وبذل ذات. هكذا فهمه المؤسّس، وعاشه، وعلّمه، ونشّأ عليه المرسلين. همّه أن يُنير العقول، ويُحرّك القلوب، ويوجّه الإرادات، لتعقد الحزم على العمل وإنجازه، مهما كلّف الأمر، فتتبدّل الحياة، وتنتظم وفق المقاصد الإلهيّة. «فمن ثمّ، كان عليكم، أيّها الأبناء الأحبّاء، جماعة التلاميذ الذين أجابوا الدعوة الإلهيّة بدخولهم مدرسة الجمعيّة للترشّح للكهنوت وممارسة الرسالة، أن تعملوا ما تعلمون»[43]. الاكتراث، بالنتيجة عمل، وعمل دؤوب، متقن، في صغائر الأمور، كما في كبرياتها. «أمّا وقد علمتم هذا، فطوبى لكم إذا عملتم به» (يو 13/17).

2– المثابرة

بعد تركيزه على الاكتراث، يوصي المؤسِّس بالمثابرة، مستخدماً لا فعل الأمر المألوف، بل صيغة أدبيّة رائعة، يسمّيها النقّاد «التشويق». فيقول ما حرفيّته: «يا ما أحسن أن تثابروا على المناجاة الداوديّة: قلبي مستعدّ يا الله، مستعد قلبي» (راجع مزمور 57/8، ومزمور 108/1)[44].

وردت، على لسانه، هذه العبارة، في ختام تحريضه تلاميذ الجمعيّة على «ترويض أخلاقهم»؛ حيث كان سبق وأَوضَحَ أهميّة الاستعداد الباطني اليوميّ، القويّ، لمقاومة الطبع والأخلاق المذمومة»، وضرورة المداومة على رفع العقل كلّ صباح إلى الخالق لالتماس نعمته، والتأكيد على صلابة عزمنا وصدق نوايانا. «فملكة لِين الخلق تُكسَب، كما تُكسَب الصنعة، بتكرار الأفعال»[45].

هذا الكلام المأذون، بصدد موضوع محدَّد من مواضيع التنشئة، يصدق في كلّ مواضيعها وأبعادها الإنسانيّة والاجتماعيّة والفكريّة والروحيّة والرسوليّة. فالأعمال بالإتمام. والإتمام بالمثابرة. إتقان عيش المثابرة وحده الطريق السالك الأمين الموصل إلى الهدف المنشود. لذا نرى المؤسّس، في هذا السياق، لا ينفكّ عن التكرار والترداد، والمناشدة، مستحثًّا سامعيه على التمسّك بمبادئ يعتمدون عليها، والتدرّب اليوميّ العمليّ، وتشديد العزم كلّ التشديد، وتجديده كلّ يوم، ورفع العقل كلّ صباح إلى الخالق، وملازمة طلب نعمة الثبات، والقيام بالواجبات المطلوبة، يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، «ليأمنوا الاهتزاز من عواصف رياح التجارب»[46].

نفهم هذا التشديد على المثابرة، والتشويق إلى اعتمادها، من باب ضرورتها القصوى في عمليّة التنشئة، ومن قِبَل جميع المعنيِّين بشؤونها. فالإنسان – الفاعل فيها أو المفعول – ضعيف، متقلّب، سريع العطب والانثلام – عرضة للسقوط في كلّ لحظة، وللإنجراف مع كلّ هبّة ريح؛ منقسم في ذاته على ذاته كما وصفه الرسول، «الخير الذي أريده لا أفعله، والشرّ الذي لا أريده إيّاه أفعل […] عبد بالعقل لشريعة الله، وعبد بالجسد لشريعة الخطيئة» (روم 7/19-25). وبالتالي، بناء الإنسان الكامل فينا، عمل شاق، لن يُنجز بكلمة، أو بلحظة، بمقصد أو بعمل. إنّه ورشة لا تنتهي، مسار يدوم ما دامت الحياة، ولن يلقى تمامه إلاّ بالرمق الأخير. «ولن ينال إكليل الحياة إلاّ من كان أميناً حتى الممات» (راجع رؤ 2/10؛ 1قور 9/24-27؛ غلا 6/9).

والعمل التربويّ، مِثل، – ولا بل أكثر من -، كلّ عمل فنّي، هو في آنٍ معاً شيّق وشاقّ، يتطلّب الكثير من الكفاءة والجدارة والمهارة. صعب، دقيق، ورائع، يقتضي الكثير من اليقظة، والإتقان، والجدّ والكدّ. صقل الإنسان أدقّ وأصعب من صقل الماس والمرمر. على الرغم من ذلك يجرؤ مؤسّسنا «الحبيب» على القول: «فليبادر كلّ منكم إلى ترويض خُلقه، وأنا أُريه الطريق السهل الموصل إلى هذا الغرض، وهو أن يرفع عقله كلّ صباح إلى الخالق ويُحدّث نفسه قائلاً: عليّ أن استعدّ لمقاومة طبعي هذا النهار […] أقول إذا داوم الطالب هذا الاستعداد اليومي مدّةً، كسب ملكة لِين الخلق، كما تكسب الصنعة بتكرار الأفعال»[47]. «المداومة تقطع خرزة البير»، يقول المثل الدارج. وللمثابرة وحدها معقودة راية الظفر. «من يثبت إلى المنتهى يخلص» (مر 13/13). في مفهوم المؤسِّس، المثابرة ضمانة نجاح لأنّها تحمي من الأخطار، وتعضد في الضعف، وتساند الجهود حتى إتمام المقاصد وإنجاز المشاريع.

المثابرة تحمي من الأخطار لأنّها تحملنا دائماً على العمل وتُبعدنا عن البطالة «أم كلّ الرذائل» (سي 33/29)، وحسب المثل الشعبي المأثور: «مخّ البطّال دكّان الشيطان». بهذا المعنى أوصى صاحب كتاب الاقتداء بالمسيح: «شدَّ وسطك وكن رجلاً. […] لا تكن أبداً عاطلاً عن كلّ عمل، بل دائماً مشتغلاً في قراءة أو كتابة، أو صلاة، أو تأمّل، أو عمل مفيد للجمهور»[48]. وهذه حال المثابر، وهذا يحميه من كلّ خطر، فلا يعرف الكسل والملل، ولا الإهمال ولا الفتور، ولا الضياع والفراغ، ولا يرضى بأنصاف الحلول، «ونصف الحسن»، ولا يُثنيه عناء ولا إغراء عن مواصلة سيره؛ «يهمّه أمر واحد، كما يقول الرسول، التمطّي إلى الأمام، والسعي إلى الغاية للحصول على الجائزة التي يدعوه الله إليها، لينالها في المسيح يسوع» (راجع فل 3/13-14). وهذا ما شهد به الكثيرون للمؤسّس، كما ذكر السبعلي: «في كلّ حقبة من حقبات حياته، مهمّة مهمّاته الاهتمام بعزيمة لم يعترها ملل»[49].

والمثابرة تعضد في الضعف، وذلك بأمرين معاً: أولاً، الخصال الحميدة والفضائل التي تسهّل علينا التمرّس بها واكتسابها، وثانياً، النِعَم السماويّة التي تستمطرها علينا وتفتح نفسنا وتؤهّبها لقبولها وتفعيلها بأمانة وسخاء. فالثبات على المقاصد الصالحة، والإتقان المستمرّ في تتميم واجب الساعة الحاضرة، نعمة ساميّة، نستمدّها من الله «الذي لا يضنّ إلاّ على من لا يطلب، أو لا يريد أن يقبل»[50].

الإنسان عجز؛ «وهو الروح يأتي لنجدة ضعفنا» (روم 8/26). والمثابرة تفتح قلبنا بمفتاح «الاستعداد الباطني القويّ»، لقبول مواهب الروح ومطاوعتها. وبهذا المعنى إنّها تساند جهودنا، فلا نخور في الطريق (راجع مر 8/7). ونقوى على مواصلة المسيرة حتى النهاية، على مثال الربّ المسيح، معلّمنا الإلهي: «لم يحنِ رأسه ويُسلم الروح، على صليبه، إلاّ بعد أن رأى أنّ كلّ شيء قد انتهى، وتمّ كلّ شيء» (راجع يو 19/28-30).

وهذا ما علّمناه المؤسّس بقوله ومثله، وهو كما يقول عنه السبعلي: «حتى الأيام الأخيرة، ورغم ثقل المرض، كان يُتقن فرضه الإلهي، وبقيّة صلواته وأعماله الروحيّة وخصوصاً صلاة المسبحة بمنتهى الإخبات والورع والنشاط». ولم يُرِد الإفادة من التفسيح الذي أَنعَمَ به عليه السيّد البطريرك بإعفائه من صلاة الفرض الكنسيّ. ويجيب مَن يحاول، مِن الآباء، ثنيه عن ذلك، بقوله مبتسماً: «هل تزعجني مخاطبة ربّي أكثر ممّا تزعجني أنتَ بصنيعك هذا؟»[51].

3– حرارة الروح

حرارة النار المشتعلة في محرّكات الطائرة تدفع بها وترفعها، وتمكّنها من الثبات في الجوّ، واختراق المسافات حتى بلوغ الهدف. وحرارة الروح المتأجّجة في قلب الفنّان هي أساس الإبداع الفنّي وسرّ كماله وجماله. وفي مفهوم المؤسِّس، هي أيضاً حرارة الروح سرّ نجاح التربية، فنّ الفنون وتكوين شخصيّة المُرسل، رجل العِلم والعمل. فنراه هو بالذات، وحسب تعبيره، «مغرم بالجمعيّة وأعضائها»[52]، وقد «عشقها حتى درجة الجنون»[53]، «ولا حاجة إلى بيان شدّة إلتهاب قلبي للفوز بهذا المرام»[54]. وبحرقة القلب، يعمل ويسهر، ويدبّر، ويعلّم، ويناشد الجميع بأن «يصرفوا كلّ ما في وسعهم من القول والعمل والمثال ممّا يعود إلى تثقيف وتهذيب تلاميذ الجمعيّة حتى يحترّ دمهم ويشربوا حبّ الرسالة»[55]. ويصلّى كي ينعم الله علينا بالروح الحارّ[56].

وفي يقينه أنّ وحدها حرارة الروح هي الدواء الشافي – والواقي – من عواقب الداء المشؤوم، الذميم، «والآفة الممقوتة»، «برودة الدم»، «الشائبة العموميّة الناشئة عن الروح الفاتر، ومنه تتولّد قلّة الحماسة في التجارة الإنجيليّة والغيرة على خلاص القريب، ثمّ قلّة الإقدام على الكفر بالإرادة، وعدم التجرّد لأعمال الرسالة. […] فأعوذ بالله من الشائبة العامة المنذرة بالخراب الروحيّ وزيادة كراهيّة الشعب للإكليروس»[57].

ويسترسل طويلاً يخاطب أبناءه الأعزّاء، كاشفاً عن حزن قلبه، وخيبة أمله، من جرّاء ترك الكثيرين دعوتهم الرسوليّة بسبب «دمهم الفاتر»، – أو عدم إقدامهم على دخول الجمعيّة. ويبوح لهم بشدّة ولعه في نموّ الجمعيّة ونجاحها بفعل حرارة الروح، مفنّداً الوسائل العمليّة الآيلة إلى «الحصول على ملكة الروح الحارّ»[58]، فيقول ما حرفيّته:

«الفوز بهذه الملكة، يلزم له قبل كلّ شيء طلب النِعمة من الله بحرارة القلب، وملازمة طلب الثبات فيها، إذ بدونها لا نقدر أن نعمل شيئاً. ثمّ يلزم أن نحدّث نفسنا مليًّا بوجوب التمسّك بمبادئ نعتمد عليها قبل الإقدام على اعتناق الدعوة. والمبادئ هي أن يجعل كلّ منكم نصب عينيه الغاية التي لأجلها اختار دعوة الانضمام في سلك جمعيّة الرسالة. وأن يسبق فيفكّر هل يمكنه حمل صليبه فيها، ويلحق سيّده محتملاً كلّ ما يصادفه، من قهر الإرادة والأمور المضادّة طبعه البشريّ، وبأنّ يعيش في الجمعيّة بلا إرادة مطلقاً. فإذا رأى أنّه يحتمل ذلك، كان عليه حينئذٍ أن يُقدِم على دعوة الله له، ويشدّد عزمه كلّ التشديد، ويتّكل على الله، ويجدّد هذا العزم صباح كلّ يوم عند نهوضه من النوم. فإذا فعل ذلك، حصل على ملكة الروح الحارّ، في مدّة قليلة، وأمِنَ الاهتزاز من عواصف رياح التجارب»[59].

وبعد مقارنة مسهبة بين المرسل الغربي، صاحب حماسة وإقدام وبذل ذات حتى المخاطرة بحياته بتعرّضه، في بلدان الرسالات النائية، للأمراض الفتّاكة أو للاضطهاد العنيف؛ وإكليروسنا الشرقيّ الذي «يصرف جهده وسعيه إلى الزمنيّات وحشد المال، ولو مع قلّة شرف النفس»[60]، ينهي حديثه بالتحريض التالي:

«فها إنّي هديتكم إلى طريق الحصول على ملكة الروح الحارّ بالمبادئ المذكورة، فأتمّوا استعدادكم، أيّها الشبّان النجباء، بالفعل، وانزعوا من قلوبكم روح أهل العالم، وإمارات رذيلة الكبرياء، والغيظ والتذمّر عند التأديب. وزيّنوا نفوسكم بفضيلة الاتّضاع، وقهر الإرادة، والطاعة المقدّسة. […] أطلبوا النِعمة من الله، شدّدوا عزائمكم، قوّوا وحمِّسوا بعضكم بعضاً، وكونوا كالجنود الأبطال للسيّد المسيح. حاربوا الرذائل، ومرّنوا نفوسكم على الفضائل […]. ولا تصمّوا آذانكم عن سماع صوت الإلهامات الإلهيّة وصوت مرشديكم، وصوت الكتب الروحيّة التي تناديكم كلّ يوم، وصوت الله تعالى نفسه من القربان المقدّس، عند زيارتكم اليوميّة له»[61].

عبارات ملحاحة، مثيرة، تنطق بواقع حال صاحبها، وحسرة قلبه المتّقد المقدام، وحياته المبذولة بصدق وسخاء. عبارات تفعل في نفوس السامعين وتهزّهم، وتدفع بهم إلى خوض ميادين الجهاد غير هيّابين. هل لنا أن نتّعظ، ونُقدم على العمل بعزم وحميّة، فنستحقّ مصير المبدعين وروائعهم الخالدة؟ أنَعم اللهمّ! أنتَ السميع المجيب!

ثالثاً- عمل جماعيّ مشترك

«كائن حيّ مجتمعيّ» (زُووُن بوليتوكون)، كما حدّده قديماً أرسطو، الإنسان يحتاج إلى مجتمع، وبخاصّة عائليّ، ليولد، وينمو ويترعرع. تعوزه بيئة حاضنة، وعلاقات سليمة، لينضج ويتكامل. «الإنسان ابن البيئة». وتربيته، عمل جماعي، مشترك. تقع مسؤولياتها على المجتمع بأسره وكلّ من مكوّناته وقواه الفاعلة. عمل جماعي مشترك، يعني الجميع دون استثناء، وإن على درجات متفاوتة. لا يستطيع أحد التهرّب من مستلزماته: منشِّئون، ومنشَّئون، والدون وأولاد، مدارس وجامعات، ومؤسّسات رسميّة وخاصّة، مدنيّة ودينيّة، وسائل إعلام ودور نشر… وفي ما يخصّ تنشئة المرسلين، فإنّها تقتضي مساهمة الجمعيّة بكاملها، وكلٍّ من أبنائها، ومؤسّساتها، وبخاصّة بيوت التنشئة. فكلّ قول وعمل ومسلك وتدبير، له تأثيره، من قريب أو بعيد، سلباً أو إيجاباً. بهذا المعنى يناشد المؤسِّس «حضرات آباء الجمعيّة الأفاضل، […] بأن يصرفوا كلّ ما في وسعهم من القول والعمل والمثال، مما يعود إلى تثقيف وتهذيب تلاميذ الجمعيّة»[62]. كما إنّه يوصي «التلاميذ المتقدّمين أن يديروا بالهم إلى إخوتهم المتجدِّدين»[63].

لا تسمح مجالات هذا المقال الوجيز بعرضٍ تفصيلي لأدوار كلٍّ من المعنيّين بالشأن التربوي، وما تقتضيه من كفاءات وموجبات. نكتفي بتحديد الروحيّة التي يجب أن تُلهم وتُنير وتُحيي هذه الأدوار المنوّعة والمتفاوتة، والعناصر الأساسيّة الكفيلة بخلق المناخ الموآتي لتربية رسوليّة سليمة. تتمحور جميعها ما حول ثلاثة عناوين: منطقة الإلفة، سخاء المشاركة، روح تقوى الربّ.

1- منطقة الإلفة

العبارة هي من قلم المؤسِّس. وردت في القانون رقم 8 من قوانين مباشرة الرسالة، يوصي فيه المرسلين «بأن يحتزموا بمنطقة الإلفة والاتفاق، متحاشين كلّ خصام بينهم، متسابقين في إكرام بعضهم بعضاً لئلاّ يصيروا هدفاً لهزء الناس بهم، وحجر عثرة للغير»[64]. وفي القانون 20، من ذات الباب، وفي سياق الحديث عن إخلاص النيّة في أعمال الرسالة، يرسم أن يفرح أحدهم لنجاح الآخر كأنّه نجاحه الخاص[65]. هذا كلّه يذكّرنا بصلاة الربّ يسوع، عشية آلامه، سائلاً الآب أن يكون تلاميذه واحداً فيؤمن العالم (راجع يو 17/20-22)؛ وبكلام لوقا البشير، الذي يصف المسيحيّين الأوّلين «جماعةً واحدة، وقلباً واحداً، ونفساً واحدة» (راجع أعمال الرسل 2/44، 46؛ 4/32). محتوم إذاً أن تصدر الشهادة للربّ يسوع وقيامته، والمناداة بإنجيله عن «جماعة مُحِبَّة»، ملتئمة باسمه وتنعم بحضوره (متّى 18/20)، متمنطقة بمنطقة الإلفة والاتفاق: «خير الجمعيّة ونجاحها يتوقّفان على حبّ بعضنا بعضاً والعيش بالهدوء والسلام»[66]، «وأن يتصرّف كلّ مع صاحبه بالحبّ والوداعة والرقّة على أنّهم أخوة متحابّون يفرح كلّ لفرح الآخر ويحزن لحزنه»[67].

فلا قيام للجمعيّة إلاّ بوحدة أبنائها، ولا نجاح للتنشئة في أحضانها إلاّ بالإلفة العامة والتوافق ما بين جميع المعنيّين بالشأن التربويّ. «كلّ مملكة تنقسم على نفسها تخرب، وكلّ مدينة أو بيت ينقسم على نفسه لا يثبت» (متّى 12/25). إنّها حقيقة ثابتة، لا تحتاج إلى برهان. ما يعوزنا تبيان السُبُل الموصلة إلى الاتحاد المنشود، وتلك المقصية عنه، فنميّز ونختار، ونهتدي، ونجني الثمار المرتجاة.

في مفهوم المؤسِّس، نسيج «مِنطقة الإلفة والتوافق» يتألّف من فضائل وخصال عديدة، أهمّها، على سبيل المثل لا الحصر؛ الحبّ الأخويّ، الوداعة، الرقّة، البشاشة والهشاشة، تقدير الآخر وإكرامه ومعاملته باللطف والاحترام واللياقة، وسلامة النيّة والثقة، والفرح لنجاحه كأنّه نجاحنا، والخ… كما وإنّه يتنافى مع الكثير من الرذائل والنواقص الذميمة التي يجب تجنّبها، منها مثلاً العناد، والحدّة، والكلام الناخز أو الساخر، الازدراء والبغض والضغينة، والفخفخة والعجب بالذات والعبوس، وبالأخصّ.. – وحسب تعبيره الحرفي – «آكلة التعصّب والتحزّب، بأن يُهوى هذا العضو دون ذاك، أو يُفضَّل هذا على ذاك، من وجه الجنسيّة مثلاً أو القرابة، أو الوطنيّة، أو ممّا سوى ذلك من الأسباب العالميّة المنافية لوحدة هذا الجسم الرسولي المؤلّف بالمسبح. فإنّ هذا الداء من أسوأ الأدواء، فتبًّا وتعساً لصاحبه ومسبّبه. فكانت الغيرة على الأعضاء الصحيحة بقطع العضو المصاب من أشدّ الفروض. أجارنا الله من هذا الفساد»[68].

لن ندخل في تفاصيل هذه اللائحة. نلحظ فقط أنّ اكتساب الفضائل اللازمة، وتجنّب الرذائل المضادة، وعلاوةً على النهج المألوف في اللاهوت الأدبيّ والروحيّ، يقوم في عمليّة جذريّة أساسيّة هي «العبور من أنا إلى نحن». لا إلفة، ولا اتفاق وتوافق، طالما عقليّة «الأنا» البغيضة هي السائدة. يلزم ضرورة نبذها واستئصالها من جذورها. هي الشرط الأول الأساسي لاتباع المسيح: «من أراد أن يتبعني، فليزهد في نفسه، ويحمل صليبه ويتبعني» (متّى 16/24، وما يوازيه في عدّة مراجع كتابيّة). التتلمذ للربّ المسيح يقتضي أولاً، وقبل حمل الصليب أو أي شيء آخر، الكفر بالذات، أي التخلّي عن الأنانيّة بتبديل الذهنيّة من «أنا» إلى «نحن». يقوم هذا التبدّل في نبذ حبّ الذات وتفضيلها على الآخرين، وتجنّب الفردانيّة، والعدوانيّة واللامبالاة، ثمّ النزول من البرج العاجي الانعزالي، والسعي إلى خلق ذهنيّة الإنسان الجديد، كما وصفه الرسول بولس (راجع أف 4/1-32؛ قول 3/1-15)، وتنمية نعمة الانتماء، وروح الانفتاح والتعاطف. نحن أخوة لأنّنا أبناء الآب الواحد الذي في السماء (متّى 23/9)، والأم الواحدة «أمّكم الجمعيّة»، حسب تعبير المؤسّس[69]؛ في أحضانها ولدنا بإبرازنا النذور، ونعمنا بهويّة جديدة «تتّسم بسمة روحانيّة فريدة»، هي روحانيّة الجمعيّة. نحن أخوة وعلينا التفكير والشعور والعيش «كأخوة متحابين يفرح كلّ لفرح الآخر، ويحزن لحزنه»[70]. ونحن أعضاء في الجسد الواحد، وأغصان في الكرمة الواحدة (راجع 1قور 12/12-30؛ روم 12/4-21؛ أف 4/1-32؛ قول 3/1-14؛ يو 15/1-14). وبالتالي، ومن البديهي، أن نعيش بالإلفة، والاتفاق، والتضامن والتعاضد، والتعاون، والتناغم، محقّقين بالفعل صلاة يسوع لأبيه ليلة آلامه: «ليكونوا بأجمعهم واحداً» (يو 17/21).

2– سخاء المشاركة

العمل التربوي عمل جماعيّ يفترض، ويفرض، حتماً المشاركة التامّة، السخيّة، والدقّة في عيشها. لا قيام لتربية سليمة بدون مشاركة صحيحة في التفكير، والتقرير، والتنفيذ، والتدبير، مشاركة ترمي إلى توحيد الجهود والأساليب، والمناهج والأهداف. على ضوء نمط عيش المؤسّس، وعمله، وتعليمه يمكن تحديد ضرورة هذه المشاركة الشاملة، الكاملة، وطُرُق تحقيقها، من خلال عمليّات ثلاث: التخلّي عن عقليّة المالك، وضع الذات تحت التصرّف، وإتقان فنّ المذاكرة.

أ- التخلّي عن عقليّة المالك

من البديهيّات أنّ الإنسان مفطور على غريزة التملّك، والسعي إلى حشد الأموال والخيور، على أنواعها، ظنًّا منه أنّه، بوفرتها، يملأ فراغه الكيانيّ، ويضمن سعادة مسيرته ومصيره. ولا يفطن أنّ «حياة المرء، وإن اغتنى، لا تأتيه من أمواله» (لو 12/15). ويجهل أو يتجاهل، أنّه هو ذاته، – وكلّ ما هو عليه وما له -، عطيّة مجانيّة من الله الخالق، والفادي؛ وزنات سُلّمت إليه، ودين عليه، يتوجّب المتاجرة بها، وحسن استثمارها واستخدامها، ومن ثمّ تأدية حساب وكالته، وإعادة الأموال لصاحبها. وما أخذه مجّاناً ينبغي أن يعطيه مجّاناً، ولا يتباهى به كأنّه لم يأخذه (راجع متّى 10/8؛ 25/14-30؛ لو 16/1-12؛ 1قور 4/7؛ روم 1/14).

أدركت ذلك الجماعة المسيحيّة الأولى، «فلم يكن أحد منها يقول إنّه يملك شيئاً من أمواله، بل كان كلّ شيء مشتركاً بينهم» (رسل 4/32). لذا كانت شهادتهم للربّ يسوع وقيامته جذّابة، فاعلة، بقوّة عظيمة، وعليهم نِعمة وافرة، ولم يكن فيهم محتاج. وكانوا يعيشون بفرح وابتهاج. يسبّحون الله، وينالون حظوة عند الشعب كلّه؛ والربّ يضمّ إلى الجماعة أولئك الذين ينالون الخلاص (راجع رسل 2/44-47؛ 4/32-35).

على خطاهم يريدنا المؤسّس، «الحبيب، أن نسير، ونظيرهم نتخلّى عن التملّك والتصرّف، وعن عقليّة المالك، ونجعل كلّ شيء مشتركاً ما بيننا. ليس فقط الخيور الزمنيّة الماديّة، بل أيضاً خيور الثقافة والعلم، وكلّ القدرات والكفاءات الإنسانيّة، والروحيّة، مواهب الجسد والنفس والنِعمة. ولم ينقطع عن بذل المحاولات، بالقول والمثل، لقيادة المرسلين نحو التجرّد الأكمل، بدونه لن يستطيعوا التجنّد الأفضل، «للعمل في كرم الربّ، حيث كان، بلا تراخٍ ولا مبالاة بكدِّ ونصب»[71]. ويقيناً منه أنّ فقدان التجرّد هو العائق الأكبر لنجاح الجمعيّة، اختار التقيّد بالفقر على أشدّه، وهكذا مارسه وعاشه بحرص فائق وزهد شامل لا يضاهى. جرّد نفسه مختاراً، من البداية حتى النهاية، من كلّ ملك أو مقتنى، مكرّساً كلّ ما لديه لله، ولخدمة المرسلين: «إنّي اعترف حقًّا بأنّه لا ملك لي، ولا شبه ملك في شيء ممّا في يدي وحوزتي ويُعرف بي أو يُنسب إليّ، […] لا أملك شيئاً حتى ثيابي ملبوسات بدني»[72].

ب- وضع الذات تحت التصرّف

لا يهب شيئاً، مَن لا يهب نفسه. لا يقوم العمل التربوي الجماعي فقط على التخلّي عن عقليّة المالك. إنّه يتطلّب أيضاً وضع الذات تحت التصرّف، في جهوزيّة دائمة لتلبية كلّ طلب. بهذا المعنى نفهم كلام المؤسّس عن «الاستعداد الباطني القويّ لمقاومة طبعي وترويض أخلاقي»[73]. وأيضاً كلامه في مناسبة أخرى، حيث يقول: «أنتم جنود المسيح في الحرب، وأخصّها حرب الطبع البشريّ، فهل ينتصر الجندي في القتال بلا سلاح؟»[74].

في وحي نمط عيش المؤسّس وتعاليمه، هذا السلاح يتكوّن من ثلاث عناصر، أوّلها الشغف بالمسيح، إنّه السلاح الأقوى والأفعل. وحده الحب المضطرم لدرجة الشغف، يمنح القدرة على الجهاد، والتفاني حتى بذل الذات. لذا نسمع المؤسّس يتابع كلامه المذكور آنفاً ويحرّض سامعيه: «قولوا مع المسيح: من يقدر أن يفرّقني عن حبّ المسيح. أشتهي أن أنحلّ عن هذا الجسد الفاني لأكون مع المسيح»[75]. وفي قوانين الرسالة ومباشرتها، يوصي أبناءه، «قبل الذهاب، أن يلبسوا درع الاتكال على العناية الإلهيّة، وأن يتسلّحوا بسلاح محبّته تعالى، على أنّهم جنود له»[76].

وفي إرشاد، تاريخ 26 شباط 1887، يحرّض كلاًّ، بكلام من نار، صاغه على لسان يسوع نفسه، يقول للمرسل: «يا بُنيّ، أعطني قلبك (أم 23/26)، أي فرّغه من كلّ ما لا يرضيني، فرّغه من العيوب والأميال، والملكات المرذولة الشاذة: من المشي على كلّ ما يهوى ويرغب طبعك. فهذا القلب أعطني إيّأه: فأنا أطلب منك، قلباً متخشّعاً: قلباً متواضعاً: قلباً نقيًّا: قلباً وديعاً: قلباً يحبّني، ويفضّلني على كلّ الأميال والرغائب الدنيويّة: قلباً مسيحيًّا يستريح بي»[77].

الإنسان، بقواه البشريّة، لا يحسن صوغ هكذا قلب. تعوزه النعمة. لذا ينتهي المؤسّس بالتشجيع على العزم والقصد والطلب من الله «بحرارة أن يخلق فينا قلباً نقيًّا وروحاً مستقيماً. وإذا طلبنا فلا يرفض. وهل يوجد ما يعوقنا عن الطلب؟ وهل يسوغ لنا تأجيل مصلحة خطيرة مثل هذه إلى زمان مجهول؟ ومن يدري زمن مجيء السارق؟»[78].

صدق هبة قلبنا لله يقاس بتجنّدنا لخدمة إخوتنا، واضعين ذاتنا تحت تصرّفهم لتلبية نداءات عوزهم. «إذا قال أحد: إنّي أحبّ الله، وهو يبغض أخاه كان كاذباً، لأنّ الذي لا يحبّ أخاه وهو يراه، لا يستطيع أن يحبّ الله، وهو لا يراه» (1يو 4/20). وعمليًّا، نبرهن عن تجندنا لخدمة إخوتنا، في حياتنا الأخويّة المشتركة، وبخاصّة في مشروع التنشئة، بحرصنا الشديد على الانضباط الجماعيّ، وحفظ القوانين، وعلى الجدّ في كمال طريق الطاعة، عملاً بالمبدأ أنّ للجماعة حقّ علينا، وأنّ الجماعة الحارّة، هي «البوتقة الفُضلى لتربية الدعوة»، والمناخ الموآتي لنموّ شخصيّة المرسل.

في هذا السياق، مراراً وتكراراً، شدّد المؤسّس على التدقيق في عيش الطاعة وحفظ القوانين والتقيّد بالنظام. في يقينه، وعيشه، وتعليمه، «الطاعة هي من أخصّ أركان طريقتنا، وحياة الجمعيّة متوقّفة على أنّ يعيش سائر أعضائها على إرادة الرئيس […]،بقلب فرح، والتعرّي عن إرادة نفسه كلّ التعرّي، مع التسليم لإرادة رئيسه على أنّها إرادة الله لا إرادة إنسان؛ وبهذا يكون أطاع الله. وأيّ ضحيّة أحبّ إلى الله من تضحية الإنسان إرادة نفسه لوجهه تعالى»[79]. ويتوسّع في شرح هذا الموضوع الخطير، في خطبة تاريخ 13/3/1883؛ نقتطع منها ما يلي: «حياة الجمعيّة تقوم بالطاعة، وإلاّ فتخرب. فالطوبى لمن أحياها بمثاله الصالح، والويل ثمّ الويل لمن يخرّبها بسوء مثاله. بدون الطاعة لا نجاح لجمعيّتنا ولا ثبات. […] فلنعتصم بحصن الطاعة العمياء للرئيس […]، بلا تعلّل ولا تذمّر، أشبه بآله تدور كيفما تدار»[80].

وبعد سرد مُسهب لعيش الطاعة، في الرهبنات الغربيّة، والتي من روحانيّتها وقوانينها، يستعير عبارة الطاعة العمياء، وصورة الآلة التي تدور كيفما تُدار، وامتداحه للرهبان الذين، رغم أنّهم بشر مثلنا، يطيعون الرئيس بكلّ سهولة، حتى لو أمرهم بالإقدام على خطر الموت، يخلص إلى التحريض، والتشويق، بحزم، وعزم، وحميّة، فيقول: «إنهضوا، يا إخوتي، بنعمة الله، وبمعونة محاميَي جمعيّتنا، ونشّطوا بعضكم بعضاً بالانتقال إلى حالة جديدة هي إتقان الطاعة المقدّسة. وليكن كلّ منكم قدوة للآخر فيها. واعزموا منذ هذه الدقيقة على العمل بها»[81].

ويقيناً منه، أنّ من أخصّ ميادين عيش الطاعة هو التقيّد الدائم بحفظ القانون ونظام الجماعة اليومي، حرص على أن يرسم في القوانين التحريض التالي: «فليبادروا على الفور إلى إجابة صوت الجريس عندما يقرع لاستجماعهم. والجدير بهم أنّ من يكون منهم قد ابتدأ كتابة حرف يتركه، ولا يبطوء في الإجابة اقتداءً بمشاهير أهل الطاعة»[82]. في هذا التدقيق السريع برهان ملموس لصدق إنتمائنا، وجهوزيّتنا السخيّة لوضع ذاتنا تحت تصرّف الجماعة، تتميماً لإرادة الله ونواياه الخلاصيّة. وهكذا يسهم حقًّا كلّ من موقعه الخاص، في أن تكون «الجماعة موقع التنشئة المميَّز»، كما وصفها البابا القديس يوحنا بولس الثاني[83].

ج- إتقان فنّ المذاكرة

عنصر أساسيّ، تكوينيّ، من عناصر الحياة المشتركة الأخويّة، وحقل مميّز من حقول التمرّس بالحبّ الأخويّ المنبثق من الحبّ الإلهيّ، ومجال واسع لوضع الذات تحت التصرّف، والتشارك الفعليّ الصادق بالخيور على أنواعها، المذاكرة ترقى إلى البدايات، في الجمعيّة؛ أطلقها المؤسّس منذ تكوّنت نواة الجمعيّة الأولى، وامتدحها الرئيس العام الأول، الخوري اسطفان قزاح فيجرؤ على القول: «ثقوا، يا بَنِيَّ، أنّ جمعيّتنا تأسّست على المذاكرة الروحيّة. ولولا المذاكرة الروحيّة ما أُنشِئت جمعيّتنا»[84].

ولقد اعتمدها المرسلون نهجاً مميّزاً لعيشهم الأخويّ المشترك، وأرادوها موعد تلاقٍ حميم صادق يوطّد تآلفهم، وينمّي موهبتهم، ويسدّد سلوكهم، الفرديّ والجماعيّ، ويهدي عملهم التربويّ وتنشئة الأجيال الصاعدة. إنّها خير وسيلة لمشاركة الجميع في فكفكة العِقَد، وابتكار الحلول، وتركيز القناعات، وصقل العقول والقلوب والإرادات، وتثقيف الإنسان وترقّيه، على كافة المستويات، وميادين الحياة.

درج الناس اليوم على استعمال كلمة «حوار» بدلاً لعبارة «المذاكرة». وأحلّوه محلّ الصدارة بين علامات الزمان. وهو في الأساس من مقوّمات إيماننا المسيحيّ، وعلاقتنا مع الله والناس. موقف روحيّ مميّز، وفنّ إنسانيّ بنّاء، وأسلوب تربويّ وفير الثمار. اعتمدته الكنيسة في مجمعها الفاتيكاني الثاني، وامتدحته، وأوصت بانتهاجاه في كلّ المجالات ولا سيّما في تنشئة الإكليريكيّين وأسهب من ثمّ البابوات، وعلى التوالي، في رسم مناهجه وأساليبه[85].

في جمعيّة المرسلين، حفظت السجلات القديمة العديد من ملخّصات جلسات المذاكرة التي حرّض على عقدها الآباء الأوّلون، وغالباً ما كانت بحضور المؤسّس وقيادته الرشيدة[86]. من مطالعتها نفهم كم إنّها مصدر غنىً للجميع. فهي تفسح في المجال للجميع بالمشاركة الشخصيّة النشيطة الفاعلة. تفترض، وتنمّي العديد من الفضائل والخصال وتقود حتماً إلى التعاون الصادق، والتضامن في السعي المشترك إلى تفهّم الحقيقة ورؤية الواقع الموضوعيّ، بعين مجرّدة، نقيّة، دون التباس، ولا غموض، ولا تحجيم، ولا تلوين، ولا تضخيم، والاعتراف بها دون مواربة ولا مسايرة مزيّفة. وبالتالي أخذ المقرّرات والمبادرات الموآتية، في أوانها، وفي مناخات سليمة من الصدق، والصراحة والمحبّة، والجهوزيّة للخدمة. مما يضمن بلوغ الهدف المنشود، وجني الثمار المرجوّة[87].

3– روح تقوى الربّ

لروح تقوى الربّ دور أوّليّ، وعلى نوع ما ينبوعيّ، في تكوين المناخ الموآتي لنجاح العمل التربويّ الجماعيّ. وحتى قبل مِنطقة الإلفة وسخاء المشاركة. بدونه لا قيام لهما، ولا قدرة على خلق «البيئة الحاضنة» لتحويل «دور التنشئة إلى المجال السويّ الأفضل والمكان الأمثل للتربية الكهنوتيّة»[88].

ذكرها أشعيا النبيّ، بين مواهب روح الربّ الذي سيحلّ على المسِّيا الآتي من جذع يسّى (أش 11/1-3). تبنّتها الكنيسة وأدرجتها في عداد مواهب الروح القدس السبع. وأوصى بها بولس الرسول تلميذه طيموتاوس قائلاً: «روّض نفسك على التقوى […] ففيها خير لكلّ شيء» (1طيم 4/7-8). علّمها المؤسّس أبناءه، بالعمل والقول، وحرّضهم على اكتسابها، وأحلّها مقام الصدارة في وصاياه الأخيرة، قُبيل وفاته: «أوصيكم أولاً بتقوى الله. ولا تضطربوا إذا استأثرت بي رحمته تعالى. بل وجّهوا عقولكم وقلوبكم إليه تعالى بالشكر، من دون أدنى معارضة لأحكامه الجليلة…»[89]. وكان سبق ورسمها علامة فارقة في تحديد هويّة الجمعيّة، بقوله حرفيًّا، في مطلع كتاب القوانين: «وجب أن تكون هذه الجمعيّة مؤلّفة من كهنة ورعين ذوي عِلم وعمل يعيشون عيشة مشتركة»[90]. وهل تسلم تنشئة «كهنة ورعين»، إلاّ على يد منشّئين ورعين»؟ وفي بوتقة يسودها روح تقوى الربّ؟ وبمعناها الكتابيّ الأصيل، الذي لا يقتصر، كما يظنّ البعض، على الممارسات التقويّة، أو أداء فروض العبادة، بل يشمل كلّ أبعاد الحياة المسيحيّة ومتطلّباتها، تجاوباً مع حبّ يسوع، الذي سمّاه الرسول بولس «سرّ التقوى» (1طيم 3/16)، واستجاب الله له «بسبب تقواه» كما تؤكّد الرسالة إلى العبرانيّين (5/7)[91].

في مجالات التنشئة الرسوليّة – وفي كلّ مراحلها بما فيها التنشئة الدائمة – نعيش روح تقوى الربّ، – فنتدرّب ونُدرِّب على ممارستها، في تمام الوعي الإيمانيّ والسعي العمليّ، من خلال ثلاث مزايا: الاتّكال على العناية الإلهيّة، والمداومة على الصلاة، والانقياد السخيّ لإلهامات الروح.

أ- الاتّكال على العناية الإلهيّة

الاتّكال، ثقة وتسليم وانقياد. إنّه ميزة الأبناء والأحبّاء. ونحن هؤلاء وأولئك. أبناء، محبوبون ومحبّون. «الله الواسع الرحمة لحبّه الشديد الذي أحبّنا به، […] قدّر لنا منذ القديم أن يتبّنانا يسوع المسيح، على ما ارتضته مشئيته» (أف 2/4؛ 1/5). «والدليل على كونكم أبناء، أنّ الله أرسل روحَ ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي يُنادي «أبّا»، يا أبتِ» (غلا 4/6)، «وبالروح القدس الذي وُهب لنا، أفيضت في قلوبنا محبّه الله» (روم 5/5). فأصبح بإمكاننا أن نجاوب على المحبّة بالمحبّة، ونحبّ الله كما أحبّنا، وليس فقط بقوانا البشريّة، بل بذات فعل المحبّة الإلهيّة الساكنة فينا. من هذا الحبّ تتولّد التقوى البنويّة والاتّكال على العناية الإلهيّة.

ولكن، لنحذر، شديد الحذر، من سوء فهم هذا الاتّكال. فإنّه مدعاة للعمل لا للكسل، للجدّ والكدّ لا للخمول واللهو والعبث: «يجب أن نثق بالله كما لو كان كلّ شيء رهن إرادته، وأن نلتزم العمل الرسوليّ، في الوقت نفسه، كما لو كان كلّ شيء رهن نشاطنا»[92]. نتّكل على الله ليحقّق فينا، وفي عالمنا، إنّما بواسطتنا، إرادته القدّوسة، وتدابير عنايته التي يقود بها خلائقه إلى كمال مصيرها. الله، لا يعمل لمفرده. خلقنا خلاّقين معه، ومخلَّصين مخلِّصين مع المخلِّص، «ويرسلنا نحن أيضاً للعمل في كرمه» (متّى 20/1-7). وأيضاً ليس لمفردنا، بل مع بعضنا البعض: «نحن عاملون معاً في عمل الله، وأنتم حقل الله وبنيانه» (1قور 3/9 مع الإشارة إلى أنّ العبارة اليونانيّة المركّبة، «سونيرغوي توطيّو» تعني حرفيًّا فعلة الله، عند الله، ومعه ومع بعضنا البعض). فالعمل عمل الله لا عملنا، إنّما نظراً لعجزنا وضعفنا، هو «الذي يعمل فينا الإرادة والعمل في سبيل رضاه» (فل 2/13). «كفاءتنا من الله، لا منّا، والقدرة الفائقة لله لا من عندنا» (2قور 3/4؛ 4/7). وما الاتّكال على الله سوى أنّنا بهذه الثقة وهذا التسليم، نسمح له أن يعمل فينا، وبواسطتنا أعماله، لنكون نحن بدورنا على مثال يسوع القائل: «الآب المقيم فيّ يعمل أعماله […] ومَن آمن بي يعمل هو أيضاً الأعمال التي أعملها أنا بل يعمل أعظم منها» (يو 14/10، و12).

بهذا المعنى الكتابي الأصيل[93]، نفهم تعاليم المؤسّس. فهو يوصي بالاتّكال على الله، وعنايته الأبويّة، دائماً في مجالات القرارات الحاسمة، والنشاطات الهامّة، والطاعة في الظروف الصعبة والمعاكسة. مثلاً، نسمعه ينصح من اختار دعوة الانضمام في سلك جمعيّة الرسالة بأن «يشدّد عزمه كلّ التشديد، ويعقد عزمه على الكفر بنفسه، وهجر إرادته وتسليمها لله، ويتّكل على الله، ويجدِّد هذا العزم صباح كلّ يوم عند نهوضه من النوم»[94]. وفي قوانين الرسالة ومباشرتها، يرسم لزاماً على المرسلين ما حرفيّته: «يجب عليهم قبل الذهاب أن يلبسوا درع الاتّكال على العناية الإلهيّة، وأن يتسلّحوا بسلاح محبّته تعالى على أنّهم جنود له لا يهولهم أمر»[95]. وفي قوانين نذر الطاعة، يوطّد الناذر في الثقة والتسليم لإرادة رئيسه «على أنّها إرادة الله لا إرادة إنسان»، ويخلص إلى القول: «وكُن، أيّها المرؤس على يقين من أنّك إذا سلكت طريق الطاعة الكاملة لا تعثر فإنّ عناية الله تعالى تسوسك بواسطة رئيسك، وإن يكن غير أهل للسياسة»[96].

وإن وضع في صورة النذر عبارة «متّكلاً على عناية محاميي الجمعيّة الأمّ الحنون ومار يوحنا البتول»[97]، فلا ينتقص هذا التبديل من الاتّكال على العناية الإلهيّة، بل يؤيّده بدعم إضافيّ، هو فعاليّة شفعائنا لديه. وبالتالي، لا مجال للقلق، ولا للإحباط والقنوط. نحن بين يدي الله، في أمان: «فما من أحد يستطيع أن يختطف من يد الآب شيئاً» (يو 10/29). «لا يقلق قلبكم ولا يضّطرب. آمنوا» (راجع يو 14/1). «لا تهتمّوا فتقولوا: ماذا نأكل؟ أو ماذا نشرب؟ أو ماذا نلبس؟ […] أبوكم السماويّ يعلم أنّكم تحتاجون إلى هذا كلّه. فاطلبوا أولاً ملكوته وبرّه، تُزادوا هذا كلّه» (متّى 6/31-33). أبونا السماويّ يعلم عوزنا وعجزنا، ويريد خيرنا، وقادر على تلبية حاجاتنا. فهو «الذي لم يضنّ بابنه نفسه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعاً، كيف لا يهب لنا معه كلّ شيء؟» (روم 8/32).

وهذا ما أختبره المؤسّس، فزاده طمأنينة في التسليم بين يدي الله، ورسوخاً في الاتّكال على عنايته الأبويّة، بخاصةٍ أبّان المحنة الشديدة التي ألمّت به، حين ارتسم أمام ناظريه هاجس انحلال الجمعيّة، وطالعته رؤى الخيبة، فكتب يقول: «بعد انضغاطي هذا، عدت فكّرت بوجوب تسليم الأمر لله تعالى، متّكلاً على تدبير الحكمة الإلهيّة»[98]. محّصته المحنة، كالذهب الإبريز في البودقة، فتلافى تجربة القنوط، وازداد همّة وحميّة، وتابع الجهاد، بسخاء وأمانة، حتى النهاية. مثال رفيع، رائع لكلّ عاملٍ في كرم الربّ، وبخاصةٍ في ميادين التنشئة، على كلّ المستويات والمراحل، بما فيه التنشئة الدائمة.

ب- المداومة على الصلاة

وجه من وجوه التقوى، المداومة على الصلاة واجب مقدَّس، ومقدِّس، أمر به الربّ يسوع (لو 18/1-8)، وأوصى به الرسول بولس (1تسا 5/17؛ أف 5/20، 6/18)، وعاشه التلاميذ الأوّلون مع مريم أم يسوع (رسل 1/14)، وعلّمته، وعملت به، الكنيسة على مرّ العصور، وحرّضت المؤمنين على إتقان القيام به، وإتمامه بورعٍ وحميّة: «على كلّ مؤمن أن يواظب على الصلاة، ويشترك بتواتر في الأسرار»[99]. «لم يُفرض علينا أن نعمل، ونسهر، ونصوم دائماً، بينما أُلزمنا بشريعة الصلاة بلا انقطاع»[100].

في هذا السياق، يحرص المؤسّس على أن ينشأ المرسلون على محبّة الصلاة وإتقانها، في مختلف صِيَغِها وأشكالها، ويُلحّ على المثابرة في إتمام فروض العبادة، – وحتى أثناء مباشرة أعمال الرسالة – «لئلاّ يعرّضوا نفسهم لخطر الهلاك»[101]. ويحرّض التلامذة على «ملازمة طلب النِعمة والثبات فيها» […]، وعلى «تجديد عزمهم صباح كلّ يوم»؛ وللمزيد في محاولة الإقناع والتشويق يقول ما حرفيّته: يا ما أحسن أن تثابروا على المناجاة الداوديّة، مستعدّ قلبي يا الله، مستعدّ قلبي»[102].

الأمر واضح؛ ولا حاجة لبرهان. إنّما، هل «الصلاة هي ممكنة دائماً؟» نحن نؤمن بأنّ الله لا يأمر بالمستحيلات. وحين يأمر يسبق ويمنح القدرة، فليس عند الله أمر عسير (راجع لو 1/37؛ تك 18/14؛ مر 10/27 وما يوازيه في متّى ولوقا). في شأن الصلاة، نحن «نعجز»، لا نستطيع ولا نُحسن الصلاة» (راجع روم 8/26). هو الروح، معلّم الصلاة ومُلهمها، يصلّي فينا ويعلّمنا الصلاة، ويخوّلنا القدرة على المناداة: «أبّا، يا أبتِ» (غلا 4/6). ذلك، بأنّه يوقظ فينا الوعي الإيمانيّ، وإخلاص النيّة.

نداوم على الصلاة، لا بتكرار الكلام عبثاً مثل الوثنيّين (متّى 6/7)، ولا بإطالة الحفلات والطقوس، أو تخديش الأجساد بالسيوف والرماح كأبناء البعل (راجع 1مل 18/28)، بل بالوعي الإيمانيّ لحضور الربّ المسيح الحيّ «معنا وفينا مدى العمر» (راجع متّى 28/20) ولإقامة الثالوث القدّوس في قلوبنا المحبّة، المؤمنة (راجع يو 14/23)، والانفتاح على هذا الحضور الإلهيّ والتفاعل معه، بالانقياد السخيّ والتسليم المطلق. وما الصلاة سوى صلة، وعيش علاقة الإنسان بالله. نمثل أمامه، نعي حضوره وحبّه، ندخل في عالمه، نتبادل وإيّاه حوار الحبّ. يصلّي المؤمن بحال النِعمة التي هو حاصل فيها.

ولا ننقطع عن الصلاة حين نقوم بواجبات حالتنا، طالما نتمّمها لأنّها إرادة الله علينا، في هذه الساعة، وبنيّة «مرضاته»، و«مجده الأعظم ونفع القريب الروحي» – كما ورد في صورة النذر. فالربّ ربّ النوايا. «والسرّ في السريرة، لا في الأعمال»، حسب تعبير المؤسِّس نفسه، في حديثه مع المطران بطرس البستاني، في 25 أيار 1894[103]. بهذا المعنى يحرّض المرسلين لدى مباشرتهم الرسالة: «يلزمهم إخلاص النيّة في أعمال رسالتهم. أي أن يعملوا إتماماً لمشيئته تعالى ومجده، فلا يُعجَبوا بنفسهم بما إذا نجح عملهم، ولا يقلقوا من عدم نجاحه، لأنّ النجاح يختصّ بالله، بدليل قول الرسول: «أنا غرست، وأفلو أسقى، ولكنّ الله الذي أنبت»[104]. هكذا تصبح خدمتنا الرسوليّة، – وسائر أعمالنا -، جسر عبورنا إلى الله: «إرادة الله علينا وسبيلنا إليه. فلا ننشدنّ قداستنا خارجاً عن دعوة الله هذه، ولا نحسبنّ واجب الرسالة المنوّع الذي يشغل أيّامنا وكأنّه يُقصينا عن حياة الله، أو يُفرغها، أو يحدّ من نموّها؛ بل إنّه بالعكس يزيدنا منها، ببركة ما نعمل، وعلى قدر خلوصنا في الغيرة والبذل. وهكذا تكمل سيرتنا بإثنين معاً، على غير تناقض: بوعيها الباطنيّ المُفعم بالنِعمة، وبسعيها الخارجيّ المتفاني في الخدمة»[105].

ج- الانقياد السخيّ لإلهامات الروح

«لا تصمّوا آذانكم عن سماع صوت الإلهامات الإلهيّة، وصوت مرشديكم، وصوت الكتب الروحيّة، التي تناديكم كلّ يوم، وصوت الله تعالى نفسه من القربان المقدَّس عند زيارتكم اليوميّة له. وإذا سمعتم هذه الأصوات الإلهيّة المتعدِّدة، المتكرِّرة عليكم، بإنعام خاص من الله، كان لي الثقة بأنّكم، في يوم الحساب، تسمعون ذاك الصوت الحلو: «تعالوا، يا مباركي أبي، رثوا ملك السعادة الأبديّة»[106].

بسماعنا هذه الأصوات الإلهيّة – وبالطُرُق والوسائل التي عدّدها المؤسّس، نستشفّ إرادة الله علينا، في الزمان والمكان، ونهتدي إلى الدروب الصاعدة المؤدّية إلى كمال بنيان هويّتنا الرسوليّة. مع الإشارة إلى أنّ فعل «سمع»، لا يعني فقط سماع الأذن، بل وأيضاً سماع القلب، الذي هو في جوهره اقتناع واعتناق، وانقياد سخيّ، وتنفيذ متقن، شأن من يسمع صوت الله ولا يقسّي قلبه، ومَن يسمع كلمة الله ويحفظها (راجع عبر 3/7-4/13؛ لو 2/19، 51؛ 8/21؛ 11/28).

صوت الإلهامات الإلهيّة، هو هو صوت الروح القدس، البارقليط، روح تقوى الربّ، الذي وهبناه الآب، على صلاة يسوع، ليكون معنا وفينا، وعندنا، إلى الأبد، ويعلّمنا جميع الأشياء، ويقودنا إلى الحقّ كلّه؛ الروح المؤيِّد في الضعف، والمعزّي في الشدّة، مانح المواهب، وباني الجماعة، والذي يوقظ في المرسلين موهبتهم الخاصّة، وينمّيها، ويؤتيها ثمارها (راجع يو 14/16-26، 15/26، 16/13-15؛ روم 8/9-16؛ 1قور 12/2-13…).

«في ضوء هذا الواقع الإيمانيّ، تضحي مهمّة التربية الأدقّ والأسمى، أن توقظ النفس، وتؤهّبها، وتُرهف حسّها الباطن لكي تستشفّ هبات الروح، وتصغي لإلهاماته، وتتذوّق عذوبته، وتنقاد في دروبه بفرح وسخاء. وتنطلق تحت هديه في مراقي المعرفة، وأبعاد المحبّة، وميادين الجهاد الرسوليّ»[107].

«لا بدّ إذن لجميع المدعويّين من أن يشرّعوا قلبهم وحياتهم لعمل الروح القدس»[108]؛ ويؤكّدوا بطريقة جذريّة استعدادهم المطلق السخيّ لتقبّل مواهبه، ومطاوعة عمله الخفيّ في تربيتهم، وتقبّل الوسائط البشريّة التي يستعملها[109].

خاتمة

«كيف يليق بنا أن نعلِّم ولا نعمل»[110].

«أنظروا كيف تعظون الناس وترشدونهم، […] ألا ينبغي أن يكون عملنا طبق قولنا؟»[111] «لا يكن الوعظ بالكلام والإرشاد فحسب، بل بالعمل المطابق لأقوالكم»[112]. «لزمنا أن نكون ملح الأرض ونور العالم، جامعين بين العمل والتعليم، لقوله تعالى و«أمّا من يعمل ويُعلّم، فهذا يُدعى عظيماً في ملكوت السماوات»[113].

هذا الكلام، مهما تعدّدت مصادره، هو خلاصة وافية للنهج التربويّ الذي سنّه المؤسّس لبنيه المرسلين، من وحي غيرته وخبرته. «العمل قبل التعليم، المثل قبل الكلام». لقدوة الحياة قدرة هائلة على إقناع العقول، وإيقاظ الألباب، وتحريك الإرادات، والدفع إلى العمل والعيش، وتخطّي العقبات. ولا وزن لكلام، لا يدعمه وزن الحياة. يسوع مرّ زارعاً الخير؛ عمل قبل أن يعلّم، وترك لنا من نفسه قدوة (راجع رسل 10/38، 1/1؛ يو 13/15).

من هذا المنطلق، يطلب المؤسّس، ويأمر الجميع، جازماً: «ليكن كلّ منكم قدوة للآخر»[114]. ويذكّر آباء الجمعيّة «بأنّهم القدوة لمن يقتفي آثارهم»[115]. ويوصى التلاميذ، «راجياً إيّاهم أن يُنشّطوا بعضهم البعض، ويُضيف ما حرفيّته: «وأنتم التلاميذ المتقدّمين، مالي وصيّة عندكم، إلاّ أن تديروا بالكم إلى إخوتكم المتجدِّدين، وتهذّبوهم بمثلكم الصالح، حتى تكونوا لهم قدوة صالحة»[116]. «علينا معاضدة بعضنا بعضاً، لنكون مثالاً لمن يدخل الجمعيّة […]، – وذلك كلّ من موقعه، لأنّنا كالجسم الواحد»[117].

علّم، وامتاز بتعليمه لدرجة أن ناداه أحدهم بلقب «شمس العلوم والمدارس»[118]، لكنّه عمل، وقبل أن يعلّم، وما زال يعمل، وعلى مثال يسوع: «أعمال الذي أرسله، ما دام النهار» (يو 9/4)، حتى الرمق الأخير، كما شهد له طبيبه المعالج، الدكتور فارس نجيم، من ساحل علما، مُجيباً سائله: «أين كنت؟، بقوله: «كنتُ عند مريضٍ قدّيس، لا لأُعالجه، بل لأتعلّم منه موت القدّيسين». وذلك لأنّه شاهده يُقدم بشجاعة على قبول الأوجاع، وكأنّه على أبواب ولائم شهيّة، وينتظر دنوّ أجله براحة بال وطيب نفس[119].


[1]. راجع كتاب قوانين جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة، الأولى المثبتة من البطريرك بولس مسعد، بتاريخ 31 أيار 1873. مطبعة المرسلين اللبنانيّين – جونيه (لبنان)، 1929، 1/1 – عدد 1 و2 ص 1. نُشير إليه فيما بعد بالعبارة القوانين الأولى، مع ذكر القسم، والباب والعدد والصفحة.

[2]. أُضيفت العبارة للإيضاح.

[3]. في رسالته إلى السادة الأساقفة، تاريخ 15/1/1882، راجع الأب يوحنا العنداري، المطران يوحنا حبيب رئيس أساقفة الناصرة شرفاً، مؤسّس جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة، جونيه، 1980 ص 229. نُشير إليه فيما بعد بعبارة العنداري مع ذكر الصفحة.

[4]. العنداري، ص 232.

[5]. راجع، رسالة من المؤسّس إلى الأب نعمة الله سلوان -المطران فيما بعد -تاريخ 5/8/1882. العنداري، ص 222.

[6]. راجع العنداري، ص 228.

[7]. رسالة من المؤسَّس إلى الخوري الياس الحويّك -البطريرك فيما بعد -راجع العنداري ص 222، وأيضاً 234، رسالة إلى المطران نعمة الله الدحداح؛ وص 230.

[8]. العنداري، ص 32.

[9]. العنداري، ص 38.

[10]. العنداري، ص 38.

[11]. الأب يوحنا السبعلي، مخطوط «شذرات من حياة المؤسّس“، عدد 33، ص 408. سنشير إليه فيما بعد بعبارة «السبعلي» مع ذكر العدد والصفحة.

[12]. العنداري، ص 47.

[13]. السبعلي، عدد 65، ص 46، وعدد 60 ص 445؛ والمنارة، عدد خاص 1995، ص 80.

[14]. السبعلي، عدد 98 ص 492.

[15]. مجلة المنارة، عدد خاص 1995، ص 18.

[16]. طبعه طبعة أولى على نفقته رزق الله خضرا، في بيروت 1878، وأعاد طبعه منقّحاً الأب إبراهيم حرفوش، مطبعة القديس بولس، حريصا، 1925.

[17]. العنداري، ص 334، 337، 338، 359، 378.

[18]. العنداري، ص 359-360.

[19]. العنداري، ص 184، 238، 242-243، 235-255-360؛ وأيضاً مجلّة المنارة، عدد خاص 1995، ص 149-155.

[20]. السبعلي، أسقفيّة المؤسِّس، مخطوط، عدد 239، ص 449.

[21]. ذات المرجع، ص 452.

[22]. ذات المرجع، ص 452.

[23]. العنداري، ص 366-395.

[24]. من كلام المؤسّس، في رسالته، تاريخ 5 آب 1882، إلى النائب العام الأب نعمة الله سلوان، المطران فيما بعد؛ راجع السبعلي، عدد 323، ص 215.

[25]. راجع كتاب قوانين جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة، مطابع الكريم الحديثة، جونيه، 2004، الأعداد 95-97.

[26]. السبعلي، عدد 258، ص 160-161.

[27]. كتاب قوانين جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة، مطبعة المرسلين اللبنانيّين، جونيه، 1929، ص 2-29.

[28]. دليل التنشئة، جمعيّة المرسلين اللبنانيّين، مطابع الكريم، جونيه، 2009.

[29]. راجع دليل التنشئة، الأعداد 8-11، ص 15-16.

[30]. القوانين الأولى، 1/1-2، ص 1.

[31]. ذات المرجع 1/9-1، ص 29.

[32]. ذات المرجع 1/10-4، ص 32.

[33]. ذات المرجع 1/11-5، ص 36.

[34]. ذات المرجع، 1/12-20، و21 و26 و27، ص 46-49.

[35]. راجع رسالة المؤسّس إلى النائب العام الأب نعمة الله سلوان – المطران فيما بعد – بتاريخ 5 آب 1882، السبعلي عدد 323، ص 214.

[36]. القوانين الأولى 1/13-54، ص 70-71، وراجع في ذات الباب، الأعداد 55-66، ص 71-74، وأيضاً عدد 21-23 ص 61-62، وعدد 42-45 ص 67.

[37]. راجع المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور راعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، «فرح ورجاء»، الأعداد 4-10.

[38]. القوانين الأولى 1/1-1، ص 1.

[39]. راجع السبعلي عدد 166 ص 120، والعنداري ص 384.

[40]. العنداري ص 352، وأيضاً 348-350؛ 385-386؛ 359-360؛ 364…

[41]. السبعلي، عدد 184، ص 134. رسالة المؤسّس إلى الأبوين الياس الحويك ويوسف أبي نجم، تاريخ 12/1/1884.

[42]. رسالة تاريخ 6 نيسان 1880، السبعلي، عدد 186، ص 136؛ راجع العندري، ص 396-416.

[43]. من خطبة في ترويض الأخلاق، تاريخ 19/3/1883؛ راجع العنداري ص 384.

[44]. العنداري، ص 384، والسفينة، عدد 9، تاريخ 19/3/1883.

[45]. ذات المرجع والصفحة.

[46]. ذات المرجع، ص 381، 382، 384، 385، على سبيل المثال لا الحصر.

[47]. العنداري، ص 384.

[48]. كتاب الاقتداء بالمسيح، السفر الأول، الفصل التاسع عشر، العدد الرابع.

[49]. السبعلي، أسقفيّة المؤسِّس، عدد 243، ص 472.

[50]. الفرض الكنسي الماروني، صلاة العطر، في صلاة نصف النهار يوم الأحد، الشحيمة، طبعة الكسليك، 1982، ص 36.

[51]. السبعلي، أسقفيّة المؤسّس، عدد 243، ص 474، وعدد 259 ص 517-518.

[52]. في رسالته إلى البطريرك بولس مسعد، تاريخ 20 حزيران 1882، السبعلي عدد 181، ص 132.

[53]. في رسالته إلى الخوري الياس الحويك، تاريخ 12/12/1884، السبعلي عدد 184، ص 134.

[54]. في رسالة إلى آباء الجمعيّة، تاريخ 29/9/1885، السبعلي عدد 258، ص 160.

[55]. ذات المرجع، ص 161.

[56]. العنداري، ص 378.

[57]. العنداري، ص 378، 380، 381.

[58]. من خطبة مسهبة لتلاميذ الجمعيّة، في أواخر كانون الثاني 1886، العنداري، ص 378-383.

[59]. ذات المرجع، ص 381.

[60]. ذات المرجع، ص 376.

[61]. ذات المرجع، ص 382.

[62]. رسالة إلى آباء الجمعيّة، تاريخ 29/9/1885، العنداري، ص 376.

[63]. إرشاد للتلاميذ، سنة 1888؛ العنداري، ص 385.

[64]. القوانين الأولى، 1/12-8، ص 43.

[65]. ذات المرجع، 1/12-20، ص 46.

[66]. من كلام المؤسّس، في إرشاد دوّنه في مخطوط السفينة عدد 1، راجع السبعلي عدد 160، ص 117.

[67]. من كلام المؤسّس، القوانين الأولى، 1/13-21، ص 61.

[68]. القوانين الأولى 1/13-23، ص 61-62، وأيضاً 1/13-21، ص 61؛ 1/12-20، ص 46، وأيضاً رسالة المؤسّس إلى آباء الجمعيّة، 3/2/1881، العنداري، ص 389 حيث يحذّر من المقلقين والمتصلّبين، ومن تقسّم الآراء، لأنّ كلّ مملكة تنقسم على نفسها تخرب.

[69]. راجع رسالته إلى آباء الجمعيّة، تاريخ 29/9/1885، العنداري، ص 376.

[70]. القوانين الأولى، 1/13-21، ص 61.

[71]. القوانين الأولى، 1/12-4، ص 41-42، وأيضاً العنداري، ص 390-393.

[72]. صك وصاياه الأخير، تاريخ 1/1/1891، العنداري، ص 458 و460.

[73]. خطبة في «ترويض الأخلاق»، العنداري ص 384، عن السفينة عدد 9، تاريخ 19/3/1883.

[74]. خطبة «أنتم نور العالم»، العنداري ص 395.

[75]. ذات المرجع، ص 395، مع الاستشهاد بكلام الرسول بولس: روم 8/35-39؛ فل 1/21-23.

[76]. القوانين الأول، 1/12-8، ص 43.

[77]. خطبة «يا بني، أعطني قلبك»، تاريخ 26/2/1887، السبعلي عدد 138، ص 583؛ والعنداري ص 394.

[78]. ذات المرجع والصفحة.

[79]. القوانين الأولى، 1/13-15، ص 58.

[80]. العنداري، ص 387.

[81]. العنداري، ص 388.

[82]. القوانين الأولى، 1/13-28، ص 63-64.

[83]. إرشاد رسولي في الحياة المكرّسة، تاريخ 25/3/1996، عدد 67.

[84]. من كلامه، في إحدى جلسات المذاكرة، راجع العنداري، ص 369.

[85]. + الفهرس الهجائي لأعمال المجمع الفاتيكاني الثاني يذكر لكلمة «حوار»، نحو أربعين مرجع، راجع في الترجمة العربيّة، مطابع يوسف وفيليب الجميّل، البوشرية، 1984، ص 981.

+ البابا بولس السادس، رسالته العامة «الكنيسة اليوم»، Ecclesiam suam، تاريخ 6/8/1964، الأعداد 60-123؛ البابا يوحنا بولس الثاني، في مواضع عديدة من رسائله، وأحاديثه، نذكر خاصّة، الإرشاد الرسولي «رجاء جديد للبنان»، تاريخ 10 أيار 1997، الأعداد 85-86؛ 89-99؛ 108-110. الإرشاد الرسولي في «الحياة المكرّسة»، تاريخ 25/3/1996، الأعداد 67؛ 100-103.

[86]. راجع العنداري، ص 366-370.

[87]. راجع «دليل التنشئة»، في جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة، جونيه 2009، الأعداد 93-96، ص 49-51.

[88]. البابا القديس يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي «أعطيكم رعاة»، تاريخ 25/3/1992، عدد 60.

[89]. السبعلي، أسقفيّة المؤسّس، عدد 256، ص 512.

[90]. القوانين الأولى، 1/1-2، ص 1.

[91]. في شأن المعنى الكتابي، راجع مارك فرنسوا لافان، مقال «تقوى»، في معجم اللاهوت الكتابي، دار المشرق، بيروت، 1986، ص 205-207.

[92]. البابا القديس يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي «في الحياة المكرّسة»، تاريخ 25/3/1996، عدد 113.

[93]. راجع مقال «عناية الله»، في معجم اللاهوت الكتابيّ، دار المشرق، بيروت 1986، ص 566-568، وأيضاً “التعليم المسيخي للكنيسة الكاثوليكيّة”، المكتبة البولسيّة، ومنشورات الرسل، جونيه، 1999، الأعداد 302-314؛ 320-324.

[94]. العنداري، ص 381.

[95]. القوانين الأولى، 1/12-8، ص 43.

[96]. ذات المرجع 1/13-15 و17، ص 58-59.

[97]. ذات المرجع، 1/6-4، ص 22.

[98]. العنداري، ص 289.

[99]. المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي، في الكنيسة نور الأمم، عدد 42؛ راجع أيضاً العدد 41؛ وأيضاً «المحبّة الكاملة»، عدد 6.

[100]. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، عدد 2742.

[101]. القوانين الأولى، 1/12-21، ص 47.

[102]. العنداري، ص 381، 384.

[103]. السبعلي، أسقفيّة المؤسِّس، عدد 258، ص 516 (بضعة أيام قبل وفاته).

[104]. القوانين الأولى، 1/12-20، ص 46.

[105]. القوانين المجدَّدة، جونيه، 2004، عدد 90، ص 54.

[106]. من كلام المؤسِّس، في خطبة لتلاميذ الجمعيّة. العنداري، ص 382-383.

[107]. دليل التنشئة، في جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة، جونيه 2009، ص 63.

[108]. البابا القديس يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي في «الحياة المكرّسة»، عدد 65.

[109]. البابا القديس يوحنا بولس الثاني، إرشاد رسولي «أعطيكم رعاة»، عدد 69.

[110]. ما كتبه المؤسِّس في عدد 6 من «السفينة»، السبعلي، عدد 164، ص 119.

[111]. ما كتبه في عدد 5 من «السفينة»، السبعلي، عدد 163، ص 118.

[112]. ما كتبه في عدد 3 من «السفينة»، العنداري، ص 337.

[113]. القوانين الأولى، 1/12-1، ص 40.

[114]. العنداري، ص 388.

[115]. السبعلي، 258، ص 161.

[116]. العنداري، ص 285.

[117] العنداري، ص 367.

[118]. السبعلي، أسقفيّة المؤسّس، عدد 223، ص 384.

[119]. ذات المرجع، عدد 256، ص 512.

Scroll to Top