Almanara Magazine

الكنيسة والعيلة

الخوري شربل شلالا

مقدّمة

إنّ مجمعاً غير عادي سينعقد في شهر تشرين الأوّل 2014 في الفاتيكان حول العائلة. إنّه سيندرج ولا شك بسياق مقرّرات المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الّذي طرح تحدّيات العائلة المسيحيّة وكلّ المجامع اللاحقة والذي سيطرح بالتأكيد تحدّيات جديدة. هذه العائلة المدعوّة لتكون مركز حبّ بين أفرادها، مركز تعلّم للحبّ من خلال كل الأفراح والتجارب والنجاحات والإنكسارات الّتي تعيشها، هي أيضاً في مسيرة مستمرّة. لأنّ هذه الكنيسة البيتيّة ليست بمعزل عن كل التجاذبات الّتي تعصف بالمجتمع والّتي تجعلها في جهاد مستمرّ. هذه العائلة المسيحيّة مدعوّة لتكون قوّة دفع تفكّر وتتناقش وتقترح وتواجه وتدعم. مع أنّها هي أيضاً بحاجة إلى دعم من الكنيسة المعلّمة لأنّها تشعر أحياناً أنّها غير مفهومة بما يخصّ قضايا خلقيّة الحياة مثل وسائل منع الحمل والإخصاب الإصطناعي إلخ. ولكن هل هذا يعني أنّ على الكنيسة أن تغيّر بمفاهيمها ؟ لا أعتقد. إنّما هي مدعوّة لتشرح أكثر تعليمها ولتوضّح أنّها ليست قوّة منع بل قوّة دفع من أجل أن تصير العائلة أكثر فعاليّة. فالكنيسة لا تريد فقط من أفراد العائلة أن يحدّدوا ماذا عليهم أن يفعلوا بل ماذا عليهم أن يصيروا ويكونوا.

العائلة في المجمع الفاتيكاني الثاني

كان المجمع الفاتيكاني الثاني، ولو سبقه مجامع أخرى كان لها وقعها في حياة الكنيسة مثل المجمع التريدنتيني والمجمع الفاتيكاني الأول، بمثابة البوصلة الّتي تسمح لقارب الكنيسة، وسط العواصف كما على المياه الهادئة، بالإبحار بأمان والوصول إلى الشاطئ الأمين. كان المجمع نداءً قويّاً لإعادة اكتشاف جمال الإيمان كل يوم ومعرفته بالعمق من أجل علاقة وطيدة مع الربّ لعيش الدعوة المسيحيّة بعمقها. هذا ما قاله البابا بنديكتوس السادس عشر في افتتاح سنة الإيمان وانعقاد المجمع حول الأنجلة الجديدة والإحتفالات بذكرى الخمسين لانعقاد المجمع الفاتيكاني الثاني في 11ت1 2012 أمام 20،000 مؤمن في ساحة مار بطرس. لا شكّ أنّ الأجيال الجديدة لم تدرك مدى التحوّل الكبير الّذي أحدثه هذا المجمع في طريقة صلاتنا واحتفالاتنا ومقارنتنا لكلمة الله وللوحي الإلهي ورسالة الكهنة والأساقفة في عالم لا يزال في تحوّل كبير على جميع المستويات وإلى ما ذلك من مواضيع تخصّ العلاقة مع الأديان وغيرها. ما يهمّنا هو العلاقة مع العالم وهذا ما شدّد عليه فرح ورجاء محدثاً تحوّلاً كبيراً بعلاقة الكنيسة بالمجتمع. فنجد تأثراً بالفلسفة الشخصانيّة مع Mounier, Maritain et Guitton وتركيزاً على أنّ جهد الإنسان لتحسين إنسانيّته يتوافق مع تدبير الله. فأصبحت الكنيسة تسير مع الإنسانيّة وتتعلّم أن تفهم الواقع الإجتماعي للتاريخ وتغتني من هذه الحياة الإجتماعيّة.

إنّ المجمع الفاتيكاني الثاني هو نداء قويّ لإعادة اكتشاف جمال الإيمان كل يوم ومعرفته بالعمق من أجل علاقة وطيدة مع الربّ من أجل عيش دعوتنا المسيحيّة بعمقها. لذا شدّد المجمع، ومن بعده كلّ الباباوات وبخاصة البابا بولس الثاني، على أنّ العائلة هي أساس ثمين للبيئة البشريّة وهي خليّة أساسيّة في كل مجتمع. وهي مكان التنشئة على الخير العام وعلى القيم. فيتعلّم الولد من عائلته القيم الأساسيّة في الوجود مثل الحبّ والإحترام وهمّ الآخر والحريّة وعطاء الذات ومعرفة نعم الله. كما يتابع الكبار تمرّسهم على الروابط العائليّة وعلى الإعتراف بالآخر بحكمة وبمسؤوليّة.

بقي الدستور الرعوي في الكنيسة وعالم اليوم : فرح الرجاء ( 47-52) الأساس لكل الكتابات المستقبليّة من “الحياة البشريّة” (1968) إلى “وظائف العائلة المسيحيّة” (1981) إلى “الحياة هبة الله” (1987)، إلى إنجيل الحياة (1995).وإلى آخرها “كرامة الشخص البشري” (2008). إستندت كلّ هذه الكتابات على المجمع لتعالج بالعمق قضايا أخلاقيّات الحياة في عائلاتنا المسيحيّة. إضافة إليها كان هناك الكثير من الرسائل والمداخلات عن العائلة وتحدّياتها منها شرعة حقوق العائلة (1983) ورسالة إلى العائلة (1994).

إعتقد الكثيرون بأنّ الدستور الراعوي في الكنيسة وعالم اليوم ( فرح ورجاء ) هو رعائي وليس عقائدي. يعني أنّه غير ملزم للأشخاص خاصةً فيما يتعلّق بالعائلة وبالزواج. ولكن لا يوجد في فكر آباء المجمع كنيستين : العقيدة والرعائيّات. لذا كان هناك ارتباط بين هذا الدستور ودستور عقائدي في الكنيسة (نور الأمم). إنّ الكنيسة والعائلة مرتبطتان ببعضهما البعض من خلال إشتراكهما بالسرّ نفسه : الوحي الإلهي في التاريخ. بمعنى أن الكنيسة تُحقّق رسالتها من خلال بناء العائلة. فهذه الأخيرة هي طريق الكنيسة كما قال يوحنا بولس الثاني. لذا للكنيسة وللعائلة رسالة مشتركة تستند إلى الفداء الإلهي. فالعائلة هي كنيسة بيتيّة من أجل أن تُظهر ما هو زوجي ووالدي وبنويّ بعلاقة شراكة حياة.

إعتقد البعض بأنّ الكنيسة كانت متفائلة في صياغة هذا الدستور بالنسبة لعالم اليوم. إنّ الكنيسة وعت التحوّلات الجارية في العالم وتأثيراتها على حياة مؤمنيها فتكلّمت عن طور جديد في تاريخ الجنس البشري ورأت أنّ هناك تحوّلات عميقة وسريعة وتبديل جذري حقيقي إجتماعي وثقافي سينعكس حتماً على الحياة الدينيّة ( فرح ورجاء 4/2).

صحيح أنّ المجمع لم يُجب بطريقة واضحة على معضلات كثيرة تطال الحياة العائليّة، إنّما وضع بشكل واضح الإصبع على الجرح رغم التفاؤل الّذي ذكرناه. فالعالم الحديث يبدو قوياً وضعيفاً في آن يستطيع أن يُقدّم الأحسن والأردأ. كما أنّ طريق الحريّة وطريق الإستعباد مفتوحتان أمامه كما طريق التقدّم والتقهقر وطريق الأخوّة والبغض ( فرح ورجاء 9/4). حاولت الكنيسة أن تتفحّص في كلّ آن علامات الأزمنة وتفسّرها على ضوء الإنجيل لتستطيع أن تجيب قدر الإمكان على أسئلة الناس الدائمة حول معنى الحياة الحاضرة والمستقبليّة وحول العلاقات القائمة بينهما ( فرح ورجاء 4/1).

ما المشكلة ؟

تواجه عائلاتنا اليوم تحدّيات كثيرة في كل الإتجاهات. فهي محتاجة إلى استنارة من الكنيسة تساعدها على فهم تعقيدات ما يُطرح من مسائل خلقيّة تطال حياتها. تعتقد عائلاتنا اليوم أنّ المسيح كان أكثر قساوة في قضايا المال منها في قضايا الحياة الجنسيّة والأخلاق الحياتيّة. فكيف السبيل للإجابة عن هذه القضايا دون النظر بعمق إلى قانون التدرّج الّذي طرحه البابا يوحنّا بولس الثاني والّذي لم يُعمل به تماماً. ألا يمكن أن نجد مسيحيّين ملتزمين ومحبّين لكنيستهم، يأخذون الوقت ليتفاعلوا مع ما تقوله الكنيسة في مسائل الأخلاق الحياتيّة ويبقوا منفتحين على عمل الروح في حياتهم ؟[1] تشعر عائلاتنا أنّها بحاجة إلى دعم دائم لأنّها غير قادرة اليوم على مواجهة التحدّيات الأخلاقيّة في مجال الطبّ دون أن تصطدم مع المجتمع الّذي يعتبر أنّ القوانين تتطوّر مع نموّ المجتمعات وأن لا سبيل للتمسّك بشدّة بقوانين كنسيّة لا تجني إلاّ العذاب والقهر والتقوقع.

إنّ تعليم الكنيسة الكاثوليكي في مجال الأخلاق بنظر الكثير من المسيحيين مثالي ولا يلاقي دائماً الواقع، وأنّ الكنيسة تريد أن تنقل تعليماً هي ليست مقتنعة به. والذين يوجّهون إنتقاداتهم اليوم هم بعض الأشخاص المتقدّمين بالعمر الّذين يعتقدون أحياناً أنّ الكنيسة لم تفهم معاناتهم. في حين أنّ قسماً من الشبيبة اليوم غير مبال والقسم الآخر بين رافض وقابل. فتجيب الكنيسة أنّها تريد أن تنقل تعليم يسوع لا أن تقوله بحسب رغبات هذا أو ذاك. أعتقد أنّه ليس علينا أن نحصر تعليم الكنيسة فقط بمجموعة القواعد الّتي يجب احترامها. فماذا نعرف مثلاً عن لاهوت الجسد، عن قيمة الحياة، عن قيمة الشخص البشري، كرامته ، حقوقه …….. ؟

ما قاله البابا فرنسيس في افتتاح إجتماع الكرادلة في شباط 2014 يدلّ على مدى أهميّة دور العائلة في مواجهة تحدّيات المجتمع الحالي : ” لذا ماهو مطلوب من كل المسؤولين في الكنيسة أن يعرفوا كم هو جميل وحقيقي وجيّد إنشاء عائلة وهذا ضروري وأساسي لحياة العالم ولمستقبل الإنسانيّة. كما هو مطلوب مرافقة العائلة في كل حقوقها اليوميّة ومساعدة الزوجين على عيش مشروع الله للعائلة بفرح”. من الضروري إذاً قراءة علامات الأزمنة كما حصل في المجمع الفاتيكاني الثاني ومرافقة العائلات وجعلها تكبر وتنمو وهذا يأتي بسياق دعوة البابا إلى راعويّة عائليّة شجاعة وذكيّة وملأى بالحبّ. أرى من الضروري، كما أشار اللاهوتي والتر كاسبر في لقاء الكرادلة، إلى أهميّة تدرّج لا القانون بل فهم الشريعة الّتي تتطلّب وقتاً ومرافقة.

إنّه من الضروري الدفاع عن العائلة والزواج وحقوق الطفل من دون أن نتجاهل بأنّ العائلة اليوم، التي لم تعد تماماً كما يصوّرها التقليد الكنسيّ والمجمع، يعاد النّظر إليها من خلال نظريات أنتروبولوجيّة جديدة تربط الشخص فقط بكليشيهات اللّذة الحرّة والفرح العابر ومن خلال حياة جنسيّة حرّة وغير مقيّدة. لذا يحمل البعض مّمن يرفضون التعليم الكنسي على فكرة الشراكة والتضامن والأخوة والإنفتاح على الحياة وعلى أخرويّة الغير كأبّ وأمّ وأخ وصديق وحتّى على كلّ ما يؤسّس للعائلة ألاّ هو الرجل والمرأة أولاً قبل إنجاب البنين. ممّا يدفع اليوم الكثير من المسيحيّين خاصّةً إلى التساؤل حول معنى العائلة والحياة الجنسيّة وحول ضرورة إبقاء الزواج الإطار الوحيد لعيش حياة جنسيّة مسؤولة مرادة ومباركة من الله وحول ضرورة إبقاء العائلة مكان عطاء وثقة وحبّ وصداقة وشراكة.

نموذج العائلة المسيحيّة

مع التقدّم الحالي للمجتمع يتساءل البعض ألا يجب على الكنيسة أن تغيّر مفهومها للعائلة والّذي أوضحته في المجمع الفاتيكاني الثاني وفي الكتابات الكنسيّة المتعدّدة ؟ هل يوجد بعد نموذج للعائلة المسيحيّة؟ ما الفائدة من المدافعة عن هذا النموذج في حين أنّ مطالبات المجتمعات الغربيّة والشرقيّة تطال ليس فقط تكوين العائلة بل أيضاً الطرق المتعدّدة للإنجاب وإمكانيّة الإمتناع عن الإنجاب أو إيقافه، والطفل الدواء والمرأة البديلة، إلخ. من هنا ضرورة طرح التساؤلات التالية : ما هو جوهري في هذا النموذج وما هو عرضي وبالتالي يمكن الإستغناء عنه ؟ أليس للنموذج المسيحي للعائلة محدوديّته كمكان لعيش الحبّ والحنان ؟ ألا يمكن أن تكون العائلة مكان تقوقع وإنزواء ورفض لشريعة الجماعة وقبول لشريعة الأنانيّة ؟

نحن ندرك تماماً أنّ يسوع إحترم الزواج وديمومته وكل الرباطات العائليّة وربطهم بغاية سامية : ملكوت الله الذي يحمي الكلّ من التقوقع. فالإنجيل لم يطرح نموذجاً واحداً من الناحية الإجتماعيّة والتاريخيّة بل شدّد على كلّ ما يشجّع العطاء والخدمة والأمانة. لذا ركّز المجمع الفاتيكاني الثاني على الشخص ككائن فريد مخلوق على صورة الله مراد لذاته ولخيره. ولكنّنا اليوم، خوفاً من أن نختار نموذجاً محدّداً للعائلة، نرى أنّ بعض المسيحييّن يتحاشون تحديد العائلة ويرفضون سرّ الزواج كيّ يؤسّسوا العائلة على البنوّة والإعتراف بالأولاد. مع العلم أنّ غياب الإلتزام بين الزوجين لن يمكّن الولد من إنشاء العائلة. فالولد بحاجة إلى إلتزام واتحاد والديه ليكبر بكنف هذا الإتحاد. هذا الولد له الحقّ في أن يولد من أبّ وأمّ وينمو في كنف العائلة. هذا الولد لا يُصنع بل يُنتظر ويُستقبل. ولكنّنا نجد، على سبيل المثال، أنّ التقنيّات الإصطناعيّة للإنجاب، المرفوضة من الكنيسة الكاثوليكيّة، غيّرت من غاية وجودها. فبدل أن تكون فقط وسيلة للعناية بالأشخاص العاجزين عن الإنجاب أصبحت اليوم نموذجاً للإنجاب ليصبح الولد إنتاجاً لرغبة أهله مهما كلّف الثمن. من هنا أعتقد أنّه لا يوجد نموذجاً تاريخيّاً للعائلة المسيحيّة لا يمكن تغيّره إنّما وجهاً مسيحيّاً للعائلة غير منفصل عن الدعوة إلى القداسة. فالعائلة ليست فقط خليّة إجتماعيّة بل جماعة، كما قال المجمع الفاتيكاني، بشراكة مع كلّ أفرادها. إنّها كنيسة بيتيّة وجماعة المدعويين.

الحكم الأدبي

لا شكّ أنّ هناك تعاليم تخصّ العائلة ربّما نرفضها لانّنا نعتقدها بعيدة عن الواقع اليومي ولا تجيب على التطلّعات. لا شكّ أنّ الحكم الأدبي معقّد جداً وهو بحالة تنوّع بحيث أنّ كل شخص ينادي بضمير خاص ولم نعد ندري إذا كان هناك من أسس مشتركة لمثل هذه القضايا المتشعّبة أخلاقيّاً. فأمام التعدّديّة الموجودة اليوم في مجتمعاتنا وحتّى في عائلاتنا يصعب على البعض أن يكون لديهم حكماً أدبياً واحداً. كل شخص يقول أنّ حكمه جيّد ويعتمد على أسس أخلاقيّة باسم النسبيّة الأخلاقيّة. لذا نشهد اليوم بروز طرق أخرى للحكم على الأوضاع. بحيث لا نترك المجال الأكبر للتحليل وللتعقّل وإنمّا للمشاعر وللإختبارات. فلا مجال بعد الآن، إذا أردنا أن ندخل في حوار مع الجميع، أن نتغاضى عن التاريخ الشخصي للإنسان ومشاعره ورغباته. هل هذا يعني أنّنا نترك لكلّ إنسان الحريّة بإختيار قيمه ومبادئه وشرائعه بما يتناسب مع وضعه ؟

لا شك أنّ الحوار بين كل الأفرقاء هو نقطة إيجابيّة منطلقها أنّ التعّدديّة والإختلاف في الآراء هما مشروع حياة. فكلّ مسيحيّ اليوم له الحقّ في أن يقول قناعاته بحريّة مع احترام الرأي الآخر. فالحوار يُبلور الفكرة الأفضل فلا يعود هناك مجال للعنف أو للإستهتار بالآخر. في هذه الحالة أين يحصل الفرق في مقاربتنا للقضايا الأخلاقيّة ؟ ليس علينا أن ننسى أنّ للمسيحيّ، على ضوء إيمانه المنوّر بالعقل، نظرة للإنسان ولدوره ولرسالته ولغايته. هذه النظرة ليست عابرة بل ناتجة عن خبرة مئات السنين ولا بدّ أن تكون علامة فارقة في وقت ما من دون أن ننسى التطوّرات الحاصلة في مفهومنا للإنسان والذي لا يمكننا التغاضي عن قراءته إذا كنّا نحترمه. هذه القدرة على الحوار الذي يريح الجميع لا يستنفد الحوار الأخلاقي والأنتروبولوجي. لذا يمكننا ان نستمرّ بتفعيل التفكير حول نظرتنا للعالم ونتائج أعمالنا على حياة الجميع وخاصّة الضعفاء منّا. فالكنيسة اليوم، والتي تعبّر عن قناعات معيّنة، بحاجة، إضافة إلى الفكر والحوار، إلى الشهادة والإلتزام بخدمة القريب مغذّاة بالإيمان بيسوع.

إذا أخذنا على سبيل المثال وسائل منع الحمل. يشدّد البابا بولس السادس، في “الحياة البشريّة” على مبدأ عدم الفصل بين الحياة الجنسيّة والخصوبة. ولكن هذا الامر لم يُقبل من كثيرين لأنّ الفصل بينهما أصبح مسلّماً به في المجتمعات وخيراً للإنسانيّة. إذا كان الكتاب المقدّس لا يتكلّم عن وسائل منع الحمل فإنّه يشدّد على أنّ الإخصاب هو عطيّة من الله يجب استقبالها بفرح وأنّ وصيّة المحبّة تنفي كل أنانيّة. والملفت أنّ العلوم الإنسانيّة أثبتت جديّة هذا التعليم وتراه يحمي من الإستعمال المفرط لوسائل منع الحمل. فهذه الوسائل ليست بدون تأثير على العلاقة مع اللّذة ومع الحياة الجنسيّة، على العلاقة مع شريك(ة) الحياة ومع الأولاد المولودين أو المرغوبين في اللاوعي، على العلاقة مع المجتمع والطبّ والحياة الشخصيّة …إلخ. ربّما البعض، ممّن يرفضون هذا التعليم، عندهم أراءهم المقنعة في هذا المجال ولكن يجب اللّجوء إلى التمييز الأدبي والتساؤل : إلى أيّ مدى هناك احترام لجسد المرأة ؟ إلى أيّ مدى هناك حوار بين الرجل والمرأة بما أنّ المسألة تخّصهما ؟ إلى أيّ مدى تصبح العلاقات الجسديّة بين الزوجين بمستوى الإدمان ؟ إلى أيّ مدى هذه الوسائل لا تقتل حياة ناشئة  ؟

إعتبر المجمع الفاتيكاني الثاني أنّ مسألة الإنجاب ليست فقط مسألة شخصيّة تخصّ العائلة، بل هي مسألة لها تأثيراتها على كل الحياة الإجتماعيّة والمدنيّة العامة. إذا أخذنا على سبيل المثال المرأة البديلة الّتي تحمل ولداً لحساب الزوجين، نجد أنّنا نحاول أن نعطي أهميّة للقضايا الخاصة ونتغاضى عن حقوق الآخر وحريّته التي ركّز عليها المجمع. فالأمّ تقرّر مسبقاً التخلّي عن حقّها بأن تكون أمّاً بعد أن تُنجب الولد بحيث تصبح البنوّة مسألة خاصّة. ولكنّي أعتقد بأنّ الحقّ للطفل يجب أن يَغلب على الحقّ بالطفل وهذا ما نراه في مفهومنا للأمومة وللتبنّي وللبنوّة الّذين يجدّدون ارتباط العائلة بالنسيج الإجتماعي وما نراه أيضاً في تقديرنا للدور الفردي والخاص للشخص الذي لا ينفي كرامة وحقوق الآخر. فإذا تصرّفنا بعكس ذلك فإنّنا لا نؤسّس لمفهوم جديد للهبة بل للعنف الّذي نزيده على آلام الزوجين العاجزين عن الإنجاب.

ركّز البابا يوحنّا بولس الثاني على أهميّة الأبحاث في مجال الطب بهدف الوقاية أو الشفاء أو تخفيف الألم. لم يبتعد عمّا قاله المجمع الفاتيكاني الثاني “إنّ البحث المنهجي في كلّ فرع من فروع المعرفة، لا يكون منافياً للإيمان، إن قاده الإنسان بطريقة علميّة صرفة مراعياً قواعد الأخلاق : فالحقائق الدنيويّة والحقائق الإيمانيّة لها مصدر واحد هو الله” (فرح ورجاء 36). حرص البابا على أن يعمل الأطبّاء والعلماء على تنقية ضمائرهم وعلى التمييز الواعي كي يروا بحكمة رهانات ونتائج التطوّر. فحضّهم الصحّة على اليقظة كي لا تصبح كرامة الشخص البشري، وهي كيانيّة وليست ظرفيّة، مرتهنة للمجتمع وللأشخاص المقرّبين من المريض. فالشخص هو قيمة في ذاته بيسوع المسيح الذي بيّن للإنسان ماهيّته وعظم دعوته. (فرح ورجاء 22).

الحوار مع العالم

 سعى المجمع الفاتيكاني الثاني إلى الحوار مع العالم ليميّز، بمساعدة التقليد المسيحيّ، ما يمكن معالجته من قضايا أخلاقيّة مطروحة. فاستعمل طريقة وجوديّة existentiel وإستقرائيّة    inductive  منفتحة على الجميع ومستنارة من الوحي الإلهي. فركّز على الأنتروبولوجيّة المسيحيّة الّتي تضع كرامة الشخص البشري المخلوق على صورة الله في الطليعة وتعطي دوراً مهماً للضمير من خلال تعليمها حول العائلة والأخلاق الحياتيّة. إعتقد اللاّهوتي إيف كونغار خلال مداخلة له في روما سنة 1967 أن المجمع لم يولي الأخلاق مكانتها في حين أن قضايا كثيرة بحاجة إلى تحديد. ولكن بعد التعمّق في مقرّرات المجمع يجب التخفيف من هذا الحكم القويّ لنشدّد على أنّ المجمع اهتمّ بصورة كبيرة بالأخلاق وأعطاها توجّهاً جديداً. لكنّ المجمع لم يُرد أن تتحوّل الأخلاق إلى التفكير المجرّد بل أن ترجع إلى الينابيع المسيحيّة أي الكتاب المقدّس والتقليد المستوحى من اختبار آباء الكنيسة. حاول المجمع أن يُظهر لنا كيفيّة عيش الحياة المسيحيّة وكيفيّة الحكم الأدبي تجاه المواضيع الساخنة والمعقّدة الّتي تُطرح في عصرنا والّتي تستدعي أكثر من أجوبة معلّبة وإنّما قدرة على تطوير التمييز الأدبي. يعرض إذاً المجمع نظرة جديدة للإنسان في وحدته وشموليّته ويدعو إلى الحوار بين الكنيسة والعالم وإلى خدمة الإنسان من أجل الأخوة العالميّة. وهذا يستدعي منّا الخروج من الفردانيّة لأنّ كلّ المعمّدين مدعوّين للمشاركة بتحمّل مسؤوليّاتهم تجاه كل الجماعة البشريّة للمساهمة في الخير العام بجوّ من التغيّرات الكثيرة الإجتماعيّة والثقافيّة. من هنا لم يدخل المجمع بالمسائل القانونيّة للأخلاقيّات بل ركّز على الأخلاقيّات المسؤولة المتجذّرة بالكريستولوجيّة وبتاريخ الخلاص. وإذا لم يتكلّم كثيراً عن الشريعة الطبيعيّة فإنّها تبقى أساسيّة للقاء المسيحيّين بغير المسيحيّين وللبحث عن الحقيقة ولمعالجة قضايا أدبيّة شائكة في الحياة الفرديّة والجماعيّة ( فرح و رجاء 16 )

هل نحن في عالم المثاليّات ؟

كلّنا نريد أن تكون العائلة منزّهة ومفعمة بالرجاء وأن تكون علامة خلاص لعالمنا. والكنيسة عندما تخاطب الناس عن أهميّة العائلة تُشعرهم أنّهم قادرون بنعمة الله أن يرتقوا إلى الأسمى دون أن يتركوا العالم. ولكن هل تصطدم هذه المثاليّات بواقع حياة العائلة اليومي ؟ هل سنصل مع الوقت إلى أن لا نصبو إلى خلاص العائلات المسيحيّة بل إلى بعض العائلات ؟ هل يجب أن نعيش حداد العائلة ونقبل بأنّنا لن نتمكّن من تخليص عائلاتنا أو مفهوم العائلة المسيحيّة من كلّ الضغوطات الّتي هي بالنسبة لفاعليها نهضة أنتروبولوجيّة مجدّدة ؟ أنا أعتقد أنّه لا يجب التخلّي عن هذا الرّقي في حياتنا الكنسيّة إنّما يجب أن نذهب إلى ملاقاة الآخر ومعرفة مدى رغبته بالتغيير وعلى أيّة مستويات. يجب أن تتابع الكنيسة مساعدة العائلة على التعرّف على طاقاتها وعلى إمكانيّاتها وتفعيلها واستعمالها ولا تكتفي بالتكلّم عن هذا الصراع بين العائلة التقليديّة والعائلة المعاصرة. فليس بالضروري أن يكون مفهوم العائلة التقليديّة هو الضمانة الوحيدة لكلّ المسائل الأخلاقيّة كما أنّه ليس بالضروري أنّ ننظّم عائلاتنا بحسب المفهوم المعاصر للعائلة. لذا أجد أنّ العائلة التقليديّة هي غنى بذاتها، كما أنّ التفكير المعاصر ضروري من أجل لفتة ضميريّة ونهضة وجدانيّة.

الخاتمة :

لم يُعطِنا المجمع وصفات خالصة حول مسائل خلقيّة الحياة إنّما وضع الكنيسة على السكّة ووجّهها وأعطاها الدّفع وحب العالم الذي تجسّد فيه الرّب والذي لا يزال يعمل به من خلال كنيسته المدعوّة لمرافقة عائلاتنا. أوضح المجمع أنّ العالم لم يعد يفكّر مسيحيّاً ويتصرّف مسيحيّاً. لذا فإنّ القضايا الشائكة المطروحة في خلقيّات الحياة واّلتي لها تأثيرها على العائلة لم تعد حكراً على الكنيسة ولم تعد هذه الأخيرة قادرة أن تستحوذ كل الفكر. أعتقد بأنّ المجمع أعطى دفعاً جديداً وروحاً جديدة في الكنيسة وشجّع، خلال الخمسين سنة الّتي تلت، قيام مجامع بطريركيّة وأبرشيّة من أجل أن يأخذ هذا النفس جسماً إجتماعيّاً ويتمكّن الناس في كل البلدان من دراسة مشاكلهم الأخلاقيّة الّتي لا تخصّ فقط المسيحيّين الكاثوليك، بل كلّ الناس مع ما لها من تداعيّات على الجميع. لا يمكن للكاثوليكي اليوم أن يقول أنّه يريد أن يعيش لوحده ويعالج مشاكله لوحده ويبقى ضمن جبهة المعارضة المستمرّة وكأنّه وحده المؤتمن على قضايا الناس الأخلاقيّة. أجد بأنّ علينا أن نجاهد لا من أجل أن تُعلن الكنيسة مواقف أخلاقيّة ترضي الجميع بل أن يكون تعليمها أكثر قدرة على ملاقاة الناس حيثما هم فيساعدهم على التفكير أكثر في معضلات الحياة دون أن يشعروا بأنّهم متروكين أو يحملون أثقالاً تفوقهم. مع أنّ هذا التعليم يساعد الأشخاص على أن يعرفوا قيمة أجسادهم وإخوتهم. أعتقد شخصيّاً أنّ علينا تعزيز أخلاقيّة عائليّة على مستوى تطلّعات الجميع مواجهين التحدّيات بحوار يشبه الحوارات الّتي كانت تقام في parvis des gentils حيث كانت هناك مساحة مخصّصة لغير اليهود أمام الهيكل تفصلهم عن المكان المقدّس والطاهر مع أنّ المسيح أتى ليزيل هذا الفصل. تجري في هذه المساحة الحوارات والمواجهات الفكريّة الّتي تحاول أن تفهم اللامنظور لأنّنا كلّنا مدعوون للتفكير. فلا أحد منّا يدرك الحقيقة كاملة إنّما الحقيقة هي الّتي تدركنا. والعائلة اليوم قادرة أن تلعب هذا الدور بدءاً من البيت الواحد بالّرغم من التعدّديّة الموجودة. لأنّ العائلة ليست مجموعة أشخاص، كل يبحث عن الخاص به، بل جماعة تعيش ضمن إطار أساسي وضروري لصقل الشخصيّات. العائلة هي هذه المساحة الّتي تؤمّن التفكير، بالتضامن بين الأشخاص، خدمة للمجتمع وللكنيسة . عصرنا يحتاج، أكثر من أي عصر مضى، إلى الحكمة والحكماء ، ليجعل اكتشافاته، مهما كان نوعها، ذات طابع إنساني.

Bibliographie :

  1. Cardinal André VINGT-TROIS (dir) , La famille. Héritage ou avenir, coll Parole et Silence, Paris, 2011
  2. Jacques Noel PERES, (dir), Familles en mutation. Approches œcuméniques, Desclee de Brouwer, Paris, 2011.
  3. Philippe Bordeyne, Ethique du mariage. La vocation sociale de l’amour, coll. Théologie à l’Université, DDB, Paris, 2010.
  4. René Heyer « Politique et aggiornamento de l’Église : cinquante ans après Vatican II », Revue d’éthique et de théologie morale 2/ 2013 (n°274), p. 9-24.
  5. « Le concile Vatican II en débat », in Recherches de Science Religieuse, 1/2012 (n°100).
  6. Pierre d’Ornellas « Vatican II : 50 ans après. Un appel au dialogue des sages », Revue d’éthique et de théologie morale 2/ 2012 (n°269), p. 9-24.
  7. Claude BRESSOLETTE, « Vatican II, 50 ans après. Relecture », Revue d’éthique et de théologie morale 3/ 2012 (n°270).
  8. Alain Thomasset « Dans la fidélité au Concile Vatican II », Revue d’éthique et de théologie morale 1/ 2011 (n°263), p. 31-61.
  9. Alain Thomasset « Dans la fidélité au concile Vatican II », Revue d’éthique et de théologie morale 2/ 2011 (n°264), p. 9-27.

[1] – إنّ قانون التدرّج يلقى صداً في المجال الروحي. فهناك لا شك رباطاً مهمّاً بين الحياة الأخلاقيّة والحياة الروحيّة. فقد عمد سعيد الذكر الكاردينال لوستيجي إلى برهنة الطريقة التربويّة التي اتّبعها الله مع شعبه فقال إنّ التدرّج يحمل معان كثيرة من بينها، وأهمّها، الطريق الذي يطلب الله من شعبه أن يسلكها ؛ طريق النموّ الشخصي والجماعي بأمانة ومثابرة بنعمة الله. لا شك أنّ الإنسان التاريخي مدعوّ إلى الدخول في منهجيّة التمثّل بالله ليصبح إنساناً كاملاً كما أنّ الله كامل هو (مت5، 48).  إنّ الدعوة إلى القداسة واضحة ولا مجال للمساومة عليها. فلا يوجد تدرّج في النداء. هذه الراديكاليّة في النداء تؤسّس بدورها لقانون التدرّج في عمليّة التوبة والرّجوع إلى المسيح، صورة الآب الأزلي. عليّ  كمؤمن أن أبقى منفتحاً على ما تقوله الكنيسة حول وسائل منع الحمل وأن أترك المجال لأفهم هذا التعليم الذي ليس مجرّد ممانعة عصبيّة غير منطقيّة. إذا لم أقدر أن أحقّق ما تقوله الكنيسة عليّ أن أتابع سعيي. من هنا ضرورة وجود ديناميكيّة تهدف إلى جعلي أبحث عن الطرق المناسبة والمفيدة الممكنة لحياة أفضل آخذاً بعين الإعتبار كلّ العوامل البشريّة والروحيّة المحاطة فيّ. هنا يأتي دور الضمير الأخلاقي ليضع موضع التنفيذ قانون التدرّج. فهذا الصوت الداخلي وهذه القدرة على الحكم على الأفعال يجعلان من الإنسان قادراً على أنسنة الإنسانيّة. فالضمير الواعي المستقيم يسهر على أن يبقى مضطلعاً بالحوار والقراءة والصلاة وأن يقرّر العمل الواجب القيام به ويسهر على مراقبة نتائج قراءة ثماره. على الشخص أن يعيد المحاولة في كلّ وقت كي لا يتكاسل الضمير ويتراخى وكي يبقى في بحث مستمرّ عن كلّ ما هو نافع لحياته ولمساره الإنساني الشخصي  والجماعي. 

Scroll to Top