Almanara Magazine

الكنيسة على عتبة المجمع الفاتيكاني الثاني وفيه

سيادة المطران يوسف بشاره

مقدمة:

  1. تحتفل الكنيسة بمرور 50 عامًا على افتتاح المجمع الفاتيكاني الثاني. وهذا ما أشار إليه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في إعلانه عن سنة الإيمان التي بدأت في 11 تشرين الأول 2012، وتتزامن مع مرور 20عامًا على نشر التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، وهو ثمرة حقيقية من ثمار المجمع الفاتيكاني الثاني (سنة الإيمان عدد 4) كما تزامنت مع بدء مجمع الأساقفة، في روما بموضوع: “التبشير الجديد بالإنجيل لنقل الإيمان”.
  2. كنائس عديدة في العالم تستعد لاستذكار حدث المجمع الفاتيكاني الثاني الذي شاءه البابا الطوباوي يوحنا 23 تحت شعار التجدد، تجدد الكنيسة من الداخل وفي علاقتها مع العالم.

وهناك أبرشيات كثيرة وضعت برنامجًا مفصّلاً ليس فقط لإحياء ذكرى بل لتبني مضامين تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني. وهذا دليل على أنّ تعليم المجمع يتطلب سنوات كثيرة لتطبيقه. وهذا ما حدث مع المجمع اللبناني مثلا 1736 اقتضى له عقد عدة مجامع متتالية على مدى أكثر من 150 سنة لتطبيق ما ورد فيه.

  • ويقول قداسة البابا في رسالته عن سنة الإيمان: “اعتبرت أن جعل بداية سنة الإيمان تتزامن مع الذكرى الخمسين لافتتاح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني يمكن أن تكون فرصة مؤاتيه  لكي نفهم أنّ النصوص التي تركها لنا آباء المجمع بمثابة تراث، حسب أقوال الطوباوي يوحنا بولس الثاني، لا تفقد شيئًا من قيمتها ومن بهائها. فمن الضروري أن تُقرأ قراءة جيدة، وأن تُعرف وتُستوعب، كنصوص مميّزة ومعيارية للسلطة الكنسية داخل تقليد الكنيسة. وأشعر أكثر من أي وقت آخر بواجب الإشارة إلى أن المجمع هو النعمة العظمى التي نعمت بها الكنيسة في القرن العشرين. فهو يقدم لنا بوصلة أمينة توجهنا في طريق القرن الذي يبدأ. وأريد أن أعيد كل ما قلته في شأن المجمع بعد بضعة أشهر من انتخابي خليفة لبطرس: “أن نقرأه ونتقبله في ضوء تفسير صحيح، فإنّه يمكن أن يكون وأن يصبح دومًا قوة عظيمة لتجدد الكنيسة الضروري في كل حين” (عدد 6).
  • بعد هذه المقدمة أقسم حديثي إلى ثلاثة أقسام:
  • الكنيسة على عتبة المجمع
  • مفاتيح النص العقائدي عن الكنيسة
  • أصداؤه في حياتنا

أولا – الكنيسة على عتبة المجمع: تيارات فكرية ومواقف كنسية

  • هناك تيارات فكرية متعددة أدّت إلى عقد المجمع ونجاحه. من هذه التيارات:
  • الدراسات الليتورجية التي ألقت الأضواء على غنى التراثات الطقسية التي تجمدت في الممارسة في حدّها الأدنى محافظة على اللغة اللاتينية الرسمية، فبدت الطقوس منقطعة عن واقع الشعب، وعن فكرة المشاركة، وعن مفهوم الكنيسة كجماعة يصلّي أعضاؤها معًا ويحتفلون معًا بالأسرار وخاصة بالسرّ الفصحي أي الافخارستيا. وتحولت الليتورجيا إلى ممارسات تقوية فردية لا علاقة لها بالمفهوم الحيوي الجماعي الدينامي. هذه الدراسات دفعت بعض الأديار الرهبانية وبعض الرعايا النبوية إلى إطلاق نهضة طقسية أتى المجمع ليكرّسها ويضبطها ويرسم معالمها ويعمّمها. فكان الدستور في الليتورجيا من النصوص الأولى التي درسها وأقرّها آباء المجمع فانعكس تطبيقها ارتياحًا في الشعب المسيحي.
  • الدراسات الآبائية أدّت هي أيضًا إلى اكتشاف كنوز كانت مطمورة ومهملة، وكان لها أثرها الكبير على الصعيد الليتورجي واللاهوتي والروحي. ولقد ساهمت مجموعة “الينابيع المسيحية” التي أصدرها الآباء اليسوعيون في مدينة ليون الفرنسية في تعميم هذه النصوص الأصلية وترجمتها إلى الفرنسية واللغات الحيّة.
  • الدراسات الكتابية، خاصة المسكونية منها، أعادت إلى الواجهة أهمية الكتاب المقدس في حياة الكنيسة وفي حياة المؤمنين. فصدرت له ترجمات حديثة وتشجع المؤمنون على قراءته فرديًا وجماعيًا والتعمّق في مضمونه وانعكاساته على حياتهم والتزاماتهم، فصار لهم غذاءً حيًّا، سواء في احتفالاتهم أم في ما يتوفر لهم منه في قراءاتهم الشخصية.

وهذا ما أدى في المجمع إلى إقرار الدستور عن (الوحي الإلهي، كلمة الله)، وهو من النصوص المهمة. فصار تركيز من جهة على قسم الكلمة في القداس والاحتفالات، فأعطاه في القداس أهمية توازي قسم التقديس وأعلن أن القداس يحتوي على مائدتين: مائدة الكلمة ومائدة الافخارستيا. ومن جهة أخرى تعممت قراءة الكتاب المقدس وانتشرت في كل الأوساط بعد أن كان المجمع التريدنتيني قد حظر القراءة، خاصة العهد القديم، وحصرها بالباحثين والمثقفين. وحرم منها عامة الشعب.

  • الدراسات اللاهوتية كان لها نصيبها الكبير في حركة التجدد التي سبقت المجمع وواكبته.

وبرز تياران: تيار المحافظين الذي يبقي القديم على قدمه. فأعطى الأولوية في اللاهوت العقائدي للاهوت الدفاع عن الإيمان والكنيسة ضد الهراطقة والملحدين، وفي اللاهوت الأدبي انحصر الهم في الممنوعات والخطايا والسلبيات. وبالتالي انقطع اللاهوت عن مصادره الكتابية والآبائية بما تحتويه من فكر إيجابي وحياة جديدة وإبراز لتاريخ الخلاص ولمفهوم الله الذي هو محبة ويريد خلاص الإنسان وحياته لا موته وهلاكه.

بالمقابل برز تيار التقدميين والمجددين الذي استقى فكره من الكتاب المقدس والآباء. فكان منهم الآباء  de Lubac – Hans Kung – Le Guillou – Chenu – Congar. وغيرهم كثيرون في فرنسا وألمانيا. وكان لهذا التيار انعكاساته الإيجابية التي تجلّت في رسالة البابا بيوس الثاني عشر عن الكنيسة بعنوان “الجسد السري” التي ظهرت سنة 1943.

غير أنّ التطورات المدنية كان لها أثرها في التفكير الكنسي. فالتيارات الفكرية الحديثة دفعت البابا بيوس التاسع إلى إصدار ما يدعى syllabus  ܣسنة 1864 ضمّنه ثمانين فكرة يحرم فيها المغالطات السائدة كالاشتراكية والتحرر وتمجيد الطبيعة وغيرها. وهو الذي دعا إلى عقد المجمع الفاتيكاني الأول سنة 1869 وتوقف بسبب الحرب سنة 1870. ولقد حددّ هذا المجمع عصمة البابا.

أما التقدم العلمي في كل المجالات ولا سيما في حقل التواصل الاجتماعي والتركيز على حرية الانسان وكرامته التي امتهنت في الحروب الكونية والقارية واستخدام التقنيات الحديثة وبروز المشكلة الاجتماعية، كل ذلك أبرز أهمية الإنسان ودوره في عالم اليوم ولذلك كان لا بدّ للمجمع من أن يتطرق إلى مجمل هذه الموضوعات في الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم وفي غيره من القرارات والمراسيم.

غير أنّ التيار المحافظ كان الأقوى، فحرم بعض التقدميين من التعليم، غير أنهم حافظوا على التأليف، وأُعيد إليهم الاعتبار في المجمع الفاتيكاني الثاني، إذ اختارهم أساقفتهم كخبراء لهم، ورُقيّ بعضهم فيما بعد إلى أعلى المراتب الكنسية.

  • هذان التياران كان لهما دورهما في المجمع. في المرحلة التحضيرية لإعداد النصوص برز دور المحافظين. فأعدوا نصوصًا تلائم تفكيرهم، خاصة في المجامع الرومانية. ولكن سرعان ما تغيّر الوضع عندما انبرت بعض الأصوات من آباء المجمع ترفض ما كان قد أعدّ وتطالب بتعديلات جوهرية في الشكل والمضمون. فكان لها ما أرادت.

وهذا ما سنراه في الدستور العقائدي عن الكنيسة. غير أنّ لكل نص من نصوص المجمع تاريخه وتطوره يمكن الاطلاع عليهما بقراءة المقدمات التي وضعت في ترجمة النصوص إلى اللغة العربية (الوثائق المجمعية. طبعة رابعة ومنقحة سنة 1991).

ثانيًا – مفاتيح النص العقائدي عن الكنيسة في الشكل والمضمون.

1 – في الشكل

  1. أدخل النص بنية جديدة للكنيسة: فلم ينظر إليها نظرة هرمية نظامية على غرار المجتمعات البشرية. فلم تعد السلطة الكنسية تحتل مركز رأس الهرم والشعب قاعدته. كما لم تعد مجتمعًا منظّمًا يخضع لسلطة البابا والأساقفة على غرار الدول التي لها سلطتها التي يخضع لها مواطنوها. بل أعطى الأولوية لسرّ الكنيسة المرتبطة بالثالوث الأقدس الذي شاءها منذ الأزل ثم نظر إليها من خلال التشابيه والصور الواردة في الكتاب المقدس ولا سيما شعب الله، وبعدها تطرق إلى نظام السلطة الكنسية فيها وبنوع أخص إلى الأسقفية التي حددها كسرّ وأساس الكهنوت.
  2. تطرق أيضًا إلى الدعوة إلى القداسة التي تشمل جميع أبناء الكنيسة بمن فيهم الرهبان والعلمانيون، كل حسب دعوته. ومن ثم أدمج المسودة المعدّة عن العذراء مريم في صلب نص الكنيسة كتتويج له، لأن دور مريم مرتبط بسرّ المسيح وسر الكنيسة، وهي مثال للكنيسة في إيمانها ومحبتها وحجّها على الأرض نحو السماء

2- في المضمون

  1. سنتطرق الآن إلى مضمون النصوص متوقفين على جوهرها وجديدها في سياق التفكير المجمعي وما توصل إليه من قرارات ومواقف كان لها أثرها الكبير في حياة الكنيسة وحياة أعضائها.
  2. عمد آباء المجمع   في الفصل الأول – وهو بعنوان في سر الكنيسة – إلى تجاوز النظرة التقليدية التي كانت تعتبر الكنيسة جماعة من أتباع المسيح الذين يمارسون ديانتهم في مجتمع منظّم تحت سلطة خليفة بطرس. فعادوا إلى الكتاب المقدس ليكتشفوا كيف أراد الله الكنيسة. فأعلنوا أنّها سرّ أي علامة وأداة للاتحاد الوثيق بالله ولتوحيد الجنس البشري. هذا السرّ ولد من الثالوث الأقدس ومُهدّ له بتاريخ الشعب اليهودي وظهر عندما أنشأ المسيح  الكنيسة فولدت من ذبيحته وأحياها بروحه القدوس.
  3. ولقد دلّت على الكنيسة تشابيه وصور وردت في الكتاب المقدس مثل الرعية والحظيرة وبناء الله والجسد والأغصان.

والكنيسة أداة بها يعمل المسيح. إنّه الباب الذي تدخل منه الخراف وهو راعيها الأول والحقيقي الذي يستعين برعاة بشر ليتابعوا رعايتها باسمه. إنّه الأساس الذي بُنيت عليه الكنيسة وفيه تثبت وتتلاحم حجارتها ويسوع هو العريس الذي خطب الكنيسة وأحبّها فبذل نفسه من أجلها.

وهكذا تبدو الكنيسة على أنّها جسد المسيح والطريق الذي يقودنا إلى الخلاص بقوة الروح القدس، الذي يقدسنا ويوحدنا بالمسيح على كثرتنا وبتنوع المواهب التي يغدقها على هذا الجسد بتنوع أعضائه.

  1. ويتطرق النص إلى ثلاث قضايا

– الكنيسة وإن تكن روحية فهي جماعة منظورة أيضًا، إنّها كنيسة أرضية مزيّنة بالخيور السماوية. وإنّها تحوي في حضنها خطأة. “إذًا هي قدوسة وعليها أن تتطهر دومًا جادة باستمرار إلى التوبة والتجدد” (عدد 8)

– “هذه الكنيسة المؤسسة والمنظمة كمجتمع في هذا العالم هي الكنيسة الكاثوليكية يسوسها خليفة بطرس والأساقفة المتّحدون معه بالشركة، مع أنّ عناصر عديدة من القداسة والحق توجد خارج هيكلها… عناصر هي هبات خاصة بكنيسة المسيح تدفع إلى الوحدة الجامعة” (عدد 8)

– والكنيسة مدعوة، على مثال مؤسسها المسيح، أن تعيش الفقر والاضطهاد. غير أنّها بحاجة إلى الخيرات الأرضية لتتمّ رسالتها، خاصة تجاه الفقراء والمتألمين الذين هم صورة المسيح المتجسدة. (عدد 8)

  1. الفصل الثاني يحمل عنوان “شعب الله”، وهو من الفصول الهامة والغنية والشاملة

     تنطلق جذور شعب الله من العهد القديم. فالله اهتم بالبشرية كشعب. ويقول النص: “إنّ الله لم يشأ أن يقدس الناس ويخلّصهم أفرادًا بل أن يجعلهم شعبًا يعترف به بالحق ويخدمه بأمانة” (عدد 9). وما الشعب الاسرائيلي الذي قطع الله معه العهود سوى مقدمة للشعب الجديد الذي قطع الله معه عهدًا بدم المسيح، وهو يضم كل الشعوب من يهود وأمم.

    هذا الشعب الجديد الذي رأسه المسيح يمتاز بالحرية والكرامة وبشرعة المحبة. غايته ملكوت الله الذي بدأ على الأرض بتبشير المسيح ومثله على أن يمتد إلى جميع الناس ويبلغ كماله في نهاية الأزمنة.

هذا الملكوت الذي بدأ مع الكنيسة هو بالنسبة إلى البشرية كلها بذار الوحدة والرجاء والخلاص. ولقد جهّز المسيح هذه الكنيسة بالوسائل التي توفر الوحدة لتكون سرًّا منظورًا لوحدة الجميع متخطيًا حدود الزمان والمكان.

  1. والعلمانيون، في هذا الشعب، يشتركون بكهنوت المسيح، كهنوت به يقدمون ذواتهم وأعمالهم قرابين حيّة. ويميز النص كهنوت العلمانيين من كهنوت الخدمة والرعاية والمحصور بمن قبلوا وضع اليد. هذا الكهنوت يكوّن الشعب الكهنوتي ويدبّره بفعل السلطة المقدسة التي يمارسها باسم المسيح وشخصه.

    وكهنوت المؤمنين هو كهنوت العبادة والشهادة يمارسونه باقتبال الأسرار وبالصلاة وشهادة الحياة المقدسة. فليسوا من بعد أعضاء هامشيين في الكنيسة، بل هم فاعلون ولهم دورهم المميز في حياتها ورسالتها. ويشدد المجمع على الانتماء بالقلب لا بالقالب. (عدد 14)

  1. وانطلاقًا من مفهوم شعب الله الذي تحمله الكنيسة يتطرق النص إلى العلاقة بسائر الكنائس وبالشعب اليهودي وبالمسلمين وبأتباع الديانات الأخرى.

    فالكنيسة مرتبطة بعدة ارتباطات مع الذين تشرفوا باسم المسيح ولكنهم ليسوا بشركة تامة مع الإيمان الكاثوليكي الشامل أو مع خليفة بطرس. بين هؤلاء من يجلّون الكتاب االمقدس ويتّخذونه قاعدة لحياتهم وإيمانهم، ومنهم من ينعمون بالأسقفية ويحتفلون بالأسرار ويكرّمون العذراء مريم وقد آتاهم الروح القدس مواهب ونِعَمًا فأحبوا المسيح حتى سفك الدم.

ويتجه اليهود نحو شعب الله لأنّهم قبلوا مواعيد الله وأُعطيت لهم العهود ومنه ظهر المسيح بالجسد.

    ويذكر المسلمين الذين يعترفون بالإله الواحد الخالق ويعبدونه ويؤمنون إيمان ابراهيم وبالدينونة الأخيرة.

كما يذكر أنّ جميع الناس الذين يفتشون عن الله بأشكال شتّى وهم يجهلونه فإنّهم ينتمون إلى شعب الله إذا كانت لهم الإرادة والنيّة الصادقة والضمير المستقيم. ويضيف: “ولا تمنع العناية الإلهية المعونات الضرورية للخلاص عن الذين، بدون ذنب منهم، لم يتوصلوا بعد إلى معرفة الله الصحيحة، ويعملون على أن يسيروا سيرة مستقيمة بمساعدة النعمة الإلهية. وكل ما يمكن أن يوجد عندهم من خير وحقّ، إنّما تعتبره الكنيسة استعدادًا إنجيليًا، وعطية من ذلك الذي ينير كل إنسان لكي تكون له الحياة في النهاية” (عدد 16)

  1. وبما أنّ ابليس يعمل على ضلال الناس وإفساد الضمير وإبعادهم عن الحقّ، كان على الكنيسة أن تتمسك بوصية المسيح: اذهبوا وتلمذوا كل الأمم

“وتقوم الكنيسة بأعمالها، كيلا يندثر كل ما تجده مغروسًا من خير في قلوب البشر وعقولهم وفي طقوس الشعوب وثقافاتها، بل كي تشفيه وترفعه وتكمّله لمجد الله، وخزي ابليس، وسعادة الإنسان” (عدد 17)

  • ويشكّل الفصل الثالث ذروة هذا النص لأنّه يتحدث عن نظام السلطة وعن الأسقفية التي يتجلّى فيها سرّ الكهنوت كاملاً. وحدّد المجمع أنّ الأسقفية سرّ، وشدّد على طبيعتها الجماعية انطلاقًا من جماعة الرسل الذين يؤلفون حلقة يرئسها بطرس. وكذلك الجماعية الأسقفية يرئسها خليفة بطرس، مع التشديد على أولويته كما جاء في تعليم المجمع الفاتيكاني الأول. “فالتقليد الرسولي يتجلّى ويُحفظ في العالم كلّه بواسطة الذين وضعهم الرسل أساقفة وبواسطة خلفائهم حتى أيامنا هذه” (عدد 20)

وكما حلّ الروح القدس على الرسل، هكذا يحلّ الروح القدس على الأساقفة. “إنّ المجمع المقدس يُعلّم أنّ الرسامة الأسقفية تعطي ملء سرّ الكهنوت الذي يُسمّى بحق، وفقًا لعادة الكنيسة الطقسية ولأقوال الآباء القديسين، الكهنوت السامي والجوهر الكامل للخدمة المقدسة. (عدد 21)

وتُعطى نعمة الروح بوضع اليد وكلام التكريس ويُطبع الوسم المرسوم بمعنى أنّ الأساقفة يقومون بطريقة سامية ومنظورة مقام المسيح بالذات المعلم والراعي والحبر ويمثلّون دوره (عدد 21)

ويدلّ على الجماعة الأسقفية المجامع المنعقدة بمشاركة الأساقفة جميعهم، ومسؤولية الأساقفة تمتد إلى الكنيسة جمعاء. والجماعية الأسقفية تبرز في رسامة الأساقفة التي تفترض أن يشارك فيها أكثر من أسقف.

تعبيرًا عن هذه الجماعية الأسقفية أنشأ البابا بولس السادس في ختام المجمع، مجمع الأساقفة الذي يُعقد دوريًا ليعالج شؤونًا كنسية بمشاركة مسؤولي الدوائر الفاتيكانية وممثلين عن مختلف المجالس الأسقفية في العالم علاوة عن البطاركة الشرقيين. غير أنّ هذا المجمع لا يتمتع بصفة تقريرية إذ يرفع إلى البابا اقتراحات يستنير بها لإصدار إرشاد رسولي يعقب المجمع. كذلك هي حال المجالس الأسقفية على صعيد وطني أو قاريّ. فقراراتها تحتاج إلى موافقة البابا لتصبح نافذة.

  •  ويعالج النص بصورة عامة وظائف الأسقف التعليمية والتقديسية والراعوية لأنّه سيعود إليها بالتفصيل في القرار عن مهمة الأساقفة الراعوية.

في مجال التعليم الأولوية هي للتبشير بالإنجيل. ويشير النص من جديد إلى العصمة التي تتمتع بها الكنيسة المتمثلة بالبابا من جهة وبمجموع الأساقفة من جهة أخرى عندما يتناول تعليمهم قضايا الإيمان والأخلاق. وهذا ما يقتضي الطاعة والخضوع لهذا التعليم.

وفي مجال التقديس لا بدّ من لفت الانتباه إلى ما ورد في العدد 26: في الافخارستيا تحيا الكنيسة. “فكنيسة المسيح هذه هي حاضرة حقًّا في كل جماعات المؤمنين المحلية والشرعية، والمتحدة برعاتها والتي في العهد الجديد تُدعى هي أيضًا كنائس”

وفي المجال الراعوي يشدد النص على سلطان الأسقف الذاتي والمألوف والمباشر. ولذا يجب ألا يُعتبروا (الأساقفة) كنوّاب الأحبار الرومانيين لأنّهم يمارسون سلطانًا ذاتيًا وهم رؤوساء الشعوب التي يدبّرون أمرها. ولكنه يذكّر بأنّ هذا السلطان يمارس على مثال يسوع الراعي الصالح الذي أتى ليخدم لا ليُخدَم ويبذل نفسه عن الخراف.

ويُنبّه الأسقف بأن عليه: “ألا يرفض سماع مرؤوسيه حادبًا عليهم كأبناء حقيقيين، حاثًّا إيّاهم على أن يعاونوه بالفرح” (عدد 27)

كما أنّ عليه أن يهتم بجميع الناس في نطاق أبرشيته وليس فقط بخاصته (تبشير، أعمال محبة).

  • ولا ينتهي هذا الفصل دون أن يشير إلى الكهنة والشمامسة معاوني الأسقف. في ما يتعلق بالشمامسة فإنّه يُقرّ الشماسية الدائمة التي يمكن أن تُمنح لمتزوجين. وفيما يتعلّق بالكهنة – الذين سيفرد لهم نص خاص بهم – فإنّه يشددّ على نوعية العلاقة التي تشدّهم إلى الأساقفة. فعليهم أن يعترفوا بهم كآباء ويطيعوهم باحترام، وعلى الأساقفة بدورهم أن يعترفوا بهم كأبناء وأصدقاء مثلما دعا المسيح تلاميذه. والكهنة جميعهم، أبرشيين ورهبانًا مرتبطون بالجسم الأسقفي وببعضهم البعض بفضل الدرجة والرسامة والرسالة.
  • بعد أن حددّ المجمع وظائف السلطة الكنسية يعود إلى العلمانيين وإن كان ينطبق عليهم ما قيل في شعب الله. فيذكّر الرعاة بأهمية مساهمة العلمانيين في خير الكنيسة. “وبأنّ المسيح لم يقمهم ليأخذوا على ذاتهم وحدهم رسالة الكنيسة الخلاصية بكاملها تجاه العالم” (عدد 30). إنّه يعود إلى العلمانيين أن يطلبوا ملكوت الله، بينما يتعاطون الشؤون الزمنية فيعملوا كالخمير على تقديس العالم من الداخل، بقيامهم بوظائفهم الخاصة بوحي روح الانجيل فيظهروا المسيح للآخرين بشهادة سيرتهم.

وللعلمانيين كرامتهم كأعضاء متساوين في جسد المسيح الواحد الذين يعملون لبنيانه انطلاقًا من مشاركتهم في الكهنوت العام وفي وظائف المسيح النبوية والملوكية بفضل عمادهم.

وللقيام بهذه الوظائف يجب أن يعملوا متضامنين لنشر ملكوت الله بالعمل والقول ولتصحيح الأوضاع الشاذة التي تنتشر في المجتمع (عدد 36) مستنيرين بضميرهم المسيحي.

ونظرًا إلى أهمية عمل العلمانيين ورسالتهم في وسط العالم، على الرعاة أن يقرّوا بكرامة العلمانيين ومسؤوليتهم وأن يصغوا إليهم بارتياح وأن يكلفوهم بالخدمات الكنسية وأن يشركوهم في مؤسسات لتبادل الآراء (مجالس رعوية وأبرشية). كما على العلمانيين” أن يفاتحوا الرعاة بحاجاتهم وأمانيهم بحرية وثقة تليق بأبناء الله وإخوة المسيح، على قدر علمهم وكفاآتهم ومراكزهم” (عدد 37)

  • وفي الفصل عن الدعوة الشاملة إلى القداسة يعدّد المجمع أشكال ممارسة القداسة لكل فئة من المؤمنين، من الرعاة والكهنة (صفحة 108) إلى الشمامسة والاكليريكيين والعلمانيين والأزواج والوالدين… قائلاً: “وهكذا فكل الذين يؤمنون بالمسيح يمكنهم أن يتقدسوا دومًا وأكثر في ظروف حياتهم وحالاتها وواجباتها وبواسطة هذه الأشياء كلها إذا ما اقتبلوها من يد الآب السماوي وإذا ما لبّوا الإرادة الإلهية مظهرين أمام الكل، في خدمتهم الزمنية نفسها، المحبة التي بها أحب الله العالم” (عدد 41)

هذه المحبة توجّه كل وسائل القداسة وطرقها وتقوم بمحبة الله والقريب حتى بذل الذات.

  • أمّا في ما يتعلق بالحياة الرهبانية فتعلن الكنيسة أنّها مرتبطة بها ارتباطًا وثيقًا وإن لم تكن من تركيب الكنيسة الإلهي والتسلسلي. وأنّها ترعاها وتثبّتها وتسهر على قوانينها لأنّها شهادة حية لملكوت الله بالنسبة إلى جميع المؤمنين. ويتحدث النص عن عصمة بعض الرهبنات المرتبطة بالبابا، التي هي مرتبطة بالأساقفة المحليين في ما يتعلق بسلطتهم الراعوية الرسولية.
  • يتناول الفصل السابع علاقة كنيسة الأرض بكنيسة السماء. كنيسة الأرض حصلت منذ الآن على اتحادها بالله، لكن لم يتجلّ بعد ما ستصير إليه في المجد. لذلك تتحلّى بالرجاء وتحرص على الثبات في الإيمان وتعيش المحبّة. وهي على علاقة وثيقة بمن بلغوا الكمال أي القديسين الذين ينعمون برؤية الله. فالكنيسة هي واحدة في منطلقاتها وحجّها وبلوغ السماء لأنّها جسد المسيح الواحد. ونظرًا إلى هذه الوحدة تُرفع الصلاة لأجل الموتى ويُستشفع القديسون وفي مقدمهم العذراء مريم. ويعطي المجمع توجيهات راعوية في هذا المجال “ويحثّ المسؤولين كي يداووا كل خرق وكل زيادة وكل نقصان يحصل هنا وهناك…” ” وليعلّموا المؤمنين أنّ عبادة القديسين الأصلية لا تقوم بالإكثار من الأعمال الخارجية، بل بالأحرى بممارسة حبّ حارّ وحقيقي به نفتش لخيرنا الأعظم ولخير الكنيسة عن المثل في معاشرة القديسين وعن الاتحاد في شركتهم وعن العضد في شفاعتهم” (51)
  • إنّ الفصل الأخير من الدستور العقائدي في الكنيسة يتطلب بحثًا مستفيضًا بحدّ ذاته. فلن أتطرق إليه بالاختصار الذي أشرت فيه إلى بعض الفصول السابقة.

ولكن ضمن إكرام القديسين والعلاقة التي تربط كنيسة الأرض بكنيسة السماء، تحتل العذراء مريم مكانة مميّزة. ويشددّ النصّ على إكرامها خاصة الطقسي منه، وعلى الأعمال التقوية التي نصحت بها الكنيسة، ويحثّ اللاهوتيين على أن يمتنعوا عن كل مغالاة مضادة للحقيقة… وأن يظهروا بجلاء دورها وإنعاماتها الموجِّهة دومًا إلى المسيح. “وليحرصوا كل الحرص على أن يبعدوا في كلامهم وأعمالهم كل ما من شأنه أن يقود إلى الضلال… وليذكر المؤمنون أنّ الإكرام الحق لا يقوم أبدًا بحركة شعورية جدباء عابرة، ولا في سذاجة إيمان فارغة، ولكنه ينبع من إيمان حقيقي يقودنا إلى أن نفقه الكرامة السامية التي لأم الله ويدفعنا إلى محبة أمنا حبًا بنويًا، ويحثنا على الاقتداء بفضائلها” (عدد 67)..

ثالثًا – أصداؤه في حياتنا

  • بصورة عامة لم يحظَ تعليم المجمع بكامله بالاهتمام الكافي. فترجمة نصوصه كلها إلى العربية ظهرت بعد ست عشرة سنة على ختام المجمع (1981) وبمبادرة فردية.

        مع أنّ أصواتًا وحركات عدة طالبت بتطبيق ما ورد فيه، وخاصة بعقد مجمع بطريركي جديد. غير أنّ التقاعس عن مواكبة المجمع يعود إلى عدم إيلاء دستور الكنيسة ما يستحق من اهتمام، لأنّ وعي الكنيسة لذاتها ولعلاقتها بالعالم هو أساس كلّ تغيير أو تجديد. مع العلم أنّ أحبار الكنيسة المارونية شاركوا في المجمع، وكان للبعض منهم مواقف ومداخلات مرموقة.

        إنّما تجدر الإشارة إلى ما تحلّى به بعض الكهنة والعلمانيين من اطلاع ومعرفة على تعليم المجمع.

        غير أنّه يُسجّل للكنيسة المارونية دورها الطليعي في المجال الليتورجي الذي كشف كنوز التراث الدفينة.

ولكن لا ينفع الندب والتحسر على مساوئ الماضي. فأمامنا اليوم فرصتان ذهبيتان، وخاصة أمامكم، أسقفًا وكهنة مثقفين:

  • الفرصة الأولى: تبنّي مسيرة الكنيسة في إعادة اكتشاف غنى نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني والمجمع البطريركي الماروني.
  • الفرصة الثانية: إطلاق ورشة عمل كهنوتية أبرشيّة تحددّون إطارها وسبلها لتحقيق هذين الهدفين. وذلك بغية استنهاض همم أبناء الكنيسة حتى يحافظوا على دورهم ورسالتهم ويتمسكوا بتراثهم في لبنان والشرق حتى يشعّ في حياتهم الشخصية والجماعية نور المسيح ونور الكنيسة. وليكن المجمعان – الفاتيكاني الثاني والبطريركي – والإرشادان، البوصلة التي تقودنا على دروب القرن الحادي والعشرين.
Scroll to Top