Almanara Magazine

الكنيسة شركة

مقدّمة

أكّد سينودوس الأساقفة غير العادي الّذي انعقد سنة 1985، بعد مرور عشرين سنة على اختتام المجمع الفاتيكاني الثاني، أنّ “لاهوت الكنيسة-الشركة (ecclésiologie de communion)، هي الفكرة الرئيسة والأساسيّة، الواردة في وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني. ان الشركة، المؤسّسة على الكتاب المقدّس، أولتْها الكنيسة الأولى أهميّة كبرى. وقد حافظت الكنائس الشرقيّة على هذا التقليد الى يومنا هذا.” (الارشاد الرسولي، العلمانيّون المؤمنون بالمسيح، 1988، عدد 19).

في سبيل التعمّق في مفهوم الكنيسة-الشركة في المجمع الفاتيكاني الثاني، سوف نستعرض لاهوت الكنيسة في الفترة المباشرة التي سبقته. ومن ثمّ نستعرض الدّستور العقائدي حول الكنيسة “نور الأمم”، مع ما تتضمّنه من محاور أساسيّة حول لاهوت الشركة، والتي تطال طبيعة الكنيسة، والأساس الثالوثي لها، والكنيسة في بعدها السرّي والمنظور، والكنيسة كشعب الله، قوامه الشركة مع الله وبين أفراده، هي في جوهرها شاملة، يجد فيها الجميع خلاصه. تُعاش هذه الشركة بين كل الفئات في الكنيسة الواحدة، وبأشكال شتّى مع الّذين هم خارج اطارها المنظور. وتعيش كنيسة الأرض الشركة مع كنيسة السماء.

  1. لاهوت الكنيسة (ecclésiologie) عشيّة المجمع الفاتيكاني الثاني

بعد الحرب العالميّة الثانيّة، وضمن اطار ما كان يشهده ذاك العصر من تجديد على الصعيد الكتابي والليتورجي والآبائي، والنشاط الرسولي، برز، خصوصاً في أوروبا، تيّاران حول لاهوت الكنيسة: التجسّدي والنهيوي. يشدّد التيّار التجسّدي على التزام المؤمنين في قضايا الواقع التاريخي، مع تضامنهم مع الّذين يسعون الى مجتمع أفضل. ويذكّر التيّار النهيوي بزوال العالم وبالحالة السماوية في نهاية التاريخ. ان التيّار الأوّل ترك أثراً جليّاً في المجمع الفاتيكاني الثاني، لاسيّما في الدّستور الراعوي حول الكنيسة في عالم اليوم، وفي رسالة العلمانيين. (راجعBernard Sesboüé (directeur), Histoire des dogmes, tome 3, les signes du salut, Desclée,1995, p522-523).

قاد هذا السياق الى التوسّع في نموذجين في اللاهوت الكنسي (deux modèles ecclésiologiques): (1) الكنيسة هي “شعب الله” الّذي يترابط بالشركة الأخويّة، والسائر في تاريخ البشر، حاملاً الكرازة الانجيليّة. ان مفهوم “شعب الله” لديه جذور كتابيّة وآبائيّة. أُهمل لوقت طويل على حساب مفهوم المجتمع الكامل للكنيسة (société parfaite)، الغالب فيه الناحية القانونيّة والايراركيّة. ولكن الكثير من اللاهوتيين توسّعوا في فكرة “شعب الله” قبل المجمع الفاتيكاني الثاني. وقد لاقت هذه الفكرة قبولاً واسعاً، فهي تشمل البعد التاريخي للكنيسة، والاستمراريّة والانقطاع معاً بالنسبة لشعب العهد القديم، والمساواة الأساسيّة مع كل أعضاء الشعب. (2) تشكّل الكنيسة بطابعها المنظور، بحسب النموذج الثاني، “السرّ الأساسي” (sacrement fondamental) للاتّحاد بين الله والبشر، والبشر فيما بينهم. في الكنيسة-السرّ، ان البعد المنظور مرتبط بالبعد غير المنظور. فالعناصر الخارجيّة المنظورة في الكنيسة ليست مضافة عليها من الخارج، بل هي اعتلان لسرّ (mystère) الكنيسة بالذات. كثير من اللاهوتيين وصفوا الكنيسة بالسرّ (sacrement)، وأخصّهم Otto Semmelroth الّذي توسّع فيه بأسلوب منهجي. (راجعBernard Sesboüé (directeur), Histoire des dogmes, tome 3, les signes du salut, Desclée,1995, p523-524).

ان لاهوت الكنيسة عشيّة الفاتيكاني الثاني، شكّل خلاصة تشمل، مع ما تناوله النموذجان الآنف ذكرهما، لاهوت الجسد السرّي، والبعد المنظور والايراركي، والعلمانيّة (laïcat)، والمسكونيّة، والانفتاح الرسالي، والتوجّه النهيوي. تناول المجمع الفاتيكاني الثاني عن هذه الخلاصة، خصوصاً في الدّستور العقائدي حول الكنيسة، “نور الأمم” (وسندلّ عليه في هذه المقالة بحرف “ك”).

  • دستور “نور الأمم” في المجمع الفاتيكاني الثاني

ان المجمع الفاتيكاني الثاني هو، بحسب راهنر، “مجمع الكنيسة حول الكنيسة”. فقد عالج موضوع الكنيسة في مختلف جوانبه في الدّستور العقائدي “نور الأمم”. ولكن كلّ وثائق المجمع الكبيرة تناولت جوانب أساسيّة من الكنيسة، كسرّ الكنيسة في “نور الأمم”، ودور الأساقفة في القرار “المسيح الرب”، ودور الكهنة في القرار “درجة الكهنة”، والنشاط الرّسالي في القرار “الى الأمم”، والمسكونيّة في القرار “استعادة الوحدة”، والعلاقة مع المجتمع في الدّستور “فرح ورجاء”. (راجعBernard Sesboüé (directeur), Histoire des dogmes, tome 3, les signes du salut, Desclée,1995, p525-526).

تعالج وثيقة “نور الأمم” موضوع الكنيسة انطلاقاً من أساسها الثالوثي، وضمن رؤية عامّة لتاريخ الخلاص. وهي بذلك تتخطّى الاطار القانوني، وتعتمد وجهة نظر لاهوتيّة. ولكنها تتضمّن تأكيدات كلاسيكيّة تعبّر عن رأي تقليدي كان حاضراً عند قسم من آباء المجمع، الى درجة ان البعض تحدّث عن نوعين من لاهوت الكنيسة (deux ecclésiologies) فيها: اللاهوت التقليدي، القانوني، الايراركي، من جهة، ولاهوت الكنيسة-الشركة (ecclésiologie de communion) من جهة أخرى. لا غرو ان لاهوت الكنيسة-الشركة هو الّذي طغى على هذه الوثيقة. (راجعBernard Sesboüé (directeur), Histoire des dogmes, tome 3, les signes du salut, Desclée,1995, p526-527).

ان لاهوت الكنيسة-الشركة قاد آباء المجمع الى اعطاء الأفضليّة الى صورة “شعب الله” في الحديث عن الكنيسة. لذلك خُصّص فصل كامل لشرح مفهوم “شعب الله”، ووُضع، من الناحية المنهجيّة، مباشرة بعد الفصل الأوّل الّذي يتناول سرّ الكنيسة وأساسها الثالوثي، وقبل معالجة البنية الايراركيّة. وهذا يدلّ على تخطّي اللاهوت المتمحور حول السّلطة، وتفضيل البعد الروحي على البعد المؤسّساتي. ان الأولويّة المعطاة لمجموع المؤمنين، كشعب الله، مهّد الطريق أيضاً لتخطّي التحديد السلبي للعلمانيّة (laïcat)، أي ان العلمانيين ليسوا بكهنة أو رهبان، نحو وصف ايجابي يرتكز على المعموديّة. (راجعBernard Sesboüé (directeur), Histoire des dogmes, tome 3, les signes du salut, Desclée,1995, p527).

ولاهوت الكنيسة-الشركة يشرح أسس المجمعيّة الآسقفيّة (collégialité épiscopale)، والحركة المسكونية التي ترى في المسيحيين غير الكاثوليك انهم في شركة مع الكنيسة الكاثوليكية ولو غير كاملة. هذا اللاهوت يحدّد طبيعة الكنيسة.

  • طبيعة الكنيسة

الكنيسة بطبيعتها هي شركة في بعدين متلازمين: شركة بين الله والبشر، وشركة فيما بين البشر. والشركة مع الله هي التي تؤسّس الشركة بين البشر. والكنيسة، بحسب الفاتيكاني الثاني، هي سرّ (sacrement) كما أشرنا أعلاه (راجع ك1 و48)، أي انها العلامة والإداة لهذه الشركة؛ كعلامة هي تظهرها في وسط عالمنا وتشهد لها، وكأداة تحقّقها في وسط المؤمنين وتدعو الجميع اليها. لذلك ان الكنيسة، في رسالتها، تريد وتعمل لكي تشمل هذه الشركة كلّ البشر، ليبلغوا إلى ملء وحدتهم، في المسيح يسوع، والتي تتخطّى وحدتهم أو شركتهم عبر الترابط الإجتماعيّ والتقنيّ والثقافيّ (راجع ك1). بهذا المعنى ، ان الكنيسة هي “سرّ الخلاص الشامل” (ك48).

في هذا السياق، ان التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة عرّف الكنيسة بأنها “سرّ اتّحاد البشر بالله” (عدد 772)؛ والسرّ هنا بمعنى “mystère” الّذي يشير الى الشركة الروحيّة غير المنظورة. وعرّف عنها أيضاً بكلمات “نور الأمم”، بأنّها “سرّ الخلاص الشامل” (عدد 774)؛ والسرّ هنا بمعنى “sacrament” الّذي يشير، كما سبق وذكرنا، الى ان الكنيسة هي العلامة المنظورة لهذه الشركة، والأداة لتحقيقها.

وقد استخدم المجمع الفاتيكاني الثاني تشابيه من الكتاب المقدّس، للدلالة على الكنيسة-الشركة في بعديها المتلازمين (راجع ك6). أخذت هذه التشابيه من الحياة الراعويّة والزراعيّة. فالكنيسة هي الحظيرة التي بابها الوحيد هو المسيح (راجع 10/1-10)، وهي القطيع الذي يرعاه المسيح الراعي الصالح (راجع يو 10/11، و1بط 5/4)، وهي الكرمة ونحن الأغصان؛ الكرمة هي المسيح، ونحن نستمدّ الماويّة منه (راجع أشعيا 5/1 وما يلي: يو 15/1-5). وشبّهت الكنيسة ببيت الله حيث تسكن عائلته (راجع 1 تيمو 3/15 وأف 2/19-22). لهذه الشركة أساس ثالوثي.

  • البُعد الثالوثيّ للشركة في الكنيسة

ألثالوث هو مصدر الكنيسة الشركة وغايتها، ومثالها. فالثالوث الأقدس أراد الكنيسة-الشركة وأنشأها في التدبير الخلاصيّ، من أجل أن يدخل المؤمنون في شركة مع الآب والابن والروح القدس. فالآب خلق البشر ودعاهم ليشاركوه في الحياة الإلهيّة. ولمّا أخطأوا، أرسل اليهم ابنه مخلّصًا. وأراد أن “يدعو جميع الذين آمنوا بالمسيح كي يؤلّفوا الكنيسة المقدّسة” (ك 2) وأن يجمع فيها، بحسب آباء الكنيسة، كلّ الأبرار من آدم و”هابيل الصديق حتى آخر مختار” فتكون بذلك الكنيسة الجامعة في كلّ مكان، وكلّ زمان (راجع ك 2).

حقّق الإبن المتجسّد تصميم الآب لخلاص البشر، موحّداً ايّاهم في كنيسة واحدة، عبر تبشيره بملكوت الله، وبصورة خاصّة في الفداء الذي أتمّه على الصليب.

فقد أنشأ المسيح الكنيسة بتبشيره بملكوت الله. وهذا الملكوت تحقّق بكلام المسيح وأفعاله وشخصه. فمن يقبل كلام المسيح يتّحد مع جماعة المؤمنين به. وأعمال المسيح، وبصورة خاصّة أعاجيبه، هي علامة على حلول الملكوت (راجع لو 11/20). وتحقّق الملكوت بشخص المسيح الذي بذل نفسه فداءً عن الجميع، ليجمعهم في واحد.

وبفيض الروح القدس على الكنيسة، أُعطيت رسالة التبشير بالملكوت، وإنشاءه بين الشعوب، “وجُعلت زرع هذا الملكوت وبدأه على الأرض”. فبقدر ما تنتشر الكنيسة وتنمو في العالم، بقدر ما تساهم في نشر ملكوت الله ( راجع ك 3و5). يكتمل هذا الملكوت في المجد الأبديّ في السّماء (راجع ك3و5)

وأنشأ المسيح الكنيسة بصورة خاصّة في ذبيحة الفداء. ففيها أدخلنا الإبن في شركة بنويّة مع الآب، ووحّدنا فيما بيننا في شركة أخويّة. والإفخارستيّا تحقّق لنا ما أتمّه السيّد المسيح بفدائه، لاسيّما وحدة المؤمنين في ما بينهم ليصبحوا جسدًا واحدًا. في هذا السياق، رأى آباء الكنيسة، أنّ الكنيسة خرجت من جنب المسيح المطعون، كما خرجت حوّاء من جنب آدم. (راجع ك3)

وفي العنصرة حلّ الروح القدس على الكنيسة وسكن فيها، بسكناه في قلوب المؤمنين، كما في هيكل. وهو الّذي يوحّد المؤمنين فيها بالابن، ويدخلهم في شركة بنويّة مع الآب، ويوحّدهم بذلك فيما بينهم بشركة أخويّة. (راجع ك4)

ان الثالوث الأقدس، كما يظهر في التدبير الخلاصي، هو مصدر الكنيسة-الشركة، في البعد العمودي أي مع الثالوث نفسه، وفي البعد الأفقي أي شركة المؤمنين فيما بينهم المؤسّسة على الشركة مع الثالوث. هذه الشركة الأفقيّة هي مشاركة في الشركة القائمة في الثالوث بين الآب والابن والروح القدس. فيسوع صلّى من أجل هذه الشركة التي عبّر عنها بعبارة الوحدة قائلاً: “ليكونوا كلّهم واحداً كما انّك أيّها الآب فيّ وأنا فيك. ليكونوا هم أيضاً فينا لكي يؤمن العالم انّك أرسلتني” (يوحنّا17/21). وقد أعلن المجمع الفاتيكاني الثاني هذه الحقيقة مستشهداً بكلمات القدّيس قبريانوس القائل: “ان الكنيسة الجامعة تبدو وكأنّها شعب يستمدّ وحدته من وحدة الآب والابن والروح القدس” (ك4).

تتحقّق هذه الشركة بين المؤمنين، بالروح القدس، الّذي هو منذ الأزل رباط الوحدة في الثالوث الأقدس، والّذي وحّد الطبيعة البشريّة في شخص ابن الله لمّا تجسّد في ملء الزمن. فالروح يجعل المحبة التي في المسيح الرأس، تسري في كل أعضاء الجسم الكنسي، فيحبّ المؤمنون الآب وبعضهم البعض بالمحبّة التي أحبّنا بها المسيح، رأس الجسد الّذي هو الكنيسة. “لهذا لا يمكن ان تحدّد الشركة الكنسيّة تحديداً وافياً، اذا اعتبرناها مجرد واقع اجتماعي وسيكولوجي” (يوحنا بولس الثاني، الارشاد الرسولي، العلمانيون المؤمنون بالمسيح، 19)، بل هي واقع منفتح على عمل الروح القدس الّذي يجعل الكنيسة “جسد المسيح السريّ” (corps mystique du Christ).

  • الكنيسة جسد المسيح السرّي

ان الروح القدس، مبدأ الوحدة في الكنيسة، يجعل المؤمنين “جسد المسيح السّرّي”. تدلّ هذه العبارة (“جسد المسيح السّرّي”) أنّ الروح القدس الساكن في الرأس أي المسيح، هو نفسه يسكن في بقيّة أعضاء الجسد، المؤمنين، ويوحّدهم مع الرأس، ويوحّدهم فيما بينهم على تنوّعهم، وتنوّع خدمتهم داخل الكنيسة. والروح القدس العامل في الأسرار، ينشر في المؤمنين حياة المسيح، مشركاً ايّاهم، بصورة خاصّة في موته وقيامته. (راجع ك7)

ان الشركة في الكنيسة هي الوحدة في التنوّع. فالمؤمنون الموحّدون بالروح، المجموعون على تنوّعهم من كلّ الشعوب والثقافات، هم على شبه أعضاء الجسد البشريّ التي، على تنوّعها، لا تؤلّف إلاّ جسدًا واحدًا، كما أكّد ذلك مار بولس في 1قور 12/12. والروح يوحّدهم بالمحبّة التي يبثّها فيهم، كما أشرنا آنفاً، والتي تترجم بالتضامن فيما بينهم. فلا يتألّم عضو إلاّ وتألّم معه كلّ الأعضاء. ولا يفرح عضو إلاّ وتفرح معه كلّ اعضاء (راجع 1قور 12/26).

والروح، في الكنيسة، هو مبدأ الوحدة والتنوّع في آن واحد. فالروح الواحد هو مبدأ تنوّع الخدم في الكنيسة، يوزّعها على المؤمنين، جاعلاً من كلّ خدمة لخير الكنيسة كلّها، كما ان وظيفة كلّ عضو في الجسد، هي لخير الجسد كلّه. (اجع ك7)

ولجسد المسيح السرّي بعد مسيحانيّ (christologique). فالمسيح هو الرأس، لأنه صورة الله غير المنظور، وهو قبل كلّ كائنٍ، وبه كوّن كلّ شيء، وفيه حلّ كلّ ملء اللاهوت جسديًّا (راجع كول 2/9)،وهو المبدأ البكر من بين الأموات. لذلك ان الكنيسة كجسد المسيح، تخضع لرأسها، ويسعى أعضاؤها للتّمثّل به، حتى يتصوّر فيهم (راجع غلا 4/19).

  • الكنيسة هي منظورة وروحيّة معًا

ان المجمع الفاتيكاني الثاني المسكوني الّذي توسّع في هويّة الكنيسة-الشركة، لم يحجب دور البنية الايراركيّة المنظورة ذات السّلطة فيها، بل أظهر ان دورها ورسالتها في ان تكون في خدمة الشركة، التي هي صميم طبيعة الكنيسة. وقد دلّ المجمع على ذلك في التمايز والتكامل معاً، بين عنصرين يؤلفان الكنيسة، هما عنصر البنية الايراركيّة، وهو إنسانيّ، أرضيّ، منظور؛ وعنصر الشركة الروحيّة والسريّة (mystique)، وهو إلهيّ، روحيّ، غير منظور، يشكّل جسد المسيح السرّي. والكنيسة، بهذين العنصرين المتّحدين فيما بينهما، تُشَبَّه، بصورة قياسيّة، بالإبن المتجسّد، الذي ضمّ في شخصه الطبيعتين الإلهيّة والبشريّة. وكما أنّ الطبيعة البشريّة في شخص المسيح كانت “أداة حيّة للخلاص لكونها متّحدة به اتّحادًا لا ينفصم، كذلك فالكلّ الإجتماعيّ الذي تتألّف منه الكنيسة هو في خدمة روح المسيح الذي يعطيها الحياة لنموّ الجسم” (ك 8). لذلك، إنّ كلّ ما هو إنسانيّ ومنظور في الكنيسة غايته أن يساهم، من جهة، في إيصال نعمة الله المقدّسة الروحيّة وغير المنظورة، وأن يظهر، من جهة أخرى، وحدة الكنيسة الداخليّة عبر وحدتها الظاهرة والإجتماعيّة.

ان البنية الايراركيّة تأخذ مكانها في اطار الكنيسة-الشركة التي وصفها المجمع الفاتيكاني الثاني بأنها “شعب الله”.

  • شعب العهد الجديد

توسّع الدستور العقائدي حول الكنيسة، في مفهوم “شعب الله”، وبيّن ان مصدره يكمن في تصميم الله الخلاصي الّذي تحقّق في التاريخ البشري. فالله لم يشأ أن يخلّص البشر كأفراد مستقلّين عن بعضهم البعض، بل كشعب مترابط في أفراده، يعرفه بالحقّ، ويخدمه بالقداسة. لذا اختار شعبًا في العهد القديم مظهرًا له إرادته. فكان التهيئة والصورة لشعب العهد الجديد، الكنيسة، التي أنشأها السيّد المسيح لسرّ الفداء، ودعا إليها كلّ الشعوب، على مختلف انتماءاتهم وثقافاتهم، ليتّحدوا فيما بينهم بعمل الروح القدس وبالإيمان بالمسيح، وبالولادة الروحيّة بكلمة الله وسرّ العماد. هذا الشعب رأسه المسيح ابن الله الفادي الذي يعلو الجميع، حالته حالة أبناء الله بروح التبنّي الّذي يسكن في قلوب المؤمنين، شريعته المحبّة، وغايته ملكوت الله الذي يكتمل في الأزمنة الأخيرة. (راجع ك9)

لهذا الشعب صفة كهنوتيّة. فالمعموديّة تجعل المؤمنين بالمسيح، بفضل حلول الروح القدس الّذي يمنحهم الولادة الجديدة، شعبًا كهنوتيًّا. إنّه الكهنوت العام المختلف في الجوهر عن الكهنوت الخدميّ. يعيشه المعمّدون عبر تقدمة أعمالهم البشريّة كذبائح روحيّة لله، وعبر الإشادة بحمد الله، وشهادة حياتهم، والكفر بالذات، وعبر اقتبال الأسرار التي تنمّي الشركة مع الله ومع بعضهم البعض. (راجع ك10)

  • شموليّة الشركة في الكنيسة

تتّصف الكنيسة بالكاثوليكيّة أو بالجامعة، أي بشموليّة الشركة. فهي تريد أن تجمع كلّ البشر من كافة الشعوب ليؤلّفوا، بتدبير الله، الكنيسة الواحدة التي رأسها المسيح، ومبدأ وحدتها الروح القدس. وشعب الله، الكنيسة، منتشر بين شعوب الأرض، التي منها أخذ أعضاءه. وهو على انتشاره في مختلف الأنحاء، يبقى موحّدًا بفعل الروح القدس. (راجع ك13)

إنّ الكنيسة، بطبيعتها، منفتحة على العالم أجمع، ولها فيه رسالة وحدة وخلاص. فهي، على الرّغم من أنّها كالقطيع الصغير بالنسبة لعامة الجنس البشريّ، تشكّل بذرة وحدة وأداة فداء لكلّ البشر. (راجع ك9)

ان كلّ البشر مدعوّون لهذه الوحدة الكاثوليكيّة، بشكلها المنظورالّذي يتحقّق بروابط الاعتراف بالايمان الواحد، والشركة في الأسرار، والسلطة الكنسية الواحدة. ولكن الّذين هم خارج الواقع المنظور للكنيسة، فانّهم، اما منتمون، اما موجّهون، بأشكال شتّى اليها. فالدستور العقائدي في الكنيسة يؤكّد ما يلي: “وينتمي إلى هذه الوحدة الكاثوليكيّة تحت أشكال شتّى، أو يتوجّه إليها المؤمنون الكاثوليك، والذين من ناحية أخرى، يؤمنون بالمسيح، وأخيرًا جميع البشر بدون استثناء الذين تدعوهم نعمة الله إلى الخلاص” (ك 13).

فالكنيسة ترتبط بشركة غير كاملة بالمسيحيّين غير الكاثوليك. وتقدّر ما عندهم من عناصر للتقديس، وعناصر حقيقة (راجع ك8). وتتشارك معهم الكتاب المقدّس الذي يشكّل قاعدة للإيمان والحياة، والايمان بالمسيح ابن الله المخلّص، والعماد. وتتلاقى مع الكثير منهم بايمانها بسائر الأسرار كالأسقفيّة والإفخارستيّا، وباكرام والدة الإله؛ وتتشارك معهم في الصّلاة، وأعمال الخير، وتعترف بعمل الروح القدس فيهم (راجع ك15). إنّ الروح القدس العامل في كلّ تلاميذ المسيح هو الذي يعدّهم إلى الوحدة الكاملة ويحقّقها فيهم. والكنيسة تصلّي وتعمل وتتوب، من أجل الوصول إلى هذه الغاية.

أما غير المسيحيّين، “الذين لم يقبلوا الإنجيل بعد، فإنّهم متّجهون نحو شعب الله بطرق شتّى” (ك16). ومنهم الشعب الذي ظهر منه المسيح بالجسد، ومنهم المسلمون الذين يعترفون بالخالق، الرحوم والديّان، وغيرهم الذين يفتّشون عن الله بنيّة صادقة ويجتهدون في أن يعملوا إرادته بحسب ما عرفوها بضميرهم، ولكنّهم يجهلون المسيح والكنيسة بدون خطأ منهم. ان كلّ ما يوجد عندهم من خير وحقّ، “تعتبره الكنيسة استعدادًا إنجيليًّا”. (ك 16). هذا الواقع، يساهم في دفع الكنيسة إلى تلبية نداء الربّ الى الرسالة: “إكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها”. (مر 16/6).

وشموليّة الكنيسة تظهر في بعدها الرسالي. فهي مدعوّة من السيّد المسيح لكي تبشّر وتعلن الإنجيل في كلّ الأرض. فتعاون بذلك الله، عبر الرسالة، في تحقيق تصميمه بخلاص كلّ البشر، وبجمعهم في شركة واحدة، هي الكنيسة. تقوم برسالتها باعلان الإنجيل الذي يجذب السامعين إلى الإيمان، فتعدّهم للعماد الّذي يجعل المؤمنين ينتمون الى المسيح في الكنيسة، وتستقبل كلّ ما في قلوبهم وثقافاتهم من خير، وتشفيه وترفعه وتكمّله. فشموليّة الكنيسة لاتلغي ثقافة الشعوب، بل ترتقي بها، بالانثقاف، الى الله. فالكنيسة لا تتنكّر لثروات هذه الشعوب، ومقدّراتها، وطرق عيشها، بقدر ما هي خيّرة، بل تتبناها، وترفعها لتجعل منها طريقًا إلى الله. بالرسالة يتواصل بناء جسد المسيح السرّي. فالكنيسة تصلّي، وتعمل، حتّى يتحوّل العالم كلّه إلى كنيسة: شعب الله وجسد المسيح وهيكل الروح القدس. (راجع ك17)

وكاثوليكيّة الكنيسة تؤسّس لتبادل الخيرات بين مختلف الأجزاء فيها. فبامكان كلّ جزء ان يقدّم لبقيّة الأجزاء، وللكنيسة كلّها، خيرات مواهبه الخاصّة، فيساعد الجميع على عيش الوحدة. فالكنيسة تنمو، من خلال تنوّع الوظائف التي يقوم بها أعضاؤها من أجل خير الجميع، فالبعض لديه مهمّات تجاه الإخوة كالخدمة المقدّسة (le ministère sacré)، والبعض الآخر لديه المواهب، والبعض الآخر يقدّم بطريقة حياته قدوة للآخرين.

  • الخلاص والكنيسة

إستنادًا إلى الكتاب المقدّس والتقليد المقدّس، يعلّم المجمع الفاتيكاني الثاني إنّ الكنيسة هي “ضروريّة للخلاص” (ك14). فالسيّد المسيح، الوسيط الوحيد للخلاص، حاضر عبر جسده، الكنيسة، التي فيها يدخل في شركة مع المؤمنين، ويقدّم لهم خلاصه. والسيّد المسيح أكّد على ضرورة الإيمان والعماد لنيل الخلاص (راجع مر 16/16 ويو 3/5). وهذا التأكيد يتضمّن ضرورة الكنيسة، التي ينتمي اليها المؤمنون عبر العماد الذي هو بمثابة الباب لها. تتمّ الشركة الكاملة والمنظورة في الكنيسة عبر الروابط التي سبق وذكرت، وهي الإعتراف بالإيمان، والأسرار والسلطة الكنسية. هذا الإنتماء لا يؤكّد الخلاص للذي يبقى في الكنيسة قالبًا لا قلبًا. (راجع ك14)

والموعوظون الذين يطلبون صراحة الإنتماء إلى الكنيسة، هم متّحدون بها بالشوق قبل أن ينالوا العماد، والكنيسة بدورها تشملهم بعنايتها. (راجع ك14)

ان المجمع الفاتيكاني الثاني، بتأكيده ان الكنيسة ضروريّة للخلاص، عبّر بطريقة ايجابيّة عن ارتباط الخلاص بالمسيح وكنيسته التي هي جسده. فتمايز عن الصيغة النافية التي استعملها آباء الكنيسة، وهي “لا خلاص خارج الكنيسة”.

ان ضرورة الكنيسة للخلاص، لا تُفهم في المجمع الفاتيكاني الثاني بصورة قانونية قاطعة وحرفيّة في ما يتعلّق بالانتماء المنظور اليها. ففي سياق انفتاحه على كلّ ما في الشعوب، وما عند غير المسيحيين، من عناصر حق وخير، يؤكّد المجمع “ان الّذين، على غير ذنب منهم، يجهلون انجيل المسيح وكنيسته، ومع ذلك يطلبون الله بقلب صادق، ويجتهدون، بنعمته، أن يتمّموا في أعمالهم ارادته كما يمليها عليهم ضميرهم، فهؤلاء يمكنهم ان ينالوا الخلاص الأبدي” (ك16). وهؤلاء هم موجّهون الى الكنيسة، ولو لم ينتموا اليها بصورة منظورة.

  1. الشركة الأسقفيّة والقسّوسيّة (ك 18-19-20)

إنّ الشركة التي تعاش في الكنيسة والتي تشكّلها، لها طابع خاصّ على صعيد الأسقفيّة. ففي الرسامة الأسقفيّة، ينضمّ الأسقف إلى مجمع الأساقفة(collège des évêques)  المنتشر في كلّ العالم، ويتشارك معه في رعاية الكنيسة الجامعة. هذه المشاركة هي المجمعيّة الأسقفيّة (collégialité épiscopale) التي هي عنصر مكوّن للأسقفيّة.

هذه المجمعيّة هي من حقّ إلهيّ. نجد أساسها الكتابيّ في حلقة الرّسل الإثني عشر، الذين أرادهم السيّد المسيح جماعة راسها بطرس (راجع لو 6/13، يو 21/15-17). والأساقفة على رأسهم البابا، هم خلفاء الرسل الذين رأسهم بطرس. انهم يتابعون عبر التاريخ، الرسالة التي أوكلها السيّد المسيح إلى الرّسل، وهي رعاية الكنيسة وقيادتها إلى الملكوت السماويّ.

ولمّا كان الرسل مع بطرس يؤلّفون مجمعًا رسوليًّا، كذلك الأساقفة مع البابا، يؤلّفون مجمعًا أسقفيًّا. تمارس هذه المجمعيّة برئاسة البابا الذي هو الأساس والمبدأ المنظور لوحدة الأساقفة، ولوحدة كلّ الجسم الكنسيّ في الإيمان والشركة. يدلّ تنوّع المجمع على تنوّع شعب الله وشموليّته. وتدلّ وحدته حول رأس واحد، على وحدة هذا الشعب .(راجع ك 22)

تظهر هذه المجمعيّة بشكل خاص في المجمع المسكونيّ، وفي الرسامة المقدّسة حيث يشارك عدّة أساقفة في رسامة المنتخب إلى الأسقفيّة (راجع ك 22). وتظهر عبر الأساقفة المنتشرين في العالم، عندما يدعوهم البابا، رأس حلقة الأساقفة، إلى العمل بصورة مجمعيّة، أو يعطي لعملهم رضاه أو قبوله ليجعل منه عملاً مجمعيًّا.

وبروحيّة ونتيجة المجمع الفاتيكانيّ الثاني المسكونيّ (راجع الفاتيكاني الثاتي، القرار “المسيح الرب”، عدد 36)، أنشأ البابا بولس السادس، في الارادة الخاصّة (Motu proprio) « Apostolica sollicitudo »، سنة 1965، سينودس الأساقفة، كوسيلة تساعد في زمننا الحالي على عيش المجمعيّة الأسقفيّة، بين البابا والأساقفة فيما بينهم.

بفضل المجمعيّة الأسقفية (collégialité épiscopale) يشترك الأسقف مع بقيّة الأساقفة بالعناية المقدّسة بالكنيسة الجامعة. هذه العناية، ولئن لم تُمارس بعمل ولاية، ولكنّها تُمارس عبر المحافظة على وحدة الإيمان، والنظام المشترك في الكنيسة كلّها، والتعاون المتبادل بين الكنائس الخاصّة (Eglises particulières)، وتنشئة المؤمنين على محبّة جسد المسيح السرّي كلّه، لاسيّما الفقراء والمتألّمين والمضطهدين من أجل البرّ (راجع متى 15/10)، وتعزيز كلّ نشاط مشترك في الكنيسة من أجل تقدّم الإيمان وإيصال نور الحقيقة إلى كلّ إنسان. (راجع ك23)

وتظهر المجمعيّة الأسقفيّة في نظام الكنائس البطريركيّ. فهذا النظام، وهو تدبير كنسي شاءته العناية الالهيّة، قائم على تجمّع لكنائس متعدّدة ومترابطة عضويًّا، تتمتّع بسلوكها الخاص، وليتورجيّتها، وتراثها اللاهوتيّ والروحيّ. وتظهر المجمعيّة الأسقفيّة وتترجم بصورة ملموسة، عبر نظام المجالس الأسقفيّة. (راجع ك23)

  • الشركة في الكنيسة الخاصّة

الأسقف هو خادم الشركة في الكنيسة الخاصّة (تُستعمل الآن هذه العبارة للدّلالة على الأبرشيّة). فهو مبدأ الوحدة فيها وأساسها (le principe et le fondement de l’unité). لديه تجاهها مهام راعويّة هي التعليم والتقديس والتدبير. يبني من خلالها الوحدة في الكنيسة الخاصّة مع الله، وفيما بين أعضائها، ومع الكنيسة الجامعة. (ك 23 وما يلي)

إنّ الكهنة هم معاونو الأسقف في هذه الرسالة، ويعيشون معه شركة بفضل الخدمة الكهنوتيّة. فالأسقف ينقل بطريقة شرعيّة إلى عدّة أعضاء من الكنيسة، وبدرجات مختلفة مهام خدمته، ومن بينهم الكهنة، الذين يظلّون مرتبطين به في الخدمة الكهنوتيّة، ومتّحدين به بكرامة الكهنوت. والكهنة يشكّلون مع أسقفهم جسمًا كهنوتيًّا، وهم يمثّلون أسقفهم وسط جماعة المؤمنين، آخذين على عاتقهم اهتماماته ومهمّاته الموكل إليهم بها تجاه المؤمنين. عندما يقوم الكهنة بالمهام الراعويّة تجاه جماعاتهم تحت سلطة أسقفهم، يساهمون ببناء الكنيسة الجامعة. (راجع ك28)

إنّ الشركة المتبادلة بين الأسقف والكهنة مطبوعة بالكهنوت المقدّس. فالكهنة الذين يشاركون في كهنوت الأسقف ورسالته، هم مدعوّون ليروا فيه الآب، ويقدّمون له الطاعة والاحترام؛ والأسقف ينظر إلى الكهنة كمعاونين له وكأبناء وأصدقاء.

  • الشركة بين الكهنة ومع الشمامسة

بفضل درجة الكهنوت والرسالة المشتركة التي تجمعهم يرتبط الكهنة فيما بينهم بأخوّة وثيقة، تظهر في التعاون المتبادل على الصعيد الروحيّ والماديّ والراعويّ والشخصيّ، وفي اجتماعاتهم، وفي المشاركة في العمل والرسالة (راجع ك 28).

ورسالة الكهنة أن يعتنوا بالمؤمنين عناية أبويّة، ليخدموا شركتهم مع الله وفيما بينهم، وأن يعنوا بشكل خاصّ، ليعيدوا إلى هذه الوحدة أو الشركة، الذين أهملوها وابتعدوا عن ممارسة الأسرار وحتى عن الإيمان أحيانًا، بعد أن كانوا قد نالوا المعموديّة.

إنّ الشمامسة الذين رُسموا للخدمة لا للكهنوت، يقومون برسالتهم تجاه شعب الله، بخدمة الليتورجيا والكلمة والمحبّة بالشركة مع الأسقف والجسم الكهنوتيّ. (راجع ك28 و29)

  1. الشركة والعلمانيون والرهبان

أظهر المجمع الفاتيكانيّ الثاني بجلاء، دور العلمانيّين ومكانتهم في رسالة الكنيسة الخلاصيّة. فالكنيسة هي شركة بين كلّ أعضاء شعب الله الذي يضمّ العلمانيّين والرهبان والإكليريكيّين. فبالمعموديّة ينتمي العلمانيّون إلى الكنيسة، شعب الله، ويدخلون مع كلّ أعضاء هذا الشعب بشركة أخويّة، ويشاركون في رسالة المسيح الكهنوتيّة والنبويّة والملوكيّة. فيقومون بادارة الشؤون الزمنية وتوجيهها نحو ملكوت الله. ويساهمون في بناء الكنيسة، وتقديسها، بما عندهم من خدم ومواهب، يستخدمونها لخير الجسم الكنسيّ كلّه. ويشترك العلمانيّون في نشاط الكنيسة الإرساليّ في العالم، بحكم معموديّتهم و تثبيتهم. (راجع ك31-33)

“والعلمانيّون هم مدعوّون بصورة خاصّة إلى أن يجعلوا الكنيسة حاضرة وفعّالة في تلك الأماكن والظروف التي لا يمكنها إلاّ بواسطتهم أن تكون ملح الأرض” (ك 33).

أمّا الراهب، فيسعى، بفضل المشورات الإنجيليّة الطاعة والعفّة والفقر، الى النموّ في المحبّة لله وللقريب، وهي جوهر الشركة التي تعيشها الكنيسة. وتدعمه بذلك الأنظمة والقوانين التي تقرّها السلطة الكنسيّة. وفي حالته الرهبانيّة، يساهم في نموّ قداسة الكنيسة وعيشها للمحبّة. (راجع ك44-45)

  1. الشركة بين كنيسة الأرض وكنيسة السماء

تعيش كنيسة الأرض الشركة مع كنيسة السماء،وذلك على صعيد الفئات الثلاث: المؤمنون الذين يتابعون حياتهم على الأرض؛ والذين أنهوا مسيرتهم الأرضيّة، يتنقّون؛ والبعض الآخر أصبحوا في المجد يتأمّلون الله الثالوث. هذه الفئات الثلاث تشكّل كنيسة المسيح الواحدة.

وتظهر الشركة بين كنيسة الأرض و السماء بصورة خاصّة في الإفخارستيّا، حيث يتّحد الأحياء مع الممجّدين في السماء، في رفع المجد لله. وتظهر هذه الشركة في تبادل الخيرات الروحيّة. فالذين في السماء المتّحدون اتّحادًا وثيقًا بالمسيح، يضرعون للأحبّاء على الأرض، لينالوا النِعَم والمعونة في مسيرتهم نحو الملكوت. والذين على الأرض يقدّمون التقادم لأجل الموتى ليتنقّوا من خطاياهم.

إنّ هذه الشركة بين كنيسة الأرض وكنيسة السماء من شأنها أن تزيد المؤمنين اتّحادًا بالمسيح يسوع. (راجع ك48-51)

الخاتمة

ان لاهوت الكنيسة-الشركة الّذي توسّع فيه المجمع الفاتيكاني الثاني، ظهرت ثماره في حياة الكنيسة على مختلف الأصعدة، لاسيّما على صعيد العلمانيين، والأساقفة، والحركة المسكونيّة.

فعلى صعيد العلمانيين، عزّز الفاتيكاني الثاني ادراك الكنيسة لرسالة العلمانيين فيها، المرتكزة على المعموديّة، والقائمة على توحيد ايمانهم مع حياتهم الاجتماعيّة، فتكون الكنيسة شاهدة للمسيح في وسط المجتمع بشخصهم. وتشمل هذه الرسالة مشاركتهم في الحياة الراعويّة عبر اللجان والهيئات الكنسيّة والمنظّمات الرسوليّة.

وعلى صعيد الأساقفة، أدّت مؤسّسة سينودوس الأساقفة التي أنشأها بولس السادس، دوراّ هاماً في عيش المجمعيّة الأسقفيّة، التي يساهم الأساقفة من خلالها في رعاية الكنيسة الجامعة.

وعلى الصعيد المسكوني، ان اعتبار ما في الكنائس والجماعات الكنسيّة، غير الكاثوليكيّة، من عناصر للتقديس، وعناصر حقيقة، يساعد في تقدّم الحركة المسكونية الرامية الى الوحدة الكاملة.

ان المجمع الفاتيكاني الثاني، وخصوصاً لاهوت الكنيسة-الشركة فيه، الّذي تنقله أيضاً الوثائق الكنسيّة، كالرسائل والارشادات الرسوليّة، وكتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، لاقى ولا يزال، قبولاً شبه جامع. وقد ساهم في ان تتجدّد الكنيسة في التعمّق في ادراك هويّتها ورسالتها في العالم، فتعكس فيه، بشكل دوماً أفضل، نور المسيح المتلألئ على وجهها.

Scroll to Top