وثورة الاتصالات والتواصل الاجتماعي
شكرالله جورج عساف
تواجه الكنيسة المارونية العديد من المستجدات والمتغيّرات التي لم يسبق لها أن شهدتها من قبل وبالأخص في ظاهرة العولمة، وتكنولوجيا الإعلام وثورة الاتصالات وانتشار المعلومات حيث قلّصت المسافات، فتداخلت الأفكار والثقافات بين كثير من الحضارات ودول العالم.
لقد غدت شبكة الانترنت المصدر الأساسي للحصول على المعلومات واكتشاف أي موضوع عبر الإبحار بين المواقع والمكتبات الإلكترونية. كذلك أسهمت في توحيد الأفكار وأنماط السلوك وطرق التفكير بين مختلف شعوب العالم ووفّرت مساحة واسعة من الفهم المتبادل والتقارب بين البشر.
لقد أصبحت وسائل الاتصالات جزءًا من حياتنا اليومية وفي أشكال مختلفة عبر تكنولوجيات متقدمة، لتصبح لغة حوار جديدة بين البشر، وثقافة رقمية في ميادين التواصل الفردي والاجتماعي، وفي تبادل الأفكار والمعلومات مما أدى الى اجتماع عالمي مباشر بين ثقافات الأمم والشعوب المختلفة.
ولكن على الرغم من المزايا الجيدة التي وفّرتها تكنولوجيا المعلومات ووسائل الاتصالات والإعلام، فبالمقابل لديها عواقب مدمّرة مثل الثقافة العالمية الشاملة، وتلاشي الهويّات والقيم من خلال تعريض الشباب لمحتويات مسيئة وضارة مثل المواقع الإباحية وانتشار تجارة الإدمان، ونشر إيديولوجيات وأفكار شيطانية، وعادات وسلوكيات سيئة غير أخلاقية مما ترك آثارا” سلبيةً على الأسرة والفرد.
اليوم يواجه المجتمع اللبناني والمسيحي العديد من التحدّيات بالأخص شريحة الشباب منها، الذي يمثّل كنيسة الغد وهو أكثر المراحل العمرية استهلاكا للاتصالات واستخداما” لها بدون ضوابط في الغالب مثل الانترنت والقنوات الفضائية، وما تحمله هذه الوسائل من مغالطات وبدع بعيدة كلّ البعد عن القيم اللبنانية والمسيحية خصوصًا. ومما يزيد من خطورة الوضع في هذه المرحلة هو النمو السريع في وسائل الاتصالات المتنوعة, حيث الكل يطال الكل مما يؤدي الى التحوّل السريع في الحضارات والثقافات.
كل ذلك يعرّض الشباب المسيحي اليوم لكثير من الضغوطات النفسية التي تهدّد استقراره أحيانا” وبالتالي استقرار العائلة والمجتمع والقيم الانسانية والدينية.
الكل يعيش في عصر جديد يوجد فيه عالم التكنولوجيا والاتصالات أينما وجد. هذا فقط، ذلك بل أصبحنا نجد أنفسنا في قلب الحدث، في قلب الحروب والمظاهرات بالصوت والصورة حيث تحوّل العالم بواسطتها إلى قرية صغيرة بدون حدود، نكوّن علاقات متعددة مع أشخاص مختلفون من مناطق مختلفة ولغات مختلفة وتقاليد مختلفة.
لقد لعبت الأنترنت دورا” أساسيا” في الثورات العربية عبر المواقع، والمنتديات، والصحف الإكترونية، والمدوّنات، والمواقع الإجتماعية، والبريد الإلكتروني. فقد:
- نجحت تلك المواقع في نقل واقع ما يحدث على العالم الواقعي ونقله على شكل مقطوعات فيديو.
- نجحت في إيصال صور ومشاعر التعبير عن الغضب والرفض عما يحدث، وتأهيل قبول الدعوة بالخروج إلى الشارع.
- نجح “الفيس بوك” و”التويتر” في تحويل الغضب الإفتراضي إلى غضب واقعي من خلال الدعوات التي تبادلها الشباب لتلبية نداء التظاهر والتجمّع للغضب.
لقد أصبحت التكنولوجيا سيفا” ذا حدّين مسلّطا على رقاب المجتمعات والعائلات خصوصا”. فمن جهة، لا يمكن منع الشباب من أن يكون مواكبا للتطوّر العلمي والتقني دون استخدام شبكة الانترنت، ومن جهة أخرى لا نستطيع ترك شباب اليوم سائغا” للبدع ولأعداء الكنيسة الذين يسيئون لهذا الإنجاز العلمي العظيم للبشرية على حساب المبادئ الدينية والقيم الأخلاقية.
فأين الكنيسة الكاثوليكية من هذه الثورة وأين دورها في بشارة كلمة الله ونقلها الى المجتمعات كافة”؟
لطالما كانت الكنيسة الكاثوليكية رائدة وسباقة في عالم الاتصالات ونقل البشارة عبر الرسل الاثني عشر الذين سافروا الى أقاصي الأرض مستخدمين وقتها أفعل أساليب الشفهي المنقول عبر الاتصال المباشر بالمجتمعات والحضارات من خلال الوعظ والرسائل، وعبر تدوين الكتاب المقدس وترجمته للغات عديدة مروراً بالمخطوطات على أنواعها. ومن ثمّ أبحرت الكنيسة في عالم وسائل الاتصال الاجتماعي، فكانت في بعض الأحيان تشجبها وفي أحيانٍ أخرى تشجّعها؛ إلى أن جاء المجمع الفاتيكاني الثاني سنة 1959 فدعا الكنيسة إلى الإبحار في عالم وسائل الاتصال الاجتماعي والى الاعتماد عليها في إيصال الكلمة الى ذوي الإرادة الصالحة، كما دعا القيّمين على التنشئة الإكليريكية والرهبانية الى إدخال مواد الإتصال الإجتماعي في صلب التنشئة الكهنوتية.
في رسالته قداسة الحبرية: “Miranda Prorsus ” الصادرة عام 1957، يؤكّد البابا بيوس الثاني عشر في هذا الصدد، «إنّ الكنيسة تعتبر هذه الوسائل الإعلامية بمثابة “عطايا إلهيّة”، وهي وفقاً لقصد العناية الإلهية ينبغي أن تولّد بين البشر علاقات أخويّة، من شأنها تعزيز المشروع الخلاصي»
أما قداسة البابا يوحنا يولس الثاني وفي رسالته السادسة والثلاثين لمناسبة اليوم العالمي لعالم الاتصالات ووسائل الاعلام فيقول: “…يكفي التفكير بالإمكانيات الإيجابية التي يوفّرها الانترنت لنشر الاعلام الديني والتعليم الديني إلى ما هو أبعد من الحواجز والحدود: إن مثل هذا الجهور العريض لم يكن ليخطر في بال من بشّروا بالإنجيل قبلنا من الأجيال السالفة … على الكاثوليك ألا يخشوا فتح أبواب وسائل الاعلام والأنترنت واسعة أمام المسيح لكي تُسمع بشارته الجديدة عالياً من على السطوح …”
كذلك تركّز رسالة البابا بنديكتوس السادس عشر لليوم العالمي الرابع والأربعين لوسائل الإعلام والإتصالات الاجتماعية على أهمّية البشارة بإنجيل يسوع المسيح من خلال التقنيات الحديثة. فقد دعا قداسته الكهنة للاستفادة من الفرص الجديدة المتاحة لكي يمارسوا خدمة الكلمة والتبشير بالمسيح وبكلمته الخلاصية عبر الأسرار المقدسة ومن خلال وسائل التواصل الحديثة التي غدت أداة ضرورية للإجابة بصواب على أسئلة عديدة داخل التحوّلات الثقافية الكبرى، وأشار الأب الأقدس إلى أنّ الإنترنت يشكل إحدى الطرق التي تدعو الكنيسة إلى ممارسة خدمة الثقافة في القارة الرقمية الحالية، وعلى الكنيسة أيضا أن تعزّز ثقافة الاحترام لكرامة الشخص البشري وقيمته.
أما في الكنيسة المارونية فيقول صاحب النيافة غبطة البطريرك بشاره الراعي عند ترأسه مؤتمرا في بيت عنيا حول وسائل الاتصال في الشرق الاوسط نيسان 2012:
“لا أحد منّا يجهل أهمية وسائل الإتصال الاجتماعي، المعروفة بوسائل الإعلام الكلاسيكية والحديثة حتى آخر تقنياتها: الصحافة والسينما والتلفزيون والدعاية والمسرح والأقمار الاصطناعية والإنترنت والمواقع الإلكترونية وشرائط الفيديو والتشكيلات الأسطوانية والإذاعة وتصميم الرسوم بواسطة الكمبيوتر وسواها من التقنيات اللمسية والمعلوماتية. وأضاف: “مطلوب اليوم كرازة جديدة بالإنجيل، أو إذا جاز التعبير “أنجلة جديدة” … و”جديد الكرازة” انخراطها في ثقافة وسائل الإتصال، فلا تكون هذه مجرّد أداة لنقل الكرازة، بل تكون هدف الكرازة، فتعمل على تثقيفها في الداخل، كالخميرة التي تخمر العجين كله“.
“إذا” الكنيسة المارونية تعي أهمية وسائل الاتصالات ودورها كأداة في البشارة الجديدة إذ أنها كانت أول من أدخل استخدام وسائل الإعلام في الشرق الأوسط عبر مطبعة دير مار أنطونيوس قزحيا سنة 1610الذي أسهم في انتشار الكتاب المقدس والتراث الماروني السرياني وحتى الفكر العربي الشرقي. وفي التسعينات انطلقت المؤسسات المسيحية المرئية والمسموعة في الأثير العربي عبر تيلي لوميير وصوت المحبة والسات 7 وغيرها.
ومع انتشار تكنولوجيا المعلومات وخاصة الانترنت والبريد الالكتروني، بدأت معظم المؤسسات والحركات الرسولية المارونية في لبنان والنطاق البطريركي في إنشاء مواقع شبكية لها، وذلك بعد التجربة النوعيّة والفريدة التي أطلقتها أنذاك مؤسسة “أوبس ليباني” “opus libani” التي أدارها قدس الأب العام خليل علوان المرسل اللبناني حيث قدّمت خدمة الانترنت للمؤسسات المسيحية والتربوية وشبكتها بعضها ببعض.
سنة 2001 أطلق سيادة المطران عاد أبي كرم مشروع “إنجيل بلا حدود” الذي كان سبّاقًا باستخدام تقنية التعلّم عن بعد في ميدان التعليم المسيحي عبر محاضرات ومواضيع إيمانية ليتورجية سجّلها أهم أباء الكنيسة المارونية والكاثوليكية في لبنان والشرق حيث شارك فيه أكثر من عشرة آلاف مبحر في سنة واحدة.
ولاحقًا أطلق مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وذلك بعد توصيات المجمع البطريركي الماروني الذي انعقد في العام 2003، مشروع الشبكة المارونية لربط الأبرشيات المارونية في النطاق الأبرشي وفي الانتشار بالبطريركية المارونية. بعدها انطلقت مواقع عدة تقدّم المعلومات الدينية والتاريخية والثقافية والتراتيل، والرموز، والصور، والنصوص، وغيرها …
بالرغم من كل تلك المبادرات لاستخدام التكنولوجيا في البشارة الجديدة، فإنها لا تزال تفتقر إلى الخبرة، الاحتراف والاستمرارية فتنتهي تلك الخدمات أو تصبح غير فعّالة كما حصل مع Opus Libani، إنجيل بلا حدود، الشبكة المارونية وموقع المجمع البطريركي الماروني.
إن الافتقاد لمشروع واضح ومنظّم لوضع التكنولوجيا كأداة فعّالة في خدمة الكنيسة أدى الى هذا التراجع المتسارع الى درجة أن العديد من الكهنة يخافون من هذه الثروة إن لم يعتبروها آفةً سيئة، والبعض لا يزال يتسائل، ما الجديد الذي ستقدمه وسائل التواصل والإنترنت لنا!
باختصار شديد وببساطة:
أولا، في استخدام وسائل الإعلام الجديدة، يستطيع الكهنة في خلق مجتمع تواصلي بعضهم مع البعض ومع الأبرشيات ومع الكنيسة الأم، بغضّ النظر عن المسافات التي تفصلهم. هذا التواصل والتفاعل يسمح بتقوية العلاقات وتفعيل نقل التوجّهات من الأساقفة، كذلك مشاركة الأفكار والنجاحات وخلق بيئة تعاضدية ما بين الجميع مما يخفّف من أعباء التنقل والسفر أحيانا”.
ثانيا، يمكن الكهنة والرهبان إقامة مجتمع تواصلي مع الرعايا لإرسال نشاطات الرعية وأخبارها، تأملات روحية، نقل مشاركة وخبرات الجماعة مما يجعل من الإنجيل الحي حاضرا في البيئة الرقمية عبر وسائل الإتصالات الجديدة: Email, News Letter SMS, Social Media, .
أما من وجهة نظر دينية عامة، فإن وسائل الإتصالات الجديدة تقدّم فوائد وحسنات مهمّة كتأمين الوصول المباشر والسريع إلى المراجع الدينيّة: مكتبات كبيرة، متاحف، وكتابات آباء الكنيسة. كذلك تؤمّن التواصل مع الجماعات الرسولية، ومع الجماعات الذي يصعب الوصول إليها، كالبالغين، والمسنّين والمقعدين، والأشخاص الذين يعيشون في مناطق بعيدة.
هذا لا يعني أنّ حقيقة الفضاء الإلكتروني يمكنها أن تحلّ محلّ المجتمع الديني الشخصيّ، وحقيقة الأسرار والليتورجيا المجسّدة، أو الإعلان المباشر للإنجيل، ولكنها أداة جديدة للتواصل مع الرعية أو العائلات والشباب البعيد عن الكنيسة لسبب أو لآخر. فصفحات الإنترنت وبرامج التواصل الإجتماعي تشكّل وسيلة سهلة وغير مكلفة لتقديم التعليم الديني، وبعض أشكال الاستشارات الرّعويّة والتوجيهات الدينيّة للعائلات المنتشرة في الدول العربية والتي تفتقد الى وجود الرعية وبالتالي يستحيل عليها الحصول على أي نوع من التعليم المسيحي.
ان ما تفتقده الكنيسة المارونية هو مشروع “شبكة مارونية” له رؤية وآفاقا مستقبلية لاستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ضمن مؤسسة تشرف عليها مباشرة البطريركية المارونية، وتكون مرجعا” ومرآة للكنيسة تطل من خلاله على العالم الرقمي كأداة فعالة في البشارة الجديدة. هذا الفريق المؤلّف من العلمانيين المحترفين في ميدان التكنولوجيا والبرمجة والإتصالات والإعلام يقوم أولا” بإنتاج هذه الرؤية المستقبلية ، ويضع آلية عمليّة لدور ومهام وخدمات الشبكة المارونية للسنوات العشر القادمة.
من مهام هذا المؤسسة:
- وضع نظام قاعدة بيانات موحّد للرعايا مرتبط مباشرة” بالأبرشية يقدّم تقارير وإحصائيات بطريقة دقيقة، علميّة ومفصّلة.
- ربط البطريركية المارونية والأبرشيات في لبنان والمهجر وكل المواقع المارونية بعضها ببعض من خلال موقع الشبكة المارونية. كذلك مكننة التراث الماروني، والمخطوطات والوثائق والمنشورات والدراسات بعد تحديث نظام الأرشفة في مراكز التوثيق والأبحاث من أجل وضعها في خدمة الباحثين والإعلاميين وطلاب الجامعات والمدارس على الشبكة المارونية.
- تأسيس أكاديمّية (Maronite Academy for Technology) تعمل على تدريب المطارنة، والكهنة، والرهبان تدريبا” محترفا” لفهم واستخدام “كلّ حسب مسؤولياته” لوسائل التكنولوجيا. كذلك تعمل على تأهيل كادرات من العلمانيين العاملين في الأبرشيات، المؤسسات الكنسية والمنظمات الرسولية في ميدان عالم الإعلام، والإتصالات، وتكنولوجيا برمجة المواقع الإلكترونية كأداة جديدة لبشارة جديدة يميّزها الاحتراف والجودة العالية.
- أطلاق المجلة البطريركية المارونية الدورية بوجهيها الكتابي والرقمي.
- استخدام خدمات التواصل الإجتماعي من أجل تعزيز التواصل والتفاعل بين المغتربين الموارنة في بلدان المهجر من جهة وبين الكنيسة الأم والأبرشيات والمجتمعات المارونية في لبنان.
- دعم إعادة احياء مشروع إنجيل بلا حدود في خدمته الجديدة (Catechesis by E-Learning )
تحتاج الكنيسة المارونية اليوم إلى التكيّف مع وسائل الإتصالات الجديدة بطريقة فعالة وإلى فهم ثورة الإنترنت وتطبيق هذا الفهم من أجل التواصل مع الناس بشكلٍ فعّال، وبخاصة الشباب منهم المنغمسين في تجارب هذه التكنولوجيا الحديثة، ومن أجل حسن استخدامها أيضاً. إن التحدّي في الكنيسة المارونية لا يتمثل فقط في نشر الوعظات والنشاطات والأخبار الكنسية بل جعلها متفاعلة أكثر فأكثر. فشبكات وسائل الإعلام والاتصالات التي لا تزال تشهد ثورة” تكنولوجية، ستحول العالم إلى مدينة واحدة وبالتالي يجب على الكنيسة المارونية أن تمنح اهتماما كبيرا لهذه الوسائل نظرا لقدرتها على حمل رسالة الإنجيل وإلى كونها أداة ملائمة للتبشير بحيث يمكن الاستفادة منها في خدمة رسالتها، لا سيما في مجال نشر القيم الروحية والثقافية والاجتماعية، والحريات العامة في لبنان والشرق وبالتالي تفعّل دورها التاريخي في نشر القيم التي تسهم في تنمية المنطقة وتقدّم شعوبها في ضوء الخير المشترك وفي روح التضامن والعدالة والسلام.