Almanara Magazine

الكتاب المقدّس وحياتنا الروحيّة

للأب ساسين زيدان، م.ل.[1]

مقدّمة

«لقد أراد الله أن يكشف عن ذاته بالوحي الإلهي، وأن يُبيّن أحكام مشيئته الأزليّة في ما يختصّ بخلاص البشر، أي في ما يعود إلى إشراكهم في الخيرات الإلهيّة التي تفوق تماماً إدراك العقل البشري»[2].

على مرّ العصور، دُوِّن، وبإلهام الروح القدس، هذا الوحي الإلهيّ في الكتاب المقدّس، العهدين القديم والجديد. أمّا إشراكنا في الخيرات الإلهيّة، فهو بالذات جوهر حياتنا الروحيّة، التي فيها نُولَد بالعماد المقدّس من الماء والروح، من زرع غير فاسد، زرع كلمة الله الحيّة، ونصبح أبناء الله شركاء في الطبيعة الإلهيّة، وشركاء المسيح في الميراث (راجع يو 3/5، 1/12؛ 1بطر 1/23؛ 2بطر 1/4؛ طي 3/5-7؛ روم 8/15-17). نُسمّي هذه الحياة الفائقة الطبيعة حياة روحيّة لأنّها تحيي روحنا من روح الله الحالّ فينا (روم 8/11). مبدأها الأوّل سُكنى الثالوث الإلهي وفعله السنيّ فينا، ومآلها الأخير المجد الأبدي الذي سيتجلّى فينا (يو 14/16-17، 23؛ روم 8/18). وغذاؤها الذي لا يفنى، وينبوعها الذي لا ينضب، كلام الله في كتاب الوحي، كلام حيّ ومُحيي، روح وحياة، يصير في من يقبله عين ماء يتفجّر حياة أبديّة (يو 4/14، 6/27، 63؛ عبر 4/12).

إنطلاقاً من هذه العلاقة الوثيقة ما بين الكتاب المقدّس وحياتنا الروحيّة، يوصي المجمع الفاتيكاني الثاني بما حرفيّته: «يجب على كلّ كرازة كنسيّة، وعلى الديانة المسيحيّة ذاتها، أن تتغذّى من الكتاب المقدّس، وأن تخضع لتوجيهه. ففي الأسفار المقدّسة، يلتقي الآب السماوي بأبنائه بحنان، ويُحادثهم؛ ولكلام الله هذا من القوّة والفاعليّة، بحيث أنّ الكنيسة تجد فيه مُرتكزها وديناميّة نشاطها، وأبناءها يجدون فيه لإيمانهم عضداً ولنفوسهم قوْتاً، ولحياتهم الروحيّة ينبوعاً صافياً، وخالداً»[3].

يُعيدنا هذا الكلام المأذون إلى تقليد عريق يرقى إلى العهد القديم، ويشمل جمهرة المؤمنين، «مساكين يهوه»، جيلاً بعد جيل، حتى يومنا، من آباء وأنبياء، ورُسُل ومُبشّرين، وملافنة وقدّيسين، وفي مقدَّمهم العذراء مريم، ويسوع نفسه، الذين أُخِذوا بسحر كلمة الله لدرجة العشق، فشُغِفوا بها واغتبطوا، وكانت في نظرهم أثمن من الذهب والإبريز، وفي فمهم أحلى من العسل، وفي قلبهم كنار مُحرقة. أحبّوها حبًّا شديداً، وانصرفوا إلى دراستها وتأمّلها ليل نهار. فأصبحوا أحكم من أعدائهم، وأعقل من مُعلّميهم، وأفطن من الشيوخ. ولم يخب أملهم، بل وجدوا الفرح والسلام وانشراح القلب. وبسرعة العدّائين، تقدّموا في طريق وصايا الربّ، فنالوا السعادة المعدَّة للكاملين (راجع إر 20/9؛ مز 19/10-11؛ مز 119/1، 14، 32، 35، 47، 98-100، 103، 127، 165).

لا تسمح حدود هذا المقال بالتوسّع في عرض مراحل هذا التاريخ الحافل، وسرد العظائم التي حقّقها كلام الله في النفوس على مرّ العصور. نكتفي فقط بتبيان أهميّة دور الكتاب المقدّس في حياتنا الروحيّة، ومقتضيات تفعيله وجني ثماره. نتوقّف على ثلاثة عناوين: الكتاب المقدّس هو، وفي آنٍ معاً، مائدة طعام، ومدرسة صلاة، ومغامرة حبّ. من يألفه ويُشغف بتأمّله، تصبح حياته مسيرة نور إلى ديار النور في مجد الملكوت.

أولاً: مائدة طعام

لكلّ حياة طعامها. للجسد الفاني قوته الفاني، وللروح الخالدة الطعام الباقي، فيصير حياة أبديّة (يو 6/27). والربّ الإله، الذي «يرزق كلّ بشر خبزه» (مز 136/25)، يذكّرنا بأنّه: «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلّ كلمة تخرج من فمّ الله» (متى 4/4؛ تث 8/3؛ حك 16/26).

ولقد كلّمنا الله، ومنذ القِدم، بأنواع كثيرة، وفي هذه الأيام الأخيرة كلّمنا بابنه الوحيد الذي صار بشراً وأخبرنا عن الآب علانيّة (عبر 1/1-2؛ يو 1/14-18، 16/25-29). وكلام الله الذي عُبِّر عنه بلغة بني البشر صار كتاباً شبيهاً بكتب البشر، كما إنّ كلمة الله الابن صار بشراً شبيهاً بالبشر، لابساً ضعف جسدنا البشري[4].

ونحن مدعوّون، ليس فقط إلى أن نقرأ هذا الكتاب، كما قيل يوماً لأغوسطينوس: «خذْ واقرأ»[5]؛ بل وأيضاً إلى أن نأكله، على مثال ما قاله الملاك لصاحب سفر الرؤيا: خذْ هذا الكتاب وابتلعه، فيملأ جوفك مرارة، لكنّه سيكون في فمك حلواً كالعسل» (رؤ 10/9). وكان حزقيال النبي، من قبله، سمع الربّ الإله نفسه يقول له: «يا ابن الإنسان، كُلْ ما أنت واجد، كُلْ هذا السفر، واذهب فكلّم بيت إسرائيل. ففتحت فمي فأطعمني ذلك السفر، وقال لي: يا ابن الإنسان، أطعم جوفك، واملأ أحشاءك من هذا السفر الذي أنا مناولك. فأكلته، فصار في فمي كالعسل حلاوة» (حز 3/1-3).

وفي سفر الأمثال، نرى الحكمة تُعدّ مائدتها وتنادي: «هلمّوا كُلوا من خبزي، واشربوا الخمر التي مزجت» (أم 9/1-6). ويصف أشعيا، بنشوة وابتهاج، الوليمة المسيّانيّة، ومأدبة الخمرة المعتّقة والمسمّنات التي يضعها الربّ لكلّ الشعوب (أش 25/6-12).

وبالتالي، إنّه حقًّا عرف كتابي مألوف تشبيه الكتاب المقدّس بمائدة طعام، وقراءته بعمليّة أكل وشرب، وما إليها من جوع وعطش، ومتعة الشبع، والارتواء، والعافية، والنموّ في الحياة. ونسمع الربّ الإله نفسه يَعد بأنّه سيرسل الجوع على الأرض، لا الجوع إلى الخبز، ولا العطش إلى الماء، بل إلى استماع كلام الربّ (عا 8/11).

ويذهب التقليد المسيحي إلى أبعد، فيجمع ما بين مائدة الكلمة ومائدة الإفخارستيّا، بدءاً بإغناطيوس الإنطاكي، وأوريجانس، وإيرونيموس، وأغوسطينوس، ثمّ يوحنا فمّ الذهب، إلى القرون الوسطى وكتاب الاقتداء بالمسيح[6]. وتوّج المجمع الفاتيكاني الثاني هذا التقليد بقوله: «احترمت الكنيسة دوماً الكتب الإلهيّة، كما احترمت جسد الربّ نفسه. فإنّها لا تتثني تأخذ خبز الحياة، خاصّةً في الليتورجيّا المقدّسة، سواءً عن مائدة كلمة الله، أو عن مائدة جسد المسيح لتقدمه للمؤمنين»[7].

ومن ثمّ، يجد المؤمن «خبز الحياة» على مائدتين معاً، وتناوله هذا الخبز من على مائدة الكلمة لا يقلّ أهميّة وضرورة من تناوله من على مائدة الإفخارستيّا. كلاهما يتطلّبان ذات الشروط والاستعدادات، لتجنّب الأخطار والأخطاء، ولجني الثمار والنموّ في الحياة الروحيّة. سيأتي ذكرها تباعاً في سياق التوسّع في موضوع غنى مائدة كلام الله، وطابعها الكنسي والروحيّ.

1. مائدة طعام غنيّة.

«ربِّ، من يستطيع فهم غنى كلّ كلمة من كلماتك؟» يتساءل مار افرام السرياني، ملفان البيعة الجامعة. ويتابع قائلاً: «إنّ ما نفهمه منها لأقلّ كثيراً ممّا يفوتنا. كالعطاش الذين يروون ظمأهم من ينبوع. آفاق كلمتك كثيرة كأفاق من يبحثون فيها. إنّ الربّ زيّن كلمته بمحاسن متعدّدة، لكي يجد فيها كلُّ من تفحّصها ما يُحبّ. وأخفى في كلمته كلّ الكنوز لكي يجد فيها كلٌّ منّا غنىً في تأمّله. كلمته شجرة حياة، تمدّك من كلّ جهة بثمارها المباركة. إنّها الصخرة المفتوحة في الصحراء، وقد أصبحت لكلّ إنسان، من كلّ الأقطار، ينبوع شراب روحيّ: لقد نالوا طعاماً روحيًّا، وشربوا شراباً روحيًّا»[8].

غنيّة حقًّا مائدة طعام كلمة الله. غناها من غنى الكلمة. إنّها تقدّم لمن يجلس إليها جميع ألوان المأكول والمشروب، وأشهاها. ولكلّ الأعمار، والأوضاع، والأذواق: اللبن الحليب للأطفال المبتدئين (1قور 3/1-2؛ 1بطر 2/2)، خبز الأقوياء للراشدين البالغين (عبر 5/12-15)، خبز الدموع والرماد للمتألّمين والخطأة والتائبين (مز 41/4، 15؛ عدد 11/7؛ مز 78/24)، خبز الفرح للمبتهجين (جا 9/7)، خبز الضيافة والمشاركة، حتى مع الأعداء، للمحبّين الأسخياء (روم 12/20؛ عبر 13/2). ودائماً هو خبز الله الذي ينزل من السماء ويُعطي الحياة للعالم (يو 6/33).

خبز الكلمة المقدَّم على مائدة طعام كلمة الله، «عُبِّر عنه بلغة البشر، وصار شبيهاً بالكلام البشري»[9]. وسُكب في شتّى فنون آداب بني البشر، والأساليب الإنشائيّة والثقافات، التي لجأ إليها المؤلّفون المُلهمون، ليبلّغوا الناس ما أراد الله أن يكشفه عن سرّ ذاته الإلهيّة، وتدبيره الخلاصي الذي ارتضته مشيئته للتسبيح بمجد نعمته التي أَنَعم بها علينا في ابنه الحبيب، فكان لنا فيه الفداء بدمه (راجع أف 1/5-7). بكلمته، في الكتاب وفي ابنه المتأنّس، قال الله كلّ شيء، عن الله وعن الإنسان، والمخلوقات المنظورة والغير المنظورة، وعن المطلوب من الإنسان عمله ليعود إلى الله، ويبلغ المعاينة السعيدة، في المجد، حيث «نصبح أشباهه لأنّنا سنراه كما هو» (1يو 3/2).

إنّما، ومهما كانت المائدة غنيّة، شهيّة، لا يقترب ويأكل منها ويشرب، إلاّ من تحرّكت شاهيّته. من عضّه الجوع وكواه العطش. هل أنا جائع حقًّا، وعطشان؟ وهل لنا أذن صاغية تسمع الحكمة تنادي: «تعالوا إليّ، أيّها الراغبون فيّ، واشبعوا من ثماري» (سي 24/19). «أيّها العطاش جميعاً هلمّوا إلى المياه» (أش 55/1؛ يو 7/37).

بالإضافة إلى الجوع والعطش، شاهيّة القابليّة إلى الطعام، يلزمنا القيام بعمليّة الأكل، والمضغ، والهضم، كي يفيدنا الجلوس إلى المائدة. لتتغذّى نفوسنا من كلمة الله، ينبغي الإقبال على قراءة الكتاب المقدّس، بذهن مُنفتح، ورغبة في المعرفة. فنقرأ قراءة موضوعيّة، علميّة، نقديّة، لندرك أوّلاً تمام الإدراك المعنى الأصلي، الحقيقي، الذي أراده الكاتب، وعليه ترتكز سائر المعاني التي ميّزها التقليد المسيحي وسمّاها المعنى الحرفيّ، والمعنى المجازي، والمعنى الأدبي – الأخلاقي، والمعنى التفسيري، وعرّف عنها بمقطوعة شعريّة باللغة اللاتينيّة، من القرون الوسطى، هذه ترجمتها: «المعنى الحرفي يعلّم ما يحدث وما حَدَث، والمجازي يعلّم ما يجب الإيمان به، والأدبي يعلّم ما يجب عمله، والتفسيري يعلّم إلامَ يجب الاتّجاه»[10].

وبفضل تقدّم العلوم البيبليّة في عصرنا، وتوافر الطبعات العلميّة مع مداخل وحواشي، أصبح في متناول الجميع القيام بهذه القراءة العلميّة للكتاب المقدّس، والإغتناء من كنوزه، وتغذية حياتنا الثقافيّة، والإيمانيّة، والروحيّة، من وافر ثماره الشهيّة. وعليه، ولكي لا تبقى القراءة مجرّد دراسة علميّة، وإن لاهوتيّة، يجب ربط ما نقرأه مع مجمل نصوص الكتاب، رغبة في المزيد من التعمّق بمعرفة المسيح على ضوئها. ما يغذّي حياتنا الروحيّة، ليس النصّ بحدّ ذاته، بل الشخص الحيّ الذي يكلّمنا بهذا النصّ وهو الله وابنه الوحيد يسوع المسيح. لن تتغذّى نفوسنا من كلمة الله إلاّ بقدر ما نجعل القراءة العلميّة، الموضوعيّة تتحوّل إلى قراءة شخصيّة، حيّة، ندخل بها لا إلى حدث تاريخي، مضى قديماً وانتهى، بل إلى لقاءٍ حاليّ آنيّ، مع شخص حيّ، حاضر الآن معنا وفينا.

2. مائدة طعام روحيّة.

إنّ الطابع الروحيّ هو الطابع الخاصّ لمائدة الكلمة، طابعها المميَّز، والمميِّز بامتياز، ومنه تستمدّ كبير قيمتها وكنوز غناها ومصدر فعاليّتها. كتابنا المقدّس هو، في جوهر طبيعته، كتاب روحيّ، لا بل الكتاب الروحي الأوحد، مصدر وقاعدة كلّ مؤلَّف ومؤلِّف يُعنى بشؤون الحياة الروحيّة. وضعه روح الله القدوس خدمةً لروح الإنسان المدعوّ إلى المشاركة في قداسة الله.

المؤلِّف الحقيقي للكتاب المقدّس هو «الروح القدس، الناطق بالأنبياء والرسل» (قانون الإيمان): «إنّ الحقائق الإلهيّة التي تتضمّنها وتُعلنها أسفار الكتاب المقدّس قد سُطِّرت بإلهام الروح القدس. […] هو الله ألّفها، وسُلِّمت، كما هي عليه، إلى الكنيسة. […] ويجب أن يُعتَبَر من الروح القدس كلّ ما يقوله ويؤكّده المؤلِّفون الملهمون»[11].

وفي يقين المؤمن المسيحي هو الروح القدس، الذي أَلهمَ قديماً الذين كتبوا الأسفار المقدَّسة، وهو لا يزال اليوم حيًّا، عاملاً في هذه الكتب، وفي الذين يقرأونها بإيمان: «بفضله ما زال يدوّي في الكنيسة صوت الإنجيل الحيّ»[12]. بدون نعمة الروح، تبقى الأسفار المقدّسة، وحروفها وكلماتها، ميّتة، مُبعثرة، جامدة، شديدة اليبوسة، على مثال تلك العظام التي رآها حزقيال تغطّي سطح الوادي. لم تنتعش، وتكتس بالعصب واللحم، وتنتصب جيشاً عظيماً إلاّ عندما هبّ عليها روح الربّ، ووهبها الحياة (حز 37/1-10). «إنّ الروح هو الذي يُحيي»، ذكّر الربّ يسوع تلاميذه المتذمّرين من كلامه العسير (يو 6/60-63).

وعليه، ينبغي حين نفتح الكتاب المقدّس، وقبل المباشرة بالقراءة، أن نبتهل إلى الله، مع المُرتّل: «أرسل روحك فيُخلقوا، ويتجدّد وجه الأرض» (مز 104/30)، الكتاب والقارئ هما بحاجة إلى الروح، لتصبح القراءة روحيّة، حيّة ومُحيية. بفعل الروح، تصبح الكلمات «خبز الثالوث»، حسب تعبير القديس ايرونيموس، قابلة للأكل مثل الإفخارستيّا، تغذّي، تبهج، تُصلِح، تَصون وتُنمّي[13].

الروح حياة الكتاب المقدّس، ومُفسّره: هذا ما يؤكّده أيضاً إيمان الكنيسة وتقليدها العريق: «يجب قراءة الكتاب المقدَّس وتفسيره بذات الروح الذي فيه كُتِب»[14].

الكتاب المقدّس، وليمة روحيّة تغذّي حياتنا الروحيّة. ينبغي قراءته، تحت هدي الروح القدس، وبكلّ قوانا الروحيّة، فنضع في خدمة الكلمة كلّ قدراتنا وطاقاتنا، ونُلملم كلّ قوى العقل والقلب والإرادة والذاكرة والمخيّلة، كلّ الحواس والضمير والكيان، على مستوى الطبيعة، والمستوى الفائق الطبيعة: بكلّ الوعي الإيماني، وديناميّة المحبّة المفاضة في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهِب لنا (روم 5/5).

ونحن بالتالي مدعوّون إلى عمليّة تبدّل ذهنيّ جذري، حسب وصيّة الرسول: «لا تتشبّهوا بهذه الدنيا بل تحوّلوا بتجدّد عقولكم، لتتبيّنوا ما هي مشيئة الله» (روم 12/2). فلا نعود ننظر إلى كتابنا المقدّس نظرة بشريّة فقط، ونُطالعه كسائر الكتب بنيّة الإفادة الأدبيّة أو العلميّة، أو للتسلية، أو بدافع الفضول. بل نفتحه، ونتفحّصه، كما هو في حقيقته: «كلمة الله حقًّا تعمل فيكم أنتم المؤمنين» (1 تسا 2/13).

في المفهوم المسيحي، لا يقتصر التدبير الأسراريّ فقط على أسرار البيعة السبعة. الكتاب المقدّس يتمتّع بنعمة أسراريّة خاصّة بفعل حضور الروح القدس اللامنظور تحت أشكال الصفحات والأسطر والحروف. من خلال الكلمة المكتوبة نقبل «الكلمة الناطقة»، والتي تمنح الحياة، والحركة، والكيان ذاته (رسل 17/28): «ذلك لأنّ كلمة الله حيّة، فعّألة، أمضى من كلّ سبفٍ ذي حدّين، وخارقة إلى مفترق النفس والروح، والمفاصل ونخاع العظام، وقادرة أن تميِّز أفكار القلب ونيّاته» (عبر 4/12).

وبكلام مأذون، يُعالج البابا بندكتوس السادس عشر موضوع «أسراريّة كلمة الله»، في الكتاب المقدّس، بالمقارنة مع سرّ التجسّد، وبالمماثلة مع سرّ الإفخارستيّا، وينتهي إلى القول: «من خلال «علامة» كلمات وحركات بشريّة، يستطيع المؤمن أن يدرك بالحواس كلمة الله ( Parole de Dieu مع حرف البداية الكبير  majuscule). […]  وبالتالي، من شأن التعمّق في المفهوم الأسراري لكلمة الله (دائماً مع حرف البداية الكبير في الفرنسيّة)، أن يساعد على فهم أشمل للوحي، […] وأن يفيد حياة المؤمنين الروحيّة، وعمل الكنيسة الراعوي»[15].

3. مائدة طعام كنسيّة.

عمل الله وفعل روحه القدوس، كتابنا المقدَّس وُلِدَ من رحم حياة الكنيسة. وبسهر عنايتها يُحفظ ويدوم. وبجهد علمائها وملافنتها القدِّيسين يُقدَّم طعاماً شهيًّا لكلّ جيل. إنّه حقًّا كتاب كنسي. من يد الكنيسة نقبله؛ وفيها ومعها، وبموجب تقليدها وتعليمها، نقراءه، ونتأمّله، ونعيشه، فتزدهر حياتنا بالروح، وتثمر الثمر الكثير الذي يدوم، وبه يتمجّد الآب (يو 15/8، 16).

في سبيل خدمة هذه المائدة المقدَّسة والمقدِّسة، حرصت الكنيسة دوماً على حسن القيام بدورها في التعريف، والتدريب، والتحريض، ورغبةً منها في أن «يتوفّر لشعب الله، وبصورة مُثمرة، قوت الكتب المقدّسة، الذي يُنير العقل، ويُقوّي الإرادة، ويُلهب قلوب البشر بمحبّة الله»[16].

«ما كنت لأؤمن بالإنجيل، لو لم تستحثّني على ذلك سلطة الكنيسة»[17]. نحن أيضاً اليوم، على ذات النحو، نستطيع القول: ما كنّا لنعرف الكتب المقدَّسة، لو لم ترشدنا الكنيسة إلى تمييز الكتب الملهمة عن الكتب المحوّلة، وترسم لنا «قانون الكتب المقدّسة»، في العهدين القديم والجديد، وتهدينا إلى «معرفة الحقيقة التي أراد الله أن تُدرج في الأسفار الإلهيّة لخلاصنا، معرفة ثابتة، أمينة، معصومة من الخطأ»[18].

تحت قيادة الكنيسة، ينكبّ المؤمنون على دراسة البيبليّا، «لتملأ يوماً بعد يوم كنوز الوحي قلوب البشر»[19]. في خبرتها العريقة، وحكمتها المدبّرة من الروح القدس، سهرت هذه الأمّ والمعلّمة على وضع قواعد تأويل الكتب المقدّسة وتفسيرها، بالتنبّه الشديد إلى مضمون الكتاب المقدّس كلّه ووحدته، وإلى التقليد الكنسي الحيّ الشامل، كما وإلى تلاحم حقائق الإيمان في ما بينها، وفي مجمل تصميم الوحي الخلاصي[20].

وفي مدرسة الكنيسة، يتدرّب أبناؤها على تلاوة الكتاب المقدّس، والشغف بكلمة الله، بفضل ما تكتنز به من نصوص كتابيّة، مختلف الطقوس الليتورجيّة، والرتب البيعيّة، وشتّى مناسبات الصلوات والحفلات، والتعليم والتبشير. بالإضافة إلى ذلك، يوصي المجمع الفاتيكاني الثاني قائلاً: «أمّا الأساقفة «المؤتمنون على التعليم الرسولي»، فإليهم يعود أمر تدريب المؤمنين المكلّفين بهم، تدريباً ملائماً على استعمال الكتب الإلهيّة الصحيح، وخاصّة العهد الجديد، لا سيّما الأناجيل، بواسطة ترجمات النصوص المقدّسة المزدانة بالشروح الضروريّة والوافية بحيث إنّ أبناء الكنيسة يألفون الكتب المقدّسة بأمان وفائدة، ويتشرّبون من روحها»[21].

ويقيناً منها أنّ «كلّ ما كُتِب قبلاً إنّما كُتِب لتعليمنا حتى نحصل على الرجاء» (روم 15/4)، «وأنّه يجهل المسيح من يجهل هذه الكتب»[22]، حرّضت دائماً الكنيسة الشعب المسيحي، بكلّ فئاته، من كلّ الأعمار والمقامات، على «العودة المتواترة إلى قراءة الكتب المقدّسة»[23]. وتقول للجميع، وليس فقط للمكرّسين بالنذور، «ليكن الكتاب المقدّس بين أيديهم، قبل كلّ شيء وفي كلّ يوم، ليقبسوا من قراءته والتأمّل فيه «معرفة المسيح يسوع التي لا توصف» (فل 3/8)[24]. ولقد عبّر عن ذلك أفضل تعبير البابا بندكتوس السادس عشر بقوله: «همّي الكبير أن يتعلّم اللاهوتيّون – وسائر المؤمنين – قراءة الكتاب المقدّس ومحبّته»[25].

ثانياً: مدرسة صلاة

في المفهوم المسيحي، العلاقة وثيقة، لا بل كيانيّة، بين الصلاة والحياة الروحيّة، لا قيام لهذه دون تلك. رفض الصلاة، مثل رفض التنفّس، رفض للحياة، انتحار وموت. يصدق فيه كلام يسوع لليهود: «أنتم لا تريدون أن تُقبِلوا إليَّ فتكون لكم الحياة» (يو 5/40).

وكما هو مائدة طعام منها تتغذّى حياتنا الروحيّة، الكتاب المقدّس هو أيضاً مدرسة صلاة، على مقاعدها يتدرّج المؤمن في معارج الصلاة وينمو في حياة الروح. ذلك بتعمّقه في منطلقات الصلاة، وشغفه بنماذجها، وتدرّبه على طَرْقِ مناهجها.

1. منطلقات الصلاة.

«الصلاة المسيحيّة علاقة عهد بين الله والإنسان في المسيح. إنّها فعل الله والإنسان. وتنبع من الروح القدس ومنّا»[26]. مصدرها الأنقى وسندها الأقوى، كتابنا المقدّس، في عهديه، القديم والجديد. تتحوّل تلاوته إلى صلاة بقدر ما يتفهّم المؤمن، ويعيش، منطلقات الصلاة الأساسيّة، والمتمحورة ما حول العمليّات الثلاث التاليّة: الانفتاح، الصمت، والمداومة.

أ- الانفتاح: «إفّتِحْ! أي انفتح»، قال يسوع لذاك الأصمّ الأبكم. وللحال انفتح مسمعاه، وانحلّت عقدة لسانه. فتكلّم بلسان طليق (مر 7/33-35). غالباً ما نشبه هذا الأصمّ المعقود اللسان. نفتح الكتاب ونقرأ، ويفتح الله فاه ويُكلّمنا. لكنّنا لا نسمع، ولا نُحسِن الإجابة والتجاوب. يعوزنا أن ينفرد بنا يسوع عن الجمع، ويضع إصبعيه في أذنينا، ويلمس لساننا، لنشفى من أسقامنا وننفتح، ونفتح له باب القلب والكيان، فيدخل إلينا ويتعشّى معنا، ونحن معه (رؤ 3/20).

الانفتاح مفتاح الصلاة، ومنطلق اللقاء مع الربّ. مراراً وتكراراً، يأمر به الله، في كتاب الوحي، ويحقّقه، ومراراً يطلبه المصلّي من الله نعمة ومُعجزة. الأمثلة عديدة، منوّعة، وتشمل الحواس الخارجيّة والباطنيّة، العين، والأذن، والفم، والشفاه، والقلب، والذهن.

لا مجال لسرد هذه المراجع، على أهميّتها، نكتفي بذكر ليدبا بائعة الأرجوان وكيف فتح الله قلبها فآمنت واستضافت المرسلين (رسل 16/14)؛ وتلميذَيّ عمّاوص وكيف انفتحت أعينهما عند كسر الخبز وعَرَفا يسوع الحيّ الناهض من بين الأموات (لو 24/31). ومع المرتّل نبتهل، مردِّدين: «افتح، يا ربّ، شفتَيّ، فيخبر فمي بتسبحتك» (مز 51/17)

ومهما يكن، إنّ براعم قراءتنا البيبليّة لن تتفتّح أزهار صلاة، ولن تنضج ثمار نموّ في الحياة الروحيّة، إلاّ بقدر ما نعيش هذا الانفتاح، في كلّ مجالاته، قدرةً على الوعي الإيماني، واليقظة، والانتباه، والقبول، فتصدق فينا كلمة الكتاب: «أمّا الذين قبلوه، وهم الذين يؤمنون باسمه، فقد مكّنهم أن يصيروا أبناء الله» (يو 1/12).

ب- الصمت: لا يسمع إلاّ من يصمت. لكن لا عن حرد وغيظ، أو خوف، أو ازدراء. بل عن امتلاك الذات، وإمساك بالميول والأهواء. وبالتالي قدرة على السكون، والتركيز، والتفكير، وانتظار لكلمة تُقال لنا، أو نقولها.

نصمت لنسمع الله يُكلّمنا. وما الصلاة في جوهرها سوى هذه المحادثة مع الله، دون أن ننسى بأنّ الله أيضاً يتكلّم بصمته، ومراراً صمته أبلغ من كلّ كلام[27]. ونصمت بعد سماعنا الكلمة لنمضغها، ونبتلعها، فتسكننا، كما سكنت قلب مريم وحشاها. «تثبت فينا ونثبت فيها، فنصبح حقًّا تلاميذ يسوع»،  وتتفجّر في أعماقنا ينابيع الصلاة، ونسأل ما نشاء ويكون لنا (راجع يو 8/31، 15/7).

في عالمنا، الصمت نادر وصعب المنال. إنّما كلّي الضرورة وجزيل الفائدة. إنّه الحارس الضامن لكلّ حياة روحيّة. «في الصمت والسكينة تنمو النفس العابدة»[28]. وبعد أن ذكّر البابا بندكتوس السادس عشر بأنّ الصمت، في ديناميّة الوحي الإلهي، هو مظهر من مظاهر كلام الله، يحرّض قداسته جميع المسؤولين على حسن تنشئة شعب الله على أهميّة الصمت في حياة الصلاة الليتورجيّة والفرديّة، وتدريبهم على الإفادة من لحظات الصمت في الاحتفالات البيعيّة، كي يقبلوا في قلوبهم، كلمة الله، ويحفظوها ويتأمّلوا فيها، بمساعدة الروح القدس. «على أساس كلّ روحانيّة مسيحيّة أصيلة وحيّة، نجد كلمة الله، يُنادى بها، يُصغى إليها، يُحتفل بها، وتكون موضوع تأمّل وصلاة في الكنيسة»[29].

الصمت الحقيقي، يُمليه الله، ويملأه الله. إنّه المنطلق والذروة لكلّ صلاة. ولا بل «إنّه الصلاة الأسمى، والتسبحة الفُضلى» (القديس باسيليوس الكبير). «الرمز للعالم الآتي»، (إسحق النينوي)، فيه يقول لنا الآب كلمته المتجسّد في آلامه وموته وقيامته، ويجعلنا الروح البنوي نشارك في صلاة يسوع[30].

ج- المداومة: الصلاة حياة، ويجب أن تدوم ما دامت الحياة، أو بالأحرى لتدوم الحياة. ورسم يسوع مثل القاضي الظالم ليعلِّمنا «وجوب المداومة على الصلاة من غير ملل» (لو 18/10). والرسول بولس يوصي مسيحيّي أفسس بالسهر وإقامة كلّ أنواع الصلاة بالروح في كلّ وقت (أف 6/18). والمرتّل، قديماً يعترف صراحةً: «أشيد للربّ مدّة حياتي، أعزف لله ما دمت» (مز 104/33).

ونتساءل: هل الصلاة هي حقًّا ممكنة دائماً؟ لا شكّ، إنّه من المستحيل البقاء دائماً أمام الصليب، أو القربان، مصلّين. الممارسات الدينيّة لها أوقاتها. إنّها صلاة، وتغذّيها، لكنّها لا تحتكرها. على المؤمن مواصلة عيش «علاقة الصلة بالربّ»، خارج هذه الأوقات، ليل نهار: «من الممكن حتى في السوق، أو في نزهة منفردة أن تصلّي صلاة كثيرة وحارّة؛ أو وأنت جالس في حانوتك للبيع أو للشراء، أو حتى في المطبخ»[31].

يكون لنا ذلك بفضل أمرين: أن نعمل ما يريده منّا الله، في تلك اللحظة، حسب واجبات حالتنا، وثانياً نعمل ما نعمله ونحن بحال النِعمة، وبنيّة صالحة، نيّة مرضاة الربّ وتمجيده. وهكذا نضمن العيش مع الله، تحت نظره، وباتّحاد الحبّ، حسب قول الربّ يسوع: «إنّ الذي أرسلني هو معي، لم يتركني وحدي، لأنّي أعمل دائماً أبداً ما يرضيه» (يو 8/29).

وتذهب الكنيسة في تعليمها إلى أبعد، وتؤكّد ليس فقط إمكانيّة الصلاة الدائمة، بل «عدم إمكانيّة الفصل بين الحياة والصلاة، لأنّ موضوعهما هو المحبّة ذاتها، والتجرّد ذاته الناتج عن المحبّة، والمطابقة البنويّة المُحِبَّة ذاتها لقصد محبّة الآب، والاتّحاد ذاته الذي يحوّلنا في الروح القدس، ويجعلنا نزداد دوماً تطابقاً مع يسوع المسيح، والمحبّة ذاتها لجميع البشر»[32].

بهذا المعنى، يقول أوريجانس: «ذاك يُصلّي بلا انقطاع، مَن يقرن الصلاة بالأعمال، والأعمال بالصلاة. وهكذا فقط نستطيع أن نرى مبدأ الصلاة بلا انقطاع قابلاً للتطبيق»[33]. ويوضح السبب القديس أغوسطينوس بقوله: «كلّ فعل يُعمل للالتصاق بالله في الشركة المقدّسة، ولنتمكّن من السعادة، إنّما هو ذبيحة مقدّسة»[34]. وهكذا بوسعنا أن نجعل من كلّ عمل، أسمى فعل عبادة وصلاة. وهذا ما حقّقه يسوع: بتتميمه مشيئة الآب، وعمل مرضاته، جعل حياته كلّها صلاة، أبطل العبادة الأولى، وأقام العبادة الأخرى، العبادة الحقيقيّة، الروحيّة، البنويّة، التي يريدها الآب (راجع يو 4/23-24، 34؛ 17/1-4؛ عبر 10/5-10).

وتعني المداومة على الصلاة، الثبات فيها والمواظبة عليها، بثقة وأمانة، حتى النهاية، وليس فقط نهاية الوقت المحدّد لها، بل البلوغ بها إلى غايتها وذلك بتفهّم وقبول ما يريده الله، والتسليم المطلق بين يديه، ليحقّق فيّ وبواسطتي في العالم من حولي، نواياه الخلاصيّة، قائلين مع مريم: «أنا أمة الربّ، فليكن لي حسب قولك» (لو 1/38)، ومع يسوع في بستان الزيتون: «لا ما أنا أشاء، بل ما أنت تشاء» (مر 14/36).

بالعودة المتواترة إلى كتاب البيبليا، نغذّي فينا هذه الاستعدادات وننمّيها. فتصبح ملكة، تحرّك القلب والعقل، وتقيمنا بحالة صلاة دائمة تصون حياتنا الروحيّة وترسّخها.

2. نماذج الصلاة.

«تاريخ الخلاص مطبوع على الصلاة»[35]. وكتابنا المقدّس أشبه بمتحف زاخر بالروائع الخالدة لأجمل أناشيد، ومزامير، وصلوات، ولأعظم مصلِّين ومصلِّيات، منذ البدايات حيث كان الربّ الإله يتمشّى مع آدم، في الجنّة عند نسيم النهار (تك 4/8)، حتى نداء الروح والعروس، في ختام سفر الرؤيا: «آمين! تعال، أيّها الربّ يسوع» (رؤ 22/20).

في هذه المدرسة – المتحف، نتعرّف إلى جمهور غفير من آباء وأنبياء، وملوك، وشعراء مُلهمين مرتّلين، ومُتعبّدين ورُسُل، وإنجيليّين، مع مريم أمّ يسوع، والمسيح يسوع نفسه «الذي في أيام حياته البشريّة رفع الدعاء والابتهال بصراخ شديد ودموع ذوارف […]، فاستُجيبَ له لتقواه» (عبر 5/7)، ولا يزال، في مجده، عن يمين الآب، يشفع لنا على الدوام (روم 8/34؛ عبر 7/25؛ 1 يو 2/2).

لا مجال الآن إلى التوسّع في هذه النماذج الأخّاذة، نكتفي بذكر العناصر المشتركة ما بينها، نلخّصها بعبارتين أنماط وميّزات.

أ- أنماط الصلاة: في مدرسة كتابه المقدّس يُتقن المُصلّي حسن أداء فروض العبادة، من خلال قيامه بثلاثة أفعال سمّاها التعليم المسيحي «أنماط الصلاة المسيحيّة ومعيارها».

– النمط الأوّل، السجود والمباركة.

السجود هو الموقف الأول للإنسان المخلوق لدى مثوله أمام الله الخالق. إنّه سجود الروح، وجثوّ الجسد، أمام ملك المجد، وصمت الاحترام أمام الله الأعظم على الدوام. بذلك يُشيد المؤمن بعظمة الربّ الذي صنعه، وبقدرة المخلّص الذي حرّره من الشرّ، مردّداً مع المرتّل: «تعالوا نسجد وننحني، لنركع أمام الربّ صانعنا، فإنّه هو إلهنا» (مز 95/6؛ راجع أيضاً مز 24/1-10؛ مز 5/8؛ حز 2/1؛ رسل 9/4؛ أف 3/14؛ متى 26/39).

والمباركة هي الاعتراف العلني بالقدرة الإلهيّة الباهرة، وعظمة جوده وصلاحه. الله هو «المبارَك» (مر 14/61)، حائز ملء كلّ بركة، ويستحقّ كلّ مباركة من الناس. وما تاريخ الخلاص، كما رواه الكتاب المقدّس، سوى تاريخ البركة التي منحها الخالق في البدء لأبوينا الأوّلين (تك 1/28)، ووعد بها ابراهيم (تك 12/3). وحقّقها في يسوع، الثمرة المباركة لبطن مريم المبارك (لو 1/42). وآخر حركة مرئيّة للمسيح على الأرض كانت: «رَفَعَ يديه فباركهم. وبينما هو يُباركهم، انفصل عنهم، ورُفِعَ إلى السماء» (لو 24/51).

«ولأنّ الله باركه، يقدر الإنسان أن يردّ بمباركة من هو أصل كلّ بركة»[36]، ويردّد مع الرسول بولس: «تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح، فقد باركنا كلّ بركة روحيّة في السماوات في المسيح» (أف 1/2). ومع الفتيان الثلاثة في أتّون النار: «مبارك أنت أيّها الربّ إله آبائنا، نحمدك ونرفعك إلى الدهور» (دانيال 3/52).

ألفاظ التبريك وفيرة، ثريّة المعاني، تملأ الكتاب المقدّس في عهديه القديم والجديد. وبوسعنا اعتبار صلاة المباركة بمثابة همزة الوصل وجسر العبور ما بين صلاة السجود وصلاة الشكر، تأخذ من هذه وتلك وتوحّد ما بينهما. وسفر الرؤيا يصف جمع المختارين في السماء، أمام العرش والحمل، يسجدون لله مترنّمين: «آمين! لإلهنا البركة والمجد والحكمة والشكر والإكرام والقدرة والقوّة أبد الدهور آمين» (رؤ 7/12).

– النمط الثاني، الشكر والتسبيح.

فعل الشكر مألوف، لا بل أساسي في الكتاب المقدّس. إنّه في جوهره وعي لعطايا الله، وعرفان لجوده، ودهش بمجانيّة سخائه. وهو في قلب المؤمن وعيشه، ردّة فعل دينيّة، عميقة، ثمرة اكتشافه شيئاً من الله، وعظمة حبّه ومجده.

هكذا دخول في عالم الله ينقل بداهةً المُصلّي من العطيّة إلى المُعطي، من صلاة الشكر إلى صلاة التسبيح، والمديح، والتعظيم، التي تتغنّى بالله لأجل ذاته، وتمجّده إلى ما هو أبعد من أفعاله، وتجمع في ذاتها كلّ أنماط الصلاة، وتعبّر عنها أفضل تعبير، على مثال صلاة يسوع الذي جعل ذاته إفخارستيّا، ذبيحة شكر وتسبيح.

من يُصلّي هكذا ينمو في الروح، جاعلاً حياته كلّها إفخارستيّا، مُتمّماً بالفعل تحريض الرسول: «كونوا شاكرين، (إفخارستيّا، حسب اللفظ اليوناني) […] رتّلوا لله من صميم قلوبكم شاكرين بمزامير، وتسابيح، وأناشيد روحيّة، ومهما يكن لكم من قول أو فعل، فليكن باسم الربّ يسوع تشكرون به الله الآب» (قول 3/15-17).

ومع صاحب المزامير، يردّد في كلّ حين: «سبّحي الربَّ، يا نفسي، أسبّح الربّ طول حياتي، ما دمت حيًّا أعزف لإلهي» (مز 146/1-2)[37].

– النمط الثالث، صلاة الطلب والشفاعة.

في صلاته، يعي الإنسان أنّه في حضرة الله الخالق، والعناية، والفادي، والمُحيي؛ وفي نور وجه الله يُدرك عوزه وعجزه، وضعفه وخطيئته. من هذا الوعي المُفعم إيماناً ورجاءً ومحبّة، تتفجّر صلاة الطلب والشفاعة.

نطلب ما نحتاجه، في هذه الدنيا وفي الآخرة، كما نقول في فعل الرجاء، وكما علّمنا يسوع في صلاة الأبانا (متى 6/9-15). وبانسحاق قلب، وتواضع، وندامة، نصرخ مع داود التائب ومع العشار: «إرحمني يا الله، أنا الخاطيء» (لو 18/13؛ مز 51/1).

ولا يقف المؤمن عند حاجاته الشخصيّة، أو العائليّة، بل يُصلّي لأجل جميع الناس، دون استثناء، حتى الأعداء، ليبلغوا إلى معرفة الحقّ ويخلصوا (1 طيم 2/1-4؛ روم 12/14؛ لو 23/34). فلا حدود لصلاة الشفاعة. وهي منذ ابراهيم (تك 18/16-33)، وموسى (خر 32/11-35)، واسطفانوس (رسل 7/60)، وبولس (روم 10/1)، من ميّزات القلب المطابق رحمة الله (لو 6/35-36)، وشفاعة يسوع (روم 8/34؛ عبر 4/15، 5/7-9)، والروح القدس (روم 8/26)، والكنيسة جمعاء في الأرض والسماء (رسل 12/5؛ 20/36؛ أف 6/18-20؛ 2 تسا 1/11…).

إنّها أفضل تعبير عن شركة القدّيسين، لا بل عن المشاركة في محبّة الله، الرحمان الرحيم، الخلاصيّة (يع 5/11). لذلك لها فعاليّة عُظمى في تنمية الحياة الروحيّة وازدهارها حتى بلوغ كمال القداسة.

ب- ميّزات الصلاة.

«تسألون ولا تنالون لأنّكم لا تُحسنون السؤال» (يع 4/3). ليس كلّ صلاة صلاة. «الصلاة منها صلاة خطيئة، ومنها صلاة دواء للحياة»[38]. تكون صالحة الصلاة، وتُقبَل وتُستجاب، بقدر ما يعمر قلب المُصلّي بالوعي الإيماني الراسخ، والرجاء الوطيد، والمحبّة النقيّة، المتوقّدة. هذا يفترض ميّزات أساسيّة عديدة؛ أهمّها، حسب تعليم يسوع، الثلاث التالية: الثقة البنويّة، الصلاة باسم يسوع، عبادة الآب بالروح والحق.

الثقة البنويّة: بدالّة البنين المحبوبين نُصلّي لله أبينا السماوي، مؤمنين بعنايته الساهرة، وقدرته الفائقة، وجوده اللامتناهي. إنّه يعلم حاجاتنا، ويُريد مساعدتنا، وليس لديه أمر عسير. لا نخف، ولا نقلق وننهمّ (متى 6/25-34). هكذا أوصانا المعلّم الإلهي، وأضاف محرّضاً: «إسألوا تُعطوا، أُطلبوا تجدوا، إقرعوا يُفتح لكم […] فإذا كنتم أنتم الأشرار تعرفون أن تُعطوا العطايا الصالحة لأبنائكم، فما أولى أباكم الذي في السماوات بأن يعطي ما هو صالح للذين يسألونه» (متى 7/7-11).

في الواقع، نشتكي من أنّنا غالباً لا نُستحاب. صحيح، إنّما، إلى أيّ إله رفعنا طلباتنا؟ ما هي في يقيننا صورة الله التي تحملنا على الصلاة؟ وسيلة نستعملها، أو الله أبو ربّنا يسوع المسيح، وأبونا؟ وكيف صلّينا؟ وأيّ خيور طلبنا؟

يتناول التأكيد الكتابي «ما هو صالح»؛ ويوضح لوقا: «فما أولى أباكم السماوي بأن يهب الروح القدس للذين يسألونه» (لو 11/13). الصلاة الحقيقيّة دائماً مستجابة. وإن لم نحصل على خيور زمنيّة، يَهبنا الله بدلاً منها خيوره الإلهيّة، التي تُنمّي حياتنا الروحيّة، وتُعمّق في نفوسنا التشابه البنوي بالله وكمالاته: «كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل» (متى 5/48). «لا تجزع إذا لم تتلقَّ من الله على الفور ما تسأله؛ فهو يريد أن يزيدك خيراً بمواظبتك على البقاء معه في الصلاة»[39].

– الصلاة باسم يسوع: علّمناها الربّ في الخطاب بعد العشاء السرّي (يو 14/13-14؛ 15/7، 16؛ 16/23-26). من هذه النصوص، وتكرارها، وتحريض يسوع وإلحاحه، وتنديده، نفهم الأهميّة الكبرى التي يُوليها معلّمنا الإلهي للصلاة باسمه، بالاتّحاد معه، بواسطته، والطاعة لأوامره. الصلاة باسم يسوع ليست فقط الصلاة التي يُلفظ فيها اسم يسوع، بمثابة كلمة سحريّة؛ بل الصلاة التي تتوافق مع مشيئة يسوع وتعاليمه، وفعل روحه فينا، وتهدف فقط إلى ما كان الهدف الوحيد لحياة يسوع وموته وقيامته وشفاعته الدائمة اليوم في مجده، أعني مجد الآب وخلاص العالم. هكذا صلاة دائماً مُستجابة وتزيدنا شبهاً بيسوع، وتُرسّخ فينا مشاعره، وأفكاره، ونواياه.

– الصلاة بالروح والحقّ: كما أوضحها يسوع للمرأة السامريّة (يو 4/19-24) الصلاة المسيحيّة، في جوهرها، عمل الروح القدس في قلب الإنسان، وفق الحقيقة التي أعلنها لنا المسيح يسوع، عن نفسه، وعن الله، وعن الإنسان، وأيضاً عمل الإنسان وكامل قدراته وطاقاته، العقل والإرادة والذاكرة والمخيّلة، وكلّ الحواس والضمير، والكيان، على مستوى الطبيعة والمستوى الفائق الطبيعة، وديناميّة الروح القدس الذي وُهِب لنا، ليكون عندنا، ومعنا، وفينا، يُذكّرنا جميع ما قاله يسوع، ويساعد ضعفنا، ويُصلّي فينا بأنّات لا توصف (راجع يو 14/16-17، 26؛ 15/26؛ روم 5/5؛ 8/26).

مثل أولئك المصلّين يريد الآب، يبحث عنهم، وينتظرهم، ليملأهم بكلّ ما فيه من كمال، ويسدّ حاجاتهم كلّها على قدر غنى مجده (يو 4/23؛ أف 3/19؛ فل 4/19).

3. مناهج الصلاة

كتابنا المقدَّس مدرسة صلاة بما يحوي من تعاليم ونماذج، وأيضاً بما يُقدِّم للمُصلّي من سند، وللمتأمِّل من مناخات تحمله في دربه الصاعدة نحو اللقاء بالربّ. فيه يجد المؤمن التوّاق إلى إنماء حياته الروحيّة ما ينشده من مناهج موآتية تُدرّبه على التوفيق بين القراءة والصلاة. فلا يعود يكتفي بقراءة كتابه المقدّس، وإن بتواتر، بل ينتقل منها إلى الصلاة، ومن ثمّ إلى العيش.

ترقى جذور هذه الممارسة إلى العهد القديم، وعنه ورثتها الكنيسة منذ نشأتها. واليوم يُقدّمها الروح القدس، عبر السلطة التعليميّة، إلى الكهنة، والرهبان، والراهبات، والجماعات في الرعايا، والحركات الكنسيّة، والأُسَر، والشبّان وسائر المؤمنين[40]. «إنّ المجمع المقدَّس يحثّ بصورة خاصّة وبقوّة، المسيحيّين جميعهم على استكشاف «معرفة المسيح يسوع الفائقة» (فل 3/8)، بعودتهم المتواترة إلى قراءة الكتب الإلهيّة […]. إنّما عليهم أن يتذكّروا أنّه يجب أن ترافق الصلاة قراءة الكتب المقدّسة، لينشأ الحوار بين الله والإنسان؛ لأنّنا «نكالمه حين نصلّي، ونستمع إليه حين نقرأ أقواله الإلهيّة»[41].

جيلاً بعد جيل، شرقاً وغرباً، درجت مدارس الروحانيّات المسيحيّة على هذه القراءة المُصلِّية، وأطلقت عليها اسم «القراءة الإلهيّة» (Lectio divina) ورسمت لها القواعد «التي تسمح بأن نجد في النصّ الكتابيّ الكلمة الحيّة الموجَّهة إلينا، والتي توجِّهنا، وتُجدّد حياتنا»[42]. لخّص راهب شارتري هذه القواعد بأربع كلمات، قراءة، تأمّل، صلاة، مشاهدة، سمّاها درجات سلّم «منتصب على الأرض ورأسه يلامس السماء» (تك 28/12؛ يو 1/51). وأوجزها بعبارة مأثورة مستوحاة من إنجيل متى 7/7: «أُطلبوا وأنتم تقرأون، فتجدوا وأنتم تتأمّلون، إقرعوا وأنتم تُصلّون، فيُفتح لكم وأنتم تُشاهدون»[43].

القراءة – Lectio

إنّها الفاتحة – الباب والبوّاب – من يدخل منها يجد المرعى ويخلص (يو 10/2، 9). فالإنسان بذاته عاجز. لا يقوى على الانسلاخ عن عالمه ليدخل دائرة الألوهة. يعوزه أن يأخذ الله المبادرة ويفتح الخط، ويكالمه. «حين تقرأ الكتاب المقدّس، هو الله الذي يُكلّمك. وحين تُصلّي فأنتَ تُكلِّم الله»[44].

لكي تُدخلنا قرأتنا عالم الصلاة، يجب إتمامها بروحيّة المؤمن وذهنيّة الباحث. بما وبمَن نؤمن؟ عمّأ وعمّن نبحث؟ «ماذا تريدان؟» سأل يسوع التلميذين الأوّلين اندراوس ورفيقه (يو 1/38). «عمَّن تبحثين؟»، سأل المجدليّة صُبح القيامة، عند مدخل القبر الفارغ (يو 20/15).

مع فتح الكتاب للقراءة، إفتح قلبك وكيانك، وكلّ حواسك، لتسمع، وترى، وتَقبل، فتدخل في علاقة مع من يُخاطبك. أيقِظ انتباهك، لَمْلِم حواسك، ركّز فكرك واحصره. ما تقرأ، هو رسالة من الله إليك، تَخُصّك أنتَ شخصيًّا[45]، إنّها لك، باسمك. «ما كُتب قبلاً إنّما كُتِب لتعليمنا» (روم 15/4). «مكتوب عنّي (ولأجلي) في رأس الكتاب» (عبر 10/7؛ مز 40/7). «اليوم إن سمعتم صوته، فلا تقسّوا قلوبكم» (عبر 4/7).

تشبه هذه الرسالة رسالة حبيب إلى حبيبته (كيركيغارد). بادِرْ بلهفة إلى قراءتها (عبر 4/11). راجعها، مراراً وتكراراً، وحاول كسر القشرة، كما تفعل بثمرة الجوز واللوز، لتحصل على اللبّ الطيّب.  عندئذٍ تخرج من ذاتك، وتؤخَذ في الله.

التأمّل – Meditatio

«بالقراءة تبحث، بالتأمّل تجد» (جييج الشرتري). بالقراءة، تلقّيت رسالة حبّ، بالتأمّل تفضّ ختومها، تتبيّن مضمونها. فتُؤخَذ بها وتُشْغَف.

بالتأمّل تركّز على ما قرأت. تُردّد الكلمات في ذاتك لذاتك. تفكّر فيها، تعمل على تفكيكها وتفقئتها، لتسبر غورها، من الداخل، داخلها وداخلك وداخل قلب الله -، بحثاً عن المعرفة والفَهم الروحي، واستشفافاً لوجه الربّ.

بالتأمّل، مع مريم، وعلى مثالها، «تحفظ جميع هذه الأمور وتتأمّلها في قلبك» (لو 2/19، 52)، «وتسأل نفسك ما معنى هذا الكلام؟» (لو 1/29)، وماذا يريد الله أن يقول لي اليوم، في هذا الوضع؟ تُدخِل كلمة الله قلبك، فتثبت فيها، وهي فيك، وتجعلك من تلاميذ يسوع الحقيقيّين، تعرف الحقّ، والحقّ يُحرّرك (يو 8/31-32). بالتأمّل تحتضن الكلمة وتتمسّك بها ديناميّة حياة وقوّة مُحرِّرة، تسلخك عن أنانيّتك، وتُطلقك في مدار الربّ ومشروعه الخلاصّي، ونواياه القدّوسة عليك وعلى عالمك (1بطر 1/11).

الصلاة – Oratio

في القراءة والتأمّل كلّمك الربّ. إن كنت سمعت وفتحت قلبك للواقف يقرع بابك (رؤ 3/20)، تكون قد وَلجت هيكل الصلاة.

كثيرون، في قراءتهم النص الكتابي، وتأمِّله، يخدعون أنفسهم، حسب تعبير يعقوب الرسول الذي يشبّههم برجل ينظر في المرآة صورة وجهه، ويمضي، وينسى (يع 1/22-24). الخطر كبير أن نبقى في دائرة النظريات العقلانيّة: درس علمي، بحث تاريخي، تحليل أدبي، أو إعداد محاضرة، بعيداً عن مخدع القلب حيث الآب يهب ذاته في الخفية (متى 6/6). وخطر آخر أفظع هو الإبحار في رحاب الأوهام والأحلام، وثرثرة الكلام الفارغ، ودغدغة الأحاسيس العابرة. وجميعها تُكبّلنا في سجن أنانيّتنا. «تلصقنا في التراب» (مز 119/25). وتحول دون «توثّب القلب»، «وارتفاع النفس نحو الله»[46]. وبالتالي دون الدخول في الصلاة.

نقرأ ونتأمّل، لنوقظ فينا الرغبة في البحث عن الله، والوعي الإيماني على حضوره الآن فينا. «حيّ ربّ القوات الذي أنا واقف أمامه» (1 مل 18/15)؛ لنهب له القلب والكيان والحياة. ولنسأله ما لا تستطيع القراءة أن تمنحه، ولا التأمّل أن يحقّقه. لنطلب الله، من الله، ولأجل الله. «أطلبوا ملكوت الله وبرّه، تزادوا هذا كلّه» (متى 7/33). حينئذٍ تصدق فينا كلمة يسوع لتلاميذه: «إذا ثَبتّم فيّ، وثبت كلامي فيكم، فاسألوا ما شئتم يكن لكم» (يو 15/7). فالصلاة الحقّة لا تقوم فقط بطلب حاجات، ولا بتقديم فروض عبادة. جوهرها، هبة ذات متبادلة. نهب قلبنا لله، ونسمح له أن يحيا فينا، ويُحيينا من حياته. «صلّ لتحيا»[47].

المشاهدة – Contemplatio

إنّها تسمير النظر، عيني الجسد وعيني القلب، وتحديقه في ما ومن نشاهد: شيء، شخص، فكرة، مثل ما «كانت عيون أهل المجمع كلِّهم شاخصة إلى يسوع» (لو 4/20). وهي بالتالي دخول روحي في ما ومن نشخَص إليه، فيُصبح وكأنّه مسكننا وهيكلنا، ونحن مسكنه وهيكله. نغوص فيه ونستغرق. نعانقه، ونعتنقه، ونؤخَذ به لدرجة الاتّحاد والوحدة. وبعض الأحيان، تبلغ بنا هذه المشاهدة إلى ظاهرة الانخطاف بالروح الخارقة. على تسلّق هذه الذروة تدرِّبنا مدرسة الصلاة في كتابنا المقدّس، وإليها تقود، وفيها تكتمل العمليّات الثلاثة السابقة: القراءة والتأمّل والصلاة. إنّها وفي كلّ حالاتها، نعمة إلهيّة، عطيّة مجّانيّة تمكّن المؤمن المُصلّي من أن يتبنّى نظرة الله ذاته إلى الأمور، فيُقيّمها في نور حكمة مطابقة لرؤية الله، ولفكر المسيح (1 قور 2/16)، معتمداً دائماً كلمة الله القاعدة والمقياس لكلّ تمييز وقرار، مع ما يقتضيه ذلك من تبدّل (ميتانويا)[48] في الذهن، والقلب والحياة (روم 12/2).

ختاماً، تجدر الإشارة إلى أنّه لضرورة الإيضاح جرى التمييز والفصل ما بين هذه الدرجات في ما سمّيناه منهجيّة الصلاة. فالصلاة عمل واحد، وحيد، موحِّد، عمل الله وعمل المؤمن (راجع 1 قور 3/9). ودرجات منهجيّتها مترابطة ومتلازمة. ركنها الأوّل، القراءة تقدِّم للمتأمّل موضوعه؛ في التأمّل يبحث المُصلّي عن الكنز الدفين، ولعجزه عن إحرازه يلجأ إلى الربّ الذي يمنحه إيّاه بالتنعّم في استغراق المشاهدة: «القراءة دون التأمّل عقيمة؛ التأمّل دون القراءة عرضة للضلال؛ الصلاة دون التأمّل هي فاترة؛ والتأمّل دون صلاة، لا ثمر له؛ الصلاة الحارّة تقود إلى المشاهدة، ولكن نعمة المشاهدة دون صلاة هي نادرة أو معجزة»[49].

إلى هذه الدرجات، يضيف بعض علماء الروح مقدّمة يسمّونها «استدعاء الروح (= invocatio)، القادر وحده على إزالة البرقع وإحياء الحرف الميّت ، وينبّهون إلى أنّ «القراءة الإلهيّة» لا تكتمل إلاّ بالعمل (= Actio)، الذي به يتمّم المُصلّي مشيئة الله، على نفسه وعالمه، وفق ما تبيّنها في صلاته. وعندئذٍ فقط «يكتمل علمه ويكون مثل معلِّمه» (لو 6/10)، وينال الطوبى الموعود بها «من يسمع كلمة الله ويحفظها» (لو 11/28).

ثالثاً: مغامرة حبّ

لا غرابة في هذا العنوان. كتابنا المقدّس، وفي كلّ صفحاته، يروي ملحمة محبّة الله العظمى، ومغامرته المُذهلة بخلقه الإنسان، «على صورته كمثاله» (تك 1/26)، مزيّناً بالمحاسن، ناعماً بحريّة التصرّف والقرار. وذلك، على الرغم من معرفته ما سوف يُعانيه من جرّاء سوء استعمال الإنسان لهذه الحريّة، بالتمرّد على خالقه، والتنكّر لحبّه وإحساناته. غامر الله لأنّه محبّة. والحبّ جنون. وبعد الخلق، واصل المغامرات، فكان التجسّد، ومزود بيت لحم، وصليب الجلجلة، ومذبح الإفخارستيّا، من أجل خلاص «جبلة يديه»، وإشراكه في «الطبيعة الإلهيّة» (2 بطر 1/4)، وسعادة مجد الملكوت (متى 25/34).

وبما أنّ «لا رجعة في هبات الله ودعوته» (روم 11/29)، نرى الربّ يُلزم نفسه احترام حريّة الإنسان، وصيانتها من كلّ عنف وإكراه. فيكتفي، وعلى مدى تاريخ التدبير الخلاصي، بتوجيه النصح والإنذار، والتنديد والتحذير، والترغيب والتشويق، لدرجة الإغراء والإغواء، كما قال أحد الأنبياء: «قد استغويتني، يا ربّ، فاستُغويت» (إر 20/7).

بدوره الإنسان مدعوّ إلى المغامرة أيضاً، فيتجنّد، رغم ضعفه، وتقلّبات إرادته، للعمل بمشيئة إلهه، والسلوك في دروب المحبّة، على نور الإيمان، واثقاً برحمة الله العظيمة، ومدّد النِعمة الفائقة. وما حياتنا الروحيّة، سوى قصّة هذه المغامرة. «فلنلقِ عنّا كلّ عبء، وما يساورنا من خطيئة، ولنخص بثبات ذلك الصراع المعروض علينا، مُحدِّقين إلى مُبدئ إيماننا ومتمِّمه، يسوع الذي، بدل ما عُرِض عليه من الهناء، تحمّل الصليب، مُستخفًّا بالعار» (عبر 12/1-2). وهكذا، على نور كلمة الربّ ونار محبّته، تنمو حياتنا الروحيّة، وتبلغ كمالها، بعيشنا مغامرة الحبّ، في كلّ مقتضياتها، وأخصّها الثلاث التالية: مجّانيّة العطاء، نار الغيرة، ثبات الأمانة.

1. مجّانيّة العطاء.

في جوهرها، المحبّة عطاء، سخيّ، مجّاني، تضحية، وبذل ذات، كامل، مطلق، دون حساب، لا قيد ولا شرط، ولا تفرقة، ولا منيّة، ولا طمع بأجر، أو مديح، أو أيّ مأرب شخصيّ. على مثال الربّ، الذي «أحبّ خاصّته الذين في العالم، فبلغ به الحبّ لهم إلى أقصى حدوده» (يو 13/1). فأخذ صورة العبد، وانحنى يغسل أقدام تلاميذه، ورَضِي بالجلد القاسي وإكليل الشوك، والموت مسمّراً على خشبة العار. «أحبّني وجاد بنفسه من أجلي» (غلا 2/20).

المحبّ يُعطي. ولن يكون حبّه صادقاً إلاّ بقدر ما يعطي، طوعاً واختياراً، بملء الرضى والإرادة الحرّة، تلقائيًّا، بلا عائد ولا حدود، دونما ضرورة قسريّة، أو إلزام شريعة واجبة، تلبيةً فقط لنداء داخلي من الأعماق. فالعطاء السخيّ المجّاني عطاء ينبوعي، لا تصدّه معاكسات، ولا توقفه حواجز، وفي ديناميّته الفيّاضة لا توصده اعتبارات أنانيّة. فلا يسعى إلى منفعته، ولا ينظر إلى ما هو له بل إلى ما يُسعد حبيبه.

بفعل من هذا الحبّ الفيّاض أحبّ الله العالم، حتى إنّه جاد بابنه الوحيد، لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به (يو 3/16). فالمحبّ لا يضنّ بشيء في سبيل الحبيب. فهو لا يملك شيئاً ليس لحبيبه، «كلّ ما هو لي هو لك، وكلّ ما هو لك هو لي» (يو 17/10). في كلّ حبّ صحيح، يصدق هذا الكلام في صلاة يسوع لأبيه، ليلة آلامه. وبهذا التعرّي عن عقليّة المالك، يعبّر المؤمن عن حبّه لله وللقريب. فينمو في حياة الروح والاقتداء بالله، لدرجة الاتّحاد والتماهي. فالله، ولأنّه محبّة، وليس إلاّ محبّة[50]، لا أثر فيه لأيّ نزعة تملّك. نحن نغتني بالتملّك. أمّا الله فهو غنيّ بالمحبّة والعطاء، وهو حسب قول الرسول: «الغنيّ بالرحمة» (أف 2/4). على مثال الينبوع، إن انقطع عن التدفّق، جفّ وزال. هكذا، لن ندخل في الله، ما لم نتجرّد من كلّ تملّك، ونعطي بسخاء كلّ ما نحن ولنا، ونرضى بأن نمثل أمام الله «اليدان فارغتان»، حسب تعبير القديسة تريز الطفل يسوع[51].

ليس لدى الله شيء، سوى ذاته، وقد وهبناها. وإلاّ لما جاز لنا القول إنّ الله محبّة. وليس الفقر الماديّ الذي رافق يسوع في مزود بيت لحم، وحانوت الناصرة، وتنقّلاته الرسوليّة، والصليب، والقبر المستعار، سوى علامة فقر أعمق بكثير، فقر الله اللامتناهي في حلقة الثالوث، الفقر المطلق، فقر المحبّة. ثروتنا في من نحبّ. «حيث يكون كنزك، يكون قلبك» (متى 6/21). والعكس صحيح. «إقتدوا إذاً بالله، شأن أبناء أحبّاء، وسيروا في المحبّة، سيرة المسيح الذي أحبّنا وجاد بنفسه لأجلنا، قرباناً وذبيحةً لله طيّبة الرائحة» (أف 5/1-2).

وإلى جانب هذا الفقر الكياني، تفترض المحبّة، في عطائها المجّاني، التواضع والتخلّي عن الأنانيّة البغيضة المتعجرفة، التي تنظر إلى الآخر بفوقيّة. «النظرة المُنيفة، مُستحيل أن تكون نظرة محبّة» (الأب فرنسوا فاريّون). وبغسله أقدام الرسل كشف يسوع عن وجه الله المحبّة. نعم «الله أكبر»، كما يردّد القرآن الكريم، وقبله الآباء والأنبياء في مدحهم عظمة الله، وسموّ مجد تعاليه وكمالاته. لكنّه الأكبر والأعظم بالمحبّة. وما مجده سوى قدرته على الامحاء الاختياري، والاحتجاب، لنكبر نحن ونحيا، و«نصبح أشباهه» (1يو 3/2). «ومجد الله أن يحيا الإنسان من حياة الله»، قال قديماً أيربناوس الشهيد الشهير. فمن رام النجاح في مغامرة الحبّ، والتنامي في حياة الروح، عليه أولاً، «أن يكفر بنفسه» (متى 16/24)، «ويعتبر غيره أفضل منه، ولا ينظر إلى ما له، بل إلى ما لغيره» (فل 2/3-4). «ليس لأحد حبّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه» (يو 15/13).

2. نار الغيرة.

لن يغامر، غير مبالٍ بعناء وهناء، إلاّ مَن «أكلته الغيرة، وأفنته نارها» (راجع مز 119/139، 69/10؛ يو 2/17). فالغيرة وجه من وجوه المحبّة، في أوج اضطرام لهيبها. إنّها المحرّك، قوّة ضاربة، ديناميّة حماس واندفاع، ومبادرة، قدرة خلق وإبداع، وابتكار حلول موآتية. بدونها، لا نموّ في الحياة الروحيّة، ولا قدرة على تسلّق قمّة كمالها.

لكنّ الغيرة، مثل المحبّة، كلمة مفخّخة، تحمل معاني عديدة ومفاهيم متناقضة. منها الصالحة، ترغب في الخير وتسعى إليه، تهتمّ بمجد الله ومصالح ملكوته، وخدمة القريب، وسعادته، وخلاصه. ومنها الشريرة، الفاسدة، حسد وبغض، ونقمة، وإرادة أذى لدرجة إزالة المنافس، وإبادة الخصم. ومنها الغيرة المريرة، الهوجاء، خارجة عن إطار الصواب في الأسباب، أو الوسائل، أو الأهداف، على مثال غيرة الفرّيسيّين، أو اللجوجين، أو الأصوليّين المتعصّبين العنيفين.

كلامنا الآن على الغيرة الصالحة، التي يحصيها الكتاب المقدّس في عداد الكمالات الإلهيّة، ويعرّف مراراً عن الله بالغيور: «الربّ إلهك هو نار آكلة، وإله غيور» (تث 4/24؛ راجع مثلاً تث 5/9، 6/15، 32/16، 21؛ حز 20/5، 34/14؛ عد 25/11؛ زك 1/14؛ 2 قور 11/2). والمسيح أيضاً مقام تحت شعار الغيرة، وهو القائل: «جئت لألقي على الأرض ناراً، وما أشدّ رغبتي أن تكون قد اشتعلت» (لو 12/49). ولمّا طرد الباعة من الهيكل، تذكّر تلاميذه أنّه مكتوب: «الغيرة على بيتك ستأكلني» (يو 2/17). وفي ذلك تلميح إلى موته وقيامته، والحدث جرى في مجالات فصح اليهود.

ويمتدح الكتاب جمًّا من الآباء والأنبياء الغيارى على اسم الله، ومجده وهيكله، وتابوت عهده ووصاياه. نذكر، على سبيل المثل فنحاس (عدد 25/11)، إيليّا النبي (1 مل 19/14؛ سي 48/2)، متتيّا المكابي (1 مك 2/54، 58)، وسواهم كُثُر من الأتقياء «المُمتلئين غيرة على الخير» (سي 51/18)، ولهم يشهد الرسول بولس «أنّ فيهم حميّة لله» (روم 10/2)، وإن كانت بعض الأحيان حميّة على غير معرفة، مثل غيرة شاول – بولس قبل ارتداده (فل 3/6؛ غلا 1/14؛ رسل 21/20، 22/3).

فالغيرة الصالحة لا تولد من الرغبة الجامحة لفرض ذواتنا وأفكارنا الشخصيّة، ولا من العجب والانبساط الذاتي بمواهبنا وأعمالنا، ولا من النزوات العنيفة المتهوّرة، بل من المحبّة لله، نقيّة، متواضعة، ملؤها الوداعة والطيبة[52]. وحده الاتّحاد الحميم مع الربّ بالمحبّة يلهب في قلب المؤمن نار الغيرة. فغيرتنا من غيرة الربّ وعلى مثالها. همّها تقديس اسم الآب وتتميم مشيئته وتوطيد ملكوته (الصلاة الربّية، متى 6/9-10). ولا تطلب مجدها، ولا مجد الناس، ولا المجد من الناس، بل فقط مجد الآب (راجع يو 5/44، 7/18، 8/50، 12/28).

وحده، من اتقد قلبه بنار هذه الغيرة يفهم، ويتمنّى أن يعيش ما صرّح به الرسول عمّا يعصر قلبه من غمّ شديد وألم ملازم، ورغبته في أن يكون هو نفسه محروماً من المسيح في سبيل إخوته (روم 9/2-3)؛ ويحيا، على مثال الرسول أيضاً، همّه الوحيد أن يُبشَّر بالمسيح، في كلّ حال سواءً كان برياء أم بصدق (فل 1/15-18)؛ ويبكي بسبب الذين يسيرون سيرة أعداء صليب المسيح (فل 3/18)؛ جلّ ما يطلب أن يعمل الجميع على إتمام الغاية التي لأجلها «جاد يسوع بنفسه من أجلنا ليفتدينا من كلّ إثم، ويُطهّر شعباً خاصًّا به غيوراً على الأعمال الصالحة» (طي 2/14).

عمليًّا، حياة الغيرة هي ثمرة تفاعل ديناميكي، دائم، ما بين الحياة الروحيّة الباطنيّة، والحياة العمليّة الخارجيّة. كلّ تقدم روحي سليم ينمّي الغيرة ويلهبها. وكلّ عمل رحمة ومحبّة، في خدمة القريب، يُجسّد هذه الغيرة ويُفعّلها، فتنمو وتزدهر بقدر ما يعمر به قلب المؤمن من نيّة مستقيمة تقصد مجد الله وإفادة القريب: «تكمل سيرتنا. بإثنين معاً، على غير تناقض: بوعيها الباطني المُفعم بالنِعمة، وبسعيها الخارجي المتفاني في الخدمة»[53].

وبالتالي، السؤال الوحيد المحوري، ما هو مقام الله، ودوره في حياتنا؟ في الفكر، والقلب، والنيّة، والعيش؟ هل حقًّا له الأولويّة؟ وهو المرجع والأساس، الألف والياء، الآمر والناهي؟

من جوابنا نفهم درجة سعير غيرتنا. وعلى وقع مساعينا، واهتماماتنا، تنتظم عقارب ساعة مبادراتنا، وإيقاعات نغم أمانتنا.

3. ثبات الأمانة.

ليس الحبّ ليوم، بل لكلّ يوم، وللأبد، لأنّه عطاء دون رجعة، وعهد وفاء لا يقبل خيانة. والله لأنّه محبّة، وليس إلاّ محبة، هو الأمين، «وأمانته إلى جيل فجيل» (مز 119/90). «ويظلّ أميناً، وإن كنّا نحن غير أمناء، لأنّه لا يمكن أن يُنكر نفسه» (2 طيم 2/13). في محبّته الأمينة غامر، فخلق، وافتدى، ودعى، وبرَّر، ومجَّد (روم 8/30). فهو، وفي آنٍ معاً، الصخرة الصامدة (تث 32/4)، والينبوع الفيّاض الدافق (مز 36/10)، «الصخرة الروحيّة التي كانت تتبع بني إسرائيل قديماً»، وتتبع البشريّة في كلّ أين وآن (1 قور 10/3-4؛ عد 20/8)، والقادر على التأقلم مع الظروف وإن مضادّة، وانتهاز المستجدّات وإن غدّارة. يعد ويفي، يذكر عهده ورحمته (لو 1/50-55 و72)؛ ولقد حقّق جميع مواعده في المسيح الذي هو «النَعم والأمين» (2قور 1/19-20).

مع هذه المحبّة الأمينة، الإنسان مدعوّ أن يتجاوب. محبّة بمحبّة، وأمانة بأمانة. لكنّه ضعيف، سريع العطب، متقلّب: إناء مَن خزف (2قور 4/7)، وقصبة مرضوضة (أش 36/6؛ 2مل 18/1). يقول ولا يفعل، يعد ولا يفي. بهذا المعنى يقول المرتّل: «كلّ إنسان كاذب» (مز 116/11). ليثبت في الأمانة، عليه أن يجاهد جهاداً شاقًّا. يغامر في حرب ضروس مع نفسه في نفسه، ومع القوى المعادية في عالمه. مصاعب كثيرة، هائلة تعترض طريقه. عديدون الأشرار الذين ينصبون له الأشراك. مراراً تنعدم الرؤية، ويصعب تمييز دروب الحياة. نبحث عن طريق، ولا طريق!

مهما يكن، يبقى المؤمن دائماً على يقين من أنّ الله حاضر، حيّ، مُحبّ، نار ونور، وأمانة. «وإن كان الله معنا، فمن علينا؟» (روم 8/31). مع المرتّل، نستطيع القول صادقين: «الربّ نوري وخلاصي، فممّن أخاف؟ الربّ حصن حياتي فممّن أفزع؟» (مز 27/1).ومع الرسول نؤكّد: «أستطيع كلّ شيء بذاك الذي يقوّيني» (فل 4/13). أمانتنا من أمانته. ومشروع ثباتنا في الأمانة أصبح مشروعاً مُشتركاً، مشروع الله قبل أن يكون مشروعنا. وعندئذٍ، تتبدّل المُعطيات، ويتحوّل ميدان المغامرة إلى مسيرة نور، تقودنا بأمان إلى ديار النور، في أرض الأحياء (مز 27/13).

النور، ليس منّا، بل من الله، أو بالأحرى هو الله بالذات (1يو 1/5). حضوره نور، حبّه نور، كلمته نور: «كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي» (مز 119/105). ونحن نور، ونسير في النور، لأنّنا أبناء النور، وآمنّا بيسوع، النور الحقّ الآتي إلى العالم، نور العالم، ومن يتبعه لا يمشي في الظلام بل يكون له نور الحياة» (يو 8/12، 1/9، 12/36، 46). أينما ذهبنا، وحيثما حللنا، ومهما حلّ بنا، يسوع «الشمس الشارقة من العُلى» (لو 1/78)، يرافق دربنا، يُضيء مسيرتنا، خطوة خطوة، مثل نور مصابيح السيارة أمام السائق. «إنّي ولو سلكت في وادي الظلمات، لا أخاف سوءاً لأنّك معي» (مز 23/4).

ولكن الشمس لا تُنير إلاّ من يقبل أن يفتح عينيه على أنوارها. لنفتح عيوننا، يعوزنا نعمة من الله ننالها بالصلاة: «يا ربّ، افتح عينيّ فأبصر» (مز 119/18). هذا ما نصحت به تريز الصغيرة شقيقتها ليوني: «لنصلِّ كلٌّ من أجل الأخرى، لكي نكون متساويتين في الأمانة»[54].

إلى جانب الصلاة ينبغي العمل بمشيئة الله، المتجسّدة بواجب الساعة الحاضرة. «أما وقد علمتم هذا، فطوبى لكم إذا عملتم به» (يو 13/17). لكي ينال الطوبى ويدخل ملكوت السماء (متى 7/21)، على من يعمل أن يعمل ما يريده الله، وكما يريده الله، وللغاية التي يريدها الله، بإيمان وحبّ، بنيّة مستقيمة: «ومهما يكن لكم من قول أو فعل، فليكن باسم الربّ يسوع تشكرون به الله الآب» (قول 3/17). هذه النيّة الصالحة، نيّة تمجيد الله ومرضاته، هي التي تجعل «عينك سليمة، وجسدك كلّه نيّراً» (لو 11/34). وهكذا تكون نوراً في الربّ، وتسير سيرة أبناء النور. وتعمل أعمال النور، وتُثمر ثمر النور، في كلّ صلاح وبرّ وحقّ (راجع أف 5/8-14). والمسيح النور، يُنير دربك، ويهدي خطاك. إنّه الطريق والحقّ والحياة (يو 14/6).

برفقته، الرحلة ممتعة، والمغامرة ناجحة، والنهاية سعيدة. من يجرؤ ويتبعه في دروبه الصاعدة، ويرمي بنفسه في أتون «لهيب حبّه» (ن 8/6) لن يكون من الخاسرين: «ينال الآن في هذه الدنيا مائة ضعف […]، وفي الآخرة الحياة الأبدية» (مز 10/30). ويحقّ له القول مع تريز الطفل يسوع، في نزاعها الأخير: «لست بنادمة على أنّي استسلمت للحبّ»[55].

خاتمة: من فردوس إلى فردوس

بعد الفردوس المفقود بزلّة الإنسان الأوّل (تك 3/13)، وبانتظار الفردوس الموعود به الخادم الصالح الأمين (متى 25/21)، شاء الله برحمته الواسعة (أف 2/4)، أن يُعدَّ للذين يتّقونه (لو 1/50)، فردوساً يَنعمون به كلّ حين، هو كتابه المقدّس. «حين تأخذ الكتب المقدّسة بين يديك بإيمان، وتقرأها مع الكنيسة، تعود من جديد تتمشّى مع الله في الفردوس»[56].

إنّ كُتبنا المقدّسة هي حقًّا بمثابة جنّة عدن جديدة، فيها يرتضي الله بأن يُحادث الإنسان عند نسيم النهار (تك 3/8)، وفيها يجد المؤمن منذ الآن عطايا الأزمنة الأخيريّة، وأورشليم السماويّة (راجع رؤ 21/1-22/21) وفيها خير دليل وأضمن سبيل لبلوغ «معرفة محبّة المسيح التي تفوق كلّ معرفة، والامتلاء بكلّ ما في الله من كمال» (أف 3/19).

وكما جُعِل الإنسان الأوّل في جنّة عدن ليفلحها ويحرسها (تك 2/15)، أُوكلت إلى المؤمن مهمّة حراسة الكتب الإلهيّة وحرثها. فهو البستاني، «العامل مع الله» (1قور 3/9)؛ وتزهر جنّته وتثمر، على قدر ما يألفها، ويعمل بعضد الروح، ولهفة عروسة النشيد: «هبّي يا شمال، هلمّي يا جنوب، إنسمي على جنّتي فتنسكب أطيابها، ويأتي حبيبي إلى جنّته ويأكل ثمره اللذيذ» (ن 4/16).

وخير مقصد عملي يستنتجه القارئ من هذا المقال، ما أوصى به الرسول بولس تلميذه طيموتاوس: «فأثبت أنت على ما تعلّمته وكنت منه على يقين. فأنت تعرف عمّن أخذته، وتعلم الكتب المقدّسة منذ نعومة أظفارك، فهي قادرة على أن تجعلك حكيماً فتبلغ الخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع. فكلّ ما كُتِب هو من وحي الله، يُفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البرّ، «ليكون رجل الله كاملاً مُعَدَّا لكلّ عمل صالح» (2طيم 3/14-17).

المراجع

  • مُعجم اللاهوت الكتابي – دار المشرق، بيروت 1986،.
  • كلام الله، في حياة الكنيسة ورسالتها، الخطوط العريضة لسينودس الأساقفة، الجمعيّة العامّة الثانية عشرة العاديّة، حاضرة الفاتيكان 2007.
  • وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، ترجمة يوسف بشاره، عبده خليفه، فرنسيس البيسري، طبعة ثانية، 1984، وبخاصّةٍ الدستور العقائدي في الوحي الإلهي، كلمة الله.
  • التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، الترجمة العربيّة، المكتبة البولسيّة، جونيه، 1999.
  • القديسة تريز الطفل يسوع، معلّمة الكنيسة، الأعمال الكاملة، تراث الكرمل 20، بيروت 1997.
  • الأب فرنسوا فاريّون اليسوعي، فرح الإيمان بهجة الحياة، دار المشرق، بيروت، طبعة سادسة، 1998.
  • الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني:
  • نحو ألفيّة جديدة، تاريخ 6/1/2001.
  • الإرشاد الرسولي، أعطيكم رعاة، تاريخ 25/3/1992.
  • الإرشاد الرسولي، في الحياة المكرّسة، تاريخ 25/3/1996.
  • الإرشاد الرسولي، رعاة القطيع، تاريخ 16/10/2003.
  • البابا بندكتوس السادس عشر:
  • الإرشاد الرسولي، «كلمة الربّ»، تاريخ 30/9/2010.
  • الإرشاد الرسولي، سرّ المحبّة، تاريخ 22/2/2007، بخاصّةٍ الأعداد 44-46.

المراجع

في اللغة الفرنسيّة

  • Dictionnaire de Spiritualité ascétique et mystique, les articles:
  • Ecriture Sainte et Vie Spirituelle, Beauchesne, Paris, 1960, tome IV, col. 128-278.
  • Lectio Divina et Lecture Spirituelle, Beauchesne, Paris, 1976, col. 470-510.
  • Vie Spirituelle, Beauchesne, Paris, 1994, col. 584-591.
  • Dictionnaire de la Bible, Supplément.

Art. Ecriture Sainte, Librairie Letouzéy et Ané, Paris, 1934, tome deuxième, col. 457-487, spécialement Ecriture Sainte et l’ascèse, col. 475-479.

  • Gaston Brillet, La Bible et la piété, chapitre 31, dans Initiation Biblique, sous la direction de A. Robert et A. Tricot, Desclée et Cie, Paris 1939, pp. 777-786.
  • François Cassingéna – Trévedy, Quand la Parole prend feu, Abbaye de Bellefontaine, 1999.
  • Enzo Bianchi, Prier la Parole, Abbaye de Bellefontaine, 1983.
  • Jacques Loew, La Prière à l’Ecole des Grands Priants, Fayard, Paris, 1975.
  • Guigues II, le chartreux, Echelle des moines, Lettre au Frère Gervais sur la vie contemplative, Sources Chrétiennes, n° 163, Ed. du Cerf, Paris, 1966

[1] . رئيس عام سابق لجمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة. له عدد من الؤلفات والمقالات اللاهوتية والدينية.

[2]. المجمع الفاتيكاني الثاني، دستور عقائدي في الوحي الإلهي، كلمة الله، عدد 6. نُشير إليه فيما بعد بالحرفين و ل.

[3]. و ل عدد 21.

[4]. راجع و ل، عدد 13.

[5]. راجع كتاب الاعترافات، 8/12-29.

[6] . تقليد عريق يربط ما بين مائدة الكلمة ومائدة الإفخارستيّا. راجع مثلاً:

  • اغناطيوس الإنطاكي، رسالة إلى أهل فيلادلفية، عدد 5: «أحصل على الميراث الذي نلت رحمةً منه، إذا اعتصمت بالإنجيل كما بجسد المسيح».
  • أوريجانس، تفسير سفر الخروج، عدد 13: «إذا كنتم تحذرون غاية الحذر وبحقّ، لدى قبولكم جسد الربّ، لئلا يقع منه أيّ فُتات، لماذا تريدون أن إهمال كلمة الله يستحقّ أقلّ عقاب من إهمال جسده؟».
  • أوريجانس أيضاً يرى في الكتاب المقدّس غذاءً مماثلاً الإفخارستيّا، في تفسير سفر التكوين 10/13.
  • إيرونيموس: «نأكل جسد المسيح ونشرب دمه في سرّ الإفخارستيّا، وأيضاً في قراءة الكتب المقدّسة» (في تفسير سفر الجامعة 3/13). «رأيي أنّ الإنجيل هو جسد الربّ» (في تفسير المزمور 147، ويتابع قائلاً: «عندما نصغي لكلمة الله، هي كلمة الله وجسد المسيح ودمه ما يقع في آذاننا. ونحن نفكّر بشيء آخر. هل بوسعنا تصوّر الخطر الكبير الذي نتعرّض له؟». في تفسير إنجيل متى، 4/4: «الكتاب المقدّس هو جسد ودم المسيح، غذاء سماوي، خبز سماوي. ولا حياة لمن لا يتغذّى من كلام الله».
  • يوحنا فمّ الذهب، في سفر التكوين 6/2: لنقدّم مائدتين: مائدة الطعام ومائدة الإصغاء.
  • سيزار دارل، عظة 78/2: «إنّ كلمة الله ليست أقلّ عظمة من جسد الربّ […] من يسمع كلمة الله، غير عابئٍ بها، ليس أقلّ إثماً ممّن يدع جسد الربّ يسقط على الأرض غير عابئٍ به!».
  • كتاب الاقتداء بالمسيح، السفر الرابع، الفصل الحادي عشر، بخاصّة العدد 4 حيث الكلام على «المائدتين الموضوعتين في جانبيّ كنز الكنيسة.

[7]. و ل عدد 21.

[8]. الدياتسَّرون، 1/18.

[9]. و ل عدد 13.

[10]. التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، الأعداد 115-118. سنُشير إليه فيما بعد بالأحرف ت م ك ك.

[11]. و ل، عدد 11.

[12]. و ل، عدد 8.

[13]. راجع إيرونيموس، الرسالة إلى بولا، 30/13.

[14]. و ل، عدد 12، مستشهداً بالقديس ايرونيموس، في الرسالة إلى غلاطية، 5/9-21.

[15]. الإرشاد الرسولي «كلمة الربّ»، تاريخ 30/9/2010، عدد 56.

[16]. و ل، عدد 23.

[17]. القديس أغوسطينوس، الأسس، 5/6.

[18]. و ل، عدد 11؛ ت م ك ك عدد 120 و107.

[19]. و ل، عدد 26.

[20]. راجع ت م ك ك، الأعداد 109-114.

[21]. و ل، عدد 25.

[22]. إيرونيموس، تفسير أشعيا، المقدّمة.

[23]. و ل، عدد 25.

[24]. قرار مجمعي في تجديد الحياة الرهبانيّة، المحبّة الكاملة، عدد 6.

[25]. كلام الله في حياة الكنيسة ورسالتها، الخطوط العريضة، عدد 16.

[26]. ت م ك ك عدد 2564.

[27]. راجع البابا بندكتوس السادس عشر، إرشاد رسولي، كلمة الربّ، عدد 21، وحديث الأربعاء 7 آذار 2012، جريدة الاوبسرفانوري رومانو الأسبوعيّة، تاريخ 8 آذار، عدد 10، ص. 2.

[28]. كتاب الاقتداء بالمسيح 1/20-6.

[29]. إرشاد رسولي، كلمة الربّ، عدد 66، وعدد 121.

[30]. ت م ك ك، عدد 2717.

[31]. يوحنا فم الذهب، في حنّة، عظة 4/6، ت م ك ك عدد 2743.

[32]. ت م ك ك، عدد 2745.

[33].  في الصلاة، 12/2.

[34]. مدينة الله، 10/6.

[35]. راجع بول بوشان، مقال «الصلاة»، معجم اللاهوت الكتابي، دار المشرق، بيروت 1986، ص. 477.

[36]. ت م ك ك عدد 2626.

[37]. راجع معجم اللاهوت الكتابي، ص 456-458؛ ت م ك ك عدد 2637-2643.

[38]. الليتورجية المارونيّة، باعوت مساء الثلاثاء من زمن الصوم، في كتاب صلاة المؤمن، الجزء الثاني، ص. 40.

[39]. إيفجريوس، في الصلاة، 34. راجع ت م ك ك، الأعداد 2735-2737.

[40]. * الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، الإرشاد الرسولي، «أعطيكم رعاة»، عدد 47، والإرشاد الرسولي، «الحياة المكرّسة»، عدد 94.

** البابا بندكتوس السادس عشر، الإرشاد الرسولي، «كلمة الربّ»، الأعداد 82، 83، 86 و87؛ لقاء مع شبيبة روما في 6/4/2006، عدد 15؛ رسالة اليوم العالمي للشبيبة، 22/2/2006، عدد 9؛ رسالة إلى المؤتمر العالمي، الكتاب المقدَّس في حياة الكنيسة، 16/9/2005، عدد 38، ومناسبات أخرى عديدة.

*** سينودس الأساقفة، الخطوط العريضة، «كلام الله في حياة الكنيسة ورسالتها»، حاضرة الفاتيكان 2007، عدد 25.

[41]. و ل، 25، مستشهداً بالقديس أمبروسيوس، في واجبات الخدّام، 1/20-88.

[42]. الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، نحو ألفيّة جديدة، 6/1/2001، عدد 39.

[43]. راجع Guigues II, prieur de la Chartreuse, Echelle des Claustraliers, P.L. 184, pp. 475-484

[44]. أغوسطينوس، أحاديث في المزامير، المزمور 85/7.

[45]. راجع البابا غريغوريوس الكبير، رسالة إلى تيودوسيوس طبيب الأمبراطور، 5/46.

[46]. ت م ك ك عدد 2559.

[47]. عنوان كتاب للأب رينه فوايّوم Voillaume، منشورات المطبعة الكاثوليكيّة، بيروت، 1980.

[48]. راجع البابا بندكتوس السادس عشر، كلمة الربّ، عدد 87.

[49] . جييج الثاني، الراهب الشرتري، ذات المرجع، فصل 14.

[50]. راجع الأب فرنسوا فاريّون اليسوعي، فرح الإيمان بهجة الحياة، دار المشرق، بيروت، 1998، ص 25-29، وص 73-75.

[51]. تريز الطفل يسوع، الأعمال الكاملة، تراث الكرمل، بيروت 1997، ص. 960.

[52]. راجع الطوباوي كولومبا ماريّون، المسيح مثال الراهب، الفصل 17، ص 535.

[53]. قوانين جمعيّة المرسلين اللبنانيّين الموارنة، 2004، ق 90.

[54]. راجع رسالة تاريخ 22/5/1894، الأعمال الكاملة، ص 819.

[55]. المرجع أعلاه، ص. 1108.

[56]. أمبروسيوس، الرسالة 49/3، في مجموعة الآباء اللاتين 16/1204؛ وراجع أيضاً F. Cassingena – Travédy, Quand la Parole prend feu, pp 59-61

Scroll to Top