Almanara Magazine

الكتاب المقدّس والسياسة

الخوري باسم الراعي[1]

ليس المقصود من عنوان المحاولة التسليم بالرابط بين الكتاب المقدّس والسياسة، أن يعني ذلك أن لا رابط يجمع بينهما. لكن القضية هي في تحديد طبيعة هذا الرابط. وبما أن المسألة تتعلق بكتاب موحى، تتصل القضية في الأساس بالقراءة الكتابية أو الإستخدام التأويلي للكتاب. والإشارة إلى قضية قراءة النص تجعل من مسألة العلاقة مسألة تأويلية.

هذا الأمر لا خلاف فيه ولا خلاف عليه، فالماضي شاهد على اختلاف القراءات المتناقضة أو المستثمِرة للنص الكتابي في تعرجات السياسة، حتى أن استغلال النص تأويليًا ذهب إلى حدّ تبرير أفعال سياسية مثل تحليل العبودية على أساس تفسير لاهوتي انتروبولوجي للتمييز بين البشر في ضوء البرنامج الإلهي في الخلق. ومن المعلوم أن هذه القراءة الإستغلالية للنص لا تزال فاعلة في العالم السياسي اليوم أيضًا، مثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية لدى بعض التيارات الدينية الألفية.

وهناك أيضًا نموذج آخر من نماذج التأويل وهو النموذج القائل بأن النص هو مستند أساسي في تفسير النظام الطبيعي وهو خلفية معرفية أساسية للفعل السياسي. وهذه القراءة للنص هي الأعم مثلاً في إطار السلطة الكنسية الكاثوليكية، وتحفل بها نصوص المجمع الفاتيكاني الثاني التي تتناول الموضوع السياسي، محاولةَ إقامة علاقة بين الكتاب المقدّس والسياسة على أساس الشريعة الطبيعية.

بالطبع ليس مرادي السير في هذين الخطّين اللذين حكما المشهد التفسيري في حقبات طويلة من الزمن ولا يزالان في قسم منهما، إنما أسير في اتجاه آخر يتصل بحركة النص الكتابي في العالم السياسي الذي هو المجال الذي يحدث فيه الوحي الإلهي، لأن الوحي يشترط الزمان والمكان، لا بل هو في الأساس من أجل زمان ومكان هما زمان الإنسان ومكانه. تركيزي إذًا هو على حركة الوحي وما ينتج منها في التاريخ. فالوحي حدث تاريخي. وفي كل الأحوال، إذا كنت قد أطلقت موقفًا من الرؤية السياسية للكنيسة الكاثوليكية بتمسكها بموقف جوهري من المسألة السياسية، خصوصًا في المجمع الفاتيكاني الثاني، فإنني لا أنفي أن المَجمَع الفاتيكاني الثاني ذاته ذهب بقسم منه في تفسير للوحي باعتباره حدثًا تاريخيًا.

والأعم في هذا الخصوص أن الحدث التاريخي من ناحية العلاقة بين الكتاب والسياسية ارتسم من ضمن حركة نبوية مسيحانية، كان هدفها دائمًا مواجهة الواقع السياسي من أجل حرية الإنسان، بارتباط بالمشيئة الإلهية التي تريد خلاص الإنسان من كل ما يبعده عن بلوغ الملء. والحركة النبوية تختصر العلاقة بين الكتاب والسياسة، باعتبار أن الكتاب لا يبغي تفسير الواقع السياسي أو يؤسسه بل يطلق الحكم عليه، ولا العالم السياسي الذي يعيش من ضمنه النبي يريد أن يجعل من الكتاب مستندًا له. من هنا نجد أن العلاقة بين هذين العالمين كانت دائمًا علاقة “توتر”، بما تعنية الكلمة في بعدها الإسكاتولوجي، أي أن الكتاب ينشد الرجاء الأخير للإنسان وهو ينظر إلى الإنسان والمدينة الإنسانية إنطلاقًا من الوعد الإلهي بالاكتمال في الملكوت الآتي، في حين أن السياسة تغلق الأفق في حدود الملكوت الأرضي.

غير أن علاقة التوتر هذه لا نفهمها إلا في قلب الرواية الكتابية التي تحمل ذاكرة التوتر التاريخي. وهذه الذاكرة هي الدعامة الأساسية في تكوين الوجدان التاريخي الذي يعطي الإنسان أو النبي القدرة على إطلاق الحكم على انجرارت الواقع السياسي وراء لعبة السلطة والحكم بابتعاد عن الأفق الأخير للحياة الإنسانية. هذا الأمر لا يحصر الذاكرة في إطار بسيكولوجي ضيق بل في أفق تاريخي هو أفق الصراع. وهذا النوع من الذاكرة بترسيخه الوجدان التاريخي يقوم بدور أساسي لأنه يحافظ على الهوية وينجيها في الصراعات والأخطار التاريخية، وتساعد الإنسان في التعبير عن ذاته وفي أن يكون ذاته كذات. لذلك يمكن القول بأن الذاكرة التي تختزنها الرواية الكتابية تؤسس لنقض كل منحى خضوعي أو إنهزامي. على هذا الأساس يجب تفسير الذاكرة بأنها مقولة خلاص للهوية المهدّدة. فالهوية والذاكرة هما في علاقة جدلية في الرواية الكتابية. وبما أن الذاكرة مقولة تشير إلى وجود هوية في التاريخ، هي في الحقيقة مقولة تحرير. لذلك إن تهديم الذاكرة يعيق الهوية وصيرورة الذات أو البقاء ذاتًا في الأطر التاريخية والاجتماعية. هذا التوصيف للذاكرة التاريخية جعل اللاهوت السياسي يطلق على هذه الذاكرة تسمية الذاكرة الخطرة. أما صلب الفعل التاريخي في هذه الذاكرة، فهو إسم الله. إذ من المستحيل أن يتحرك التاريخ والإنسان إذا لم يكن صاحب الوحي على علاقة بالتاريخ وإذا لم يكن الوحي حدثًا هو الفاعل الأساسي فيه. عكس ذلك يعني أن الله يبقى نوعًا من يوتوبيا شاملة. في الرواية الكتابية التي تنقل ذاكرة الحدث التاريخي كفعل، الله يمنع اليوتوبيا من أن تكون عملية إسقاط صرف لرغبة الإنسان في الحرية. فاسم الله يوقظ وعي الإنسان لذاته أنه ذات فاعلة ومواجهة لكل هيكلية ظلم. لكن حضور الله لا ينفصل في الرواية الكتابية عن الفعل البشري الذي يحدث بتأثير من حضور الله وأمانته للتاريخ البشري. إن وعي الإنسان لذاته تتوسطه الذاكرة التاريخية للبشر المتألمين الذين تألموا بسبب ووقوفهم كذات في وجه مضطهديهم.

إن الترابط بين الوحي كحدث تاريخي ودور الرواية الكتابية في تأسيس الذات البشرية كذات فاعلة في التاريخ الذي هو تاريخ سياسي حافل بالصراع بين الذات الحرة وقوى الإكراه أو الإستغلال أو التغريب، يعني أن الكتاب المقدس هو كتاب سياسي ويدفع إلى الالتزام السياسي بمجرد أنه يعلن أن الإنسان هو ذات أمام الله وليس من استحقاق على الإنسان إلاّ الصراع ضد كل ما يمنع الإنسان من أن يصير ذاتًا.[2]              

حركة الذاكرة هذه هي في صلب الحركة النبوية المسيحانية في الكتاب المقدّس، إذ أن النبي يقف كذات (تستمد قوتها كذات من دعوة الله للنبي) في وجه السلطة التي انحرفت إلى الإكراه أو الميل عن شريعة الرب، وفي الوقت عينه يفتح عيني الإنسان على الرجاء المسيحاني بأن لا يتكل الإنسان على غير الإسم الذي يجعل من كل إنسان ذاتًا حرة تواجه مصيرها في التاريخ.

إذًا العلاقة بين الكتاب المقدس والسياسة هي علاقة توتر كما قلنا لأن مجرى تاريخ الشعب المؤمن مع السياسة كان يتراوح بين تمسك الأنبياء بمعنى السياسي الذي هو روح السياسة الذي يرتبط مباشرة بخير الإنسان وحريته وبين السياسة التي تحاول أن تجعل من الإنسان أسير لعبة السلطة.

ومن أجل شرح أوفى لعلاقة الكتاب المقدّس بالسياسة اخترت كتابين من الكتاب المقدّس، هما سفر الخروج ورسالة بولس الرسول إلى أهل روما، وهما روايتان عن هذه الذاكرة الخطرة التي يحتل الله فيهما مقام الذات الأساسية وفي الوقت معًا يحتل الإنسان فيهما أيضًا مكان الذات التي تحرّرت بواسطة الفعل التاريخي. واختيار الكتابين يعود إلى أن مقابلة تاريخية كانت تقام بين موسى وبولس باعتبارهما مؤسسَين لشعب جديد حر. وأمام هذين النصين نكتشف انبلاج الوجدان التاريخي الذي يمسك بتاريخه وبمصيره بانفتاح على أنوار الرجاء الإلهي. في كل ذلك لا أدعي أنّي أقدّم تفسيرًا كتابيًا للنصّين المذكورين، بل قراءة سياسية ساعدتني عليها مجموعة من القراءات.    

  1. سفر الخروج، الثورة على الظلم وولادة شعب جديد[3]

إن كتاب الخروج هو من أهمّ الكُتُب تأثيراً في التفكير السياسيّ المعاصر باعتباره يوحي بطريق الإعتاق من الألم والإكراه. وهو كتاب يقوم على ثلاثية: التخليص، والتحرير والثورة. إلى درجة أنه اعتُبِر برنامجاً عن الثورة. لذلك يجب أن يُقرأ في اتجاهين اثنين لتبين معنى الحركة العميق الذي تختزنه حركة الله تجاه الإنسان وحركة الإنسان في التاريخ كحركة تحرّر وثورة.

  1. 1. حدثية الخروج ونموذجيته

إنّ تفسير الخروج ككتاب ثورة قد احتل مقاماً مُسيطِراً في التقليد التفسيريّ الحديث. والإتجاه الذي يغلب في التفسير هو التفسير الثوريّ الذي يرتكز إلى رؤية مسيحانية على أساس أنّ النص يشكل حدثًا تاريخيًّا يُعتبَر نموذجًا لتحرّر من العبودية. لذلك إن الكتاب هو نوع من خبر عن الإعتاق والتحرير مُعبّر عنهما بمقولات دينية، من دون أن ننفي حقيقة النصّ الأخرى بأنه خبر تاريخيّ زمنه ينتمي إلى هذا العالم.

قبل كلّ شيء إن الكتاب هو خبر واقعيّ، حتى الآيات التي حدثت فيه ليست عملاً خارقًا أو سحريًا، لأن الخبر هو رواية عن مسار تحرير يؤسس لحدثٍ سياسي يمكن اعتباره تفسيرًا لارادة الله. فتاريخ شعب ينخرط في تحرير ذاته إنما يقوم في الوقت عينه بكتابة تاريخه حَدث عبور الصحراء إلى أرض الميعاد. وكان على هذا الشعب أن يُقاسي المتاعب والأزمات الداخلية والصراع، كأنه شعب لا يتحرّك بإشارة الله فحسب، بل وبجهده الذاتيّ لإيجاد الحلول الإنسانية الذاتية.

الخروج زمن حدثي (منGeschiechte) روائي. ولا يُقصَد بذلك قسمٍ من الكتاب بل الكتاب بجملته، هو حدث روائي، بكلّ ما تعنيه كلمة رواية بأقسامها الثلاثة: مقدمة، صراع وحلّ (مصر، الصحراء وأرض الميعاد).

ولفهم هذه الرواية بأقسامها لا بدّ من التوقف عند نصّ الرواية التي ترسم حركة هي مفتاح المعنى التاريخيّ لرواية الخروج. فثورة الفعل الروائيّ تبنى على الخاتمة التي هي بداية باعتبارها تشكل دافعًا ورجاءً ووعدًا هي المحرّك الأساسيّ نحو الفعل التاريخيّ. إن ذلك العامل الحاسم في رواية الخروج أقصى الرواية عن أن تكون مجرد مُغامرة على شاكلة مُغامرة كريستوف كولومبوس التي تبدأ في بلد معيّن وتعود إلى البلد ذاته بعد المرور بمُغامرات واختبار أفكار عدة. وهي ليست بالطبع الإلياذة. رواية الخروج هي حدث تاريخيّ ينتهي في تكوين شعب يحصل على أرض بعد تحرّره من يَد مُستعبديه.

إنّ الحركة “من إلى” ليست إذاً مغامرة عابرة بل فعل تغيير. فإسرائيل في مصر لم يعد نفسه في أرض الميعاد. إنها حركة هادفة لا انتقال زمني مكاني وحسب. إنها تطوّر خلقيّ لأنه تحوّل عميق. فالرجال والنساء الذين تركوا مصر لم يعودوا هم ذاتهم كما كانوا في مصر. إن “السير” في الصحراء كان اختبار تحوّل الجماعة شعبًا.

وفي هذه الرواية يلعب موسى دورًا رئيسيًا مع بقاء الشعب في حد ذاته صلب الرواية، ممّا يُعطي موسى معنىً خاصاً بالحدث، فهو ليس مجرد معنى شخصي، بل سياسي، إنه قائد شعب أو وسيط بين الله والشعب.

إن الرواية هادفة إذًا والسير في الصحراء هو تحقيق لأهداف الحركة. ذلك ما يبعد الرواية عن المنحى الأسطوريّ ويغلق التاريخ في إطار حركة دائرية تحطم أحلام السائرين وراء الأهداف المُتوخاة. على هذا الأساس يمكن القول إنّ الخروج هو رواية تاريخية بمعنى أن “الثورة” التي ينقلها النص تكسر نمطية التاريخ. وهذه الخصوصية في الرواية الكتابية وخصوصاً في رواية الخروج تجعل من هذه الرواية، كما قلنا سابقاً، نموذجاً قابلاً لأن يُستَلهم عبر التاريخ. وهذا أمر لا جدل فيه، فكتاب الخروج تحوّل كتابًا يلهم الكثير من ثوارت التحرّر، كما كان الأمر مثلاً في لاهوت التحرير.

بالعودة إلى الرواية في أقسامها إنّ العقدة الأساس في الخروج هي الإكراه الذي مارسه المصريون أو لنقل كان إكراهًا على الطريقة المصرية تكرر مرات عدة. وإذا راجعنا الواقع الذي كان قائمًا لوجدنا أن زيادة الإكراه على الجماعة أتت في قسم منها بسبب عدم أمتثال الشعب الذي تمثل في الجهد المتكرّر ليعتق من العمل المضني. لذلك إن التكرار في عملية الإكراه لم يكن على طريقة الميتولوجية أو على طريقة التصورات الكوسمولوجية، بل تكرارًا كان ذو بعد سياسيّ أخلاقيّ.

والبارز أن سفر الخروج يضع موقف الشعب المقاوم في إطار طابع مسيحاني، إذا أردنا أن نخفّف من معناه الثوريّ. وميزة الطابع المسيحاني في النص لا تقوم على شخص موسى الذي لم يكن سوى قائدٍ للشعب بل الشعب بجملته هو شعب مسيحانيّ هدفه تحقيق فكرة غيبية أو يوتوبية هي التخلّص من واقع العبودية (راجع خر18، 18 و21).

  1. 2. في بيت العبودية: عبيد في مصر

إنّ القوّة الكامنة في كتاب الخروج نجدها، كما قلنا، في خاتمة الكتاب في تحقيق الوعد الإلهيّ بدخول الأرض. وهذه النهاية هي منذ البداية المحرّك لتاريخ الشعب وفي شكل أوضح إن أرض كنعان هي أرض الوعد في وجه مصر التي تمثل أرض العبودية. فالبداية والنهاية هما في علاقة جدلية. أرض مصر لن تترك وحسب بل وسترفض وتدان ويحكم عليها. والمقولتان الأساسيتان لإدانتها هما الإكراه والفناء، من دون أن ننسى أن وعود الله ستحقق هذا الحكم. ومن دون الشعور بالوعد ظلّ الإكراه حالاً لا مفرّ منها أو قدرًا فرديًّا وجماعيًّا لا مفرّ منه. إن الوعد الإلهي يعطي الشعب قوّةً ورجاءً بدل الخنوع والخضوع.   

أما من يجسد الإكراه في الرواية فهو فرعون (خر3/3)، حتى لو لم يطلق النص على فرعون تسمية طاغية. وبوجود مسؤول عن الإكراه، صار لفعل الإكراه معنى أخلاقيًّا، الأمر الذي يُسهّل الكلام على إمكان الإعتاق والخلاص. والإعتاق في اللغة العبرية يأتي من مصدر حقوقيّ يعني إعادة الشراء، هنا يعني ذلك شراء حرية عبد ما. فاليهود لم يكونوا عبيداً بالمعنى المعروف بل يد عاملة وضيوف تحوّلوا عبيدًا للدولة. لهذا السبب أُسمِيت مصر “بيت العبودية” أو “بيت العبيد”. وهي عبارة تدل على الوضع الذي يعيش فيه شخص أو أشخاص بسبب العمل في شكل مُتواصل من دون رحمة (حز 1/14). هذا الوضع سيؤثر في شكل قوي في الشريعة التي وضعت خطًا فكريًا يضبط كل تعامل مع العبيد من دون رحمة (راجع لاويين 25، إرميا 34/8-13، مز21/2، تثنية 5/14-15 مز23/12). وهي أحكام تشمل العبيد العبرانيين والغرباء (مز23/9). لكن عبارة أرض العبودية لا تتوقف عند المستوى الجسدي بل تمتد إلى القساوة النفسية التي تُفرَض على الأشخاص (خر21/20و13، 26/27).

تلك القواعد في التعامل مع العبيد والعمال لم يعرفها التشريع الروماني والتشريع اليوناني، خصوصًا عندما يتعرض العبد لأذىً نفسيٍّ من سيّده. هذه الأحكام تشير إلى قساوة الأوضاع التي عاشها اليهود في أرض العبودية.

لكن الأصعب في عبودية مصر هو أنّ العمّال الضيوف حرموا من حقّهم بالأجر. فكان ذلك تعبيرًا فاضحًا عن الإكراه المصري، ومن المحتمل أن ذلك الذي دفع سفر التثنية إلى التشديد على شريعة الأجر (تث 24/14-15، 18).

إن عبودية مصر كانت تقيّداً لشعب بسبّب القوّة الغاشمة للدولة التي لا ضوابط لها. عاش الشعب عبودية سياسية بالمعنى الصريح. ذلك ما حفظه تقليد الخروج بأن العبودية يجب مواجهتها لدخول أرض الحرية. حتى صار الخروج نموذجاً لما يُعرَف اليوم بالحرية الوطنية، لأنّ الشعب كلّه استعبد وحرّر جميعه معاً. فالخروج من العبودية هو أشبه بانتصار على الطاغية (خر15/19)، إلى حدّ أن مقاومة الطاغية صارت في الواقع خضوعًا لله. لهذا السبب بالذات تعتبر مقاومة الطاغية مفتاحًا أساسيًا في قراءة نص الخروج.

  1. 3. عبيد في الصحراء

إن التوجيه نحو الثورة على العبودية لا يعني أن الشعب كان منذ البداية شعب ثورة، فالثورة الحقيقية تفترض تحررًا من ذهنية العبودية. ذلك ما جعل الكثيرين ينظرون إلى مصر أرض العبودية “مدرسة قديمة للنفس”. وهذا القول منتشر هنا وهناك في سفر الخروج، في مجموعة من الآيات التي تظهر مصر مدرسة للنفس وتكوين طاقة لدى الشعب: “كانوا كلما أرهقوهم يتكاثرون وينتشرون حتى تخوف المصريون منهم” (خر1/12). وهناك أيضاً ما قام به موسى عندما قتل المصري دفاعًا عن إبن جلدته (خر2/11-12).

لكن على رغم أن مصر مدرسة، بمعنى أنّ فيها الشعب وعى عبوديته، لم يتلخص الشعب من عقلية العبيد إلا في الصحراء التي هي مكان المواجهة والتبدّل. وهذا التبدّل احتاج إلى وقت وصراع مع الذات، مع ذهنية العبودية التي كانت قد ترسّخت خلال المنفى المصري. كان ذلك واضحاً في خروج 5 عندما ذهب موسى وهارون إلى فرعون يُطالبانه بأن يترك الشعب، فتركهما شيوخ الشعب وحدهما. ويبدو الموقف أوضح عندما تذمّر الشعب على موسى مرّات عدة (عدد16/13 – عدد11/4-6 – خر16/2-3). وكان المشهد الأوضح للصراع مع ذهنية العبودية عندما تبع فرعون وجيشه الشعب في الصحراء ولم يكن الشعب مستعدًا بعد لمواجهة “سيّده” (خر14/10).

لذلك يمكن القول إن تذمّر الشعب في الصحراء ضدّ موسى كان دليلاً قاطعًا على الصراع مع ذهنية العبودية. على رغم ذلك نجد في الخروج علامات إيجابية على أنّ الشعب كان يعي حاله، فمجرّد الصراخ إلى الله، أي الإستنجاد بقوّة خارجية، يخلق قوّة داخلية ومؤازرة باطنية للشعب ليقف في وجه التغرب عن الذات. ويمكن اعتبار هذا الأمر دليلاً على أنّ الشعب لم يتآلف بالكامل مع فكرة العبودية، إذ يكفي وجود هذا الوعي والشعور حتى يقوم الشعب بثورته على أرض العبودية، من دون اغفال الحقيقة الحاسمة وهي أن العامل الأكيد في تحرير الشعب من ذهنية العبيد كان الله ودور موسى، وقد كانا ينظران إلى الأبعد إلى أرض الميعاد، وكانا يعملان طيلة فترة الصحراء على تبديل ذهنية الشعب بالنظر إلى الحرية لا إلى الخلف. فالصراع الكبير الذي يعكسه السير في الصحراء كان بين مادية الشعب ومثالية تطلعاته أو بالأحرى بين حاجات الحاضر ووعود المستقبل.

بالنتيجة، إن السير في الصحراء يُشير إلى مسيرة تكوّن شعب يتصارع مع ماضيه ويواجه واقعه وينطلق إلى مستقبله. من هنا أنّ الصحراء هي أيضاً مكان تكوّن الشعب اليهوديّ وانتظامه. في خروج 16/4 إشارة واضحة إلى هذا التطوّر: “قال الربّ لموسى: الآن أمطر لكم خبزاً من السماء، وعلى الشعب أن يخرجوا ليلتقطوه طعام كلّ يوم في يومه. لذا امتحنهم، فأعرف هل يسلكون في شريعتي أم لا”. ليس ذلك بغريبٍ عن منطق الثورات، فالثوار عادة يقلبون النظام لإحلال نظام أكثر تشدّدًا أخلاقيًا. فالحرية الثورية ليس حرّيّة فوضوية في أساسها بل حرّيّة راديكالية في تطبيق النظام والمسؤولية والواجب. ينطبق ذلك على سفر الخروج الذي تبدو فيه الحرية حريّة في العبودية لله. فإلى جانب الثورة في الخروج يظهر في الوقت عينه الإنتظام تحت شريعة سيناء.

وبالعودة إلى موضوع التذمّر، لعلّ المشهد الأبرز والأكثر عمقاً في مدلولاته هو حادثة العجل الذهبيّ (خر32) حيث تحوّل تذمّر الشعب نوعًا من ثورة مُضادة. كيف حدث ذلك؟ موسى على الجبل أربعين يوماً متتالية. فقد الشعب صبره ووقع بينه شقاق قسّمه أحزابًا وفصائل. من بين تلك الأحزاب فريق التف حول هارون أخي موسى وطلب منه أن يصنع له العجل الذهبيّ. وهكذا كان. فأخذ الشعب يعبد العجل ويأكل “ويلهو”. واللهو في الأصل العبري يشير إلى معنى جنسيّ. فالعبادة أخذت شكل زنىً مقدّس. كانت النتيجة أن اشتعل غضب الله على الشعب وأراد أن يُبيده لولا تدخل موسى (خر32/26-28).

إن حادثة العجل الذهبي تشير إلى أنّ الشعب لم يستطع التحرّر من عبادة الآلهة التي عرفها في مصر. وهذا المشهد من أصعب المشاهد في الصحراء لأنّ الشعب خان ما كان قد وعد به سابقًا: “كل ما يقوله الله نعمله ونأتمر به” (24/7).

ملفت هذا الأخذ والردّ في حياة الشعب، إنه يصوّر أهمية المسيرة في الصحراء مسيرة تنقية من ذهنية العبودية. ومن الممكن القول بأنها مسيرة تربوية. فالشعب اليهودي خرج من الصحراء بعد هذا المخاض الذي عاشه شعبًا سياسيًا له عهد وشريعة. لقد نجح موسى في تلقين هذا الشعب، خصوصًا الجيل الجديد، بعدما مات الجيل القديم في الصحراء، شريعة الديانة وطقوسها.

  1. 4. العهد الحرّ

إنّ حدث السير في الصحراء حدث مفصليّ في تحرير الشعب من ذهنية العبودية ليستطيع أن يدخل أرض الحرية. ترافق الخروج من ذهنية العبودية مع تعلم نظم المسير والمُقاومة واختبار الحاجة إلى نظام وشريعة لينظم الشعب ذاته ووجوده. وكانت اللحظة المفصلية الأخرى في هذه المسيرة أن الشعب بدأ يعتاد على أن يختار ويلتزم مصيره من خلال العهد الذي قطعه على ذاته بأن يسير بحسب شريعة الرب. هذا التبدّل هو الذي جعل الشعب يميّز أرض العبودية من الصحراء من خلال الانتقال من حال إلى أخرى.

وميزة العهد أنه كان الإكتشاف السياسيّ الخاص بكتاب الخروج. وهذا الإكتشاف ترك أثرًا واضحًا في أدبيات العقد الإجتماعيّ في الزمن المُعاصر. والعهد كان نتيجة واضحة لبلوغ الحريّة من جهتي الاستقلال الذاتي وتحمل المسؤولية. هذه هي رمزية سيناء العميقة حيث عاهد الشعب الله على أن يلتزم بالشريعة الإلهيّة التي هي التعبير عن الخضوع للحريّة الإلهية (خر19/8). وبهذا العهد وضع الشعب حدًّا للنظام القديم وعبّر عن الخضوع الحر الذي قطعه أناس أحرار بكل فئاتهم من الرجال والنساء والأطفال…. (تث 29/12).

من كل ذلك يمكن القول إن العهد فعل مؤسّس، فإلى جانب نظام الأسباط القديم أي الإنتماء العضوي، يؤسس العهد الإنضمام الإرادي الحرّ. كان اليهود في مصر شعبًا بحسب الأسباط لكنهم في سيناء صاروا شعبًا بحسب الإنتماء الحرّ، صاروا شعبًا قادرًا على أن يصنع تاريخًا سياسيًا وأخلاقيًا. ذلك ما يعنيه العهد في أبعاده الفعلية أنّ الإنسان صار فاعلاً أخلاقياً. أي فاعلاً مسؤولاً. لذلك بالتحديد إن الخروج يؤسّس المسؤولية لأنه كتاب يُحرّك العقل السياسيّ. هذا التأسيس امتد تأثيره على حركة النبؤة والأنبياء الذين أخذوا على ذاتهم مهمة التذكير بالإلتزام بما ينص عليه العهد، لأنّ مضمن العهد أخلاقيّ (أشعيا 6،6). وكي يشدّد أبناء الشعب على الإلتزام بمضمون العهد يختارون منهجية سفر الخروج، ينظرون إلى الماضي ويحثون على التحرّر على أساس وعي الذات لحريتها من خلال التذكير بحدث العهد وبعد ذلك ينظرون إلى الوعد (مثلاً ميخا 6/2-8).

  1. 5. أرض الميعاد

إن الخروج من مصر وعبور الصحراء لا تكتمل مفاعيلهما إلاّ في أرض الميعاد، حيث تتبلور كل معاني الحركة. فأرض الميعاد في كتاب الخروج تحتلّ مقام الحلّ للمشكلة التي هي العبودية. هذه الأرض هي أرض رجاء. لذلك تعتبر خاتمة الكتاب، مع أنها في مقدّمة الحركة كدافعٍ للخروج من أرض العبودية. إنّ أرض الميعاد تمثل مكان الحرّيّة ونهاية الإستغلال. بكلام معاصر، إنها تمثّل مجتمع الحرّيّة والعدالة.

لكن هذا الأمر لا يتحقق بمجرّد الدّخول الماديّ إلى الأرض بل بتحوّل الشعب شعبًا عادلاً وحرًّا. فأرض الميعاد لن تدر لبنًا وعسلاً من دون الخضوع لله. إنّ أرض الميعاد تحتاج إلى شعب “مقدس ومملكة كهنوتية”.

إن وراء “أرض اللبن والعسل” “والشعب الملوكيّ والكهنوتيّ” فكرة سياسية بامتياز. فالوعد بالعسل واللبن يعني مسألة المُساواة التي تقف في وجه اللامُساواة القائمة بين الطاغية والرعايا، والأحرار والعبيد. أما فكرة الشعب الكهنوتيّ والملوكيّ، فهي فكرة إيجابية تشير إلى أن هذا الشعب منتظم على أساس المُساواة.

  • رسالة بولس إلى كنيسة روما[4]

لا تختلف رسالة روما عن سفر الخروج من ناحية أنها نص له أبعاد سياسية واضحة، خصوصًا في مسألة الحرية وتأسيس شعب جديد. فبولس يلعب دور موسى بإخراج الشعب من الظلمة إلى نور الحرية. لكن ذلك لا يعني أن النصيّن لا يختلفان من حيث تكوينهما، إذ أن كتاب الخروج يرسم حدثًا تاريخيًا يقوم به شعب في التاريخ، في حين أن الرسالة إلى روما هي توجيه يرسم بولس من خلاله الطريق إلى تعامل المسيحيين مع حريتهم في إطار النظام القائم. فالمسيحيون في روما ليسوا عبيدًا بالمعنى السياسي بل هم رعايا الإمبراطورية مدعوين إلى عيش حرية المسيح. لكن الكتابين يتفقان على أن جماعة المؤمنين لا يمكنها أن تتوافق في شكل كامل مع مبادئ المدينة الأرضية، إذ على رغم الاختلاف بين مصر وروما تبقى روما مُقيِّدَة لحرية المسيحي، لأنها تجبره على الإنتظام في مملكة قيصر وديانته.

هذا البرنامج نجده في رسالة روما، بولس يرسم طريق الحرية المسيحية من خلال رسم عالم جديد له شريعة جديدة وروح جديد. لكن هذ الطريق لا بد من تقصّيها في الرسالة في حدّ ذاتها.

ورأس الكلام في هذا المقام يبدأ بالإيمان الذي من دونه لا مجال لفهم حركة الرسالة إلى كنيسة روما. والإيمان في الرسالة له تحديد واضح لدى بولس. وهذا التحديد يقوم على تمييز الإيمان emuna، وهو الإيمان الطبيعي الذي يربط الإنسان بالجماعة باعتباره عضوًا في جماعة، من الإيمان pistis وهو “الإيمان بـِ” الناتج من الارتداد، حيث يكون المرتد فردًا في جماعة المرتدين[5]. ومصدر هذا النموذج من الإيمان (الإيمان بـِ) والدافع إليه نجدهما في صميم المنطق المسيحاني الذي يتّبع منطق الحدث. والحدث الذي تدور حوله الرسالة إلى كنيسة روما هو موت المسيح على الصليب. إبن داوود مُعلق على الصليب، مات موت محكوم عليه. ومن منظار ديني إنه موت من أقصي عن الجماعة لأنه مُدان ويجب أن يُصلب في المساء حتى لا تنجّس الأرض.

لكن من آمن به بولس يُناقض التصور الرومانيّ اليهوديّ عن المسيح. إن الإيمان بهذا “الملعون” ابن داوود يُساوي كلّ الأفعال الأخرى. والتركيز المسيحانيّ على التناقض لا علاقة له بأي منطق يونانيّ بل له علاقة بالمنطق المسيحانيّ. هذا التأكيد يتطلب غاية الفعل المسيحانيّ وهو أنّ الإنسان ثمين جدًا. تلك هي القِمَّة في الرسالة إلى كنيسة روما.

والفعل المسيحانيّ  بحسب ما يظهر في الرسالة يؤسّس القراءة السياسية لنصّ بولس.

  • 1. بولس وتأسيس شعب جديد (روما1/1-7)

لفهم الرسالة إلى كنيسة روما في شكل جيّد لا بد من اتباع منهج التهجئة، للإحاطة في شكل متأنٍّ بتفاصيل النص لاكتشاف مشروع بولس في هذه الرسالة. ولفهم هذا المشروع لا بد من التمعن بالأوامر الشديدة التحديد التي يوجهها بولس إلى الجماعة التي تحمل مضموناً موجِّهاً ومُحدِّدًا السبيل إلى الحرية. والرسالة في نهاية الأمر مبنية على هذا التوجيه المحكم.

التوجيه الأول الذي يبدأ بولس الرسالة به هو الكلام على دعوته: “من بولس عبد المسيح يسوع، دعاه (= اختاره!) الله ليكون رسولاً واختاره ليُعلن بشارته” (1/1). والملفت في هذه البداية أن بولس يتحدث عن دعوته لا عن ارتداده. فإذا قارنّا ذلك مع غلاطية (1/15) يتضح لنا المقصود. هناك كان الموضوع ارتداده على طريق الشام، في حين أن الموضوع هنا هو عن “دعوة” على نمط إرميا (1/5).

ويعتبر بولس دعوته نبوية لأنه أختير لها، وفي شكل خاص اختير ليتوجّه إلى الأمم ويدعوهما إلى طاعة الإيمان للذي قام من بين الأموات: “اختاره ليعلن بشارته، التي سبق وأعدها على لسان انبيائه من الكتب المقدّسة في شأن ابنه الذي في الجسد جاء من نسل داوود، وفي الروح القدس ثبت أنه إبن الله في القدرة بقيامته من بين الأموات” (1/5).

ولماذا الإصرار بهذا الشكل على مضمون دعوته ونوعيّتها؟ فهو لم يقم بهذا الأمر اللافت في أماكن أخرى. ولا نجد مثيلاً لهذا الأمر مثلاً في مُقدّمة الرسالة إلى أهل كورنتس التي تدور حول حماقة الصليب. هنا يقوم بتركيز واضح على أصل يسوع البشريّ، وخصوصاً على أنه “ثبت أنه إبن الله في القدرة في قيامته”. “ثبت” تعني أيضاً “أقيم”، فهو باعتباره ابنًا لداوود اختير للحكم، إنها قيمة طبيعيّة في نظر بولس. لكن مقولة “إبن الله” ليست كذلك بل هي قيمة مُعلنة، كما في المزمور 2، إنه فعل تولية. ويدل إصرار بولس على هذا الأمر على أنه إصرار على صفات فيها نَفَس امبراطوريّ-ملوكيّ. وهذا الإصرار يكتبه بولس إلى الجماعة في روما حيث الإمبراطور حاضر، وحيث الطقس الخاص بقيصر وديانة القيصر مُعتقد بهما ومُمارستان.

في هذه المقابلة تظهر عبقرية بولس السياسية. فهو يتوجّه إلى جماعة في روما في قلب كرسي العالم الإمبراطوريّ. وهذا أمر منطقيّ أنّ بولس حيث توجد القوّة والجماعة خاضعة لها يؤسّس لقوّة مواجهة تلجأ إليها الجماعة في مواجهة ما تتعرض له من السلطة القائمة. ووضع بولس هذه القوّة في مواجهة القوّة الأخرى هدفه المباشر أن يوجد حافزًا داخليًا لدى متلقي البشارة ليجتمعوا في جماعة إيمان هي جماعة حرية.

وما يؤيد هذا التفسير السياسيّ للنصّ هو أن بولس كتب رسالته سنة 57/58 وهو الزمن الذي قتل فيه كلاوديوس وأتى نيرون إلى الحكم بدخول طقسي عارم. ذلك ما أشاع القول أنّ بولس كتب بلغة ليس من السهل لغير المؤمنين فهمها. فالرسالة إلى كنيسة روما هي نوع من لاهوت سياسيّ بمعنى موقف صراع سياسيّ مع القيصر أو رواية اعتراض ضدّ انتشار الطقس الإمبراطوريّ.

2. 2. الناموس: الشريعة والتدبير (رو8/9-11)

إن المواجهة بين الإيمان والطقس السياسي تعني أن بولس لم يختر مواجهة روحية فحسب، بل مواجهة سياسية. لكن هذه المواجهة لا تقوم بين شيء خارجي وشيء داخلي، بل مع الشريعة السياسية باعتبارها التعبير الموضوعي عن النظام الذي كان قائمًا في ذلك. ومعلوم أن الشريعة السياسية تأتي تعبيرًا عن الهوية الثقافية لشعب ما. ومن الملاحظ أن موضوع الشريعة يحتل مقامًا رئيسيًا في رسالة روما. ولفهم هذه المسألة لا بد من التذكير بأنّ المجموعات المسيحية اليهودية الأصل والأُمَمِيّة الأصل المجتمعة في روما كانت ترفض المُشاركة في الطقس القيصريّ، لذلك كانت تشكل تهديداً للحكم الرومانيّ. في قلب هذا الجوّ كان لا بُدّ لهذه الجماعات المتعدّدة التي تنشد باليونانية وتنشد بالعبرية من إطار مشترك، وهذا الإطار الجامع يفترض تحوّلاً في الشريعة. لا بُدّ إذًا من شريعة جديدة.

لكن موضوع الشريعة غامضٍ نوعًا ما في رسالة روما. فعلى أي شريعة يتكلم بولس، التوراة؟ النظام الكونيّ؟ نظام الإمبراطورية؟ أم على كلّ ذلك؟

على رغم هذا التساؤل المحق، يبقى أنّ بولس يبغي من كلّ ذلك التوجه إلى الشريعة الجديدة لا شريعة الناموس، بل شريعة المعلّق على الصليب بسبب الناموس. والشريعة الجديدة المتجسدة في شخص المسيح تقلب رأساً على عقب كل الأنظومة الناموسية اليهودية، الرومانية واليونانية.

إن الشريعة الجديدة كونية شاملة تمر من خرم إبرة المصلوب. يعني ذلك بعد أن “يقلب بولس كلّ القيم الناموسية” يعود إلى “تقويم قيم العالم”. إن هذا الموقف شديد الحدّة سياسياً لأنه يقلب عالمًا برمته ويعيد بناءه.

ومن الطبيعيّ أنّ الناموس بالمعنى الدينيّ أي الشريعة أو بالمعنى السياسيّ أي القانون سوف تكون له علاقة بموضوع التبرير. يبرز هذا الموضوع في الفصل 8 من الرسالة. والمقدمة التي يبني عليها بولس هي: بولس متهم. أما التبرير، فيقوم به الإنسان عندما يكون متهماً. هذا الأمر منطقيّ، من رأى رجلاً يجول هنا وهناك أو يدخل محكمة ليُدافع عن ذاته إذا لم يكن متهماً أو يشار إليه أقله أنه متهم؟ لنقرأ 8/31-34: “وبعد ذلك كله، فماذا نقول؟ إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا؟ الله الذي ما بخل بابنه، بل اسلمه إلى الموت من أجلنا جميعاً؟ كيف لا يهب لنا معه كلّ شيء؟ فمن يتهم الذين اختارهم الله، والله هو الذي يُبرّرهم؟ ومن يقدر أن يحكم عليهم؟ والمسيح يسوع هو الذي مات، بل قام، وهو عن يمين الله يشفع لنا”.

إذاً إنّ المسيحيّ لا يتبرّر بغير شريعة المسيح التي هي شريعة الروح. والروح هو الذي يُبرّر لا الناموس. فالمسيحيّ لا يخضع لأي ناموس غير ناموس الروح. وحيث يكون الروح هناك تكون الحريّة بحسب بولس.

2. 3. الروح (رو9-13) 

إذا عُدنا إلى الروح في الفلسفة خصوصاً عند هيغل وغيره نجد أنّ الروح يسخر من ذاته، عند ماركس اقتصادياً، عند نيتشه وفرويد غرائزياً. لكنّ الموضوع يبقى غير واضح. ما معنى مقولة الروح هنا؟ من الممكن القول إنّ الروح الذي تتكلم عليه العلوم الإنسانية ليس واضح المعنى. غير أنّ المكان البارز الذي يدور الكلام فيه على الروح عند هيغل في كتاب فينومنولوجيا الروح هو الفصل السادس من الكتاب. في هذا الفصل يدور الحديث عن المدنية اليونانية وعن الحكومة والحرب، عن الإمبراطورية الرومانية، عن الحكم الرومانيّ وعن الثورة الفرنسية. يتعرض هيغل في هذا الفصل تاريخ العالم لا من خلال ما تفهمه العلوم الإنسانية بالروح: الدين، الفن والثقافة، إنما من خلال تاريخ العالم الدمويّ باعتباره روحًا![6]

ومن المؤكد أنّ ذلك ليس هو المعنى ذاته الذي يُعطيه بولس لكلمة روح. فعند هيغل هناك “روح العالم” (Weltgeist) أو “نفس العالم”  (Weltseele) الذي رآه هيغل على الحصان في  معركة “إيّنا” (Jena)، هذا الروح تجسّد في نابوليون. و”نفس العالم” المقصود بها النفس غير الواعية لذاتها بحسب التقليد النيو أفلاطونيّ. ففي نابوليون يتركز التاريخ كلّه، باعتباره روح العالم.

ليس الأمر كذلك عند بولس، ففي الفصل الثاني من الرسالة إلى الكورنثيين يُميّز بولس روح العالم من روح الله. ولروح العالم عند بولس مدلول سلبيّ في حين عند هيغل لديه مدلول إيجابيّ، حتى قيل روح العالم باعتباره محكمة التاريخ. أما مهمة الروح عند بولس فهي “الروحنة”، باعتبار أن الروح قوّة تغيير وتحقيق فعلي لما كان من تدبير إلهي قبل التاريخ وجعل الشيء تاريخيًا بمصداقية. لنسمع بولس يقول في الفصل التاسع: “أقول الحق في المسيح ولا أكذب فضميري شاهد لي في الروح القدس أني حزنت جداً وفي قلبي ألم لا ينقطع. وأني أتمنى لو كنت أنا ذاتي محروماً ومنفصلاً عن المسيح في سبيل إخوتي بني قومي في الجسد” (1/3).

وأهم تغيير يصنعه الروح هو التغيير في الشعب من أجل تأسيس شعب جديد يتجاوز إسرائيل القديم إلى الأمم، فيكون هناك جسد واحد في المسيح (12-13). الروح يخلق إذاً شعباً جديداً يفعل فيه من خلال المحبّة. بمعنى سياسيّ سوسيولوجيّ الروح هنا يؤسّس الشعب الجديد على أساس شكل جديد من الترابط في حميمية أخوية تمتاز عن منطق المدنية عند الرومان واليونان، حيث الجماعة ترتبط بنظام تراتبية اجتماعية في مجتمع وظائف محدّدة ومصالح محدّدة. هنا يحدث العكس، فالناس ترتبط بالمحبّة. ذلك ما جعل بولس في الفصل 13 يتنقل بين الخضوع للسلطة والعيش بالمحبّة في فصل واحد. وهذا التنقل فيه شيء من التحدّي، لأنّ الخضوع للسلطة يدفع بالإنسان إلى عمل الخير خوفًا من العقاب، في حين أن في المحبة يعمل الإنسان الخير لإبعاد الشرّ. بذلك يقوم بولس بقفزة ثورية عندما يقول: “من أحبّ قريبه لا يُسيء إلى أحد”، إذاً وحّد بين حفظ الشريعة والعمل بالشريعة. والملفت في هذا التوحيد الذي قام به أن بولس يضعه في إطار رؤية رؤيوية نهيوية عندما يقول في القسم الثالث من الفصل 13: “وأنتم تعرفون في أي وقت نحن (…) فالخلاص الآن أقرب إلينا ممّا كان يوم آمنّا” (11-12). هذا الزمن بما أنه زمن رؤيوي تمهيدي هو إذًا زمن ولادة عالم جديد ومجتمع جديد بفعل الروح الذي يُبدّل كلّ شيء.

إذاً إنّ الروح الذي يتكلم عليه بولس في رسالة روما هو الذي يخلق نظامًا جديدًا. وهذا النظام يفتح الخلاص على الشعوب من دون تمييز على قاعدة أن الشريعة هي المحبّة. 

بالنتيجة، إن ما تم عرضه يشير بوضوح أن الكتاب المقدّس لا يعنى بالسياسة بمعنى الفعل السياسي في حد ذاته، بل بالسياسي (le politique)، أي ما يتصل بالخلفية التي يقوم عليها الفعل السياسي من رؤية. فالكتاب المقدّس ليس كاتبًا سياسيًا بمعنى أن فيه نظرية حكم، جلّ ما يدور فيه باتصال بالسياسي أنه يصوب النظر نحو الإنسان باعتباره ذاتًا فاعلة حرّة. وهذه الذات لا يمكن لأحد أن يعرّيها من كرامتها الذاتية من دون المساس بالله، فالإنسان هو مجال لهوتي بامتياز، فيه يحدث الوحي بشكل خاص. وما يتعرض لهذه الكرامة إنما يتعرض، من منظار الكتاب المقدّس، إلى كرامة الله.

وهذه الذاتهي ذات تاريخية، فعلها يتصل بالزمان والمكان. من هنا إن الكتاب المقدّس عندما ينقل لنا الوحي الإلهي نجده متلازمًا مع حركة الإنسان السائر نحو حريته، لأن حرية الإنسان في التاريخ هي علامة لحضور ملكوت الحرية الذي يسير التاريخ نحو تحقّقة بالفعل. من هنا لا انفصال بين ملكوت الحرية البشرية، بالمعنى الأصيل لكلمة حرية، وملكوت الله. الأول محقق بالصيرورة لأن الآخر معطى وعدًا.

باختصار، إن الكتاب المقدّس يمكن اعتباره خلاصة نشيد مشترك نشيد الإنسان الحرّ ونشيد الله المحرِّر.


[1]  كاهن في أبرشية جبيل المارونية، حائز على شهادة دكتوره في اللاهوت والفلسفة السياسية. مسؤول عن قسم الدراسات في المركز الماروني للتوثيق والأبحاث.

[2] – راجع،

 J. B. Metz, La foi dans l’histoire et dans la société. Essai de théologique fondamentale pratique. Cerf. Paris 1979. P.67-104.

[3] – أثر هذا الكتاب في ثورات العبيد وأهم من ذلك في تأسيس نظرية العقد الاجتماعي في العصر الحديث. إلى ذلك أثر بشكل كبير في كتاب لاهوت التحرير. في موضوع لاهوت التحرير راجع:

– J. B. Metz, La foi dans l’histoire et dans la société. Essai de théologique fondamentale pratique.

– Jürgen Moltmann, Theologie der Hoffnung.

– Leonardo Boff et Clodovis Boff, qu’est-ce que la théologie de la libération? Cerf. Paris. 1987.

– Gustavo Gutiérrez, Théologie de la libération. Perspectives. Lumen Vitae. Paris 1974.   

استعنا بهذه الكتب في كتابة هذا القسم، وخصوصًا:

– Michael Walzer, Exodus und Revolution. Frankfurt am Main 1995.

[4] – راجع:

– Jacob Taubes, Die politische Theologie des Paulus. Vorträge, gehalten an der Forschungsstätte der Evangelischen Studiengemeinschaft in Heidelberg, 23. – 27. Februar 1987, nach Tonbandaufzeichnungen redigierte Fassung von Aleida Assmann. Herausgegeben von Aleida Assmann und Jan Assmann in Verbindung mit Horst Folkers, Wolf-Daniel Hartwich und Christoph Schulte. Wilhelm Fink. München 1993. 2. Auflage 1995. 3., verbesserte Auflage 2003.

– Seyoon Kim, Christ and Caesar: The Gospel and the Roman Empire in the Writings of Paul and Luke, Eerdmans, 2008.

[5] – راجع Martin Buber, Zwei Glaubensweisen. Zürich 1950.

[6] -Bonn 2000. P.323-488.  G. W. F. Hegel, Phänomenologie des Geistes.  

Scroll to Top