Almanara Magazine

الكتاب المقدس والفلسفة

د. هنري كريمونا[1]

كيف يمكن التوفيق، في مقالة محدودة، بين مصدرين يبدوان للعامة من الناس أنهما في تناقض جوهري، لأن كل واحد منهما يستلهم مرجعية مختلفة عن مرجعيّة الآخر وهما : مرجعية الكشف (الوحي) الإلهي للكتاب المقدس، ومرجعية العقل للفلسفة. فأية فائدة تُجنى من إدراج هذين المصدرين في إطار واحد ؟ وهل من علاقة بينهما ؟  أو هل من تأثير يمارسه الواحد على الآخر؟ 

خلاصة القول هنا تتعلق بمسألة المعرفة.

ما هو محتوى وشكل المعرفة التي يوفرها لنا كل من الكتاب المقدس والفلسفة ؟  هل هي معرفة مختلفة عن الأخرى، أم متناقضة، أو متكاملة معها ؟  هل ان مقولات العقل تعارض وتناقض ما يعلّمنا إياه الكتاب المقدس ؟ وهل أن الكتاب المقدس يهدم وينفي ما يتوصل إليه العقل في البحث الفلسفي؟ هل أن معنى الوجود الذي يتبيَّنه العقل في حدود جدليته المنطقيَّة، يقدّم لنا معنىً مختلفًا عن معنى الوجود الذي يقترحه الكتاب المقدس؟ هل ينتمي الإنسان، اذاً، إلى عالمين مختلفين من المعاني، المعنى البشري العقلي، والمعنى الإلهي الإيماني؟ هل ان واقع الإنسان ممزق ومشتت، أم أن هناك توافقاً ومداورة بين الكتاب المقدس والفلسفة ؟ يقتضي البحث في هذه المواضيع  تحديد ماهية كلِّ منهما !

أولاً : ماهية الفلسفة

ليس من فلسفة واحدة يمكننا الركون إليها واستلهامها لتكوين المعرفة لدينا. فالفلسفة تتكوَّن بالاستناد إلى العقل الإنساني، دون أية مرجعية أخرى. فالفيلسوف الذي يحتضن في ذاته عقله الخاص، المتأثر ببيئته وتربيته، واطار وجوده ألزماني والمكاني، يستنبط من عقله فلسفة تعكس معطيات وجوده واختباراته الذاتية. عقل الفيلسوف  يتكلّم، في كتاباته، عن الفيلسوف ذاته، في شخصيّته الذاتيّة، في الوقت الذي يعالج فيه موضوعاً فلسفياً معيّناً. فالعقل ليس كياناً مطلقاً، مكتمل الصلاحيات في ذاته، بل هو مرتبط ببيئة معيَّنة، يسعى من خلال اختباره لها، أن يفهم الكون والوجود والحياة، ويستدل إلى معانيها.

الفلسفات متعدّدة بتعدّد  الفلاسفة، مما يؤكد على نسبيَّة الرؤى الفلسفية في طروحاتها ومنظوماتها. وما من فيلسوف واحد يستطيع أن يطرح فكره على أنه احتواء لمعاني الوجود وللحقيقة الكاملة، وأن طروحاته تشكل مبتغى البحث الفلسفيّ، الذي ينفي أي نقيض له.

  1. البحث عن الحقيقة

ما هو مؤكد في جوهر العقل الباحث في الفلسفة، أنه توَّاق إلى كلمة الحق، أي أنه ينحو إلى الحقيقة الكاملة، ليس ادعاءً لامتلاكها، بل لأن العقل الإنساني مفطور على البحث عن الحقيقة، حقيقة الوجود. فالحقيقة هي الهدف الأسمى الذي يرتجيه الإنسان، بواسطة عقله، فيستخدم مقولات العقل وأساليبه المنطقيَّة، ليطرح رؤيته لهذه الحقيقة. لذلك، فان كل فكر فلسفي يكتنز قي ذاته فرادة شخصيَّة تتميز عن فرادة فلسفة أخرى. هذه الفرادة تستخدم منهجيَّة خاصة، ولغة معينة، يعالج الفيلسوف من خلالها طروحاته حول معنى وحقيقة الوجود.

يوجد جامع أساسي بين الفرادة الذاتيَّة والمنهجيَّة الخاصة، وهو ما يمكن تسميته بالحدس الجوهري الداخلي الذي يحتفظ به الفيلسوف في أعماقه، ويشكل سرّه الخاص، ويكون، في الوقت ذاته، الجواب الشخصي على السؤال الذي يطرحه كل إنسان ويتعلق بحقيقة الوجود، ومصدره وغائيته. هذا الحدس الضمني نجده عند كل إنسان، كما نجده عند كل فيلسوف، وهو يشكل التحتيَّة الضمنيّة لقناعاته التي يعبّر عنها في أعماله وأقواله وطروحاته الفلسفية.

في الفلسفة، نحن إذاً في بُعدين متكاملين : بُعد جوهري واحد شامل لكل الفلسفات، وهو البحث عن الحقيقة ؛ وبُعد تعدّدي منهجي نسبيَّ، وهو طريقة عرض وصياغة الرؤية الفلسفية لهذا البحث. فالفلسفة تقدّم  لنا وحدة في الهدف، وتعدّدًا في البحث. جوهر الفكر الفلسفي هو البحث عن الحقيقة، حقيقة الحياة والكيان والمصير الإنساني.

في هذا المنحى ينبهنا قداسة البابا يوحنا بولس الثاني عن نزوع الفلسفة في أيامنا الحاضرة، وضياعها، إذ يسعى بعض الفلاسفة إلى “التعتيم على التماس الحقيقة”[2]، والتركيز على  “علم الإنسان والمنطق وعلوم الطبيعة والتاريخ واللغة”[3].  إنما هذا لا يجب أن يلهينا، يقول قداسة البابا، عن ” أن العقل (…) لا يزال مدعواً أيضًا إلى الشخوص إلى حقيقة تتخطاه. بمعزل عن هذا المرجع، يظل الإنسان عُرضة للاعتباطية، ويمسي خاضعًا لمقاييس برغماتية مرتكزة جوهريًا على المعطى الاختباري، وذلك من منطلق يقين زائف بأن التقنيَّة يجب أن تهيمن على كل شيء”[4].  ويتابع قداسة البابا يقول : ” نجم عن ذلك ان العقل المُثقل بمثل هذا القدر من العلم، بدلاً من أن يعبّر قدّر الإمكان عن نزوعه إلى الحقيقة، انكفأ على ذاته. (…) الفلسفة المعاصرة في غفلتها عن التماس حقيقة الكيان، كثَّفت بحثها في المعرفة البشرية. وبدلاً من أن ترتكز على قدرة الإنسان على معرفة الحقيقة، آثرت التركيز على محدوديتها ومظروفيتها”[5].

  • جوهر الحقيقة

ما هي اذاً هذه الحقيقة التي يصبو إليها العقل، وتبحث عنها الفلسفة، ولا يمكن للإنسان أن يمتلكها لأنها تتخطى محدوديّته !

الحقيقة، أية حقيقة، أكانت من الحقائق النسبيَّة المحدودة التي يتوصل إليها الإنسان في أبحاثه العلمية والاجتماعية، أو الحقيقة الكاملة التي يتوق إليها الإنسان، والتي يسعى فيها للإجابة على السؤال حول معنى الوجود والحياة والموت، هذه الحقيقة المفترضة، هنا وهناك، لا يمكن أن تكون فقط فكرة نظرية عقلية، بل يجب أن تكون أيضًا أمرًا واقعيًا، حياتيًا ملموسًا، يمكن للإنسان أن يتعاطى معها في واقعه اليومي، فيتثبَّت منها، ويؤكِّد على معرفته لها. 

فأي نفع لإرشاد في المحبة، مثلاً، إذا كان المُرشد إليها لا يحياها في شخصه الحي وفي يومياته، ليرى الناس أن المحبة التي يُرشد إليها، هي فعل متجسِّد فيه، فيصدّقون ما يقوله. الحقيقة التي تبقى فكرة، لا وجود لها. الحقيقة تكون جسدًا، أو لا تكون. كذلك الحقائق العلمية كلها، اذا لم يستفيد منها الإنسان، ولم تتحول إلى واقع حسّي، تبقى أفكارًا نظرية لا طائل للإنسان الحي بها.

يوجد ارتباط عضوي بين الفكرة والواقع، بين الروح والجسد، بين الكل والجزء. هذا الارتباط التضامني بينهما، يحتّم علينا أن لا ننزوي في إحداها، فنختار الفكر دون الواقع، أو نلتزم الواقع دون الفكر. فلا وجود للفكر دون الواقع، ولا  معنى للواقع خارج النور الفكري. هذه هي حقيقة الإنسان في واقعه الروحيّ والماديّ. الانسان فكر ومادة متضامنان، روح وجسد متضامنان، وعي وحسّ متضامنان، إنه توق إلى الكمال في هذا التضامن الوجودي، وهو رغبة ذاتيّة في أن يكون هذا الكمال في متناول يده، ليس فقط على المستوى الفكريّ، ولا فقط على المستوى الماديّ، بل على المستويين معأ.  

هذان البعدان يشكلان سوية وحدة الإنسان الجوهرية في الواقع الحياتي الذي نختبره في يومياتنا. والإنسان لا يرتضي من أية فكرة أن تبقى فكرة، بل يسعى إلى أن يتحسَّسها في واقعه. ولا يرتضي من أية حقيقة، أكانت محدودة أم كاملة، أن تبقى نظرية فقط، بل يريدها أن تصبح في متناوله الجسدي، فيراها، ويتحسَّسها، وفي تواصله الفعليّ معها، ينتظر منها أن ترتقي به إلى حيث هي في محدوديتها او في كمالها.   

  • الحقيقة جسد

لشرح هذه الرؤية  في جوهر الحقيقة، يمكننا، وعلى سبيل المثال، أن نذكّر بمواقف عديدة من الإنجيل، يعبّر فيها الرب يسوع عن هذه الرؤية ذاتها، حول الحقيقة المتجسّدة. فيقول لنا : ” فليضئ نوركم للناس، ليروا أعمالكم الصالحة” [6]. ويقول أيضًا : ” ليس من يقول لي يا رب،  يا رب، يدخل ملكوت السماوات، بل مَن يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات”[7]. وأيضًا : ” ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” [8].  وبدوره يؤكد بولس الرسول على الترابط بين الحقيقة والواقع فيقول : “أما تعلمون أن أجسادكم هي هياكل الروح القدس” [9].

يوجد في الإنجيل صورة جليَّة عن هذا التضامن، والتناغم، والوحدة الفعلية بين النور والأعمال، بين الصلاة والعمل، بين الحياة من كلمة الله، والحياة من الخبز اليومي، بين أجسادنا والروح القدس. هذا التضامن والتكامل بين الحقيقة والواقع الجسدي، يحتمّان علينا الاَّ  نرتضي بحقيقة لا تكون جسدًا، ولا نرتضي بجسد لا يحمل الحقيقة.  خارج هذا التضامن الجوهري يكون الكذب والخداع والتشتت.

الإنسان، كما الفيلسوف الباحث عن الحقيقة، لا يمكنه أن يرتضي بحقيقة تبقى فكرة فلسفية يمضغها ويستسيغ تردادها. وإذا اكتفى بهذا الأمر، يكون قد وقع في المضاربة النظريّة، التي تبقى هباءً فكرياً، لا علاقة لها مع الواقع الحياتيّ. على سبيل المثال، إذا كان اسم هذه الحقيقة : “الله”  فان الفكرة هذه عن الله، لا يمكن أن تُرضي شوق الانسان ولا حتى رغبته في المعرفة.  فالانسان لن يرتضي باله فكرة، لأن الفكرة لا تغنيه ولا تنقذه، ولا تقارب حياته الفعليّة.  هذا لا يعني أن على  الفلسفة أن تقيم له علاقة تواصليّة مع اله حقيقي متجسّد، بل على الفلسفة أن تقول له ان الله، إذا كان موجوداّ، عليه أن يكون حقيقة واقعيّة جسديّة ملموسة، وإلاّ لن يكون الهاً للانسان، بل يكون الهاً لذاته، في ذاته، ولا علاقة للانسان به.  يكون الله جسداً حيّاً، فيتعرّف اليه الانسان ويسعى الى معرفته والى التواصل معه، أو لا يكون.

 الإنسان، لأنه إنسان، لا يمكنه أن يتواصل إلاَّ مع إنسان آخر، شبيه به. فالشبيه يحاكي شبيهه. لذلك لا يكتفي، ولا يرتضي الإنسان بالله كحقيقة فكرية. بل يريده حقيقة على مستواه، يريده إنسانًا، كما هو إنسان، وفي إنسانيته هذه يرغب أن يلمس ألوهيته. هذا هو إطار المعرفة عند البشر. تكتمل المعرفة عند الإنسان عندما تتكامل حواسه مع فكره. لذلك نقول إن الإنسان يتوق إلى الكمال في الواقع، ويتطلع إلى الحقيقة في الجسد، ويتعاطى مع الأفكار في المحسوسات، ويرغب في اله يكون جسدًا.

هذا يعني إن الإنسان يتوق إلى الإله – الإنسان، أي انه يتطلع إلى ” الكلمة الذي صار جسدًا، فسكن بيننا، ورأينا مجده” [10]، وهذا ما يؤكده الرسول بولس في قوله : ” أما الحقيقة فهي جسد المسيح”[11]. يوم سأل بيلاطس يسوع : ” ما هو الحق؟ وخرج…” [12]، لم يكن يستطيع أن يدرك أن الجواب على سؤاله كان أمامه،  كان جسدًا يكلمه وينظر إليه. الجواب على سؤال بيلاطس، تلقفَّه فيليبوس، لأنه كان ينتظر جوابًا، عكس بيلاطس، فكان جواب يسوع لفيلبس : ” مَن رآني رأى الآب” [13].

مبتغى انتظار الإنسان أن يبلغ حقيقة فعليَّة، يتعاطى معها، يتواصل معها، يفرح بها، يغتبط بها، يتداخل معها. فاذا تكلّم الفيلسوف عن العدالة، وحدّد ماهيتها، هذا لا يعني ان الانسان قد حصل على فعل عدالة حقيقية في واقعه. فماهيّة العدالة كفكرة نظريّة يجب ان تنير الواقع وتتحقّق في اليوميات العمليّة. هذا ما يكشفه لنا الإنجيل، وهذا أيضًا ما تقوله لنا الفلسفة الباحثة عن الحقيقة. أما الفرق بين الإنجيل والفلسفة، هو أن الإنجيل يعطينا الحقيقة جسدًا وطعامًا نأكله، أما الفلسفة فتقول لنا أن الحقيقة يجب أن تكون جسدًا، أو لا تكون. الإنجيل يعطينا الحقيقة لأنها أصبحت جسدًا حيًا، أما الفلسفة فإنها تدلنا إلى موقع الحقيقة الذي ينبغي أن يكون في الجسد، دون أن تعطينا إياها. وهذا ما يدفعنا إلى تبيان حدود الفلسفة في بحثها عن الحقيقة.

  • حدود الفلسفة

الفلسفة الباحثة عن الحقيقة، لا تستطيع أن تقول ما هي هذه الحقيقة في جوهرها ولا في محتواها، ولا أين هي، و لا كيف هي، ولا يمكنها أن تتصوَّر شكلها. فالفلسفة، أي العقل الباحث عن الحقيقة، يتماهى ضمن حدود هي من جوهر المحدودية الإنسانية. لذلك سنتطرَّق هنا إلى ثلاثة اطر فكرية لهذه المحدودية :

أ –  أعطى الإنسان لهذه الحقيقة الكاملة، اسمًا تداوله البشر عبر تاريخهم، وهو الله، أي الكائن الكامل في ذاته، المتعالي والمميَّز بشكل تام عن كل ما هو في صيرورة الإنسان، وهو مصدر الوجود ومُبدع الكون.  والفلسفة العاقلة الحكيمة، لا تستطيع أن تعبّر عن ما هو هذا الكائن في جوهره، يمكنها فقط، ان تحدد هذا الجوهر بشكل سلبي، فتقول بأن هذا الذي يدعوه الجميع الله، هو كائن مجهول وحرّ. أي أن العقل المحدود يقر بجهله  لجوهر الله، وفي الوقت ذاته يعترف بأن هذا الله، هو حرّ في ذاته أي مكتمل الوجود، و لا يرتبط بأي كيان آخر مختلف عنه.

ب-  بإمكان الفلسفة أن تحدد فقط، ماهية الإنسان، لأن الإنسان يختبر ذاته الإنسانية بشكل مباشر. فالفلسفة تقول عن الإنسان بأنه كائن حي روحي محدود في ذاته، أي في صيرورة تاريخية، وهو مؤهل لأن يصغي في هذا التاريخ إلى كشف ممكن لهذا الله الذي هو مجهول وحرّ. فبامكان الفلسفة أن توجّه الإنسان ليكون مصغيًا لله، أي لهذه الحقيقة الكاملة، إذا ما قرَّرت هذه الحقيقة أن تكشف ذاتها له، حيث هو متواجد فعلاً، أي في موقعه الانسانيّ الحياتيّ في التاريخ، وليس في موقع العلوم أو الفلسفة.  

ج- الفلسفة تصمت أمام الواقع التاريخي، وتعلن عن عجزها وفشلها في تحقيق رغبة الإنسان للتعرّف ولمعرفة الحقيقة الكاملة، أي الله، فتدفع الإنسان لأن يتوجَّه نحو التاريخ ليكون باحثًا فيه عن أيَّة إشارات ملموسة، لكشف ممكن، من هذا الله الذي يجهله هو.

السؤال الذي تطرحه الفلسفة، في ضوء ما سبق، هو التالي : هل إن الحقيقة الكاملة، أي الله، تجلّى في التاريخ واضحي موجودًا في الواقع البشري؟ هذا السؤال هو جلّ ما تطرحه الفلسفة، انما ليس بإمكانها أن تجيب عليه. بإمكان الفلسفة أن تدعو الإنسان لكي يتخطى الفلسفة، ويذهب إلى التاريخ ليبحث هناك عن هذه الحقيقة إذا ما وُجدت في المسار التاريخي. هذا يعني أن الحقيقة الكاملة، إذا ما وجدت في تاريخ الإنسان، يجب ان تكون في متناوله، وفق ماهيّته الانسانيّة، ووفق مقياس تواصله الشخصي. فلا تكون كتابًا فقط، أي حرفًا منزلاً، لأن الانسان ليس كتابًا ولا حرفًا، بل هو شخص حي، بحاجة في تواصله إلى شخص حي آخر، يكون شبيهه، وفي الوقت ذاته يكون هو ذاته الحقيقة الكاملة. هذا يعني أن الحقيقة لكي تكون على قياس الإنسان، يجب أن تكون حقيقة متجسدة. عندئذ يستطيع الإنسان، أي إنسان، أن يردد مع الرسول يوحنا فيقول :

        ” ذاك الذي كان منذ البدء،

                              ذاك الذي سمعناه،

                   ذاك الذي رأيناه بعينينا،

                   ذاك الذي تأملناه، ولمسته يدانا من كلمة الحياة،

                   لأن الحياة ظهرت، فرأينا ونشهد،

                   ونبشركم بتلك الحياة الأبدية” [14].

فالسؤال الجوهري الذي تطرحه الفلسفة على هذا الصعيد، يتعلق بالمعايير التي يمكن للإنسان أن يتبيّنها، وفق مقاييس معرفته الخاصة في محدوديتها، والتي يمكن للفلسفة أن تفكرّ بها وتقترحها على الإنسان الباحث عن الحقيقة في تاريخه، ليتمكن من استشراف صورة الحقيقة الكاملة في تاريخه، ويتمكن من التعرّف إليها وتمييزها بشكل موضوعي، هذا إذا ما كشفت الحقيقة عن ذاتها في هذا التاريخ الإنساني.

  • معايير التعرّف إلى الحقيقة

يطول البحث في معايير التعرّف على الحقيقة، أي على الله إذا ما كشف ذاته للانسان. ونحن نتكلم هنا عن معايير التعرّف وليس عن معايير المعرفة. فالمعرفة تبقى خاصة بالإنسان في حيثيات يومياته وخياراته الحرّة، أمَّا التعرّف فإنها مقاييس فكرية تؤهل الإنسان لتمييز الحقيقة المتجسدة، فيراها ويتأكد منها، قبل أو حتى دون أن يسعى إلى معرفتها، لأن هذا الأمر يتعلّق بحريته. سنتطرَّق إلى بعض المعايير بصورة موجزة كما يلي :

  • يمكن لله أن يكشف ذاته في المحدود البشري، بينما الإنسان عاجز بذاته عن الارتقاء إلى الكمال الإلهي. فاللقاء الممكن بين الله والإنسان، لا يمكن إن يتحقق إلا في الموقع الزماني والمكاني الإنساني، أي في التاريخ البشري، وليس في أي موقع آخر.
  • إذا ما قرر الله أن يكشف ذاته للإنسان، عليه أن يتمم هذا الكشف من خلال التخاطب اللغوي البشري، أي من خلال الإطار الوحيد المتوفر لدى الإنسان ليتواصل مع الآخر، كي يتعرَّف إليه، ومن ثمَّ ليدخل إلى معرفته. نحن لا نتكلم هنا عن لغة معينة كالعربية أو الصينية أو الفرنسية،  بل على أسس قيام اللغة. فما هي لغة التخاطب الإنسانية ؟ سنسعى الى تحديدها  كما يلي :
  • اللغة هي إشارة حسيَّة مادية يكشف فيها الإنسان عن ذاته، عن أفكاره، عن رغباته وعن تطلعاته.
  • هذه الإشارة اللغوية تشكل، بفعل الكشف عن الذات، نداءً إلى المخَاطََب كي يتجاوب مع المخَاطِب، ويتفاعل معه في ما يكشفه له.
  • هذا التعبير اللغوي الذي يكشف الذات، وينادي الآخر،  يجب أن يكون واقعًا ملموسًا، صادقًا في كشفه ومناداته، وإلاَّ كان إعلامًا كاذبًا وفارغًا. وحده الفعل الصادر عن الإنسان الحر، يكشف وينادي، عندئذٍ يمكن لإنسان آخر أن يتعاطى مع هذا الفعل مباشرةً ويتفاعل معه بواقعية حياتية، وليس بمناظرة فكرية. لنأخذ مثلاً على ذلك : إذا قال شاب لشابة انه يحبها، وتفوّه لها بحبه من خلال تعبير كلاميّ،  وإشارة مادية، فانه يكشف لها عن حبّه، ويناديها كي تتجاوب معه في هذا الحب، وهو فعلاً يحبها، ويرغب في التكامل معها، في الواقع اليومي بصدق. أما إذا كانت إشارة الشاب هذا غير صادقة، فإنها لا تكشف عن ذاته، أو يمكنها أن تكشف مراوغته، وبالتالي لن تنادي، ولن تكون فعلاً حقيقيًا، بل تكون كذبًا ورياءً.

ج- على الإنسان أن يدرك هذه الإشارة الحسيَّة بما هي في معناها، وليس كما يريد هو أن تكون. يتطلب هذا الأمر خضوعًا من الإنسان لهذا الكشف، أي تواضعًا، ونكرانًا للمحدودية الذاتيَّة. فيتقبَّل الإنسان ما هو عاجز عن تحقيقه بقواه الشخصية. هذا ما يمكن أن ندعوه ” الولادة الجديدة”، فتصبح الإشارة بذاتها نورًا يضيء عقل وقلب الإنسان. فالإشارة اللغوية تنير الإنسان إذا كان في موقف الانتظار الصادق، وتعميه إذا كان قد قرَّر أن لا ينتظر شيئًا، بل يعتبر ذاته، أنه هو الحقيقة.

د- ما يمكن أن يجمع الإنسان والله، يُفترض أن يكون “فعلاً”ً حقيقيًا صادرًا عن شخص حي،    وليس   كتابًا أو رسالة. هذا الفعل، الذي هو في الواقع، كمال فعلنا الذي لا نستطيع نحن أن نحقّقه، يجب أن  يجمع الإنسانية والألوهة، يجمع المحدود والمطلق، يجمع المتناهي واللامتناهي. لذلك :

  • لا يمكن لهذا الفعل أن يكون : ظاهرة خارقة، أو صوت صارخ في البرية، أو كلام حرفي مُعبََّر عنه في كتاب لغوي محدود، أو هروب داخلي نفسي يتسامى فيه الإنسان ليبلغ هباءً محدودًا.
  • لكي تجتمع الالوهة والإنسانية في إطار الزمان والمكان، من خلال التعبير البشري، يجب أن تكون هناك وساطة ما. وكما سبق وأشرنا، وبما أن الإنسان هو إنسان، فالوساطة هذه لا يمكن ان تكون شيئًا آخر، أي لا يمكن أن تكون فكرة، أو كتابًا، بل يجب أن تكون على مستوى الإنسان الشخصي في ذاتيته الكيانية. وحده الشخص يخاطب ويتواصل مع الشخص، أي على هذه الوساطة أن تكون بالفعل ذاته، إنسانًا كاملاً وإلهًا كاملاً، أي تكون وسيطًا فعليًا، فيعبّر هذا الوسيط عن ماهيَّة الله، لأنه الله، ويخاطب الإنسان لأنه إنسان.

فالسؤال الذي يُطرح هنا هو التالي : هل وجد هذا الوسيط في التاريخ !  عند هذا السؤال تقف حدود الفلسفة. من هنا على الإنسان الحي أن يكمل مسيرته متزودًا بالمعايير التي وضعتها الفلسفة، ويذهب باحثًا عن هذا الوسيط. وإذا وجده، باع كل شيء واشتراه، وإذا لم يجده عليه أن يستمر في البحث وفق المعايير، علّه يجده يوماً، فيتواصل معه، ويفرح به، ولن يسلبه أحد هذا الفرح.

ثانيًا: ماهية الكتاب المقدس.

لن أغوص هنا في ماهية الكتاب المقدس، بل أترك هذا الأمر لأولياء العلوم الكتابية. مقاربتي للكتاب المقدس هنا تستند إلى علاقتي الشخصية اليومية به.

يوجد موقع واحد في الكتاب المقدس، يذكر كلمة ” فلسفة” حيث يقول الرسول بولس، محذّرًا أبناء مدينة قولوسي : ” إياكم أن يأسركم أحد بالفلسفة، بذلك الخداع الباطل القائم على سُنَّة الناس وأركان العالم، لا على المسيح” [15].  فالفلسفة التي تكتفي بالبكاء والتشفي على واقع الإنسان المحدود، تبقى باطلة، لأنها قائمة على محدودية العقل ومكتفية به. أما الفلسفة التي تدفع الإنسان للبحث عن الحقيقة في الواقع التاريخي، وتُقدّم له المعايير الممكنة لكي يتعرَّف إليها، هذه الفلسفة تستلهم نور المسيح، وتعطي للإنسان إمكانية أن يلتقي الرجاء الحقيقي والفرح الحقيقي.

في هذا الإطار نفهم دعوة قداسة البابا يوحنا بولس الثاني، التي وجَّهها إلى الفكر الفلسفي المعاصر، للعودة إلى “الانفتاح الماورائي (…) وتوضيح العلاقات بين الحقيقة والحياة، بين الحدث والحقيقة العقائدية، وخصوصًا بين الحقيقة العلوانية واللغة المفهومة بشريًا” [16]. ومن ثمَّ يقترح قداسة البابا على الفلاسفة المسيحيين أن يستنبطوا من الكتاب المقدس رؤية فلسفية حقيقية، فيقول : ” يحتوي الكتاب المقدس، بطريقة ظاهرة أو متضمنَّة، على مجموعة من العناصر تمكننا من الوصول إلى تصوّر للإنسان والعالم، يتميّز بكثافة فلسفية حقيقية” [17]، ويتابع قداسته موضحًا رؤيته فيقول : ” القناعة الأساسية في هذه الفلسفة المتضمنة في الكتاب المقدس، هو أن الحياة البشرية والعالم، لهما معنى وتوجّه نحو اكتمالهما في يسوع المسيح. وسيبقى سر التجسد دائمًا هو المحور الذي يجب أن نتخذه منطلقًا لفهم لغز الوجود البشري، والعالم المخلوق، والله نفسه” [18].

  1. جسد الحقيقة

ليس الكتاب المقدس مجموعة مفاهيم حول الله، كوَّنها الإنسان في إستدلالاته العقلية، بل هو فعل إصغاء من قِبَل الإنسان لحقيقة الله المتجليّة في تاريخه. هذا الإصغاء دوَّنه الإنسان في تعايير بشرية، تحمل في طياتها شهادة على الحقيقة المتجسدة، التي تعرّف اليها وتواصل معها.  

الكتاب المقدس هو هذا الحضور الفعلي الجسدي للحقيقة التي يبحث عنها الإنسان، والتي يتوق إليها، ويرغب في الاتحاد معها. الكتاب المقدس  ليس تعليمًا فقط،  بل هو شخص حيّ،  وفق ما يقول الرب يسوع : ” إن الكلام الذي كلَّمتكم به روح وحياة” [19]. هذه الحياة هي جسد المسيح الحي، وقد أصبحت، بالنسبة لنا اليوم، “خبزًا” نأكله. هذا هو معنى الحقيقة. فالحقيقة التي لا تصبح جسدًا حيًا، تبقى هباءً. المحبة التي لا تصبح خبزًا، يقيت الجائعين إلى المحبة،  تبقى أفكارًا هوائية. المحبة التي هي جوهر الله في ذاته، هي بذاتها أصبحت جسدًا نأكله فنتغذى منه. وندخل إلى عائلة الثالوث، في الوحدة البَنَويَّة التي يدعونا إليها الرب :           ” إذا لم تأكلوا جسد ابن الإنسان،  وتشربوا دمه،

                                    فلن تكون فيكم الحياة.

                                مَن أكل جسدي، وشرب دمي، فله الحياة الأبدية.

                                وانا أقيمه في اليوم الأخير،

                                لأن جسدي طعام حق، ودمي شراب حق.

                                مَن أكل جسدي،  وشرب دمي،

                                 ثّبُتَ فيَّ، وثبتُ فيه” [20].

هذه الحقيقة التي أصبحت جسدًا نأكله، هي أيضًا جسدًا نراه في إخوتنا البشر، حيث تصبح أجساد المعذبين في العالم، أجساد المسيح، إذ يقول لنا الرب : ” جعتُ فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنتُ غريبًا فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضًا فعدتموني، وسجينًا فجئتم إليَّ” [21].

  • مخاطر أهل البيت

الكتاب المقدس هو اذاً شهادة حيَّة عن الحقيقة التي يتوق إليها الإنسان، والتي لا يمكنه أن يدركها في محدوديته، إلاَّ متى صارت هي بذاتها، إنسانًا حقيقيًا، كما كل إنسان، فيتعرَّف إليها الإنسان، ويمتلئ قلبه فرحًا، ويبلغ فيها ومعها، إلى السعادة التي لا مثيل لها في هذه الدنيا، ويدخل في وحدة حقيقية مع قلب الآب السماوي.

لهذا يحذّرنا قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، من الانحراف عن الحقيقة التي أصبحت جسدًا. هذا الانحراف يقتل الروح فينا، وينقض العقل، ويهدم الانسان، وهذا مبتغى مشروع المسيح الدجَّال. فيقول قداسة البابا : ” إن بعض تفاسير الكتاب المقدس، يمكن أن تصبح فعلاً أداة في يد المسيح الدجَّال (…) فالكتب التي تحطم صورة يسوع، وتهدم الإيمان، كُتبت استنادًا إلى نتائج مزعومة في تفاسير الكتاب المقدس. ففي أيامنا هذه يُخضع البعض، الكتاب المقدس، إلى رؤية مزعومة معاصرة للعالم، ومرجعيتها الأساسية هي أن الله غير قادر أن يعمل في التاريخ، وبالتالي، فان كل كلام عن الله، يجب أن يوضع في خانة الذاتيّة الشخصيّة ؛ هذا يعني أن الكتاب المقدس لا يتكلم عن الله الحيّ، إنما نحن مَن يتكلم عن الله، معبّرين عن رغبتنا في ما نريده من الله أن يفعله لنا” [22].

الخاتمة

لا يحتاج الإنسان إلى براهين عن وجود الله، بقدر ما يحتاج إلى الله بذاته.

البراهين تبقى جامدة، لا حياة فيها، والفلسفة تبقى فكرًا لا خلاص فيه.

الانسان بحاجة إلى الحياة وليس إلى المنطق.

الانسان بحاجة إلى بلوغ الله في حياته الأبدية، وليس بحاجة إلى أفكار وطروحات في المنطق والفلسفة، ولا حتى إلى نظريات لاهوتية تبقى فارغة إذا لم تكن جسدًا  حيًا.

ما هي صلة الكتاب المقدس بالفلسفة ؟ !

إنها صلة بسيطة، على مثال براءة الطفل :

  • الفلسفة هي توق العقل إلى الحقيقة. هي صلاة العقل. هي بحث صادق وأكيد عن الحقيقة الكاملة في معنى الحياة والموت.
  • الكتاب المقدس هو شهادة حيَّة عن أن هذه الحقيقة التي يبحث عنها الإنسان، أصبحت جسدًا حيًا، حاضرًا في التاريخ، واسمه يسوع المسيح.

لا يسعنا هنا الكلام أكثر من ذلك. إنما يمكننا أن نردد المثل الذي كلمنا عنه الرب يسوع حين قال : ” مثل ملكوت السموات كمثل تاجر كان يطلب اللؤلؤ الكريم، فوجد لؤلؤة ثمينة، فمضى وباع جميع ما يملك واشتراها”  [23].

فطوبى للذين بحثوا، وانتظروا، وتعرَّفوا، والتقوا بالرب يسوع، وقرروا العيش معه، لأنهم دخلوا، منذ الآن، إلى الفرح الأبدي.


[1] دكتور في الفلسفة، أستاذ في جامعة الروح القدس الكسليك، ومعهد القديس بولس حريصا.

[2]  البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة جامعة في الإيمان والعقل، 1998، ألفقرة  5.

[3]  المرجع ذاته.

[4]  المرجع ذاته.

[5]  المرجع ذاته.  

[6]  متى 5/ 16

[7]  متى 7/ 21.

[8]  متى 4/4.

[9]   1 كورنتس 6/19.

[10]  يوحنا 1 /14.

[11]  قولوسي 2 /17.

[12]  يوحنا 18 /38.

[13] يوحنا 14/9.

[14]  الأولى يوحنا 1 /1 – 2.

[15]  قولوسي 2/8.

[16]  البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة جامعة في الإيمان والعقل، 1998، الفقرة 90.

[17]  المرجع السابق، الفقرة 80.

[18]  المرجع السابق.

[19]  يوحنا 6 / 63.

[20]  يوحنا 6/ 53 – 56.

[21]  متى 25/31- 46 .

[22] Joseph Ratzinger, Jesus de Nazareth, ed.Flammarion, p.57.

[23] متى 13/ 45 – 46.

Scroll to Top