Almanara Magazine

الفن والكتاب المقدس

الأب يوحنا الحبيب صادر الأنطوني

في البدايات المسيحية ظهرت مشكلة كبيرة بخصوص الكتاب المقدس والفن، بخاصة الفن التشكيلي. فالجماعات المسيحية المتحدرة من أصل يهودي والتي كانت منتشرة أوسع انتشار في الشرق عامة، لم يكن بإمكانها أن تتخيّل أيّة علاقة بين الكتاب المقدّس والفنّ وذلك بسبب استمرارها متعاطفة مع الجماعات اليهودية المتمسّكة بشرائع العهد القديم الذي يحرّم على اليهود الخارجين من مصر صنع الصور والتماثيل الواردة في سفر تثنية الاشتراع ( ٤: ١٢-١٩). وكانوا يعتبرون ذلك عودة إلى الوثنية وابتعادا عن الله. فلجأوا إلى رسم الرموز تعبيرًا عن إيمانهم.

نعتقد أن الرموز التي ظهرت ابتداءً من القرن الأوّل كانت رمز الصليب على اختلاف أشكاله الهندسية، ثمّ تلك الرموز التي اعتبرها القدامى علامات تدلّ على السيّد المسيح المخلّص؛ وأكثر هذه الرموز شهره هي: الماء والنبتة والشجرة والحمامة والدائرة والكوكب والنجمة والسمكة والسلّم والإكليل والزهرة والسفينة والمرساة والحيّة. وفي القرن الرابع كانت هذه الرموز قد انتشرت في كلّ اصقاع البلاد المسيحيّة[1].

تؤكد المصادر التاريخية أنه كان لهذه الرموز معان كتابية ولاهوتية وفلسفية. وأغلبية آباء الكنيسة وكتّابها في القرن الرابع اهتموا بتفسيرها، أغلب الاحيان، أنطلاقًا من الكتاب المقدّس. نذكر على سبيل المَثَل اقليمنضوس الاسكندري، إيريناوس، أبيفانيوس، تيوفيلوس الانطاكي، ترتليانوس، أفرام السرياني، كيرللس الأورشليمي ويوستينوس. ولا تزال هذه الرموز آخذه باهتمام بعض علماء المعاصرين أمثال جان دانيالو، خاصة الآباء الفرنسيسكان في أورشليم وغيرهم… وقد صدرت مؤلفات حول هذا الموضوع[2]. أما في لبنان فيوجد عدد وافر من الرموز المسيحية المحفورة إمّا على أسكفة مداخل المعابد أو على حجارتها المعاصرين الداخلية والخارجية[3].

لكن خلافا لهذه النزعة المسيحية المتحدّرة من اليهودية، والتي ترفض رسم أخبار الكتاب في صور وجدرانيات فنّية، فقد تبنذى المسيحيون المتحدّرون من الوثنية الفن التشكيلي. لم تكن العادة جديدة عليهم، لأن ماضيهم اليوناني- الروماني عريق بالفنّ على مختلف أشكاله وحافل بألوف الجدرانيات والموزاييك والتماثيل. فبعد انتماء هذه الشعوب إلى المسيحية اتخذوا في روما لممارسة عبادتهم أمكنة خفية هربًا من الاضطهاد. وهذه الأمكنة تُسمى الدياميس. إنها في الواقع مدافن سفلية تحت الأرض حيث المسيحيّون استمر لعدة قرون يدفنون موتاهم. تقع هذه الأماكن في الحقول الرومانية خارج المدينة. وقد اكتشف علماء الآثار حتى أواخر القرن الماضي دياميس بطول مئة إلى مئة وخمسين كيلومترًا. في بعض سراديبها الطويلة توجد خمسة طوابق متراصفة. تحتوي هذه الدياميس على 750 ألف مدفن مع عدد كبير من الإشارات والكتابات (غرافيتي) والرسوم.

بعد سلام الكنيسة، أي بعد مرسوم ميلانو (٣١٣) الذي أصدره قسطنطين، ملتزمًا بالمسيحية ديانة من ديانات الأمبراطورية، ذاع صيت الدياميس بسبب مدافن الشهداء فيها. غير أن الغزوات البربرية التي اقتحمت روما، جعلت الكنيسة تهمل هذه الأماكن، وعام 1578 أعيد اكتشافها واهتم بهذه التنقيبات عالم كبير يدعى بوسيو Bosio الذي كرّس حياته العلمية لدراسة الدياميس ووصفها[4]. في القرنّين السابع عشر والثامن عشر، واصل تلاميذه هذا العمل. ثم، في القرن التاسع عشر مع يوحنا المعمدان دي روسي (Dé Rossi)[5] أصبحت دراسة الآثار القديمة علمًا حقيقيًا محضًا. وكشف هؤلاء العلماء تقريبًا سبعة دياميس رئيسة. يشعر الزائر بتأثر كبير عندما ينزل إلى أعماق هذه المدافن القديمة. فالممرات ضيقة ومرتفعة، والمدافن محفورة متراصفة في تراب الجدران.

على جدران هذه المدافن اكتشفت أقدم الرسوم الدينية، وتعود على القرن الثاني وهي تمثل الرموز التي كانت بدأت تنتشر في أصقاع المسيحية وهي: السمكة والحمامة والطاووس والمرساة والدلفين، وجميعها تشير إلى الرجاء المسيحي بعد الموت. لكن المسيحيين لم يتوقفوا عند هذه بل أخذوا يرسمون في كلّ موضع من الدياميس مشاهد من الكتاب المقدّس، العهدين القديم والجديد: نوحًا في السفينة، ابراهيم يتهيّأ لذبح إسحق، ويونان يخرج من فم الحوت، ودانيال في جبّ الأسود، والعبرانيّين الثلاثة في الأتّون وسوسان بين الشيخين الفاسقين. ومن العهد الجديد بدأوا يرسمون بعض معجزات يسوع وأهمها: يسوع يردّ البصر إلى الأعمى، يشفي المخلع، يقيم لعازر من الموت. ولكن ما الذي دفع المؤمنين إلى اختيار هذه المواضيع في القرنين الثاني والثالث؟

السبب هو التالي: في الكنيسة الأنطاكية كانوا يتلون صلاة على نعش المنازعين والموتى صلاة كانت قد انتشرت في الشرق والغرب: «أيّها الآب، نجِّ نفسه، كما نجيت نوحًا من الطوفان، وإسحق من يديّ ابراهيم، ويونان من الوحش البحري، ودانيال من جبّ الأُسود، والفتية الثلاثة من الأتّون، وسوسان من الشيخين… ألخ …» ثم تتوجّه الصلاة إلى يسوع الابن الوحيد: «أنت أيضًا، يا ابن الله، انتشل نفسه، أنت يا من فتحت عيني المولود أعمى، وشفيت المخلع، وأقمت يا ابن لعازر، ألخ… »

فهذا الفن المسيحي الأوّل في روما إذًا الذي كان معاصرًا لفنّ الرموز في الشرق السامي والذي رسم صورًا من الكتاب المقدّس، كان فنًّا «مأتميَا» «جنائزيَا» مُعدًا لتحضير النفوس للدخول إلى الحياة الأبدية. كان الرسّامون يصورون أيضًا، إضافة إلى المشاهد الإنجيلية والكتابية، النفس الخالدة الممثلة «بالمصلية»؛ وجميعها تدلّ على الثقة بالمواعيد الإلهية.

لكن أهمّ اكتشاف دياميس كانت مدافن غورديان على فيلاتينا وهو اكتشاف غير منتظر نسبة للدياميس الرومانية. ففي مطلع عام 1955 أثناء بناء منزل في «فيالاتينا»، عثر العلماء على موضع تحت الأرض كلّه جدرانيات . وفي شهور قليلة وبعمل شاق، تابع الأب بيزوا اليسوعي مع علماء آخرين هذه الاكتشافات. فوجدوا على جدران الممرّات جدرانيات عديدة يعود تاريخها إلى السنوات ٣٢٠-350 أي إلى القسم الثاني من القرن الرابع. ومواضيعها موسّعة تتخطى الرسوم الأولى أو تُضاف إليها. فنشاهد مثلاً: الخطبة على الجبل، دانيال بين الأُسود، آدم وحوّاء حزينين، سوسان بين الشيخين، راحاب والجواسيس، آدم وحواء خارج الفردوس مع قايين وهابيل، إخوة يوسف الصدّيق وأمامه موسى يُنشل من الماء، صعود إيليا، الملاك يوقف بلعام، رؤية الملائكة الثلاثة في ممرا، أحلام يوسف، يوسف يبارك أفرام ومنسّى، عبور البحر الأحمر، لقاء المسيح ببولس، شمشون يقتل الأسد.

وقد اكتشف العلماء كذلك جدرانيات عديدة في مدافن دوميتيلا وكاليستا، وبطرس وبولس وبرسكيلا، تعود إلى القرن الرابع، عماد يسوع، قيامة لعازر، السيّد المسيح مُحاط بالرسل الاثني عشر، العذراء والطفل، المسيح بين الرسولّين بطرس وبولس، الراعي الصالح مع قطيع من الحملان، شفاء النازفة، أشعيا النبي والعذراء في حضنها الطفل يسوع. لكننا نلفت النظر إلى صور سيدتنا مریم العذراء. فقد وجدت في الدياميس اثنتا عشرة جدرانية تمثل سجود المجوس. يمتد تاريخ رسمها من القرن الثاني إلى القرن الرابع. وقد رسمت العذراء دائما جالسة والطفل في حضنها، وهي تقبل سجود المجوس. أهميّة هذه الرسوم كونها تشير إلى دخول الوثنيين إلى المسيحية.

في عام ١٨٣١-١٨٣٢ اكتشفت كنيسة بيتية في دورا- أوروبوس (الصالحية اليوم) على الفرات أثناء تنقيبات كانت تقوم بها بعثة فرنسية-أميريكية، بإدارة ميشال روستو فنزيف[6]. والدليل لهم أنها كانت في استعمال جماعة مسيحية، وجود بيت معمودية مزينة جدرانه بالرسوم التي تدلّ على محبة الله لنا، وعن الإنسان الجديد المولود من الماء والروح. فهذه كانت تفتح أمام عيون المعمّدين مستقبلهم في الحياة المسيحية خلافًا لرسوم الدياميس التي كانت تحضّرهم للحياة الأبدية .

وتمثّل رسوم دورا أوروبوس المشاهد التالية: الراعي الصالح الذي يحمل على منكبيه حملاً ويدفع أمامه قطيعًا من الغنم، وفوقه آدم وحواء. هذان المشهدان يشيران إلى الخطيئة الأصلية وإلى الفداء، بينما « شفاء المخلّع» يرمز إلى التوبة التي تحصل بالمعمودية. بينما مشهد «السيّد المسيح يمشي على الماء للقاء بطرس الذي يغرق»، فهو صورة المعمودية ويعلن عن ضرورة إيمان دون خوف. أما «حاملات الطيب» اللواتي يدخلن المغارة قرب تابوت يسوع، وكلُّ منهنّ تحمل بيدها اليمنى شمعة وبالأخرى وعاء طيوب، فيذكّرننا أن الإيمان بالقيامة هو أوّل شرط للخلاص، وبأن المعمودية هي قيامة روحية. مشهد «السامرية قرب البئر» هو نموذج عن التعليم الذي يؤدي إلى المعمودية. أما مشهد «انتصار داود على جليات» فهو في الوقت نفسه دليل على انتصار يسوع على الموت ورمز للمعمودية لأن الممسوح من الرب ينتصر به على الكبرياء وعلى اللعين.

إن الدرس الإيقونوغرافي لهذه المشاهد أظهر أنها رُسِمت بالأساليب ذاتها التي استُعملت لاحقًا في الغرب. إنها نموذج إخباري شعبي. يفترض العلماء أن الرسّام استوحى المواضيع من الكتاب المقدس المنقول رسومًا على البابيروس في ذلك العصر. واستخلص العلماء أن استباق للفنّ البيزنطي. فالنسوة حاملات الطيب يطرحن قضية الوقوف «بالمواجهة» التي ظهرت في عدّة حضارات قبل المسيحية، وهدفها إعطاء صورة واضحة وكاملة ومفهومة عن الأشخاص المرسومين.

ثم إنّنا، في درسنا مصادر أو بدايات الرسم الجدراني في الشرق المسيحي، لا يمكننا أن نتنكّر لرسوم مجمع دورا- أوروبوس اليهودي التي تعود إلى سنة ٢٥٠. إنها مؤلّفة من  مشاهد العهد القديم منذ تاريخ ابراهيم وعهده مع الله، حتى إستير التي دافعت عن حقوق شعبها المنفي. تخبر هذه الرسوم الكتابية عن تدخل الله ومعونته لشعبه كما عن غضبه على الذين يخالفون وصية الله والشريعة. لا شك أن الفنانين استعانوا برسوم من الكتاب المقدس التي بها تمكن الرسّامون المسيحيون أيضًا أن يستوحوا عندما رسموا بيت المعمودية. إن تأثير الإمبراطورية الفارسية التي ضمت إليها دورا- أوروبوس سنة 113 قبل المسيح واسترجعها لوسيوس فيروس شقيق مارك- أوريل سنة 165 ظاهر في الرسوم التي في المجمع اليهودي. نلاحظ هذا التأثير من خلال رسم السراويل التي يرتديها احشورش الملك والفرعون وعدة أشخاص، كما في رسم الجياد الفخمة وسواها.

الفنّ والكتاب المقدّس في عهد قسطنطين[7]

في القرن الرابع وفي عهد قسطنطين الأمبراطور (٣٠6-٣٣٧) ظهر نوع جديد من الثقافة، وارتفعت أبنية جديدة للعبادة. ففي روما شيدت كنيسة القديس يوحنا اللتران (٣١٩) أُمّ جميع الكنائس، وكنيسة القديس بطرس (٣٢٦) حيث ضريح رئيس الرسل؛ وذلك لاجتماعات الموعوظين الذين كثر عددهم في عهد قسطنطين. كانت كنيسة يوحنا اللتران مزينة بمساحة كبيرة من الرسوم الجدرانية مستلّة من أخبار من الكتاب المقدس التي تبدأ بسقوط أدم في الخطيئة الأصلية، وتنتهي بدخول اللص اليمين إلى الفردوس. وبنى قسطنطين كذلك كنائس في الأراضي المقدسة حيث جرت أحداث الخلاص؛ وكانت تُزيَّن تدريجيا بالموزاييك، برسوم من الكتاب المقدس. أما في القسطنطينية فقد شيد الأمبراطور عدة كنائس أكمل بناءها ابنه كونستانوس الثاتي الذي أكمل وأضاف بناء عدة معابد في العاصمة. كما أن عددًا من الباباوات والأساقفة اهتموا في هذه الحقبة التاريخية بتشييد كنائس في روما وفي مختلف ولايات الأمبراطورية. ومعرفتنا لهذه الأبنية تعود إلى المستندات التاريخية. ويبدو أن أغلبيتها كانت مزينة بالرسوم. ففي القرن الخامس مثلاً، عندما كان ساويروس الانطاكي يتلقى دراسة الحقوق المدنية في بيروت، يخبرنا زكريا صديقه وزميله في الدراسة، والذي دوّن سيرة حياته، أنه أخذه يوما إلى كنيسة والدة الإله وكان يشرح له تاريخ الخلاص. ويقول زكريا: « ثم أريته آدم وحواء اللذين كانا مرسومين في الكنيسة وأخبرته عن عدد الشرور التي تولدت من جراء معصيتهما…»[8]

غیر أن هذا العدد من المعابد لم يكن وافرًا، لأن انتشار البدعة الآريوسية جعل بناء المعابد بعد وفاة قسطنطين (337) وانتماء خلفائه الأباطرة إلى الآريوسية يتوقف. علينا أن ننتظر نصف قرن ومجيء الأمبراطور تيودوسيوس الأول (۳۷۹) لمتابعة حركة البناء. إذ إنه في هذا النصف قرن، لم يحدث أي تقدّم في عالم الفنون المسيحية، فالامبراطور تيودوسيوس الأوّل هو الذي حارب الآريوسية.

رغم انتشار هرطقات لاهوتية في عهد هذا الامبراطور، ظهر في الكنيسة قديسون كبار وشهداء. نذكر هنا باسيليوس الكبير غريغوريوس اللاهوتي ويوحنا فم الذهب وغريغوريوس النيصي وأنطونيوس الكبير ومكاريوس المصري. وأصبحت الامبراطورية في القرن الخامس امبراطورية مسيحية. وبسبب تقدم علم اللاهوت ووجود ألوف الحبساء والرهبان، نشأة حضارة فنية ورسوم للكتاب المقدس رائعة ومتنوعة قال فيها القديس باسيليوس « إنها أقوى من الكلمات». ومن أكبر المدافعين عن الصور المقدسة في ذلك العهد القديسون أثناثيوس الاسكندري وكيرللس الاسكندري ويوحنا فم الذهب وغريغوريوس اللاهوتي. بين الكتّاب الكنسيِّين والآباء في الغرب ظهر القديس بولينوس أسقف نولا (٣٥١-٤٣١) وكتب خاصة عن الأيقونات. فقد شيّد هو شخصيًا بعض كنائس وزيّنها بالصور المقدسة. وبصفته راعيًا ذا اختبار عملي، رأى أن الرسوم الدينية تجذب انتباه المسيحيين وخاصة الموعوظين أكر من الكتب. لهذا، قصد أن تكون عنده في الكنائس رسوم عديدة. ونذكر كذلك القديس نيلوس الذي ظهر في القرن الخامس وهو من سيناء ليوحنا فم الذهب (430) ومن الكتاب القدامى المشاهير. وقد ورد في سيرة حياته أن أحد كبار موظفي الامبراطورية ويُدعى أولمبيادور بعد أن شيد كنيسة، شاء أن يُدبّج جدرانها بالرسوم الجميلة. فاختار مشاهد صيد وحيوانات على جهة من الجدران، ثم البحر مع مشاهد أسماك على الجهة الأخرى. كان همّه الصفاء الجمالي. فاستشار القديس نيلوس بهذا الموضوع. فكتب القديس ما يلي: «إن ما تنوي رسمه صبياني وخطير أن تسحر عين المؤمن بصور كهذه. دع يد أمهر الرسامين تتوج الجهتين من الكنيسة بصور أخبار العهدين القديم والجديد، حتى إن الذين يجهلون القراءة ولا يعرفون أخبار الكتاب المقدس، يتمكنون أن يطلعوا عليها عندما يتأمّلون هذه الرسوم التي تمثل أعمال هؤلاء الذين خدموا الرب دون كذب، فيشجعون الناظر على الاقتداء بأعمالهم وبفضائلهم، هؤلاء الذين فضلوا السماء على الأرض واللامنظور على المنظور».

إن كنائس الأراضي المقدّسة رصّعت جدرانها بالموزاييك الذي لم يكن يُستخدم سابقًا إلاّ لتزيين أرض الكنيسة. فالمسيحية جعلت منه زينت للهيكل والجدران وذلك في القرن السادس. لقد اندثرت هذه الأعمال منذ زمن بعيد، غير أنه تم اكتشاف قوارير صغيرة من المعدن محفوظة في مدينة مونزا ومدينة بوبيو، تعود إلى القرن السادس، مزيّنة بمشاهد دينية تُعتبر منسوخة عن موزاييك الكنائس في الأراضي المقدسة. هذه القوارير كان زوار الأراضي المقدسة يحملونها معهم مملوءة زيتًا مقدسًا. نشاهد عليها صورة حاملات الطيب والصعود والعشاء السري وحلول الروح القدس وميلاد يسوع وزيارة المجوس. ولقد استفاد الرسّامون لاحقًا من هذه الصور على القوارير لرسم الأيقونات.

أما روما فقد احتفظت ببعض الموزاييك القديم المتأثّر بفلسطين وذلك في كنيسة القديسة بوداتيين ومريم الكبرى كما في كنائس رفنا، هذا الموزاييك يعود إلى القرنين الخامس والسادس. في القرن السابع دبّجت جدران كنيسة آجيا صوفيا بالموزاييك وكذلك كنيسة الاثني عشر رسولاً.

ماذا كانت الغاية من رسم مشاهد الكتاب المقدس في الفن؟ إن آباء الكنيسة يولون أهمية كبيرة للصور المقدسة الفنية لكنهم لا يقصدون قيمتها الجمالية بقدر ما يشددون على قيمتها كوسيلة لتعليم العقيدة المسيحية الأساسية. وهذا الطابع العقائدي هو علامة للفن المقدس في كل الأزمنة. فمنذ بداية القرن الرابع نرى الكنيسة تستخدم الرسوم الدينية لمحاربة الهراطقة. ففي صراعها للمحافظة على صفاء الإيمان وضعت في مجمع اللاذيقية (٣٤٣) قوانين عن الفن. يعتبر المجمع أنه لا يُجاوب على الضلال والهرطقات فقط بتعليم الآباء ولا باختبار القديسين بل بالليتورجيا والتصوير. ففي الصور تفاصيل تتحدّث عن عقيدة الكنيسة وتفنّد الهرطقات. نشير هنا إلى هرطقة آريوس الذي قال بأن يسوع ليس إلهًا بل خليفة.حرمه مجمع نيقيا (٣٢٥) وأمر بكتابة حرفي ألفا وأوميغا على جهتي صورة السيد المسيح، المُستلّين من سفر الرؤيا: «أنا الألف والياء، أنا الأوّل والآخر، أنا البداية والنهاية» (رؤيا ١٣:٢٣) سنة 431 حرمت الكنيسة في مجمع أفسس عقيدة نسطور عقيدة أمومة مريم العذراء الإلهية وأعطتها لقب «ثيوتوكوس».

تعزّزت هذه النزعة العقائدية في عاصمة الامبراطورية التي اهتمت برسم قصص العهدين القديم والجديد إن بالموزاييك وإن بالرسوم الجدرانية، وبألوان جميلة. فالأمبراطور يوستنيانوس الأول دعا إلى مجمع القسطنطينية سنة 553 الذي حرم النسطورية ولم تصبح القسطنطينية خلاّقة إلاّ في عهده.

في القرنين الثامن والتاسع ظهر محاربو الصور الدينية ودعوا «أيقونتين» واستمرت حربهم من سنة ٧٢٠ حتى سنة 840 تتخلّلها بعض مراحل سلام. فإلى جانب النسطورية والمونوفيزية الرافضتين كلّيًا الرسوم الدينية، معتبرتين أنّ هذه الظاهرة الفنية عودة إلى الوثنية، ظهر اليهود والمسلمون وساهموا في الولايات المسيحية التي احتلّها جيش النبي في هذه الحرب ضد الأيقونات. فأمر الخلفاء بنزع الصور من الكنائس وتحطيمها. فالأمبراطور لاوون الثالث ولأسباب عديدة ألغى تكريم الأيقونات.

كان هذا الأمبراطور أكبر المضطّهدين وأعنفهم. فقد أمر بموافقة موظّفين علمانيين وكنسيّين من حاشيته سنة 730 بتحطيم الصور الدينية. فخلع جرمانوس البطريرك القديس عن كرسيه لأنه لم يوافق على توقيع المرسوم الامبراطوري.

ثم إن الكنيسة المعترضة ظهرت أوّلاً في موقف البابوات غريغوريوس الثاني (715-۷۳۱) وغريغوريوس الثالث (۷۳۱-741)، وفي مواقف حنا الدمشقي (675-741) الذي ألف مقالات ثلاثة مهمة صاغ فيها لاهوتًا حقيقيًا للأيقونة، مبرّرًا عقيدة الطبيعتين الإلهية والإنسانية في المسيح، ناسبًا إلى “الأيقونيّين“ جهلهم المدقع لهذا السر. بنظره، صور السيّد المسيح كان لها الفضل في تثبيت حقيقة طبيعته البشرية. ويبرهن إضافة إلى ذلك أن الرسوم التي هي رسوم المثال الإلهي كانت تساعد على الدخول في إدراك السر الإلهي .

أما الأمبراطور قسطنطين الخامس (741-775) فقد لجأ إلى العنف، فحطم الصور الدينية وكسّر الموزاييك وأتلف الجدرانيات في مختلف أرجاء الأمبراطورية إلى جانب التعذيبات التي ألحقها بالمعترضين على أوامره. فزجهم في السجون ونفى بعضًا منهم أو قتلهم. ولكن لما استولت الأمبراطورة إيرين على العرش باسم ابنها القاصر قسطنطين السادس اهتمت مع البطريرك بتحضير انعقاد المجمع السابع المسكوني سنة ٧٨٧ في مدينة نيقيا حيث حضره ممثلون عن البابا أوربانوس الأول وعن بطاركة الإسكندرية وأنطاكيا وأورشليم. وهؤلاء ثبتوا باحتفال تكريم الصور مشدّدين على أن لهذه الحق ليس بالعبادة (لاتريا) بل بالتكريم (بروسخينين). كان هذا التكريم بنظرهم من واجب كل إنسان تقّي.

وما كاد السلام يحلّ بالأمبراطورية حتى عقد لاوون الخامس سنة 815 مجمعًا في كنيسة آجيا صوفيا أعاد فيه من جديد تحريم الصور. أمّا ابنه تيوفيل الذي خلفه سنة ٨٢٩، فواصل عمل والده. بعد وفاته عقدت أرملته الأرثوذكسية تيودورا، التي كانت تكرم الأيقونات خفية مع بناتها، مجمعا لإعادة تكريم الأيقونات. وفي ۱۱ آذار سنة 843، أول أحد من الصوم الكبير، احتفل بهذا الحدث في كنيسة آجيا صوفيا بحضور عدد غفير من الرهبان ومساهمتهم، إذ نزلوا من جبال بيتينيا، وأقاموا زياحا في شوارع المدينة معلنين انتصارهم.

لا بد أن نشير هنا إلى أنه في القرن الثامن كان لأوروبا موقف من بيزنطيا. فلم يعد البابوات يعتبرون أنفسهم متعلقين بأباطرة القسطنطينية. وكانوا مناهضين السياسة الأباطرة الأيقونيين ويعتبرونهم عاجزين عن الدفاع عنهم ضد البرابرة اللومبردتين، فإنطلاقًا من البابا اسطفانوس الثاني (٧٥٢-٧٥٧) أمّنوا اتفاقهم مع الزعماء الفرنج الذين اعترفوا للبابوات بسلطتهم الزمنية على كونتية روما القديمة. فتوّج البابا لاوون الثالث شارلومانيو امبراطورًا سنة 800، وتم الإنفصال السياسي عن بيزنطية. كان ينبغي انتصار الأمبراطور البيزنطي ميخائيل الأول (۸۱۱-۸۱۳) ليعترف سنة ٨١٢ لشارلومانيو بلقب إمبراطور.

غير أن إمبراطورية الغرب وأساقفته كانوا يتابعون باهتمام مجری جدل الأيقونات. “فالكتب الكارولينية” سنة 790، ومجمع فرانكفورت سنة 794، ومجمع بلريس سنة ٨٢٥ أخذوا موقفًا في الصراع البيزنطي وكان لهم استقلال في الرأي من النزاع. فحرموا محاربي الأيقونات كما مكرّميها. وأظهر الفرنج في هذا المجال عنفًا أكثر من البابوات والإيطاليين. فلاهوتيّوهم كانوا يرفضون صور سير القديسين التي يمكن أن تؤدي إلى فساد العبادة الإلهية وتعدّد الآلهة. وكانوا يأمرون فقط برسم أخبار من الكتاب المقدس ذات قيمة تربوية عقائدية كمشاهد من حياة السيد المسيح، والرؤى الإلهية، والصور التي برموزها تشير إلى الحقائق المسيحية الكبيرة.

لكن كل هذا لم يمنع أن يستمر المسيحيّون في الشرق والغرب يبنون الكنائس ويزينوها برموز عديدة مستوحاة من الكتاب المقدس. ومن الضروري هنا أن نلفت النظر إلى رسوم كنائس الكابادوك وإلى أهميتها طيلة القرون الوسطى المسيحية..

ما هي الكابادوك الواقعة اليوم في تركيا؟ إنها مثلث جغرافي زواياه ينجد واكسراي وقيصرية. يحتل هذا المثلّث مسطّحا بركانيًا كبيرًا. يتميز بمناخ غریب، صیفه ناشف وشتاؤه خارق البرودة. في عهد غير معروف، تاريخيا، تفجّر جبل أرسييس البركاني وتفل من فوهاته على تلك الأراضي الشاسعة مادة حوارية توزعت على مسافة عشرين ألف كيلومتر مربع تقريبا. وهذه المادة غاية من الضخامة والكثرة بحيث أن ألاف الشظايا المتطايرة راحت مع تقلبات الأرض المتزايدة جيلا بعد جيل. تتحول إلى صخور شاهقة في الارتفاع يؤلف مجموعها مدينة طبيعية غاية من الغرابة والجمال. وقد اختارها المسيحيون الهاربون من الجنوب في القرن الثاني مركزا لحماية أنفسهم، فاستوطنوها وحفروا في هذه الصخور الحوارية كهوفا ودياميس.

على هذه الأرض بالذات وُلد في القرن الرابع باسيليوس الكبير، أسقف قيصرية( ٣٢٩-۳۷٩)، فأسّس في وادي غوريم، إحدى أجمل مناطق الكابادوك، ديرًا لتنشئة الرهبان على حياة النسك والتصوّف. ونشاهد اليوم مائدة الدير وأهراء الحنطة محفورين في الصخور.

في هذه المنطقة توجد حوالي أربعمئة كنيسة كانت منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع إحدى أكبر مراكز المسيحية. وهذه الكنائس موزعة على عدة أماكن متاخمة لبعضها البعض. أشهرها كنائس غوريم وكنائس أهلارا.

جدرانها وقببها وحناياها مزيّنة بالجدرانيات رسمها فنانون وأغلبيتهم من الرهبان. جميعها مستوحاة من سيرة السيد المسيح وسير القديسين والملائكة ومن أخبار العهد القديم وأشخاصه البارزين.

فكنائس غوريم الممكن زيارتها اليوم وهي الأكثر شهرة بسبب كنائسها المحفوظة فيها الرسوم الدينية، أهم هذه الرسوم: ضيافة ابراهيم، صورة السيد المسيح تصدر الحنية. ثم هنالك سلسلة من الرسوم تتكرر في جميع الكنائس الصخرية: الميلاد، الغطاس، الهرب إلى مصر، قيامة لعازر، الدخول إلى أورشليم، العشاء السري، خيانة يوضاس، حاملات الطيب، القيامة، التجلي، الصعود. ثم سيرة السيد المسيح وعجائبه بحسب ترتيبها الزمني، قتل اطفال بيت لحم. يضاف إلى هذه الرسوم صور رؤساء الملائكة والقديسين الشهدين جوارجيوس وثيودوروس، ثم باسيليوس، والرسل والإنجيليين الأربعة، وقسطنطين وهيلانة حاملين الطيب .

أما في كنائس أهلارا الصخرية فتتكرر رسوم السيّد المسيح، يضاف إليها رسوم المجوس حاملين الهدايا، نياحة السيدة العذراء، دانيال في جبّ الأسود، رسوم الأنبياء، الشهود الأربعون، يوسف ونيقوديموس يحملان إلى القبر جسد السيد المسيح، قتل الأطفال، الامتحان بالماء. ألخ….

نذكر هنا أن الأهالي الساكنين قريبا من هذه الكنائس الصخرية المدبّجة بالرسوم، خرّبوا الجدرانيات بسبب تعصبهم الديني وجهلهم.

كان رهبان الكابادوك بهذا الأسلوب التجريدي يريدون أن يعبروا بصور مرئية عن أحداث روحية سماوية. يقول باسيليوس:” إن نظرنا الذي هو ضعيف، يجعلنا نرى الأشياء المرئية صغيرة… إن ما هو حقا جميل يتخطّى كل إدراك وكل قدرة بشرية حتى نتمكن من تأمله بقوى العقل وحدها.“

انطلاقا من هذه النظريات كان لفناني الكابادوك الجرأة على التّفلّت من الكلاسيكية الرومانو- يونانية التي تعتمد على الطبيعة وعلى الجمال الطبيعي، فأبدعوا أسلوبا متحررا من كل قيد وتمليه عليهم فقط الرؤى التي كانوا يستغرقون يوميا في تأملها في الكتاب المقدس.

غير أن هذه النظرية في التعبير توقفت في أوروبا في عصر النهضة وعادت مشاهد الكتاب المقدس ترسم طبقًا لفلسفة خاصة، يطول شرحها في هذا المقال.

أختم هذا المقال بالقول: إن ملافنة الكنيسة الشرقية أمثال باسيليوس القيصري وغريغوريوس النزينزي وغريغوريوس النيصي كانوا يعتبرون أن أخبار الكتاب المقدس في الكنائس هدفا لتثقيف المؤمنين بأخبار الوحي الإلهي وتثبيتهم في العقيدة المسيحية. وانتهت عقيدة الفن هذه بانتصارها على الذين حاربوها نظير أوسابيوس (حوشب) القيصري (٢٦٧-340) وبعده أبيفانيوس أسقف سلامين (قبرص) (367-440) اللذين استمرا مشددين على عدم رسم الصور المقدسة، والعودة إلى أيام المسيحية الأولى، لأنهما كانا يريان في رسم السيد المسيح وسيرة حياته، والعذراء، والملائكة والقديسن، عودة إلى الممارسة الوثنية.

فالكنيسة، بعرضها على الرسامين المواضيع المستلة من أخبار الكتاب المقدس، التي كان لها تأثير بالغ في المشاهدين، خلقت نموذجا جديدا في الرسم التشكيلي .


[1] DANIELOU (J), l´eau vive et le poisson RSP, 1958, 1-12; la palme et la couronne, Irenikon, 31, 1958, 19-40, La vierge et l´arbre de vie, Melanges Hugo Rahner, 1961; CARCOPINO (j) le mystere d´un symbole Chretien, Paris, 1958.

[2] DANIELOU (J), les symbols chretiens primitives. Paris, BAGATTI, B, Alle origine delle Chiesa, 2vols, Vatican 1981 – 1982; TESTA, E; Il simbolismo dei crindo cristiani, Jerusalem, 1962; HANI,j, le signe de la croix, dans “ le symbolism dans le culte des grandes religions”. Louvain – la – neuve 1985, pp 317 – 355.

[3] الأب يوحنا صادر، إشارات ورموز في الفنّ الماروني القديم، بيروت، الحياة الرهبانية في لبنان من خلال علم الآثار، بيروت، 2009.

[4] Bosio (A), Roma, sotteranea. Roma, 1632.

[5] De ROSSI, (J.B), Romea sotterranea Cristiana, 3 vol, Roma, 1864 -1877; ALLARD (P), Rome souterraine, Paris, 1872; ROLLER (th) Les catacombes de Rome, 2vol, Paris 1881

[6] CUMONT (fr), fouilles de Doura – Europos, 2 vols, Paris, 1926.

[7] LAURENT (M), L´art Chretien des origins a justinien, Bruxelles, 1956.

[8] NAU (F) Vie de severe d´Antioche, Revue de l´Orient Chretien, Opuscules Maronites, vol 4, 1809, 557 – 559.

Scroll to Top