الخوري طوني الخوري
ألَم يحدُث أنَّكم وقفتُم مذهولين أمام رسمٍ أو منحوتَةٍ ما، أو استمَعتُم إلى قصيدةٍ أو قطعةٍ موسيقيّة استطاعتا أن تبعثا فيكم الرغبة في الصُّراخ والتصفيق؟. هل بإمكانكم أن تصفوا الشّعور الذي انتابكم في تلك اللحظات؟ ألَم تشعروا بالفرح، وكيف أقولُها، بِما هو أبعَدُ من الفَرَح وما لا تستطيع الكلمات احتواءه والتعبير عنه؟ ألَم تشعروا بأنَّ ما أنتُم أمامَه ليس مُجرّد حجرٍ أصَمّ أو قطعة من القماش الملوَّن، أو مُجرَّدَ كلِماتٍ مرصوفَةٍ رصفاً جيّداً، أو مجموعَةٍ من الأصوات المُنتاسِقة؟ ألَم تشعروا بأنّ ثَمَّةَ ما يفوقُ المادّة في هذه الأعمال الماديّة، وأنّكم أمام مادّةٍ فقدت صفَة الجَماد وراحت تتحرَّك، بعد أن عالَجها إزميل نحّاتٍ وريشة رسّامٍ، وتتكلّم وتُخاطِب أفئدتكم وأرواحكم وتوصِلُ إليكم رسالة ما؟ أليس هذا ما استشعره مايكل أنجلو أمام تمثال موسى الذي قام هو بنفسه بنحته، فما كان منه إلاَّ أن ضربه بالمطرقة على ركبته قائلاً له :” موسى تكلّم“؟!.
في دير كيكوس في قبرص كنيسة صغيرة هي كنيسة الدير، قد كان لي نعمة زيارتها منذ عِدّةِ سنوات، الأمر الذي ترك في نفسي انطباعاً لا يُنسى. قبل الزيارة، كُنتُ مِمّن يُغالون في انتقاد مظاهر الثراء والفخفخة في تزيين دور العبادة. وبالرغم من كوني مُلِماً بعض الشيء بعالم الفنّ وبالأخص الأيقونة المقدّسة، كان لسان حالي لِسان حالِ الناس:”ما حاجة الله إلى هذا كُلِّه“. لَم تكَد عيناي تُبصِران داخل الكنيسة، وكنتُ بعدُ عند عتبة الباب الرئيسيّ، حتى سُرِقتُ من ذاتي، وقُذِفتُ إلى عالَمٍ آخر غير مصنوع من اللحم والدّم، ولا من الأشياء الماديّةِ الزّائلة؛ فالكنيسة على صِغَر حجمها، مُزيَنة بالثريّات المصنوعة بمهارةٍ وإبداعٍ شديدين، وهي تُشعرك بأنّك صِرتَ جزءاً من جماعة القدّيسين الذين في السماء؛ والإيقونوستاز المُزخرف بتقنيّة بالغة، مُزَنّر بأيقونات مكتوبَةٍ بإيمانٍ عميق وينبعثُ منها نورٌ سماويٌّ سُرعان ما يجذبُك إليه وينقُلُكَ إلى خارج الزمان والمكان. أمّا الآنية المقدّسة والملابس الكهنوتيّة فليست أقلَّ قيمة وزخرفةً، وهي تليق بخدمة مَن مِنه وله كلّ شيء. وباختصار شديد، لَم أعُد أشعُر أنّني في إطار عادي؛ فالإطار العادي لا يلمُسُك ولا يُحدِثُ في كيانِك ثورة “الخروج” من ذاتك وعليها؛ بل صرت في إطار مُقدَّس استطاع أن يرفعني من المحسوس والملموس إلى اللامحسوس واللاملموس، ومن المنظور إلى اللامنظور، ومن الطبيعي إلى الفائق الطبيعة، إلى الإلهي. في تلك اللحظات المُشبعة بالإلهيّ، سقطتُ ساجداً على تلك الأرض المباركة، خالِعاً نعليَّ المُلطّختين بغبار الطريق والأفكار الساقطة، صارِخاً صرخَةً تنفجرُ بالفرح والحُبّ، هاتفاً بصوتِ عالٍ مع القديس فرنسيس الأسّيزي:” يا إلهي، أنتَ جمال…أنتَ جمال“. نعم، لقد رأيته، رأيته في تلك الجمالات التي هي إبداع بشريّ، ولكنّها جمالاتٌ ولِدت في الإيمان، ولأنّها كذلِك حملت في ذاتها القُدرة على أن تَلِدَ إلى الإيمان وتُحدِثُ مُعجِزَة “الخروج” من العادي والمألوف إلى الإلهيّ.
عطشٌ إلى المُطلَق
يُعبِّرَ الفنّ عن رغبة الإنسان في تخطّي ذاته وإطاره المحدود في الزمان والمكان وعن عطشه إلى المُطلق. فعندما كتب أندريه روبليف أيقونة الثالوث الأقدس، لَم يكن همّه إبراز جماليّة ماديّةٍ مُعيّنةٍ تتمثَّلُ في مجموعة ألوانٍ وخطوطٍ، ولا إظهارَ تفوُّقٍ ما؛ وعندما رسم مايكل أنجلو كنيسة السيستينا بطلب من البابا يوليوس الثاني، لَم يكن ذلِك بقصد التبجُّح ولا بنيَّةِ إظهارِ مهاراتٍ فنيّة لا بُدَّ منها في أعمال خالدة كهذه. وعندما وضع موزارت وبيتهوفن وباخ وهاندل وهايدن موسيقى القدّاس ولحّنوا مقاطع من الإنجيل والمزامير، لَم يكن ذلِك بهدف الفنّ من أجل الفنّ. وعندما صمّم برامانت Bramante ومايكل أنجلو، و لو برنان Le bernin كنيسة القديس بطرس في الفاتيكان، لَم يكن ذلِك لِمجرّد الإفتخار؛ وعندما نَظَم كُلٌّ من هيلاريوس، وأمبروسيوس، وبرودنسيوس، وأفرام السرياني، وغريغوريوس النّيصي، وبولينوس النّولي، واليوم الحبيس الأب يوحنا الخوند الشّعر، لَم يكن ذلِك بقصد إبراز الذّات، بل كان ذلك تعبيراً عن عطشٍ إلى المُطلَق، ورغبة في تخطّي العادي الذي سُرعان ما تألفه العيون فتُهملًه، والإتصال بالماورائيّ الذي يبقى قُبلة أنظار الإنسان. وفي الواقع، لم تكن هذه الأعمال الفنّية التي وُلِدَت في الإيمان، سوى بوابة عبور إلى عالَمٍ آخر يُمثِّلُ قمَّة ما يصبو إليه الإنسان، عالم الألهيّ؛ وبإمكان الفنّان أن يكون سفير البشري إلى الإلهيّ، وبإمكان أعمالِه أن تكون سفير الإلهي إلى البشريّ، وبهذا القصد تسمح الكنيسة للفنّان بأن يبُلَّ فرشاته في “أبجدية الكتاب المقدّس الملونّة” على حدّ قول رينيه شاغال، وأن يضرب بإزميله الصخر ليُقدِّم الموضوع الدينيّ بصورة جذّابة وسهلة القراءة ” لِتُساعِد مؤمنيها الضُّعفاء، فتعلّمهم بطريقة بسيطة قواعد الإيمان التي، بفضل هذه الفنون، تُصبح سهلة الفهم وراسخةً في الذاكرة إلى حدِّ أنّها بالنسبة إليهم تٌساوي الكُتُب“[1]، ولكي يستطيع ” الأميّون أن يقرأوا، على الاقل عندما يعاينون الجدران، ما لا يستطيعون أن يستجلوه في المخطوطات“[2].
أبجدية الكتاب المقدس الملوّنة
إنَّ ما كتبه شاغال، في هذا الصدَّد يسير في السياق نفسه الذي أراد من خلالِه كلٌّ من باليوتّي والقديس غريغوريوس الكبير وغيرهما من اللاهوتيين والفنّانين،إظهار قوّة الفنّ المقدَّس في الكشف عن الجمال الإلهي والتبشير بالإنجيل. فأبجديةُ الكتاب المقدّس الملونّة التي يتحدَّثُ عنها شاغال، والمُرَكّزة على تجلّيات الله في التاريخ البشري، لا سيّما في شخص يسوع المسيح، مِحورِ الفنّ المقدّس وأساسِه، ليست مُجرَّدَ حروفٍ ومخارج صوتيّة وجُمَل ونصوص وحسب، تُمَكّنُ من إقامة حوار بين الله والإنسان، وإنّما هي أيضاً صُوَرٌ لديها قُدرة الأبجديّة على الحراك والتحريك، لأنَّ موضوعها مُقدّس وبالتالي ليس موضوعاً جامداً، بل حيّاً مُتحرّكاً وقادراً على إحداثِ ثورة الخروج من الذّات وعلى الذّات، والدّفع بالعقل والإرادة والذاكرة إلى الإندهاش، فالإيمان، فالإهتداء. هذا بالتحديد ما كانت الكلمة تصنعه بالسّامعين على حدِّ ما أظهرهُ الإنجيل، وهو دورٌ تستطيع الصّور المقدّسة أن تلعبه لِما تحمِل في طيّاتها من جمالات تدعو هي أيضاً إلى الإندهاش وتمجيد الله. فالصّورُ المقدّسة تُثقِّف العقل كما عند قراءة الكُتب، ومُشاهدة الصّور تُفعِّلُ الرغبات الإيجابيّة للإرادة، وتُبعد عن الخطيئة عندما توقِظُ في النفس الرغبة في التقوى وفي الإقتداء بحياة القديسين المُمجّدين. أمّا الذاكرة فتُصبِح أكثر يقظة وانتباهاً عند المشاهدة والتأمُّل، بحيثُ إذا أفلتت الكلمات من العقل تُعيد الذاكرة إنعاشَه بالصورة وتُعيد إليه الكلمات الهاربةُ.
المسيح الفنّان
تروي الأناجيل كيف أنَّ يسوع نفسه استعمل الفنّ لإيصال البُشرى بالإنجيل. هي حتماً لا تَضع يسوع ضمن إطار الفنّانين بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، فيسوع لَم يرسم ولَم ينحت ولَم يؤَلِّف الموسيقى، ولكنّها تُقدِّم لنا قواعِد فنٍّ جديد استعمله يسوع بُغية إيصال الإنجيل، لا سيّما في الأمثال. أراد يسوع من الأمثال أن تكون شاهدةً لحقيقةٍ جديدة تعلو على العالم المادّي وتقود إلى ما يفوقُ الزّوال؛ حقيقة ملكوت السّماوات. لَجأ يسوع إلى ما ألفه الناس وإلى ما توفَّر من موادّ بين أيديهم؛ البذار والقمح والزؤان وحبّة الخردل والخميرة والوليمة، والكيل والسّراج، والتراب والرّمل والصخر، وشجرة الزيتون والتينة والكرمة، والدّرهم والدنانير، والسمكة والخروف والمياه والشبكة، ولَم يغفل عن الإنسان … مَزج هذه المواد كلّها بطريقة مُميّزة وصنع منها لوحاته الشهيرة التي لوّنت التاريخ البشري بألوان السّماء والرّجاء: مثَل السامري الصالِح (لو10\25-37)، والإبن الضّال (15\11-31)، والخروف الضّال (متى18\12-14)، والزّارع (مر4\1-9)، والسّراج (مر4\21-23)، والكَيل (مر4\24-25)، وحبّة الخردل (مر4\30-34)، والملح (لو14\34-35)، والزؤان(متى13\24-30)، والخميرة في العجين (لو13\20-21)، والوليمة (لو14\15-22)، والتينة (لو13\6-9) والدّرهم الضّائع (15\ -10)، والدنانير الذهبيّة(لو19\11-27)، والكنز واللؤلؤة والشبكة(متى13\44-50)، والخروف الضّال (لو15\1-7)، والغنيّ الجاهل (لو12\13-21)، والبيتَين(متى7\24-27)، وغيرها من اللوحات التي تُزيّن صفحات الإنجيل. وجَمع بشكلٍ فريد لَم يُعرَف من قبل، ما بين الرّواية والرؤية، فأصبحت الرّواية مرئيّة والكلمة صورة مُتكلّمة.
لقد كيَّفَ يسوع الرّواية فجعلّها ناطقةً ومُتحرِّكة، ليُصبِح كُلُّ سامعٍ مُشاهِداً وكُلُّ مُشاهِدٍ مُتأثِّراً وشاهِداً لِما سَمعَ ورأى، وبهذا يُقدِّم ذاته كفنّانٍ أصيلٍ يعرف كيف ينتقل بالمُشاهد والسّامع من حقيقةٍ محض أرضيّة إلى حقيقة سماويّة تُعتبر هدف كلّ حياةٍ أرضيّة.
الفنُّ والبُشرى بالإنجيل
لطالما كان الفنّ وسيلة للتعبيرعن الإيمان ولِنقل الرسالة المتعلّقة بالإيمان. هذا ما وعته الكنيسة منذ بداياتها، فعبّر المسيحيّون الأوائل عن إيمانهم بالمسيح المُخلّص وبالقيامة، من خلال رسومات- رموز؛ السمكة، الأرغفة والراعي الصالِح، شكّلت شيفرة تواصل بين المسيحيين في زمن الإضطهاد ودلّت على أسرار الإيمان. لقد كوّنت هذه الرسومات – الرموز على بداءتها، اللمحات الأولى لفنٍّ تصويري شكَّل الصّيغة الأوّليّة لفنٍّ جديد سرعان ما سيطفو على السطح ليلوِّن العالَم بألوان الخير والجمال الآتيين من فوق.
من المُمكن، إذاً، اعتماد الفنّ المقدّس، من رسم ونحت وموسيقي وشعرٍ ومسرحٍ وسينما… كشاهدٍ صادقٍ على حقيقة التجلّي الإلهي في التاريخ البشري. وبهذا المعنى يُصبِحُ الفنُّ مُعلِّماً وناقِلاً لِبُشرى الإنجيل، لأنّه يرتاح على الإيمان بيسوع المسيح المُتجسّد،”صورة الله غير المنظور” (را كو1\15)، وبدونِه لا وجود لفنٍّ مسيحيّ. فالسيد المسيح هو “كلمة الله“(Verbum Dei) الذي ظهر في الجسد ك”صورة الله“(Imago Dei)، وفي شخصه اتّحدت الكلمة بالصورة، فإذا به”كلمة مرئيّة” و”صورة متكلّمة“. لقد دفع ميلاد المسيح، “الكلمة الذي صار جسداً“، باتجاه إيجاد طريقةٍ جديدة تكشف عن الله وتهدي إليه، ومن هذا المنطلق يُضحي الفنّ المقدّس “قاموساً شاسعاً” كما سمّاه بول كلوديل، و”أطلساً إيقونوغرافيّاً” كما دعاه شاغال، ومنهلاً ومدخلاً إلى الإيمان، يُساعد على فهم المسيحيّة، وتقديمها إلى العالم بصورة جذّابة، دون حرمان البشارة عينها من قيمتها العلوية أو من هالة السرّ التي لها[3]:” فبالنسبة إلى الكثيرين من الناس، من المسيحيين أنفسهم ومن غير المسيحيين، القادمين من كلّ القارات، والمنتمين إلى دياناتٍ مختلفة عنّا، لا تُعرَف الكنيسة الكاثوليكيّة أحياناً إلاّ من خلال التّحف الفنيّة المحفوظة في متاحف الفاتيكان. فمن جُدران هذه المتاحف كما من جُدران الكاتدرائيّات والهياكل المسيحيّة في العالم، تُتابع الكنيسة القيام بإحدى واجباتها الأساسيّة ألا وهي البشارة بالإنجيل“[4].
يُشير القديس يوحنّا الدمشقي بدوره، في دفاعه عن الأيقونات المقدّسة، إلى عظمة الفنّ الذي يُصَوّر المسيح في طبيعته البشرية فيقول:” علينا من الآن فصاعداً أن نستبدل صورة الخروف القديم بالطابع البشري للمسيح إلهنا، لكي نفهم عُمق تواضع كلمة الله ونتذكّر حياته بالجسد، وآلامه وموته الخلاصي كما نتذكّر خلاص العالَم الذي هو نتيجة لموته“. لقد زال الرّمزُ وأشرقت الحقيقة، جاء الله بدل الخروف، والإنسان بَدل الحَمل، وفي هذا الإنسان المسيح المالىء الكُلّ[5].
أدوات التعليم المسيحي المُدهشة
يضع الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني الإرث الفنّي الذي أوحى به الإيمان في خانة “أدوات التعليم المسيحي المُدهشَة” التي تحتاجها الكنيسة من أجل نشر البشارة التي عهدَ بِها إليها مؤَسّسها، و”إحياء الرسالة الشاملة للخير والجمال“[6].
في الواقع، إنّ “الكنيسة في حاجة إلى الفنّ“[7]، إلى رسّامين قادرين على تجسيد البُّعد الإلهي اللامنظور في طابع منظور ذي قيمة ودلالة عاليَتَين. إلى مهندسين معماريين مُلهمين ومبدعين باستطاعتهم خلق فُسحات تُعتبر في الوقت عينه، “أماكن صلاة وأعمال فنية أصيلة“، تجعل عالم الروح، وعالم اللامنظور، وعالم الله، محسوساً، لا بل، قدر المستطاع، أخّاذاً. وإلى موسيقيين “تشرّبوا بعمق معنى السرّ“، فتأتي أعمالهم باعثةً الفرح الخلاصي.
ولأنَّ الفنّ المسيحي مُرتكز ومتمحورٌ حول المسيح، فإنّه يُضحي وسيلةً للإستعمال في الليترجيا المقدّسة التي تُقدِّم لنا “كلمة الله” وتُساعدنا على التأمّل فيها بقدرِ ما هي مزوّدة بسردٍ ثابتٍ وراسخ. إنَّ القدرة على نقل البُشرى بدَعمٍ من الصور الثابتة هو ما يجعل الفنَّ مؤثّراً ومُساعداً على التأمّل” فهناك تعابير فنيّة هي بالحقيقة دروبٌ نحو الله، هذا الجمال الأسمى، وهي تُساعدنا على النمو في علاقتنا معه في الصلاة، ممّا يدلّ على أنّها تُحَفٌ وُلِدت في الإيمان وتُعبّرُ عن الإيمان“[8]،وتقود بالضرورة إلى الإيمان. فما وُلِدَ في الإيمان يحملُ في ذاته القُدرة على الإيلاد وإحداث أعجوبة الإهتداء. هذا ما خبرَه الشاعر والديبلوماسي والمسرحي الفرنسي بول كلوديل الذي دخل مساء الخامس والعشرين من كانون الأول سنة 1886 إلى كنيسة نوتردام دو باري ليبحث عن حججٍ ينقضّ من خلالها على المسيحيين، فإذا به يهتدي إلى الإيمان. خاطب الله قلبه في تلك اللحظات من خلال الموسيقى المقدّسة فكتب قائلاً :” كنتُ واقفاً بالقرب من العمود الثاني إلى الجانب الأيمن من السكرستيّا. كان الأطفال اللابسون الحُلَل البيضاء يُنشِدون ما علِمتُ لاحقاً أنّه نشيد التعظيم Le Magnificat. شعرت، في لحظة واحدة، بأنَّ ثمَّة ما لَمس قلبي فآمنت”[9]. لقد استطاع هذا العمل الموسيقيّ الرائع المُشبَع بالإيمان أن يُحاكي روحه ويلمُسَ قلبه ويَلده مجدّداً في الإيمان بحيث أصبَح فيه هذا الأخير، “حقيقة ثابتة” غير قابلَةٍ للتغيير، على ما صرَّح به، وهذه هي الحال بالنسبةِ إلى الكثير من الأعمال الفنيّة التي وُلِدَت في الإيمان، كالرسم والنحت والشعر المسرح والسينما، الأمر الذي دفع شاغال إلى القول بأنَّ الرسّامين قد بلّوا ريشَتهم في الأبجدية الملونَة التي هي الكتاب المقدس. وفي حديث له عن أهميّة الفن وارتباطه المباشر بالحياة قال: ” إذا كانت كُلُّ حياةٍ متَّجهة لا محالة إلى نهايتها، فيجب علينا أن نلوّن حياتنا بألوان الحُبّ والأمل. في هذا الحُبّ يوجد المنطق الإجتماعي للحياة والجوهري لكلِّ دين. في نظري، إنَّ الكمال في الفنَّ وفي الحياة ينبع من مَعين الكتاب المقدس“[10].
الحاجة إلى فنّ نقيّ
يربط اللاهوتي الكندي رينيه لاتوريلّRene Latourelle مسألةانحطاط الفنّ في العصر الحالي بمسألة انحسار الإحساس بالإلهيّ. فانعكاسات فلسفة غياب الله على حياة الإنسان الحديث، ظهرت في مواضِع عديدة من ضمنها الفنّ، بسبب العلاقة العضويّة التي تربط ما بين الفنّ والإحساس الدّيني، فتجري الأمور وكأنَّ التخلّي عن الله في حضارةٍ ما، يُفضي إلى التخلّي عن الجمال، الأمر الذي ينعكسُ بشكل مباشر على الصورة والصوت والكلمة واللحن واللغة والإبداع. ينضمّ الفيلسوف الالماني هيغل إلى هذا المنطق فيُشير إلى أنَّ الفنَّ يُعبِّرُ عن حقيقة العصر ويكشف عن ماهيّته، فإذا كان الفنُّ راقياً، كشف عن عصر راقٍ، وإذا كان هابطاً دلَّ على عصر هابط.
ولكي تعود الأمور إلى سموّها ورُقيّها، لا بُدّ، في زمننا الحاضر، من حوارٍ ضروريّ بين الفنّ والإيمان، يُشَكِّلُ مدخلاً لإرساء قواعِد مرئيّة للإيمان المسيحي وتثبيته، وفي الوقت عينه وبشكلٍ عامّ، مدخلاً لإرساء حضارة رفيعة، تُسهِم في صقل الذّوق البشري والإرتقاء بالإنسان إلى الجمال الحقيقيّ. ففي عالَمٍ مُطَوَّقٍ بفنٍّ هابِط، وغارِقٍ بالصّورة على أنواعِها،” الصورةُ العنيفة والإباحيّة والتجاريّة، الصّورةُ التي تصدم وتُغري… ألا يبدو الإنسان عطشاً إلى الصورة النقيّة، الصورة المقدّسة، الصورة التي تُثير العطف والفرح، الصورة التي ترتقي بالقلب إلى محبّة الله، وتوعّينا على الجمال الحقيقي، جمال الله والخليقة… إلى الصورة الآتية “من فوق”، الصورة التي تكلّمنا على عالم الله، … ونقبلها “من فوق” في الإصغاء وقبول ما يُريد الله أن يُقدّمه للإنسان”[11]… ألا يبدو الإنسان عطشاً إلى كلماتٍ كبيرة مؤَثِّرة وألحانٍ شافية تستطيع أن ترفعه عن الأرض، وتسرقه من ذاته، وترتقي بِه إلى عالم الروح الدافىء؟.
خاتمة
في هذا الجوّ الذي راح فيه الفنّ يبحثُ عن الوجوه بعد أن شوّهها التجريد، بسبب انفكاك الرابطة بينه وبين الإيمان، جدير بيّ أن أُذَكِّر، وفي خُلاصة للموضوع، بالنداء الذي أطلقه الطوباوي يوحنا بولس الثاني في رسالته إلى أهل الفنّ :” إنني أدعوكم إلى إعادة اكتشاف عمق البعد الرّوحي والدّيني الذي كان على الدوام ميزة الفن في أسمى تعابيره. إنّني ومن هذا المنظور اتوجه بالنداء اليكم، يا فنّاني الكلمة المكتوبة والمنطوقة، والمسرح والموسيقى، والفنون التشكيلية وتقنيات الاتصال الأكثر حداثة. وبندائي أخصّكم أنتم، أيها الفنّانون المسيحيون: إلى كلّ منكم أودّ أن أذكّر بأن الحلف القائم أبداً بين الإنجيل والفن يستتبع، أبعد من الضرورات الوظيفية، الدعوة إلى التوَغل، بحدس إبداعي، في سرّ الله المتجسّد، وفي الوقت عينه في سرّ الإنسان”[12].
[1] الكاردينال غابريال باليوتّي في حديث حول الصور المُقدّسة والدنيويّة سنة 1582
[2] القديس غريغوريوس الكبير في رسالة كتبت سنة 599 .
[3] يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى أهل الفنّ، 12.
[4] يوحنا بولس الثاني، خطاب في المؤتمر الوطني الإيطالي سنة 1981.
[5] ميليتون السَّردي حوالي سنة 190
[6] خطاب إلى أسافقة توسكانا، في 11 آذار 1991.
[7] البابا يوحنا بولس الثاني، رسالة إلى أهل الفنّ، 12.
[8] البابا بندكتس السادس عشر، في المقابلة العامّة بتاريخ 31 آب 2011.
[9] Jules Sageret, Les Grands convertis, Soc. du Mercure de France, 1906.
[10] Discours de Marc Chagall lors de l’inauguration du Musée Marc Chagall de Nice, in Musée national Message
Biblique Marc Chagall Nice, Paris, Éditions des Musées Nationaux, 1973, pp. 9-10.
[11] Cardinal Christophe Schonborn; L’osservatore Romano, edition francaise,n.15,12 avril 1988,p.13.
[12] رسالة إلى أهل الفنّ، 14.