المطران جوزف معوّض
مقدمة
درجت ترجمة الكلمة اللاتينية indulgentia او الكلمة الفرنسية indulgence بالكلمة العربية غفرانات، علماً ان كلمة indulgence تعني أيضاً الحِلم، واللين، والتساهل، والرحمة. سوف نبقى على استعمال كلمة غفرانات لأنها أصبحت معروفة بهذا الاسم، ولو أنّها تعبّر عن بقية المعاني التي ذكرناها. نبتدىء بحثنا بتحديد الغفرانات، ثم باستعراض تاريخي لممارستها، ونتوسّع من ثمّ بالمفاهيم اللاهوتية المتعلّقة بها، ونتوقّف بعد ذلك عند القواعد لنيلها.
1 ـ تحديد الغفرانات
نشأت ممارسة الغفرانات في الغرب. وهي، كما يحدّدها القانون 992 من الحقّ القانوني الغربي: “الغفران rémission)) أمام الله للعقوبات الزمنية (peines temporelles) للخطايا التي سبق أن غفرت على صعيد الأثم (péché). يحصل [على الغفرانات] المؤمن المستعدّ جيّداً(bien disposé) ، وبحسب شروط محدّدة، عبر تدخّل الكنيسة التي، كخادمة للفداء(ministre de la rédemption)، توزّع وتطبّق applique))، بما لها من سلطة (avec autorité)، كنز تعويضات المسيح والقديسين”.
تجدر الاشارة في هذا المجال، الى أن الغفرانات (indulgences) لا تغفر الخطيئة، ولا تزيل العقوبة الأبدية التي تفصل الانسان عن الله، فهذه تغفر في سرّ المصالحة. ولكنها تزيل نتائج الخطيئة الزمنية التي بقيت بعد التوبة، والتي تضعف محبتنا لله والقريب (كعدم التحرر الكلي من التعلق الأناني بهذا العالم).
ان الغفرانات هي ذات تأسيس كنسي، وهي تطبّق على الأحياء مباشرة وعلى الأموات بطريقة الدعاء (par mode du suffrage) (J. Auer, J. Ratzinger, Piccola Dogmatica Cattolica, vol 7, Citadella Editrice, 1989, p. 251). ومفعول التنقية الذي تقدّمه له وجه شبه للتنقية في حالة المطهر، وفي التعويض في سرّ المصالحة، وفي أفعال الاماتة والصوم، وأفعال التقوى والمحبة والرحمة.
تـُمنح الغفرانات من قبل السلطة العليا في الكنيسة، أو من الذين أوكل اليهم بمنحها من هذه السلطة أو من القانون الكنسي ( راجع القانون 995 من الحق القانوني الغربي). وقد تطوّر منحها في التاريخ.
2 ـ تاريخ الغفرانات
ننطلق من مفهوم التضامن وسرّ المصالحة لنصل الى بداية منح الغفرانات، ومن ثمّ الى تعرّضها للاستغلال، ونتوقّف عند الاصلاح والاصلاح المضاد.
- التضامن الروحي وسرّ المصالحة
تتضمّن الغفرانات مفهوم التضامن الروحي الكنسي. مثل هذا التضامن قائم في الكنيسة، و بين البشر، قبل ظهور الفغرانات بصيغتها الحالية القانونية ، وذلك استناداً الى الكتاب المقدس وممارسة الكنيسة. فبفضل تدبير الله المحب، يوجد بين البشر تضامن فائق الطبيعة (solidarité surnaturelle)، بشكل ان خطيئة واحد تؤثر سلباً على الآخرين، وقداسة واحد تساعد الآخرين. فبسبب خطيئة آدم انتشرت الخطيئة بين البشر، وبقداسة واحد، هو المسيح، تقدّس الجميع (راجع بولس السادس، الدستور الرسولي، التعليم حول الغفرانات عدد4). ونجد تعبيراً لهذا التضامن في كلمات بولس الرسول في 1 قور 12/26 :” فاذا تألم عضو تألّمت معه سائر الأعضاء، واذا أكرم عضو سُرّت معه سائر الأعضاء”؛ وفي قول 1/24:” يسرّني الآن ما اعاني لأجلكم، فأتّم في جسدي ما نقص من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة”.
وأكّد الآباء والكتّاب المسيحيّون الأوّلون ان الكنيسة تتضامن روحياً مع الخطأة، لمساعدتهم على التوبة والمصالحة. فاكليمنضوس الاسكندري (مات سنة 215) ينقل الينا في مؤلّفه “من هو الغني الذي خَلَّص”، 42 (Qui dives salvetur 42) ان الرسول يوحنا حين كان في أفسس، صلّى وصام من أجل توبة رئيس عصابة. ويفيد ترتولياتوس (القرنان الثاني والثالث)، في De Paenitentia10, 5، ان على كل الجسد، الذي هو الكنيسة، أن يتألم مع العضو المريض، ويساهم في معالجته.
وفي العصور التي كانت الكنيسة تطلب اتمام أفعال التوبة علناً قبل إعطاء الحلّ من الخطايا، وذلك أقلّه حتى القرن السابع (راجع التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، عدد 1447)، كان المعترفون (المعترف هنا ليس التائب بل الذي ثبت في ايمانه على الرغم من المحنة) الذين احتملوا الآلام نتيجة الثبات في إيمانهم، يرسلون رسائل توصية (libelle pacis) لصالح الذين جحدوا ايمانهم أثناء الاضطهاد، من أجل تقصير فترة توبتهم. فكانوا يقدّمون ما تحمّلوا من آلام على نية التائبين. وأقرّ César d’Arles ( مات سنة 542) صحّة التعويض النيابي (validité de la satisfaction vicaire) من قبل الجماعة تجاه الخطأة الذين يطلبون من الكنيسة أن تصلّي من أجلهم، في رتبة التوبة العلنية، نظراً لفداحة الخطيئة. فيجد الخاطىء نفسه انه لن يستطيع ان يعوّض عن كل الشرور التي فعلها، فيطلب مساعدة الكنيسة (César d’Arles, Sermon 261, Patrologia Latina 39:2227). وكان الأساقفة يقصّرون أحياناً من مدّة التوبة العلنية حتى لا يرزح الخاطىء تحت الغمّ الشديد (راجع 2قور 2/7)، أو في خطر الموت، أو حتى يتلقّى المعونة من نعمة المصالحة عندما يواجه تجربة خطيرة جداً. ولا بد من الاشارة الى ان الكنيسة استعملت في البدء كلمة فداء redemptio، او غفران remissio للدلالة على تقصير فترة التوبة العلنية، في حين ان كلمة indulgentia، كانت مستعملة في القانون الروماني. (راجع, P.F. Palmer, G.A. Tavard, “Indulgences”, in New Catholic Encyclopedia, vol 7 pp..436-437; Z Alszeghy, “Confessione dei peccati”, in Nuovo Dizionario di Teologia, San Paolo, 1988, pp.198-199).
هذا التضامن الروحي مع الاعفاءات من أفعال التوبة في سرّ المصالحة في العصور الأولى للكنيسة، مهّد لظهور الغفرانات.
- منح الغفرانات
مُنحت الغفرانات اولاً في فرنسا، في مطلع القرن الحادي العشر، ثم انتشرت في أنحاء أخرى من الغرب. وكانت مرتبطة، كما سبق وأشرنا، بسرّ المصالحة، بهدف تقصير مدّة افعال التوبة المفروضة من المعرّفين، وذلك مقابل المشاركة في البناء او الصيانة للكنائس، والمدراس، والمستشفيات، والجسور. وكانت تقضي مثلاً بتقصير أيام الصوم من ثلاثة الى اثنين. ومن ثم أصبحت تُمنح في مناسبات الحجّ لبعض الأماكن المقدسة، ككنيسة مار بطرس في روما، ومزار كومبوستيل في اسبانيا(Compostelle) ، وأورشليم.
ومُنحت الغفرانات الكاملة للمرة الأولى، للذين شاركوا في الحملات الصليبية ، معرّضين حياتهم للخطر. ومن متطلبات هذه الغفرانات، التقرّب من سرّ المصالحة، والمحبة الكاملة عند قابل السرّ.
ومُنحت الغفرانات الكاملة للمرة الأولى خارج اطار الحملات الصليبية، للذين يصلّون في مزار بورسيونكولا (Protiuncula)في اسيزي ـ ايطاليا، شرط الالتزام بكل ما ترسمه الكنيسة لنيل الغفرانات، وذلك بانعام من البابا Honorius III ، بطلب من القديس فرنسيس الاسيزي.
ومُنحت الغفرانات الجزئية والكاملة، في سنوات اليوبيل التي بدأت مع البابا بونيفاسيوس الثامن سنة 1300، للحجّاج الذين يستوفون الشروط المطلوبة من الكنيسة.
وكانت تقاس فعالية الغفرانات الجزئية بالأيام والشهور والسنوات، تحت تأثير الممارسة الأولى لمنح الغفرانات، والتي كانت تقوم على تقصير مدة أفعال التوبة المفروضة في سر المصالحة. ألغيت هذه الطريقة في عدّ الأيام، مع الاصلاح الذي أجراه البابا الطوباوي بولس السادس في الدستور الرسولي حول ” التعليم عن الغفرانات”، الصادر في 1/1/1967، عدد 12. (راجع P.F. Palmer, G.A. Tavard, “Indulgences”, in New Catholic Encyclopedia, vol 7, Gale 2003, pp. 436-441)
- الاستغلالات
عند نشأة الغفرانات، أدّى التعليم عنها والسعي الى نيلها، الى نتائج إيجابية روحياً واجتماعياً. فعلى الصعيد الروحي حثّت الغفرانات المؤمنين على التوبة، وعلى وطلب شفاعة القديسين لمساعدة المجاهدين في العالم على التنقية الروحية، تعبيراً عن التضامن داخل الكنيسة الواحدة.
وعلى الصعيد الاجتماعي شارك المؤمنون في بناء الكنائس، والكاتدرائيات، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، والجسور، لأجل نيل الغفرانات. كان ينظر الى هذه المساهمات نظرة ايجابية، لأنها تخدم المجتمع، وتعوّض عما سبّبه الخاطىء بخطيئته من ضرر. ولكن، للأسف، اصبحت الغفرانات فيما بعد عرضة للاستغلال، ووسيلة لجمع الأموال، ولو من أجل بناء الكنائس، والكسب لمصلحة الجباة الشخصية. شجبت الكنيسة هذه الاستغلالات، بصورة خاصة في المجمع اللاتراني الرابع سنة 1215، وما بعده. (راجع المرجع السابق)
- الاصلاح (البروتستانت) La Réforme
تعرّضت الغفرانات للانتقاد، في الاصلاح البروتستانتي (La Réforme)، من ناحية ربطها بجمع الأموال، كما من الناحية اللّاهوتية. فمن الناحية اللاهوتيّة، رفض مارتين لوثر الراهب الاغوسطيني، سنة 1517، في المانيا، التعليم حول الغفرانات، وسلطة البابا بمنحها، والغفرانات الممنوحة لمن يساهم في إعادة بناء كنيسة مار بطرس في الفاتيكان. وعبّر عن هذا الرفض في ال 95 اطروحة التي أعلنها في Wittenberg، والتي شكّلت بداية الجماعات الكنسية المصلَحة، المعروفة بالبروتستانتية. فبالنسبة اليه، لاحاجة ولا مكان للغفرانات تجاه الغفران الالهي الذي يُعطى بفضل المسيح. (راجع المرجع السابق).
- الاصلاح المضاد (La Contre- Réforme)
ادان البابا لاوون العاشر كلّاً من تعليم لوثر حول الغفرانات في وثيقة صادرة في 9/11/1519 بعنوان Cum postquam، ولوثر نفسه في البراءة Exsurge Domine الصادرة في 15/6/1520، والاستغلال الذي تعرّضت له الغفرانات. وأكّد ان عقوبات الخطيئة الزمنية تغفر، جزئياً او كلياً، في هذا العالم أو في الآخر، بتطبيق (par l’application) استحقاقات (mérites) المسيح والقديسين المحفوظة في كنز الكنيسة. وأقرّ البابا اكلمنضوس السابع Clement VII غفرانات السنة اليوبيلية 1525، بدون ربطها بمساهمات مالية. وعاد المجمع التريدنتيني (1545-1563) فأكّد حقّ الكنيسة بمنح الغفرانات، وشجب الاستغلال الذي تعرّضت له، وطالب الأساقفة بتصحيح ممارستها. وسنة 1567، ألغى البابا بيوس الخامس كل غفران يحتوي على اذن بجمع المال، في البراءة Bullarium Romanum 7:536. ودافع اللاهوتيون في فترة الاصلاح المضاد، مثل Peter Canisius و Suarez عن التعليم حول الغفرانات وممارستها، مبيّنين أنها مفيدة راعوياً.
وسنة 1669 أنشأ البابا اكلمنصوس التاسع مجمع الغفرانات والذخائر (Congrégation pour les indulgences et les reliques ) للاشراف على منح الغفرانات. وسنة 1908 ألغى البابا بيوس العاشر هذا المجمع وأوكل تنظيم منح الغفرانات للمكتب المقدس Saint office ، ثم سنة 1917 الى محكمة التوبة الرسولية (Pénitencerie apostolique). وهذا ما هو معمول به حتى اليوم. فهذه المحكمة تصدر التوجيهات لنيل الغفرانات، لاسيما في السنوات اليوبيلية. وفي 1/1/1967 أصدر البابا بولس السادس دستوراً رسولياً بعنوان “التعليم حول الغفرانات”، ضمّنه شرحاً لاهوتياً عنها وقواعد لممارستها. (راجع المرجع السابق)
3 ـ لاهوت الغفرانات
نتوسّع فيما يلي، بالأبعاد اللاهوتية المتعلّقة بالغفرانات، وهي العقوبات الزمنية وموقف التائب، وسرّ الفداء، وشركة القديسين، وكنز الكنيسة، ودور الكنيسة والمؤمن في الغفرانات، وتنوّع الوسائل الروحية للتنقية.
- العقوبات الزمنية وموقف التائب
قادت ممارسة سر المصالحة في العصور الأولى في الكنيسة حيث كانت لأفعال التوبة العلنية والقاسية تسبق الحلّ من الخطايا، الى التمييز بين الخطيئة التي تُمحى بالحلة، وبين نتائجها التي يتحرّر منها الانسان بأفعال التوبة.
ان الغفرانات تزيل العقوبات الزمنية للخطيئة جزئياً أو كلياً. ان كلمة عقوبة هي ترجمة لكلمة peine بالفرنسية، ولكن مع Ratzinger و Auer ، نقول ان “ما يسمى بالعقوبات الزمنية” (le cosidette pene temporali) هي نتائج الخطيئة التي تطال الانسان في علاقته بالله، وفي علاقته بالمجتمع. (راجعJ. Auer, J. Ratzinger, Piccola Dogmatica Cattolica, vol 7, Citadella Editrice 1989, p. 258; ؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية عدد 1472(
والجدير ذكره في هذا السياق، أن للخطيئة نتيجة مزدوجة: العقوبة الأبدية والعقوبة الزمنية ( العقوبة بمعنى نتيجة). فالخطيئة الخطيرة تحرم الانسان من الشركة مع الله وبالتالي من الحياة الأبدية، وهذه هي العقوبة الأبدية (peine éternelle) . وكل خطيئة، حتى البسيطة، ينتج عنها، على الصعيد الشخصي، تعلّق غير سليم بالمخلوقات، وضعف في محبة الله والقريب، وضعف الارادة في اختيار الخير وصدّ الشر؛ وعلى الصعيد الاجتماعي خلل في العلاقات بين البشر (كالتوتر، والعداوات، والضرر للشخص)، وهذه هي العقوبة الزمنية (peine temporelle). يحتاج المؤمن الى أن يتنقى من العقوبات الزمنية (أي النتائج الزمنية)، ان في الحياة الحاضرة، أو في العالم الآخر في حالة المطهر. هذه النتيجة المزدوجة للخطيئة، الأبدية والزمنية، تصدر من طبيعة الخطيئة نفسها، وليست مفروضة من الخارج، من قبل الله.
ان نيل سر المصالحة بتوبة صادقة، يستطيع أن يغفر الخطيئة بعقوباتها أو نتائجها الأبدية والزمنية . فامكان فالمؤمن التائب ان يتحرّر حتى من النتائج الزمنية (العقوبة الزمنية) للخطيئة، اذا كانت توبته صادقة وحارّة. فقد جاء في التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية:” ان توبة تصدر من محبة حارة تستطيع ان تصل الى تنقية كاملة للخاطىء، بشكل لا يبقى معها أية نتيجة [للخطيئة]” (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية عدد 472) (راجع المجمع التريدنتيني، Denz 1712-1713). ولكن قد تبقى العقوبات الزمنية، أو النتائج الزمنية، التي سمّاها البابا الطوباوي بولس السادس “بقايا الخطايا” (Les restes des péchés) (بولس السادس، الدستور الرسولي “التعليم حول الغفرانات”، عدد3). تأتي هذه النتائج من نقص الاستعداد عند المؤمن، وعدم توبته كلياً الى الله، وعدم تحرّره كلياً من بعض الميل الى الشر ومن التواطؤ معه. لذلك يلتزم، بالاتكال على نعمة الله ورحمته، ويسعى الى التنقية الروحية على الصعيد الشخصي والاجتماعي، تعبيراً عن التوبة الصادقة، وذلك بأفعال التوبة كالصلاة والاماتة والصوم، وبالغفرانات، وباحتمال آلام الحياة وتعبها بصبر، وبمواجهة الموت بالاستسلام لله، وبأفعال الرحمة والمحبة، وباصلاح الضرر في المجتمع (مثل ترميم العلاقة والصيت، واعادة المسروق…). اذا لم تتمّ هذه التنقية على الأرض، فانها تستمر في حالة المطهر.
والجدير ذكره في هذا السياق هو كلام البابا القديس يوحنا بولس الثاني في براءته عن يوبيل سنة 2000، “سر التجسد” (Incarnationis mysterium) عدد 9:” منذ القِدم كانت الكنيسة دائماً مقتنعة بالعمق، أن الغفران المعطى مجاناً من الله، يتضمّن كنتيجة له تغييراً واقعياً للحياة، وازالة تدريجية للشر الداخلي، والتجدّد في الوجود. يجب على الفعل الأسراري ان يكون ملازماً للعقل الوجودي (acte existential) ، بتنقية حقيقية للخطيئة، المسّماة توبة. لا يعني الغفران ان هذا المسار الوجودي أصبح نافلاً، ولكنه يجعله يتخّذ معنى، ويجعله مقبولاً ومحضوناً.
إن افعال التوبة التي يقوم بها المؤمن التائب، ومنها الغفرانات، ليست وسيلة لتنقية نفسه بنفسه بمعزل عن عمل النعمة، بل هي أعمال يقوم بها مدفوعاً بنعمة الله، وهي التي تجعله ينفتح على نعمة الغفران والتنقية التي أعطاناها السيد المسيح في سر الفداء، والتي تجدّد الانسان كلياً وتنقّيه من الخطيئة ونتائجها. (راجعZ. Alszeghy, “Confessione dei peccati”, in Nuovo Dizionario di Teologia, San Paolo,1988, pp.198-199؛ مجلس أساقفة المانيا، المسيحية في عقائدها، ترجمة المطران سليم بسترس، سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم عدد 18، المكتبة البولسية 1998، ص 413-414)
- سر الفداء
ظهرت رحمة الله اللامحدودة في سرّ الفداء. ففي هذا السر غفر الله بابنه يسوع المسيح خطايا البشر مع كل نتائجها، لما لتقدمته على الصليب من قيمة وفيض خير لامتناه. هذه الرحمة الغافرة تصل الينا بواسطة الكنيسة، ولاسيما في سرّ المصالحة. هذا السرّ يمحو الخطيئة فعلاً، ولو بقي بعد الغفران تأثير سلبي على التصرّف والفكر، ناتج عن الخطيئة. ولكنّ رحمة الله أقوى من هذه النتائج. وفي هذا السياق، يقول البابا فرنسيس في البراءة الرسولية “وجه الرحمة” الصادرة سنة 2015،عدد 22، ان رحمة الله تصبح “غفرانات” (Indulgence) الآب “التي توافي الخاطىء المغفور له عبر عروس المسيح [الكنيسة]، وتحرّره من كل ما يبقى من نتائج الخطيئة، وتعطيه أن يتصرّف بمحبة وينمو فيها بدل السقوط مرة أخرى في الخطيئة”.
يرمّم سر الفداء الشركة مع الله، وبين البشر، ويمكّنهم من التضامن مع بعضهم البعض روحياً، في شركة القديسين.
- شركة القديسين
توسّع المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي في الكنيسة، عدد 49ـ50، في التضامن الروحي في الكنيسة، الذي ذكرناه سابقاً. تبعه في هذا المجال الدستور الرسولي للبابا الطوباوي بولس السادس “التعليم حول الغفرانات” (Indulgentiarum Doctrina) الصادر سنة 1967، عدد 5، و”التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية” الصادر سنة 1992، عدد 954ـ 959. أكدّت هذه الوثائق على وجود رباط روحي بين الذين يتابعون حياتهم على الأرض، والذين وصلوا الى الشركة الكاملة مع الثالوث الأقدس في مجد السماء، والذين أنهوا حياتهم على الأرض وهم في حالة التنقية. بفضل هذا الرباط الروحي الذي عبّرت عنه الكنيسة بعبارة شركة القديسين، يتبادل المؤمنون في هذه الحالات الخيرات الروحية. فالذين في مجد السماء يشفعون للّذين يتابعون مسيرتهم على الأرض، وللموتى. والمؤمنون على الأرض يقدّمون بدورهم الصلوات والقداديس وأعمال الرحمة من أجل بعضهم البعض ومن اجل الموتى، ويستشفعون الذين في المجد السماوي.
وفي هذا السياق، تساعد الكنيسة التائب للوصول الى التنقية الكاملة بالمعونة الروحية التي ينالها من القديسين في السماء لما لهم من استحقاقات ولما يقدّمونه من صلوات وشفاعة. والغفرانات تشكّل احدى الطرق التي ينال بها التائب المعونة من شركة القديسين، كما يمكن نوال هذه المعونة في الصلاة والافخارستيا . وفي هذا المجال، كتب البابا القديس يوحنا بولس الثاني في البراءة عن اليوبيل سنة 2000، “سرّ التجسد” (Icarnationis mysterium) :” يعلّم الوحي، من جهة، أخرى أن المسيحي ، في مسيرة اهتدائه، لا يوجد وحيداً. ففي المسيح وعبر المسيح، ترتبط حياته، في رباط سري، بحياة بقية المسيحي في الوحدة الفائقة الطبيعة للجسد السري. ينشأ بذلك بين المؤمنين، تبادل مدهش للخيرات الروحية، بفضله، تفيد قداسة الواحد الآخرين أكثر بكثير مما قد تسبّبه خطيئة واحد من ضرر لهم”.
- كنز الكنيسة
دُعيت الخيرات الروحية التي تقدّم التنقية من الخطيئة ونتائجها، والكامنة في سر الفداء وفي شركة القديسين، “بكنز الكنيسة”، المؤلف من استحقاقات السيد المسيح والقديسين. وأول من استعمل هذه العبارة (كنز الكنيسة) هوHughes de Saint Cher ، سنة 1230 (راجع J. Auer, J. Ratzinger, Piccola Dogmattica Cattolica, vol 7, Citadella editrice, 1989,p 254).
تخطّى تعليم البابا بولس السادس في الدستور الرسولي، “التعليم حول الغفرانات”، تشييء هذا الكنز، بعدم التفرقة بين استحقاقات المسيح والقديسين وشخصهم، كما لو كانت هذه الاستحقاقات هي وديعة مستقلّة عن الأشخاص الذين استحقّوها. فقد قال البابا الطوباوي بولس السادس عن كنز الكنيسة:” انه ليس أمراً شبيهاً بمجموعة من الخيرات على مثال الثروات المادية، تكدّست عبر العصور. ولكنه يقوم على ما لأعمال التكفير التي قام بها المسيح الرب، ولاستحقاقاته، من قيمة لامتناهية… كنز الكنيسة هو المسيح الفادي نفسه من حيث ان فيه القوام والقيمة لما يتضمّنه عمله الفدائي من تكفير واستحقاقات. فضلاً عن ذلك، يدخل ايضاً في هذا الكنز، صلوات الطوباوية مريم العذراء وجميع القديسين، وأعمالهم، التي لها في نظر الله قيمة كبيرة… وهكذا بعملهم من أجل خلاصهم الخاص، ساهموا أيضاً في خلاص اخوتهم في وحدة الجسد السري” (التعليم حول الغفرانات، العدد 5). ان كنز الكنيسة هو يسوع المسيح الذي أحبنا وفدانا، وهو القديسون الذين يعينونا في مسيرة التنقية والخلاص.
- دور الكنيسة والمؤمن في الغفرانات
ان الكنيسة، في الغفرانات، لا تصلّي فقط، بل كخادمة للفداء المتمّم من السيد المسيح (ministre de la rédemption) ، تقدّم، بسلطتها، للمؤمن المتحضّر جيداً، ما يحويه كنز المسيح والقديسين من استحقاقات، أي ما يقدّمه السيد المسيح الفادي والقدّيسون، من أجل التنقية من العقوبة (او النتائج) الزمنية للخطيئة، او بقايا الخطيئة (les restes du péché). (راجع بولس السادس، الدستور الرسولي “التعليم حول الغفرانات”، عدد 7 و 8)
ان سلطة الكنيسة التي تعطي الغفرانات من كنز التعويضات او الاستحقاقات، مرتكزة على سلطة الحلّ والربط المذكورة في متّى 16/ 19، وفي متّى 18/18حيث جاء: “كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطاً في السماء، وكل ما تحلّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء”. يجب أن تفهم هذه السلطة من وجهة نظر الكنيسة، كجسد المسيح السرّي، حيث المسيح فاعل كرأس عبر رسله(راجع 1قور 4/1)، ومن وجهة نظر شركة القديسين التي بها يتحقّق التكفير او التعويض النيابي(راجع 1قور12/26 وقول 1/24؛ وراجع J. Auer, J. Ratzinger, Piccola Dogmatica Cattolica, Vol 7, Cittadella Editrice, 1989, 257-258). بكلام آخر، ان الفعل الذي تقوم به السلطة في الكنيسة لمنح الغفرانات، يعبّر من الوجهة اللاهوتية والروحية عن تدخّل الكنيسة ووساطتها، من أجل أن يحصل التائب في مجال نتائج الخطيئة، على غفران الله الذي حقّقه بابنه في سر الفداء، ومن أجل أن يحصل على معونة القديسين، خصوصاً وان التائب قد يختبر انه لا يستطيع بقدرته وحده أن يرمّم كل النتائج التي سببته خطيئته (راجع البابا بولس السادس، الدستور الرسولي، التعليم حول الغفرانات، 1967، عدد 18). وبذلك تعبّر الغفرانات عن “العطية الكاملة لرحمة الله” (راجع يوحنا بولس الثاني، براءة يوبيل سرّ الفداء، افتحوا الأبواب للفادي، 1983، عدد 8).
وعلى المؤمن التائب، لكي يحصل على الغفرانات، أن يكون مستعّداً بتوبة القلب الصادقة عن كل خطيئة، وأن يلتزم بالشروط التي تضعها الكنيسة، والتي سنعرضها في فقرة قواعد نيل الغفرانات في هذا البحث.
- تنوّع وسائل التنقية
ان الغفرانات هي ممارسة معروفة منذ عصور قديمة ، ولكنها ليست الوحيدة التي تمنح التنقية للمؤمن التائب. ففي الكنيسة توجد وسائل تقديس وتنقية متنوّعة كالأسرار، وخصوصاً الافخارستيا والمصالحة، وأشباه الأسرار، وأعمال التقوى والتوبة والمحبة (راجع بولس السادس، الدستور الرسولي “التعليم حول الغفرانات” عدد 11). تزداد فعاليّة هذه الوسائل بقدر ما يعيش المؤمن او التائب المحبة للمسيح والكنيسة. ويتمّ اختيارها بحسب حريّة أبناء الله على ما يؤكد بولس السادس بكلامه: “ان الكنيسة فيما تحضّ مؤمنيها على عدم اهمال تقاليد الآباء المقدّسة، وعلى عدم ازدرائها، بل على قبولها واحترامها بروح ديني، ككنز ثمين للعائلة الكاثوليكية، تترك لكل واحد أمر استخدام وسائل التنقية والتقديس هذه، في حرية ابناء الله المقدّسة والعادلة” (بولس السادس، الدستور الرسولي “التعليم حول الغفرانات”، عدد 11). أمّا في ما يتعلّق بالغفرانات فقد وضعت الكنيسة قواعد لنيلها.
4 – قواعد لنيل الغفرانات
حدّد البابا الطوباوي بولس السادس، في الجزء الأخير من الدستور الرسولي “التعليم حول الغفرانات”، الغفرانات الكاملة والجزئيّة، وقواعد نيلها. نكتفي بذكر بعضها :
ـ الغفرانات تكون كاملة او جزئيّة بحسب ما تحرّر كليّاً او جزئيّاً من العقوبة الزمنية.
ـ لم تعد الغفرانات الجزئيّة تُحسب بالأيام والأشهر والسنوات، فهذا الحساب متأثّر بمدّة التوبة التي كانت تفرض على التائب، و التي كانت الغفرانات تقصّر منها. ولكنّها أصبحت تقاس بحسب فعل المؤمن. فما يناله المؤمن من غفران للعقوبات الزمنية بفضل فعله الخاص ومحبته، ينال غفرانا جزئيّاً اضافياً مماثلاً من قبل الكنيسة. بالامكان الحصول على الغفرانات الجزئيّة أكثر من مرّة في اليوم الواحد.
ـ لنيل الغفرانات يجب :
• القيام بالأعمال المرتبطة بنيل الغفرانات، وهي عادة الحجّ الى مكان معين (كالحجّ الى حيث الباب المقدس في السنة اليوبيلية عن الرحمة)، او القيام بعمل رحمة، او بعمل توبة كالاماتة والصوم، بحسب ما تحدّده الكنيسة لكل مناسبة .
• تتميم الأفعال المطلوبة دائماً لنيل الغفرانات وهي: التقدّم من سرّ المصالحة، والمناولة الافخارستيّة، والصلاة بحسب نوايا البابا. بالامكان القيام بهذه الأفعال عدة ايام (حوالي 20) قبل او بعد العمل المرتبط بالغفرانات .
• التجرّد من كل تعلّق بالخطيئة حتى العرضيّة.
ـ بالامكان الحصول على الغفران الكامل مرّة واحدة في اليوم. وفي خطر الموت، بالامكان الحصول علىيه مرّة أخرى في نفس اليوم.
ـ ينال المؤمن الغفرانات لنفسه، او يقدّمها على نية الموتى.
وفي المناسبات المرتبطة بمنح الغفرانات، كما في السنوات اليوبيلية، او في السنوات المخصّصة لمواضيع معيّنة كالحياة المكرّسة أو الكهنوت أو غيرها، تذكّر محكمة التوبة الرسولية Pénitencerie Apostolique بالقواعد الثابتة لنيل الغفرانات، وتحدّد ما يستتبعها من أفعال خاصّة بكل مناسبة. (بالامكان مراجعة الوثائق الصادرة عن محكمة التوبة الرسولية على الموقع الالكتروني للكرسي الرسولي).
أما في مناسبة السنة اليوبيلية للرحمة، فقد ذكّر البابا فرنسيس نفسه بهذه القواعد الثابتة، وعرض الأفعال الخاصة لهذه السنة، والتي بموجبها يستطيع المؤمن نيل الغفرانات، وذلك في رسالة علنية وجهّها قداسته الى المطران Rino Fisichella ، رئيس المجلس الحبري لتعزيز الكرازة الجديدة بالانجيل، في 1 ايلول 2015.
الخاتمة
تتضمّن الغفرانات بعداً كنسيّاً مرتبطاً بالبعد الكريستولوجي والروحي. فهي تعبّر عن معونة الكنيسة للمؤمن التائب اذ تقدّم له رحمة الله التي أعطاها يسوع المسيح للبشرية، بصورة لامتناهية، في سر الفداء، والتي تحرّر الانسان جذرياً من خطاياه بما فيها من نتائج. وفي الغفرانات تتضامن الكنيسة مع المؤمن في مسيرة التنقية، فتقدّم له معونة القديسين الروحية، بفضل شركة القديسين التي تربط المؤمنين فيما بينهم، ومع القديسين في المجد السماوي الذين لا يزالون يشفعون من أجل الأحياء والموتى. وتتطلّب الغفرانات على الصعيد الروحي، التوبة الصادقة من قبل المؤمن. صحيح ان التنقية الكاملة من الخطيئة ونتائجها هي عطية من الله، ولكنّها لا تلغي حريّة الانسان وسعيه لتقبّلها، والالتزام بمسيرة منسجمة معها. فالنعمة لا تلغي الطبيعة البشرية وعملها بل ترفعها.
مراجع
1) تيودول ري مرمية، نؤمن، جزء2، ترجمة الخوري (المطران) يوسف ضرغام، منشورات قسم الليتورجيا في جامعة الروح القدس، عدد 6، الكسليك لبنان، 1986.
2) (البابا) فرنسيس، البراءة الرسولية “وجه الرحمة”، 2015
3) مجلس كنائس المانيا، التعليم المسيحي للبالغين، المسيحية في عقائدها، ترجمة المطران سليم بسترس، في سلسلة الفكر المسيحي بين الأمس واليوم عدد 18، المكتبة البولسية، 1998.
4) Z. Alszeghy, Confessione dei peccati, in Nuovo Dizionario di Teologia, san Paolo, 1988, pp.198-1990.
5) J. Auer, J. Ratzinger, Piccola Dogmatica Cattolica, vol 7, Citadella Editrice, 1989.
6) G. Grampa, “ Una storia molto tormentato” in Famiglia Cristiana, Anno Santo, n° 50, 17/12/1999, pp. 92-97.
7)Giovanni-Paolo II, Bolla di indizione del Grande Giubileo dell’ Anno 2000, Incarnationis Mysterium, Paoline, 1998.
8)P.F.Palmer, G.A. Tavard, “ Indulgences” in New Catholic Encyclopedia, Vol 7, Gale, 2003,pp. 436-441.
9)Paul VI, Constitution Apostolique, Indulgentiarum Doctrina, 1967.