الأب إيلي قزي
جامعة الروح القدس-الكسليك
مقدمة
كتب عبدالله قرألي، مطران بيروت للموارنة، سنة 1731، تسع عشرة عظة باللغة العربيّة. أما فنّ كتابة العظات فلم يكن رائجًا، على ما يبدو في هذه اللغة، بين بني مارون، بحسب قول جرمانوس فرحات الماروني، مطران حلب (+ 1732)، في كتابه فصل الخطاب، الذي ألّفه في دير سيدة اللويزة في 2 نيسان سنة 1723. جاء في مطلع هذا الكتاب الذي نسخه أنطونيوس بن يوسف الشدياق سنة 1817 ما يلي:
“[…] كل ما يلزم الوعظ والواعظ من التنبيهات والآلات في هذه الصناعة […] والذي حرّكني وزادني غيرة في إتمام تأليف هذا المضمون الأسنى، عدم وجود علم مثل هذا الموضوع عند ابن العربي في هذا المعنى وقد كان وجوده واجبًا في اللغة العربية…”[1]
تعود أهميّة عظات عبدالله قرألي، بنظرنا، ليس فقط إلى أنها مكتوبة باللغة العربية، أو إلى أن مضمونها غنيّ ومتناسق، إنما أيضًا إلى كون مؤلفها لم يكن من تلامذة المدرسة المارونية في روما. هذا يدلّ على أن المؤلّف واكب عصره دون أن يتأثّر مباشرة بكبار مؤلفي الكنيسة اللاتينية المعاصرة له.
لم يكن عبدالله قرألي الحبر الماروني الوحيد الذي ترك لنا عظات، إنما سبقه في هذا الفن البطريرك إسطفانونس الدويهي (+ 1704)، وعاصره المطرانان سمعان عواد الحصروني (البطريرك فيما بعد)، ويواصاف البسكنتاوي الراهب اللبناني (المطران فيما بعد). فكتب الأوّل عظات تحت عنوان “كتاب النجاة” (الجزء الثاني)[2]، وكتب الثاني كتاب “مواعظ روحيّة”[3]. كما كتب فيما بعد الأب يواكيم بلاديوس الراهب الحلبي كتاب “الكنز الذهبي في الوعظ الأدبي”[4].
أما المخطوطات التي تحوي التآليف الآنفة الذكر والمحفوظة في مكتبة جامعة الروح القدس الكسليك، فيعود تاريخ نسخها إلى القرن التاسع عشر، ومعظمها يعود للنصف الأول من هذا القرن. ولم نجد أيًّا منها يعود إلى القرن الثامن عشر كما وأننا لم نجد لها أي أثر مطبوع فيما بعد.
يشير مضمون أحد هذه المخطوطات الذي نسخه القس اندراوس قرطباوي الراهب اللبناني إلى فائدة العظات التي ألفّها بعض تلامذة المدرسة المارونية في روما، فجمعها في مخطوط واحد عنونه: “مواعظ وأخبار”، وقدّم له بهذه العبارات:
“… وبعده، هذا الكتاب مشتمل على مواعظ وأخبار ورؤيا معتبرة من قول التوراة والانجيل والآباء والأنبياء والرسل والمعلمين والملافنة القديسين. قد اعتنوا في تأليفها ساداتنا الكُليّو الغبطة ماري اسطفان الدويهي وماري سمعان الحصروني الذين هم فخر طايفة [طائفة] الموارنة. وقد أوضعنا [وضعنا] فيه من تأليف المطران يواصاف البسكنتاوي الكلي الشرف وأوضعنا [ووضعنا] أيضًا فيه من تأاليف [تأليف] الأب النبيل أنطونيوس إبن مبارك الماروني تلميذ رومية للذي [الذي] كان ماهر [ماهرًا] في العلوم الروحيّة. وقد أجمعنا [جمّعنا] هذا الكتاب في نظمهم لأجل إفادة المؤمنين سنة 1801.”
تعريف بمخطوط الكسليك 768
“كتاب المواعظ”، مخطوط محفوظ في مكتبة جامعة الروح القدس الكسليك، تحت رقم OLM 768.
هذا المخطوط مكتوب باللغة العربية، حرف عربي، مُصَفَّح، وعدد صفحاته: 386. عدد ورقاته 193 ورقة. قياس الكتاب: 18 X 11.5 سنتم.
تنقص الصفحة الأولى من المخطوط التي تحمل العنوان وبداية فهرس المواضيع. يبدأ المخطوط في الصفحة الثانية التي تتضمّن بقية مضمون الفهرس، ومطلع العظة الأولى. عناوين العظات مكتوب بالحبر الأحمر، أما متن النص فمكتوب بالحبر الأسود.
نقرأ على الغلاف الداخلي في مطلع المخطوط، بعض الجمل والعبارات:
- “كتاب مواعظ المطران عبدالله قرألي”.
- “أن لقد حضرت لكرسي سيادة المطران طوبيا [عون] وعين [وعيّنني في] رعية بيروت في 10 تموز عشرة أيام سنة 1866 سنة الست وستين.”
- “دخلنا لدير اليسوعية في غزير في 5 تموز سنة 1867”
- “دخلنا لدير اليسوعية في بيروت في 2 ت2 سنة 98.”
ونقرأ في خاتمة المخطوط، صفحة 387، ما يلي: “قد امتلكت هذا الكتاب بالشرى [بالشراء] الشرعي في 16 تموز سنة 1856، مكان الختم، الخوري يوسف معادي”.
- “قد نُقل عن النسخة المنسوخة بخط المؤلّف المطران عبدالله قراألي الذي ألّفه في سنة ألف وسبعماية وواحد وثلاثين.”
مضمون المخطوط
يتضمّن كتاب المواعظ تسع عشرة عظة ولكل منها عنوان:
العظة الأولى في أن ذكر الموت يبعدنا عن الرذيلة ويقرّبنا نحو الفضيلة. (صفحة 2-16)
العظة الثانية في الدينونة الاخيرة (صفحة 16-29)
العظة الثالثة في النعيم (صفحة 29-46)
العظة الرابعة في الجحيم (صفحة 46-60)
العظة الخامسة في أن غاية المسيحي هي أن يعرف الله ويحبّه (صفحة 60-83)
العظة السادسة: في فائدة استماع الوعظ (صفحة 83-107)
العظة السابعة في أن الاهتمام بالخلاص ضروريّ هو (صفحة 107-126)
العظة الثامنة في وجوب التوبة (صفحة 126- 145)
العظة التاسعة في كيفيّة عمل التوبة (صفحة 145-167)
العظة العاشرة في مزمّة تأخير التوبة (صفحة 168-205)
العظة الحادية عشرة في الندامة والانسحاق (صفحة 205-222)
العظة الثانية عشرة في شروط الندامة (صفحة 222-247)
العظة الثالة عشرة في شروط نية التائب (صفحة 247-270)
العظة الرابعة عشرة في الهرب من أسباب الخطيئة (صفحة 270-303)
العظة الخامسة عشرة في فحص الضمير قبل الاعتراف (303 صفحة -319)
العظة السادسة عشرة في ضرورة الاعتراف (صفحة 320-345)
العظة السابعة عشرة في وفى [إيفاء] قانون الاعتراف (صفحة 346-357)
العظة الثامنة عشرة في الثبات في الخير (صفحة 357-380)
العظة التاسعة عشرة في شر الرجوع إلى الخطيئة (صفحة 380-387)
لا يتضمّن المخطوط أي مقدّمة توضيحيّة تحدّد زمان ومكان إلقاء هذه العظات، أو المناسبة لإلقائها. ويغيب عن مضمونها المناسبة الليتورجيّة الملائمة لها، لذلك نعتقد بأن عبدالله كتب هذه العظات كي تكون دليلاً يعتمد عليها الواعظ. وقد تكون رياضات الصوم السنويّة، التي يلقيها الكهنة في القرى، المناسبة الفُضلى لإلقائها، لأن مواضيعها تشدّد على التوبة وثمارها. ومن المعلوم أن مواضيع رياضات الصوم تتمحور غالبًا على التوبة استعدادًا للاشتراك في الحدث الفصحي.
العظة الثامنة عشرة
اخترنا العمل، في بحثنا الحالي على العظة الثامنة عشرة التي يرسم فيها عبدالله قرألي طريق حياة للمؤمن لكي يُدرك أولاً سموّ إنسانيته المُخَلَّصة بيسوع المسيح الفادي، وليُحافظ على هذا السموّ بواسطة النعمة التي نالها من العماد وتناول الأسرار المقدّسة، وبالجهاد اليومي للثبات في الخير[5]، وباقتناء الصبر الجميل، وبالاتكال على نعمة الله، واقتناء الفضيلة، وبالاستفادة من الزمن بواسطة العمل البنّاء. يقسّم عبدالله عظته بطريقة واضحة ومفصّلة ويعلن عن هذا الأمر في المقدّمة.
أقسام العظة
يبدأ عبدالله كل عظة من عظاته بمقدّمة يوضح فيها الموضوع الذي يعالجه، والأسس التي يبني عليها أفكاره، وكيفيّة تقسيم بنودها لكي يصل إلى الهدف المنشود. ففي العظة الثامنة عشرة، يعرض تقسيم العظة في نهاية المقدّمة بالقول:
“[…] ومن ها هنا أوضح لكم اليوم الأمر الواجب عليكم فعله الذي هو الثبات في الخير والدوام بعمل الفضائل وكم هو لازم، وأحقق لكم ذلك من بعض دلائل ووسائط تساعدكم للثبات في الفضيلة والخير والنعمة […] واستنجد على البرهان في ذلك قوّة الإلهي [الإله] يسوع المسيح ومريم والدته. وأقسم عظتي هذه [إلى] جزئين: الجزء الأول في أنه يلزمنا الثبات في الخير والجزء الثاني في الوسائط المناسبة للثبات في الخير…” ويُنهي كل عظاته بخاتمة يذكر في نهايتها مريم البتول.
يقدّم في الجزء الأولّ ثلاثة براهين للثبات في الخير، وفي الجزء الثاني يقدّم أربع وسائط للثبات في النعمة. وفي بداية كل منها يعلن عن ذلك بوضوح بالقول:
البرهان الأول: “الأول: هو أن التائب الذي قد حظي بالنعمة والخير من قبل التوبة وغيرها […] كم يحق عليه أن يحتفظ بما هو فيه من الخير”
البرهان الثاني: “ولنتكلّم بالبرهان الثاني على وجوب حفظ النعمة والثبات على الخير.”
البرهان الثالث: ” ولنقدّم برهانًا ثالث [ثالثًا] على وجوب حفظ النعمة والثبات على [في ] الخير […]”
الوسائط: “الواسطة الأولى لحفظ النعمة”، “الواسطة الثانية لحفظ النعمة ودوامها”، “والواسطة الثالثة لحفظ النعمة هي ممارسة قبول الأسرار المقدّسة”، “الواسطة الرابعة لحفظ النعمة ودوامها”.
تُسَهِّل هذه الطريقة على السامع متابعة موضوع العظة ويفهم تَدَرُجّ تفصيلها من بدايتها حتى نهايتها، فيصبح ليس مجرّد مستمع بل مصغٍ يحفظ ما سمع ويتأمل به فيحظى بالخير.
لاحظنا أن عبدالله يشدّد في البراهين على وجوب الثبات في الخير وحفظ النعمة ويكرّر ذلك في بداية كلامه على كل برهان منها. بينما عندما يتكلّم على الوسائط، فيصبح كلامه على حفظ النعمة فقط: وهذه الوسائط تفيد حفظ النعمة وليس الثبات في الخير. لا يعطي عبدالله تحديدًا واضحًا للخير، إنما يستشّف القارئ من خلال مطالعته مضمون العظة أن مفهوم الخير يُبنى على كل ما هو مناقض للخطيئة (الشر)، والنعمة هي الخير المقصود في العظة، إذ يؤكّد ذلك بوضوح في خاتمة عظته: “فما الذي يفيدك من غناك وشرفك وقد خسرت النعمة التي هي خيرك وحدها”.
مضمون العظة
يشدد عبدالله في مقدمّة عظته على آية من الإنجيل تتعلّق بالصبر إلى المنتهى. فالثبات يحتاج إلى مثابرة والمثابرة يُساندها الصبر، والصبر يؤدّي إلى الخلاص. “من يصبر إلى المنتهي يخلص”. ويربط الخلاص بقيامة الأموات، ويقول “كان الرسول يعتبر قيامة الموتى بأنها ضرورية جدًا، لأنه قال إنكان [إن كان] الموتى لا تقوم [يقومون] فرجانا [فرجاؤنا]باطل وتعبنا فارغ وإماتة ألامنا لا فائدة لها.” . أي أن القيامة هي علامة الخلاص.
الجزء الأول من العظة:“في أنه يلزمنا الثبات في الخير”
يتضمّن الجزء الأول من العظة خلاصة أفكار عبدالله اللاهوتيّة المتعلّقة بالخلاص، لذلك لا بدّ لنا من تبيان هذه الأفكار ضمن الملخّص التالي:
لا يقتني الإنسان الثبات في الخير بقدرته الخاصّة، بل يحصل عليه من المعمودية وتناول الأسرار المقدّسة. فالخير هبة يمنحها الله للإنسان مجّانًا، والخير يُعطي الإنسان مرتبة عالية بالنسبة إلى المخلوقات كافة. يكمن دور الإنسان في المثابرة والجهاد للحفاظ على النعمة، وعلى الثبات في الخير. ولكن هل يحتاج الإنسان إلى براهين مقنعة لكي يثبت في الخير؟ نعتقد أن عبدالله لا يبغي إقناع سامعيه بقدر ما يدعوهم إلى عقلنة الأمر، ويستند بذلك على آيات وأحداث من الكتاب المقدّس. ويجعل من حياة الإنسان المسيحي جزءًا مكمّلاً لتاريخ الخلاص وعمل الله الخلاصيّ.
يقدّم عبدالله ثلاثة براهين لضرورة الثبات في الخير.
البرهان الأول
يتكلّم عبدالله في هذا البرهان عن حال الإنسان الذي تاب وعاد إلى الخطيئة، وعن الشعور الذي ينتابه عندما يميّز ويدرك شناعة عمله، إنما إن فاته كل هذا الإدراك يشرح له شناعة الخطيئة ونتائجها من وجهين: يبيّن في الوجه الأول حال الإنسان الذي يصبح أردى وأقبح من الوحوش، وفي الوجه الثاني يبيّن له أن حالته تكون أردى من حالة الشيطان.
الإنسان الخاطئ أقبح وأردى من الوحوش
“إن التائب الذي قد حظي بالنعمة والخير من قِبَل التوبة وغيرها فما هو إلا أنه قد ارتجع عن حال، كان حسب قول الله أردى وأقبح من حال الوحوش والشياطين. فهذا إذا تَأَمَّلَ بنفسه وقال متفهّمًا في أي حال كنت أنا وإلى أي حال صرت، فإذا هو عرف النعمة التي أدركته فليفطن حينئذٍ كم يحق عليه أن يحتفظ بما هو فيه من الخير[…] ثم يقول فيما بينه وبين نفسه أنا كنت أقلّ تمييزًا من البهائم على ما قال النبي إن من كان في كرامة ولم يفهم أُقِيسَ بالبهائم التي لا عقل لها وشُبِّهَ بها.”[6]
ويتابع عبدالله القول أن “الإنسان متى أضاع رتبته وتنازل لعمل الخطيئة، حصل في العمى وفَقَدَ قلبُه الفَهم ونَسِيَ ما كان معه من جلال النعمة”.
ولكن لماذا يصبح الخاطئ أقبح من الوحوش؟ يجيب مترجمنا لأن عمل الخطيئة هو تنازل بالنسبة إلى ارتفاع مقام الإنسان بالنعمة التي يكون قد حصل عليها. لذلك عمل الخطيئة هو خسارة للنعمة، وعندما يخسر الإنسان النعمة التي نالها يدرك أنّه أقلّ تمييزًا من البهائم.
يسيء الإنسان إذًا إلى نفسه بخسارته الفهم والتمييز، ويصبح أقل قيمة من البهائم لحال تبدّل طبعه. إن الخطيئة لا تُبدّل شيئًا في مظهر الإنسان الخارجي، ولكنها تسيء إلى طبعه، أي يصير الإنسان ” أشدّ قساوة من السبع، وأكثر دَنَسًا من التيس، وأزيد توحّشًا من النمر.”[7] وكل هذه النعوت الحيوانيّة تطال الروح وتشوّهها، لذلك ينسب عبدالله عمل الخطيئة إلى الروح وليس إلى الجسد. ولكن لا بدّ من أن تظهر علامات دناءة الخطيئة على الإنسان الخاطئ من خلال تصرّفه كما حصل مع نبوخذنصّر بحسب وصف نبوءة دانيال له في 4/22، يقول عبدالله عن هذا الوضع في عظته: “تأمل يا هذا أي صورة بشعة وأي حالة مريعة شنيعة حصلت لهذا الملك وما هي إلا دلالة تدلنا على سوء الحال الذي يحصل للروح من فعلها الخطيئة وقد يدرك ذلك أحسن إدراك كل من احتوى على نعمة الإيمان ويرى بنظر عقله شناعة الروح الخاطئة.”[8] بالمقابل يؤكّد قرألي أن الذي يُدرك وضع الروح الخاطئة، فإنه يدرك ذلك بنعمة الإيمان ونظر العقل[9].
إن الروح الخاطئة تبلغ إلى حال أشنع وأقبح من الشياطين.
يضيف عبدالله: ” … وقد أزيد على ما قلت وأقول أن الروح الخاطئة ليس هذه الشناعة شناعتها فقط بل وتبلغ إلى حال أشنع” أي هي أشنع وأقبح من الشيطان إنما من دون عصاوته ويأسه من التوبة، وذلك من ناحيتين:
الناحية الأولى: “إن طبيعة الشيطان هي أشرف جوهر من طبيعة الإنسان، لأن الإنسان لو احتوى جوهره على روح تضاهي بالشرف روح الملاك إلا إنها جزء للجسد المقترنة به بالنظر إلى ذات الإنسان والجسد أقل شرفًا من الشيطان، فالإنسان إذًا أدنى رتبة بالطبع من الشيطان.”
فالخطيئة لا تنتج أي تغيير في طبيعة كل من الشيطان والإنسان، إنما شناعتها تظهر فيما هو أقل شرفًا، والجسد هو الأقل شرفًا[10].
الناحية الثانية: تظهر شناعة الخطيئة أكثر في الروح الخاطئة لأن الشيطان خطأ ضد الله خالقه، بينما الإنسان يخطئ ضد الله خالقه ومخلّصه ومبرّره، وأخاه وكفيله وطبيبه وأباه[11]. الشيطان أخطأ مرة واحدة بالفكر أما الإنسان فيخطئ مرارًا بالفكر والعمل. عاقب الله الشطيان على خطيئته، بينما أهمل عقوبة الإنسان سنين عدة والعمر كله. بالنظر إلى كل هذه الأسباب يحكم على الروح الخاطئة أنها أقبح وأشنع من الشيطان.
بعد هذا التفصيل يتوقف عبدالله ليسأل: “هل تدري أيها المسيحي بهذا أم لا؟ فإن كنت حتى الآن لا تفطن بهذا فإنك بعد لم تدرك شناعة خطيئتك وإن قلت أنك قد فهمت عظم شناعتها فلست إذًا بمحتاج إلى خطاب آخر يفهمك يا من خلصت من خطيئتك…” وإن أجرك المسيحي بهذا فوجب عليك التمسّك بالنعمة.
البرهان الثاني
يدعونا عبدالله في البرهان الثاني إلى الارتقاء إلى مرتبة الفضائل، يقول: “ولنتكلّم بالرهان الثاني على وجوب حفظ النعمة والثبات على [في ] الخير وذلك لأن من حصل على الخير والبرّ بواسطة التوبة وقبول الأسرار فقد حصل على سلامة الضمير وهدوء الذمّة”.
إضافة إلى الثبات في الخير، يتوجّب على المسيحي التمسّك بالنعمة. ويكرّر عبدالله القول بأن الإنسان يحصل على الخير والبرّ بواسطة التوبة وقبول الأسرار. أما النعمتان اللتان ينالهما الإنسان من حفظ النعمة والثبات في الخير فهما: سلامة الضمير وهدوء الذمة. إن الذي يتوب دون أن يحفظ النعمة ودون أن يثبت في الخير، فإن توبته غير صادقة. لأن البرهان الصريح على الثبات في الخير وحفظ النعمة هو عدم الرجوع إلى الخطيئة.
ولكن كيف يمكن أن يحافظ الإنسان على النعمة وأن يثبت في الخير؟ يجيب عبدالله أن علماء اللاهوت يتفقون على أن للأسرار المقدسة فعلين: عام، وخاص. فالعام يمنح نعمة التطهير والغفران، أما الخاص فيمنح نعمة الثبات على التطهير والتمكّن في العمل المناسب لحفظ الخير. بمعنى أخر أن الثبات في الخير هو ممنوح للتائب بواسطة الأسرار، فعليه المواظبة على ممارستها.
لا يدخل عبدالله في شرح مفاعيل الأسرار الإلهيّة، إنما يؤكّد أنها تفيد المستعدين لاقتبالها الفعلين المذكورين، العام والخاص. هذا ما نستشفه في صلاة الشحيمة المارونية إذ تصلي الكنيسة في تذكار الموتى منشدة:
وإن القرابين ما كل من مات منها يفيد
إذ البعض منهم على ابن العليّ شريد عنيد
فمن يلبس الابن يلبسه المجد يوم مجيد
يرنّم بالمجد يوم القيامة وهو سعيد.
يشدّد عبدالله على سرّ التوبة ويعتبر أن الاعتراف يمنح التائب مغفرة خطاياه والثبات في هذه المغفرة، لذلك وجب عليه ألاّ يميل إلى خطاياه فيعود إليها، بل إلى اقتناء الفضائل التي تثبّته في الخير. فالذي يعترف بخطاياه وينال النعمة ويعود إلى الخطأ فهو كاذب لأنه وعد الله بألا يعود إلى الخطيئة وها هو يخالف وعده. لذلك فهو يضيف على خطيئته خطيئة أخرى، ومن يصالح الإنسان الكاذب على الله مع الله ؟ إن الإساءة ليست فقط تجاه الذات بل تجاه الله أيضًا.
وهنا يعطي مثل الرسولين بطرس ومتى: “تأمل أيها الحبيب إن أثرت التأمل كيف يقصد الانجيل المقدس تعليمنا في أن نثبت بالخير وعمل البر بتمثيله لنا أمثلة التائبين منهم بطرس الرسول الذي بكى بكاءً مرًّا لأنه لم يثبت على الخير[12]…. بينما متى الانجيلي عندما دعاه يسوع “ترك للفور الجباة غير آبه بالربح، وتبع يسوع وثبت في صحبته، وهذا يدل على صدق توبته وصفاء ضميره.”
البرهان الثالث
في هذا البرهان يشدّد عبدالله على أن الفضيلة دون النعمة لا تفيد ولا تمنح الخلاص: “… إن النعمة تمنح وتفيد الامداد لصيرورة كل فضيلة باجماع رأي كل الآباء العلماء جميعًا والكتاب المقدّس، لأن [لأنه] من دون النعمة وثباتها لا تفيدنا الفضائل شيئًا، ولو انفق التائب كل ماله على الفقراء أو سفك دمه كالشهداء أو جاهد جهاد أفضل النسّاك وحصل في الساعة الأخيرة من عمره غير ثابت في النعمة فقد أضاع كل تعبه وفاته النفع الذي كان يرجوه والقلب تعيسًا شقيًّا. إنها من عقائد الإيمان هي إنّ مَن لم يثبت في العمل الصالح إلى تمام عمره لا يخلص. إذًا مَن يخلص؟”[13]
هل الذي يجاهد يخلص؟ الجواب كلا. بل الذي يصبر إلى المنتهى. وبولس الرسول نفسه لم يكن مطمئنًا كفاية حول موضوع خلاصه: فمن جهة زعم أنه قد حفظ إكليل البر الذي سيجازيه فيه الله، ثم يقول أنا الذي بشرت آخرين أخاف أن أُنفى وأُرذل[14].
يمهّد عبدالله الجزء الثاني من العظة في ختام البرهان الثالث بالقول: تشجّعوا، “إذ قد رُزقتم نعمة الله، احتفظوا بها يا هؤلاء ولا تُهملوها أبدًا. لأن دوامكم فيها مفيد لكم، وعزّ وفخر لكم وسبب سعادتكم. وإن قلتم كيف العمل للدوام فيها أجبتكم أن استعملوا الوسائط التي علمناكم بها بفضل الله وإلهامه…”[15]
خلاصة الجزء الأول:
هناك تدرّج في فكر عبدالله، من ناحية تفصيله البراهين على وجوب الثبات في الخير، فيبدأ بالثبات في الخير، لينتقل إلى التمسّك بالنعمة والثبات في الخير لينتهي بوجوب حفظ النعمة. يؤكّد عبدالله في البرهانين الأولين أن الخير والنعمة يحصل عليهما الإنسان من العماد، والاعتراف أو التوبة، وتناول الأسرار المقدّسة. أما في البرهان الثالث فاكتساب الفضيلة والصبر إلى المنتهى، أي المواظبة على العيش بصبر حتى المنتهى، والإصغاء إلى إلهام الروح القدس، والتعلّم من اختبار الرسل وتعاليمهم، كل هذه الأمور تساعد على الثبات في الخير والنعمة. يشدّد عبدالله على الهبة المجّانية التي يمنحها الله لكي يثبت الإنسان في الخير والنعمة، وعليه هو أن يفعّل إدراكه، وقلبه، وفضائله كتجاوب سليم وصحيح مع هذه المجّانية.
الجزء الثاني من العظة
بعد تقديم براهين ثلاثة عن ضرورة الثبات في الخير وحفظ النعمة، يقدّم عبدالله أربع وسائط عمليّة تساعد المسيحي على الثبات في النعمة.
الواسطة الأولى
في الواسطة الأولى يعلّم عبدالله المسيحي ألاّ يعتمد على قواه الشخصيّة، وأن يتحاشى كل ما يؤدّي به إلى زلّة، يقول: “فالواسطة الأولى لحفظ النعمة هي أن لا نعتدّ بأنفسنا بأمر البتة وأن نهرب من كل شيء يسبّب الخطيئة.” لأننا، يضيف عبدالله، لسنا أقوى من بطرس الرسول الذي حين اعتدّ بنفسه قائلاً: “لو شك جميعهم أنا لا أشكّ فيك…” أما نتيجة هذا الاعتداد فأدّت إلى إنكار المسيح ثلاث مرّات.
بالمقابل يدعو عبدالله المؤمنين إلى أن يُصغوا إلى ذواتهم”، فإنهم، على حدّ قول بولس الرسول، آنية خزف. ويشرح ذلك بالقول:
“[…] وعلى الأقرب تخسرون ما تقتنونه من أول مصادمة تصدمكم، ولذلك يجب عليكم أن تحذروا تمليقات الدنيا أكثر من تهدّدها [تهديداتها] وتهويلاتها من حيث أنها تحجب عنكم النعمة وتخسركم أرواحكم بتمليقها أكثر من اضطهادها لأن النعمة تشبه الزهر الذي يذبله الهواء الحار وينتره الريح العاصف ومن هذا القياس نفهم أنه يجب عليكم يا سامعين أن تتجنّبوا لقى الناس لحال ضعفكم لأن من المعاشرة تحدث الخطايا، والسابقة تعود راجعة بل الواجب أن تحتفظوا بالنعمة نظير حفظ بني إسرائيل المن […] وإن قلت كيف يمكن حفظ النعمة بنِعَمْ؟ أجبتك بعمل الفضائل والأعمال الصالحة المناسبة رتبكم، أي بالحرص والتحرّز على نفوسكم بعدم الاعتداد بقوّتكم بالمؤانسة مع أعدائكم بالتحفّظ بالسمع، بغض النظر من المحرّم نظره، بضبط اللسان عن التكلّم بما لا يليق.”[16]
الواسطة الثانية
تكمّل الواسطة الثانية الواسطة الأولى تصاعديًّا. فإن كان على المرء ألاّ يعتد شيئًا البتة بأمر نفسه، فهذا يعني التسلّح بالرجاء والاتّكال على رحمة الله، وهذا هو عنوان الواسطة الثانية: “الرجاء بالله والاتكال على رحمته بشرط ملاحظة الرجاء والخوف معًا.”
يلفت عبدالله نظر السامع إلى أن الواسطة الثانية هي تأكيد على أبوّة الله للإنسان، وعلى بنوّة المؤمن لله. فإن خاف المؤمن من ضعفه، فرجاؤه وطيد برحمة المخلّص. ويرتبط هذا الرجاء بالخوف المقدّس، لأن: “رأس الحكمة مخافة الله”.
فمخافة الله تختلف عن الخوف الذي يلقيه الشيطان في فكر الإنسان: “فإن الشيطان في أكثر الأوقات يطرح عليك الخوف لأنه عند عجزه من هلاكك لكثرة الدالة يحاول أن يهلكك بقطع الرجاء […] أما أنت يا هذا، إقبل [فاقبل] نصحي واطرح وساوس إبليس والتفت إلى أبيك السماوي نظير الابن الشاطر وقل يا أبتاه أخطات في السماء وقدامك ولست مستحق [مستحقًّا] لهذه النعمة التي مُشرف [أشرف] أنا على خسرانها لحال عزمي الرخو. فأنا أسألك لترحمني برحمتك وامنحني قوة جديدة ثابتة لكيلا أنحل وأخسرها.”
الواسطة الثالثة
الواسطة الثالثة تتوّج الواسطتين الأوليين، ألا وهي ممارسة قبول الأسرار المقدّسة.
يشرح عبدالله استعمال هذه الواسطة كالتالي: “لأن كما أن الذي يلبس في الشقاء لباسًا كافيًا ويقترب إلى النار فلا يحسّ بألم البرد، ومن كان نقيض ذلك يؤلمه البرد، هكذا من يستعمل الأسرار المقدسة مرارًا يستفيد الفائدة الواضحة. قد أخذت يا هذا حياة جديدة وحرارة جديدة فكيف تحفظ ما أخذته إلا أن يكون بالواسطة التي سببت لك ما أخذته عينها. إذًا استمرّ على استعمال ومداولة الأسرار المقدسة بتواتر لتحفظ بها ما أعطيت بواسطتها. فماذا تظن، هل هو كثيرًا أن تعترف في الشهر مرّة واحدة وإن كنت تعد ذاتك من أهل التقى والمتعبدين، فليس بكثير أن تعترف في الشهر مرّات…”
يحرّض عبدالله المؤمن ألا يعيش حياته كمن يؤدّي واجبًا كنسيًّا، إنما كمن يبحث عن عيش إيمانه بصدق البنين وإخلاصهم وحاجتهم إلى رحمة الله الآب. ولكنه بالمقابل يقترح ألاّ يتناول المؤمن الأسرار المقدّسة دون مشورة معلّم الاعتراف ورأيه: “أما تناول الأسرار المقدسة فسبيلها أن تكون حسب مشورة معلم اعترافك ورأيه… لأنه تعالى قال إن لم تأكل جسده ليس لك في ذاتك حياة. وإن أنت أكلته بغير استحقاق فإنما تأخذ دينونة لنفسك وتذنب إلى جسد الرب ودمه.”
فإن كان المؤمن لا يقدم على عقد شيء البتّة بمشورة ذاته، بل يعتمد على الرجاء ورحمة الله، فإن تفاعل المؤمن مع معلّم اعترافه فله إيجابياته لكي يسير بهدي روحيّ ووعي ضمير إلى طريق الله.
الواسطة الرابعة
والواسطة الرابعة لحفظ النعمة ودوامها، قوامها تدبير الزمان وترتيبه لكيلا يذهب بغير نفع.
“إفهم، أمسيحي أنت وصاحب وظيفة بها أقامك الله، مهما كانت، رئيس أو مرؤوس، خادم أو عامل أو تاجر وغيره، فاصرف زمانك في وظيفتك على ما يليق بالمسيحي ولا تذهب زمانك كله بعمل وظيفتك وتنسى عمل خلاصك. أعط ما لله لله، وما لقيصير لقيصر، ميّز وزن ما بين اللازم لخلاصك واللازم لوظيفتك وأعط كل منهما حقوقه. فإن كنت غنيًّا أو شريفًا وأفرطت بما لوظيفتك وقصرّت بما لخلاصك، فما الذي يفيدك من غناك وشرفك وقد خسرت النعمة التي هي خيرك وحدها…”
خلاصة الجزء الثاني
إن الطريق التي يرسمها عبدالله من خلال هذه الوسائط تشبه ببعض جوانبها الطريق التي رسمها للرهبان الموارنة في القانون الذي أثبته البطريرك إسطفانوس الدويهي سنة 1700.
فإن حاولنا وضع مقارنة تقريبيّة بين الطريقين، يمكننا استنتاج التالي:
أولاً: تأتي الطاعة في صدارة الحياة الرهبانيّة، لأنها بحسب قول عبدالله، الأولى والأعظم في سيرة الكمال، وهي أكمل عبادة وأعظم تقدمة من الطهارة والفقر[17]. وكرّس القانون الفصل الأول للطاعة، ويحثّ البند الرابع منه الراهب على ألاّ يعقد أمرًا إلا عن إذن الرئيس. يدلّ هذا الأمر على أن الراهب لا يسير في طريق الكمال بمشورة نفسه وتمييزه الشخصي. أما في العظة، فيكتفي عبدالله بتنبيه المسيحي على أن يسير طريقه بحذر، لأن الاعتماد على الذات وعلى التمييز الشخصي دون الثبات في النعمة لا يكفيان وحدهما لكي ينجح مسعى حياته.
ثانيًا: أما فيما يتعلّق بممارسة الأسرار، وبالأخصّ التوبة وتناول الأسرار المقدّسة، فوحده قانون الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة يحوي، بين القوانين الرهبانيّة القديمة، فصلين خاصيّن بهما، وهما الخامس عشر والسادس عشر. وفي نفس السياق، ينصح عبدالله المسيحي أن يلجأ إلى رحمة الله، وأن يتوب إليه كالإبن الشاطر، وأن يعترف مرّات عديدة في الشهر، وأن يتناول القربان. بينما القانون الرهباني يأمر الراهب بأن يعترف مرّة واحدة أقله في الأسبوع.
لا ينصح عبدالله المسيحي أن يمارس الصلاة بشكليها الفردي والجماعي، ولا يدعوه إلى ممارسة تقويات معروفة في عصره أدخلها المرسلون اللاتين في تلك الآونة. بل يكتفي بنصحه بممارسة الأسرار، التي هي تمام العبادة، وقمّة كل احتفال ليتورجي.
ثالثًا: تُذكّرنا الواسطة الرابعة بالحياة الرهبانية القائمة على الصلاة والعمل، والجهاد المستمر لكسب الغلبة. ففي العظة ينصح عبدالله المسيحي أن يتفرّغ لله كما يليق به ولعمله كما يليق به، فيوازن بذلك بين نشاطه الروحي والمادي، ويعمل على نموّ ذاته بكليّتها، فيحيا بالنعمة ويثبت فيها، ويخلص.
ميزات خاصة بالعظة:
- التكرار
يستعمل عبدالله أسلوب تكرار للكلمات والتعابير الرئيسيّة، فيغتنم كل فرصة مؤاتيّة ضمن العظة ليكرّر تعابيره. ففي مقدّمة كل مقطع أو خاتمته، أو في متن النص يميل إلى التكرار بشكل سلس لا يملّ منه السامع. لأن ترابط الأفكار وتسلسلها المتين والمنطقي يدعو المستمع إلى الاستمتاع بتفاصيل العظة. أما التعابير الأكثر تكرارًا فهي التالية: الثبات في الخير، الثبات في النعمة، الحفاظ على الخير، الحفاظ على النعمة، الاعتراف، تناول الأسرار المقدّسة، التائب، التوبة. لاحظنا أن عبدالله قلّما يتوجّه إلى السامع كخاطئ، ولا يستعمل هذه الكلمة بشكل أساسي، إنما عندما يتوجّه إليه فيسميّه: “المسيحي” “التائب” “يا هذا” الخ.
- طريقة استعمال الكتاب المقدس
إن عظات عبدالله قرألي مشبعة من الكتاب المقدّس، ففي العظة الثامنة عشرة يستعين عبدالله بالكتاب المقدّس في عهديه العتيق والجديد على السواء كوحدة متكاملة، وبأساليب متعدّدة. فهو يستشهد أحيانًا بآيات، وأحيانًا أخرى يستعين باختبار بعض شخصياته، أو يسرد بعض أحداث منه. يميّز عبدالله بين كلام الله الذي يهدف إلى تعليم الإنسان وخلاصه، وبين اختبار الأشخاص الوارد ذكرهم في الكتاب المقدّس إذ يبيّن مكامن ضعفهم وصراعهم لمطابقة حياتهم على مضمون كلمة الله، وبين بعض الأحداث التي تحمل دلالات رمزيّة. والفريد في هذه العظة أن عبدالله يعتبر أن سامع العظة ليس غريبًا عن الكتاب المقدّس، فيضع على لسانه بعض آيات منه، ففي معرض العظة يورد عبدالله عن لسان الخاطئ هذا القول: “ثم يقول [الخاطئ] بينه وبين نفسه أنا كنت أقلّ تمييزًا من البهائم على ما قال النبي أن من كان في كرامة ولم يفهم أُقيس بالبهائم التي لا عقل لها…”[18]
سنعطي، فيما يلي، نماذج أربعة لطريقة استعمال عبدالله للكتاب المقدّس:
استشهاد بآيات من الكتاب المقدس
يبدأ عبدالله كل عظاته بآية من الكتاب المقدّس جاءت في غالبها من العهد الجديد. إنما لا يذكر مصادره البيبليبة، وجاءت طريقة استعماله لها في مطلع عظاته على الشكل التالي:
“قال الله” (عظة 6 و 17)، “قال الرب” (العظة 7، والعظة 8، العظة 9، العظة 18، العظة 19)، “قال الرب في إنجيله المقدّس” (العظة 11)، “قال الإنجيل المقدّس” (عظة 13).
أما العظة الثامنة عشرة فيبدأها بالعبارة التالية: “قال الرب من يصبر إلى المنتهى يخلص.”
وعندما يتناول بعض الآيات من الكتاب المقدّس، في متن نص العظة، يبدأها بالعبارات التالية: “على ما قال النبي”[19]، “وعن هذا المعنى يوحي الروح القدس قائلاً”[20]، “وقد حقق لنا الروح القدس هذا المعنى بقوله على لسان الحكيم”[21]، “كما جاء على لسان النبي”[22]. أما بالنسبة إلى بولس الرسول فيسمّيه دائمًا “الرسول” ويستشهد برسائله دون أن يسمّي الرسالة التي استقى منها الآيات للعظة.
تأوين آيات الكتاب المقدّس
إن كل من يسمع عظة عبدالله يعتبر نفسه أنه مكمّل لتاريخ شعب الله، ومشمول بعمل الله الخلاصي، وأن إيمانه بالله ومعاناته في الحياة اليومية لها صدى واقعي في الكتاب المقدّس يعينه لفهم ذاته واعتبار أن كلمة الله موجهّة إليه مباشرة لخلاصه. ويستعمل عبدالله المقارنة لهذا الغرض:
* “إسمع يا هذا مخاطبة الله لروحك على لسان إرميا النبي قائلاً: “من يرحمك يا أورشليم أو من يصلي لأجل سلامتك أنت تركتيني ورجعت إلى خلف”، وكأنه يقول يا أيها الخاطيء الأثيم من يرحمك ومن يتوسل لأجلك ويصلحك معي أنا ربك فقد وعدتني أن تكون أمينًا معي وحافظ عهدي ثم تركتني رغبة في شيء دنيء وتحوّلت عنّي وانعطفت إلى المخلوقات.”[23]
* “… أما أنت يا هذا إقبل نصحي واطرح وساوس إبليس والتفت إلى أبيك السماوي نظير الابن الشاطر وقل يا أبتاه أخطأت في السماء وقدامك ولست بمستحق لهذه النعمة التي مشرف أنا على خسرانها لحال عزمي الرخو فأنا أسألك لترحمني برحمتك وامنحني قوّة جديدة ثابتة لئلا أنحلّ وأخسرها.”[24]
* “إفهم، أمسيحي أنت وصاحب وظيفة بها أقامك الله […] فاصرف زمانك في وظيفتك على ما يليق بالمسيحي ولا تذهب زمانك كله في وظيفتك وتنسى عمل خلاصك. أعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر.” ولكي يفهم الإنسان المسيحي ضرورة هذه الواسطة، يقارن عبدالله حال هذا الإنسان بحالة يهوذا المكابي الذي سقط لأنه اهمل تدبير ذاته، وتهامل وتراخى لصغر نفسه، فقتل ومات. وبعد سماع هذه المقارنة يشرح عبدالله كيف أن المسيحي نفسه يقارن وضعه بوضع يهوذا ويضع على لسانه هذا القول: “ويلي كيف انغلبت لالام نفسي بعد غلبي لها مرات عدة، لماذا ما حفظت النعمة التي كنت عطيتها حتى صادفني مثل ذاك التعس وخسرتها مثل تعس وخسارة يهوذا المقابي يا ليتني دبّرت حالي وزماني…”[25]
أحداث من الكتاب المقدّس
يتناول عبدالله في عظته أحداثًا مختلفة من الكتاب المقدس حصلت إما مع الشعب اليهودي، إما مع الرسل وإما مع شخصيات أخرى كنبوخذنصرّ وغيره. سنتوقف هنا عند حدث واحد ونعرض مضمونه نظرًا لأهميته التعليميّة التي يفصّلها عبدالله في عظته. ففي معرض كلامه عن الواسطة الأولى لحفظ النعمة، يحث عبدالله سامعيه أن يحفظوا النعمة نظير حفظ بني إسرائيل المن. ويعلل ذلك بالقول:
” […] لأن النعمة التي حصلت وتحصل لكم من استعمال الأسرار المقدسة وممارستها فهي تشبه المن من وجوه. أولاً كان المنّ ينزل من السماء والنعمة تُرسل من السماء من عند أبي الأنوار. ثانيًا المنّ قات شعب الله في البريّة إلى أن دخلوا أرض الميعاد والنعمة تقيت المؤمنين في غربة هذه الدنيا إلى أن يدخلوا أرض الميعاد السماويّة. ثالثًا كان المنّ يشبه حبّ الكزبرة ولونه كلون اللولو وطعمه يحتوي على أنواع الأطعمة كنحو شهوة من يأكله والنعمة كذلك كقول بطرس الرسول، ولو أنها ترى بسيطة ساذجة لكنها تمنح مواهب مختلفة. رابعًا قليل من الندا [الندى] كان يعمل استعدادًا للأرض لتقبل الندا [الندى] وبقليل من الأعمال الصالحة يستعد القلب ليقبل النعمة فيحس بكراهية الخطايا ويبغضها ويتوب عنها وعلى نحو ما كان كل واحد من بني إسرائيل يقوم صباحًا ويسعى مجتهدًا في التقاط المنّ هكذا يجب على كلّ منّا أن يكون كل يوم مجتهدًا على اكتساب النعمة بعزمه وعمله. خامسًا كان ينزل على الأرض ندا [ندى] بعد نزول المنّ غير الندا [الندى] الذي كان ينزل قبله فيغطّي المنّ ويحفظه من حرّ الشمس وضرر الهواء هكذا يجب على من قد حصل على النعمة أن يتدبّر بنوع يجلب المساعدة النعمة نعمًا تحفظها وتصونها إذ النعمة الأولى لا تكون إلا لطيفة زريفة [ظريفة] يخشى على فقدها أكثر من المنّ. وإن قلت كيف العمل في حفظ النعمة بنعم؟ أجبتك بعمل الفضائل والأعمال الصالحة المناسبة رتبكم…”[26]
ج) تشبيه الكاتب نفسه بموسى النبي وببولس الرسول
يشبه عبدالله قرألي نفسه بموسى في ختام الجزء الأول من العظة، ويشبّه نفسه ببولس في ختام الجزء الثاني من العظة. يشبّه عبدالله نفسه بموسى الذي خاطب القدماء من بني اسرائيل، وأوصاهم بالحفاظ على العهد وعلى كلمة الله، يقول: “إذًا فلنهتمنّ أيها الأحباء في الأعمال الصالحة وافطنوا بما أريد أن أقول لكم خاتمة ما قلت لكم على مثال موسى النبي حين قَرُبَ موته وقال لمقدّمي إسرائيل، قد تعلمون كم أحببتكم بحنو قلب واجتهدت في خلاص أنفسكم والآن أنا منتقل إلى رحمة الله ويحق لي أن أنصحكم على شيء يلزمكم حفظه من غير تناسي البتّة وهو أن تكونوا أمناء على حفظ وصايا الله ولا تبتعدوا منها أبدًا. أذكروا أن لديكم أعداء يجتذبونكم على الدوام إلى الشر وعبادة الأوثان أما أنتم فاحفظوا إيمانكم لتقبلوهم […] ها هوذا الآن مسيحيون الذين يمكني [كذا] أقول لهم اليوم تشجعوا إذ قد رزقتم نعمة الله، احتفظوا بها يا هؤلاء ولا تهملوها أبدًا لأن دوامكم فيها مفيد لكم وعز وفخر لكم وسبب سعادتكم وإن قلتم كيف العمل للدوام فيها أجبتكم أن استعملوا الوسايط التي علمناكم بها [إياها] بفضل الله تعالى وإلهامه أيانا لأن اقتناء النعمة صادر من قبله ومن دون تفضيله علينا بذلك…”[27]
ويشبه عبدالله نفسه ببولس الرسول بصفته مؤتمن على كلام الله وعلى نقل بشارته للسامعين لكي يخلصوا، يقول: “هذا ما قصدت أن أقوله لكم يا سامعين وأسألكم أن تسمعوه وتحفظوه لا كأنه من فم إنسان بل من فم الله ولو أتاكم ملاك وكلمكم بكلام لكان أفصح مني لكن لا أصدق مني فإن كلامه خلاف كلامي فلا يكون إلا ليغشكم، وكما أن الباري تعالى قد اوتمني [ائتمنني] على كلامه لأعظكم به، فكذلك يطالبكم بالاستماع له، فإذا سلكتم بحسبما سمعتم فتكونوا حينئذ ثابتين على النعمة الموهوبة لكم.”[28]
وفي ختام كلامه يضع عبدالله نفسه بمقام السامعين، وكأن العظة موجهّة له أيضًا، يقول: “فاجتهدوا إذًا يا سامعين واعلموا أن فيكم أناس لا يبلغون بعد إلى السنة الآتية، بل في هذه السنة يموتون، وربما أنا المتكلّم معكم أموت في هذه السنة مثلهم. إذًا الجهاد في الأعمال الصالحة موافق وواجب لكلنا.”[29]
خلاصة عامة:
كانت ثقافة المجتمع الماروني في القرن الثامن عشر بدائيّة، وذلك لانعدام العلوم والفنون والفكر عمومًا في جبل لبنان في تلك الحقبة من الزمن. إلاّ أنه كان يوجد نخبة مثقّفة، درست إما في روما وإما في حلب أو غيرها، وحاولت أن تقدّم للمجتمع أفضل ما لديها. لذلك أوصى المجمع اللبناني المنعقد في دير سيدة اللويزة سنة 1736، بضرورة تعليم الفتيان والفتيات وأوكل هذه المهمّة للإكليروس والرهبان. وكان يعتمد المجتمع آنذاك على التقليد الشفهي أكثر منه على التقليد الكتابي. وتكمن أهمية العظة في نقل تعليم الكنيسة المبنيّ أصلاً على الكتاب المقدّس بطريقة واضحة وسهلة ومبسّطة، فيتناقل المؤمنون مضمونها ويعيشون بموجبه.
لم تكن تتوفّر بين أيدي الناس نسخ من الكتاب المقدّس ولا غيره من الكتب، لذلك فلا يتلقّن المؤمن “كلمة الله” إلا من خلال الكنيسة واشتراكه في الاحتفالات الليتورجيّة على تنوّعها حيث تُقرأ فصول من الكتاب المقدّس. اعتمد عبدالله بشكل أساسي ومباشر على الكتاب المقدّس في عظاته، ولا نجد في هذه العظة أي ذكر لكلام أو لتعليم آباء الكنيسة أو لأقوال الآباء الشيوخ (الرهبان)، أو القديسين المعاصرين. إنه يستشهد مرّة واحدة، في الجزء الأول من العظة، في سياق البرهان الثالث، بمحادثة جرت بين سيدة من أشراف روما والبابا غريغوريوس، حول مغفرة خطاياها واستحقاقها للخلاص[30].
يُظهر عبدالله ذاته، معلّمًا للإيمان والفضائل. ويتميّز بتعليمه أنه يتقن فن التوجّه إلى العقل، فيقنع سامعه بالحجّة والبرهان. لم نصادف في عظته أي دلالة يحثّ بها المؤمنين على العبادات التقويّة أو العواطف الروحيّة. بل يحثّ السامعين على التقيّد بكلمة الله، وعيشها ضمن الكنيسة من خلال ممارسة الأسرار. هذا يبيّن تمامًا على تمسّك عبدالله بتعليم الكنيسة الجامعة، خاصة تلك الصادرة عن المجمع التردنتيني[31] وعلى تطبيع هذه التعاليم بتراث الكنيسة السريانيّة الإنطاكيّة، دون أن يتأثّر بالروحانيات والممارسات التقوية التي نشرها المرسلون اللاتين بين مسيحيي الكنائس الشرقيّة الموجودة ضمن نطاق السلطنة العثمانيّة.
[1] مخطوط 56، دير سيدة المعونات، جبيل، لبنان. راجع دليل مخطوطات مكتبة سيدة المعونات، جبيل، محفوظ في مكتبة جامعة الروح القدس، الكسليك، 1984، الجزء الأول.
[2] مخطوط 52، دير سيدة المعونات، جبيل، لبنان. نسخ هذا المخطوط القس بولا مزيارة اللبناني، سنة 1840. راجع دليل مخطوطات مكتبة سيدة المعونات، جبيل، محفوظ في مكتبة جامعة الروح القدس، الكسليك، 1984، الجزء الأول. هذا المخطوط محفوظ حاليًا في مكتبة جامعة الروح القدس، الكسليك، تحت رقم OLM 751.
[3] مخطوط 26، دير مار أنطونيوس قزحيا، لبنان. ورد في صفحة 77 من المخطوط ما يلي: “فهرست هذا الكتاب الملقب بالوعظ، تأليف المطران يواصاف اللبناني البسكنتاوي، الذي كان يومئذ منطويًا تحت قانون الرهبان اللبنانيين […] وكان تأليفه في آذار في دير ماري [مار] ساسين سنة 1732.” راجع موريس معوّض، يوصف سليمان، سيمون صليبا، دليل مخطوطات مكتبة دير مار أنطونيوس قزحيا، محفوظ في مكتبة جامعة الروح القدس، الكسليك 1986، صقحة 29. هذا المخطوط محفوظ حاليًا في مكتبة جامعة الروح القدس، الكسليك، تحت رقم OLM 1384.
[4] مخطوط 49، دير سيدة المعونات، جبيل، لبنان. يحوي هذا المخطوط 56 عظة. نسخه اندراوس قرطباوي، الراهب اللبناني، سنة 1801. راجع دليل مخطوطات مكتبة سيدة المعونات، جبيل، محفوظ في مكتبة جامعة الروح القدس، الكسليك، 1984، الجزء الأول. هذا المخطوط محفوظ حاليًا في مكتبة جامعة الروح القدس، الكسليك، تحت رقم OLM 633.
[5] يختار عبدالله كلمة “الخير”، ولكن في عظته يضيف على الخير الفضيلة والنعمة. أي إنّه يحثّ المسيحي على الثبات في الخير والفضيلة والنعمة (صفحة 358).
[6] ص 359.
[7] صفحة 359.
[8] صفحة 360
[9] “وما هي إلا دلالة تدلنا على سوء الحال الذي يحصل للروح من فعلها الخطيئة وقد يدرك ذلك أحسن إدراك كل من احتوى على نعمة الإيمان ويرى بنظر عقله شناعة الروح الخاطئة أقبح وأشنع من حال بختنصر [نبوخذنصّر] الملك”.
[10] ص. 361.
[11] ص. 362.
[12] ص. 367.
[13] ص 367.
[14] ص 367.
[15] ص. 372
[16] صفحة 373-374.
[17] عبدالله قرألي، المصباح الرهباني، ص. 8.
[18] ص. 359
[19] ص. 359
[20] ص. 364
[21] ص. 370
[22] ص. 365
[23] ص. 365-366
[24] ص. 376
[25] ص. 379
[26] ص. 373-375.
[27] ص. 371-372
[28] ص. 379
[29] ص. 380.
[30] ص. 369
[31] المجمع التردنتيني، الدورة الثالثة عشر (11 تشرين الأول 1551)، الرابعة عشر (25 تشرين الثاني 1551)، عقيدة تتعلّق بسرّي التوبة والمسحة الأخيرة المقدّسين.