Almanara Magazine

العذراء مريم في كتابات البطريرك الياس الحويّك 

الأخ رمزي حتي م.ل.

العذراء مريم في كتابات البطريرك الياس الحويّك “؛ سنُحاوِلُ من خلالها طرح جوانب اللاهوت المريميّ الذي تميّز به البطريرك، ونَقَلَهُ إلى شعبه الماروني وبناته الراهبات.

تُقسَم مقالتُنا إلى قسمين. يعرض القسم الأول لكتابات الحويّك حول العذراء مريم. أمّا الثاني، فهو معالَجة لمختلف جوانب اللاهوت المريميّ في تلك الكتابات.

كتابات البطريرك الياس الحويّك المريمية

        سنعرِضُ بدايةً لكتابات البطريرك، والتي تتناول العذراء مريم، وسنعتمد على التسلسل التاريخي لها، بدءًا من الأقدم إلى الأحدث.

  • رسائل الإكليركيّ الياس الحويّك في روما إلى أبيه[1]: في سنة 1859 أصبح ” الياس ”  طالبًا للكهنوت في مدرسة (إكليركية) غزير [2]. وفي عام 1866 أرسله البطريرك بولس مسعد إلى روما لإكمال دروسه[3]. يتبيّن لنا، ومن خلال إصدار لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في  الثاني من شباط من سنة 2014 (يوم عيد تقدمة يسوع إلى الهيكل) وهو بعنوان ” مريم العذراء “؛ أنَّ مؤسسهُنَّ وهو في روما، بَعَثَ بتسعِ رسائل ذات محتوى مريميّ إلى والده. كَتَبَ الأولى بتاريخ 15 تموز 1867، ليلة عيد ثوب سيدة الكرمل[4]. والتاسعة والأخيرة تعود لشهر آذار 1869 [5]. إضافةً إلى رسالة سبقتها، ووجهها إلى والده أيضًا، تعود ليوم 7 شباط 1860، أي قبل سفره إلى روما[6].   
  • ” العبادة لمريم العذراء ” منشور للبطريرك الياس الحويك سنة 1903: هو عنوان المنشور المريمي الأول. أُذيعَ سنة 1903، ذِكرًا لِما كان يَكُنَهُ من طاعةٍ تقويّة واحترام وتقدير للبابا لاون الثالث عشر الذي احتفل بالتذكار الخمسين لتحديد عقيدة الحبل بلا دنس المُعلَنة سنة 1854، من قِبَل البابا بيوس التاسع[7]. سيُترجَمْ هذا المنشور عمليًا على الأرض بعد سنة واحدة، من خلال المباشرة ببناء مزار سيدة لبنان.
  • مجموعة رسائل من البطريّرك الحويّك لبناته الراهبات: وعددها ثلاث عشرَة رسالة. جمعتها راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات في كتاب ” صوت المؤسس ” ، وطُبِعَ سنة 1971. تتضمن توجيهات وتمنيّات من البطريرك لَهُنَّ. لم تذكر تلك الرسائل العذراء مريم بشكل صريح وواضح ومُباشِر. وأيضًا لم تحمل أي واحدة منها عنوانًا أو مضامين مريمية كاملة.
  • ·        ” مريم العذراء ” منشور للبطريرك الياس الحويك سنة 1922: أُذيعَ تحت عنوان “مريم العذراء”، وذلك يوم الحادي عشر من كانون الأوّل سنة 1922، ووجهه البطريرك إلى “عموم أولادنا أبناء طائفتنا المارونيّة حرسهم الله وأحسن توفيقَهم[8]. وأيضًا مثل منشور سنة 1903، فإنَّ عناوين هذا المنشور، وضعها المُرسَل اللبنانيّ المارونيّ الأب فيليب السّمراني، والذي جَمَعَ رسائل الحويّك في كتاب ” الذّخائر السّنيّة “ في السادس من كانون الثاني من العام 1931، أي يوم عيد الدنح[9]. يهدف هذا المنشور بالأساس إلى تقويّة إيمان الشعب المارونيّ، بعد حربٍ عالميّة أولى دامية، أحبطت من عزيمته وإيمانه.    

بعد منشور عام 1922 المريميّ، أصدر غبطته مناشير عديدة في مواضيع مختلفة، تدل على عمق علاقته بشعبه المارونيّ[10]. قد سبق إذاعته، تدشين مزار سيدة لبنان في حريصا. ” وهذا المزار بناه باسم البطريركية المارونية ” الياس بطرس الحويّك” بمؤازرة القصادة الرسولية في سوريا سنة 1908 الموافِقة للعام خمسين من ظهور السيدة في لورد “فرنسا” وتحديد الحبر الروماني عقيدة الحبل بلا دنس ومن كهنوت الأب الأقدس بيوس العاشر “[11]. بإمكاننا القول إن هذا المنشور هو إكمال أو تتويج لبناء المزار، كما كان المنشور المريمي الأول مقدمة لبنائه.

جوانب اللاهوت المريميّ في كتابات البطريرك الياس الحويّك

        سنعرض في هذا القُسم جوانب اللاهوت المريميّ في مناشير ورسائل البطريرك؛ موضحين الصورة التي قدمها عن مريم العذراء، وذلك وَفقًا لنقاط ثلاث: العقائد المريمية أولاً، ثم سنتناول الفضائل والصفات المريميّة التي تحدث عنها البطريرك، وثالثًا وأخيرًا العبادة المريمية.

  • العقائد المريميّة: تشرّب البطريرك الحويّك من خلال دراسته اللاهوت في لبنان وروما [12]، حُبًا كبيرًا وطاعةً والتزامًا بما يصدُرُ عن الكرسي الرسولي من عقائد مريميّة.

_ عقيدة الحبل بلا دنس: الاحتفال باليوبيل الخمسين لإعلان تلك العقيدة، وهي أُعلِنَتْ سنة 1854، هو السبب الرئيس وراء إعلان منشور سنة 1903 المريميّ، والذي جاء تزامنًا مع الاحتفالات التي أعلنها الحبر الأعظم البابا لاوون الثالث عشر بهذا الخصوص. 

        في الصفحات الأولى لهذا المنشور، يُعرّف غبطته أبناءه الموارنة، بعقيدة الحبل بلا دنس شارحًا لهم معانيها اللاهوتيّة. فمن تعبد لمريم من كل قلبه وبشكل صحيح لن يُدركه الهلاك. ذلك لأنَّ العذراء مريم بعد صعودها بالنفسِ والجسدِ إلى ملكوت السماوات، تكلّلتْ مع الثالوث الأقدس بالمجدِ سلطانةً على السماء والأرض وجُعِلَتْ خازنةً للنِعَمْ الآلهية توزّعُها على من شاءت[13]. ولكيّ تُعطى تلك العقيدة حقها رعائيًا وتنظيميًا واحتفاليًا؛ يُشير غبطته إلى وجوب الإلتزام بما ” أَمَرَ ” به قداسة الحبر الأعظم بهذا الشأن[14].

وفي المنشور المريميّ الثاني، يعرض غبطته لمشاركة مريم الآب في عمليّة التجسد، من خلال حُسن استعمالها ” حريّتَها وتطبيقها إرادتَها على مشيئته تعالى، وقبولِها الاختياريّ لحلول ابنِ الله المتانّس في أحشائها “[15]. ويُقيمُ مقارنةً بين العذراء مريم وحواء. كما أنَّ طاعة  أُمِّنا حواءلدسائسِ إبليس كانت سببًا لهلاك الجنس البشري؛ فهكذا طاعة أُمِّنا مريم لبشائر ملاك النور صارت سببًا لخلاصنا[16]. واكملت مريم طريق المشاركة بعمل التجسد والفداء والخلاص. اكتأبتْ مع ابنها في البستان، وشعرت بآلام الجلْدِ ووخزات شوكِ الإكليل، وثقل الصليب إلى أن جاز في قلبها سيفُ الحزنِ وهي تحت صليب ابنها، ولهذا تدعوها الكنيسة ” سلطانة الشهداء [17]. هذا المنشور، وإن كان لا يتناول عقيدة الحبل بلا دنس بشكل واضِحْ ومُباشِر، إلا أنه صَدَرَ عن ” كُرسينا البطريركيّ في دير سيّدة بكركي في 8 كانون الأوّل الواقع فيه عيد الحبل بلا دنس سنة 1922″[18]. ولذلك دلالة رمزية وهي تذكير غبطته بمضامين ومحتوى منشوره الأول.

  • الفضائل والصفات المريميّة: يُكرّم أبناء حلتا مريم العذراء منذ مئات السنين في كنيسة عجائبية، “سيّدة العين “[19]. صنفها المؤرخ الفرنسي Ernest Renan في كتابه Mission de Phénicie على أنها كنيسة ” عتيقة “، وهي كنيسة قديمة جدًا تجدد بناؤها عام 1882[20]. إنطلاقًا من تلك الروحانيّة المريميّة، والجوّ المريمي، والذي اعتاد عليه الحويّك منذ صغره؛ نجده يورد فضائل وصفات عديدة للعذراء مريم من خلال رسائله لوالده ولبناته الراهبات، وأيضًا من خلال منشوريّه المريميين.

_ مريم العذراء المعونة والحامية: ” أكمِلوا الصّلوة إلى السيّدة الكلّي طهرُها لكي تُعينَني، كي أُتمّم ما يتوجّب عليَّ إكرامًا لمجد الباريّ تعالى وخاصةً في العبادة “[21]. هذا ما أورده في أولى رسائله لوالده، وقت كان في غزير. هو يطلب معونة العذراء مريم في صلاته وعبادته. وأيضًا هي “ نجمةُ البحر “، “ معونة النصارى”، و ” أرزة لبنان “[22]. يورد غبطته تلك الصفّات عن مريّم، ضمن منشوره المريميّ الثاني، إشارةً إلى تسليمها العنايّة الخاصّة بأبناء طائفته، فهي ” خيرَ هادٍ إلى سواء السبيل… وأَحكَمَ مُرشدٍ إلى الصواب ” [23]. يهدف من هذا الكلاّم إمداد شعبه المارونيّ، الخارج من حرب دمويّة وصعبة والذي ما زال يُعاني، بكلمات التشجيع، التي تُقويّ إيمانه وتساعده على مواجهة المرحلة المقبلة.    

_ مريم العذراء الرحومة الحنونة: ” … متوكلّين على العناية الإلهيّة ومراحم الأمّ الحنونة الّتي لم تزل تُسبغ إنعامَها على ولدِكُمْ… “[24]. كان الحويّك وهو طالبُ للاهوت في روما، يتوكل ويلتجأ ويطلب مراحم العذراء مريم والتي يصفها بالحنونه. كان يعتبر نفسه بانه غير مستحق حنانها ورحمتها ورِضاها، ويعتبر نفسه عبدًا لها. ويتناول أيضًا موضوع حماية هذه ” الام الحنون “ وعنايتها من خلال منشوره المريميّ الأول: “ وهذه الأمُّ الحنون، عملاً بوصيّة إبنها الأخيرة، قد اتّخذتنا تحت ظلّ حمايتِها وعنايتِها، وصارت كمدينة الملجأ لكلّ من لاذ بها”[25].

_ مريم العذراء الملكة الرؤوفة والمرشدة: “ يا أبي ها إنَّ الوقت قارب النّهاية فوطّدوا رجاءكم بالله وأكثروا التّضرّعات لدى عرش أمّنا الرّؤوفة مريم كي تنعطف بحنوّها الوالديّ نحو ولدكم وتُرشِدهُ في طريق الخلاصِ منقيّةً قلبَه وروحَهُ وجسَدَهُ… “[26]. يَصِفها الحويّك بأنها تلك الملكة الجالسة على عرشها، بِكُلِ حنان وحُب وعطف. نلتمس هنا عواطف الحُبّ منه تُجاه العذراء، ومحاولته نقل اختباره معها لوالديّه وحثهم على الصلاة لها. وأيضًا نلاحظ أن ذكر العذراء يكون مُرفقًا دائمًا بذكر الله أو ابنها يسوع.

_ مريم العذراء أُمّ الناصريّ: ” كونوا براحةِ بال حيث ولدكم لا يصنع إلاّ ما يَسرُّكُمْ بعون الباريّ وشفاعة أُمّ الناصريّ[27]. هذا ما جاء في رسالته إلى ذويه يوم 2 شباط 1869[28]. هذا اليوم، وحسب الليتورجيّا المارونيّة، هو تذكار دخول السيد المسيح إلى الهيكل. يبدو أن الحويّك يستحوي تسميّة أو صفة ” أُمّ الناصريّ” من هذا العيد؛ واضِعًا نفسه تحت شفاعة العذراء مريم، صانعًا ما يَسُرُّ والديه دائمًا.

        وكونها أُمّ الناصريّ، فهي رُكن هامّ من أركان ” العائلة الناصريّة”. يدعو بناته الراهبات إلى صيانة التراث الرهباني الثمين، من خلال المحافظة على الفضائل التي امتازت بها ” العائلة الناصرية “، وأبرزها محبة الله والقريب والثبات بروح واحد[29]. “مريم العذراء” هي في وسط تلك العائلة، بين يسوع ومار يوسف. طلب من بناته الاقتداء بها وبفضائلها، فهي من دعائم وأركان العائلة المقدّسة الأساسية.

_ مريم العذراءأَمَةُ الربّ: من خلال رسالة وجهها إلى بناته الراهبات في 26 تموز 1922: ” الفضائل حياة الروح “؛ يَصِفْ فيها ابنته الراهبة ب” أمة الرّب ” [30]. تبنت العذراء مريم تلك الصفة وقت البشارة، إذ جعلت نفسها خادمةً لمشروع الربّ. يطلب من بناته، أن تجعل كل واحدة من نفسها خادمة لمشروع الربّ، والتي هي اختارته بإرادتها؛ وذلك من خلال التزامها بقوانين وروحانية جمعية راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات. يدعوهُنَّ إلى التحلّي بروح التواضع الذي يقتل روح التسرع في العمل، والازدراء بالنصائح والاعتماد المفرط على الذات الذي يُضاد فضيلة الفطنة؛ وطالبًا منهنَّ الإبتعاد عن التقلب، والخداع وسرعة الإلتواء، وهذا ما ينبغي على أمة الربّ أن تفعله[31]

_ مريم العذراء أُمّ جميع المؤمنين: تجلّت إرادة يسوع بجعله مريم أمه أُمًا لجميع المؤمنين، وهو على الصليب من خلال قوله لها: ” هوذا ابنُكِ ” (يوحنا 19: 26)، مُشيرًا إلى التلميذ الّذي كان يُحبه[32]. بقوّة تلك الوصية أصبحت مريم أُمًا لجميع المؤمنين به، والذين مَثَلَهُمّ يوحنا تحت الصليب [33]. ” أصبحت مريم أمَّنا منذ صارت أمًّا ليسوعَ المسيح الّذي هو رأسُ ذلك الجسد السرّيّ المُراد به جماعة المؤمنين، ونحن أعضاؤه والأعضاء تشترك طبعًا في ما للرّأسِ وحيثُ مريم هي أُمّ الرّأس فهي أيضًا أمٌّ لأعضاء الجسم كلِّه “[34].

_ مريم العذراء الطاهرة والنقيّة: يُشدد في منشوره المريميّ الثاني على طهارة مريم ونقاوتها. فهي ” عذراء العذارى “، المُتحلّيّة بالطهارة والحشمة الخارجيّة والتواضع العميق[35]. يوجّه من خلال هذا الكلام انتقادًا قاسيًا ولاذعًا إلى فتيات لبنان، وبالأخص المارونيّات. نساء لبنان وبناته يُشابِهن اليوم بعض نساء العالم وبناته ببهرجة الملابس المستهجنة والزّيناتِ الخارجيّة، ونبذن ملامِحَ الحشمة والأدب، وخرجن يتباهين عجبًا في الشوارع والأسواق، مثل النساء اللّواتي لا رادع ضمير يردعُهُنَّ[36]. من هذا المنطلق يأمر غبطته كهنة الرّعايا أن يمنعوا التناولَ عن كُلّ امرأة وبنتٍ تتقدم بلباس غير محتشم [37]. قَصَدَ من هذا الكلام، دعوة الفتيات والنساء إلى التشبه بمريم العذراء الطاهرة والنقيّة، مُبيّنًا اشمئزازه من الوضع الذي وصلت إليه الفتاة أو المرأة اللبنانيّة. يطلب من ابنته الراهبة أن تكون مثل العذراء مريم لِكَونها مثال النقاوة والطهارة وأساسًا وركيزة عيشة العائلة المقدسة، فهي احتضنت ورَبَتْ الطفل يسوع وقدمته للعالم. من هنا، من تلك الينابيع، تنبع وتتفرع روحانية ومسلك وحياة راهبة العائلة؛ من خلال دعوتها لاحتضان الفتيات وتربيتهنَّ تربية صالحة.

العبادة المريميّة: يُمكن اعتبار العبادة بأنها من الشعب وإليه. كان الحويّك وفي جميع مراحل حياته، مسؤولاً عن ” خلاص نفوس”. ونظرًا للظروف المأساويّة والصعبة التي مَرَّ بها الشعب المارونيّ والبلاد؛ فلا بُدَّ لهُ من ذكر العبادة أو العبادات المريميّة والتشجيع عليها.

_ طلب شفاعة مريم من خلال الصلاة: يطلب من أهله، وشعبه المارونيّ وبناته الراهبات، الصلاة بتواتر لمريم العذراء وطلب شفاعتها. الأمثلة كثيرة على ذلك. يَصّف مريم بأنها” ذات الشفاعات” [38]. وفي منشوره المريميّ الثاني بعد انتهاء الحرب الكونيّة الأولى يصفها بأنها ” سلطانة السماء والأرض”؛ مؤكدًا على مقامها السامي في قلوب الموارنة، وداعيًا إياهم إلى طلب شفاعتها والاستغاثة بها إبّان الضيق والمِحَنْ، متأكدًا من مساعدتها لهم[39].

        بالنسبة للبطريرك، فإنَّ ” العبادة الحقيقيّة ” لمريم العذراء وطلب شفاعتها هي أفضل الذرائع لتقرير عمل الخلاص، وعبادتها واجبةٌ على الجميع لأن مريم أُم الجميع[40]. ما عناهُ بكلامه هذا في منشوره المريميّ الأول، سَبَقَ وحققه واقعًا من خلال تأسيس جمعيّة “راهبات العائلة المقدسة المارونيّات”، ووضع مريم بمقام أم العائلة وبالتالي أم الجميع. يستشهد بما قاله القدّيس يوحنّا الدمشقيّ، وهو اشتُهِرَ بشدّة التعبد للعذراء مريم: “ أنَّ التعبّدَ لكِ هو سلاحُ الخلاص أولاهُ الله لِمَنْ يريدُ خلاصَهُمْ “[41]. من هذا المنطلق، تأكيد على ضرورة التعبد لها كطريق أو وسيلة حتميّة للخلاص. وفي المنشور المريميّ الثاني، تأكيد على مفاعيل شفاعتها في السراء والضراء[42]. نحن نضع تحت شفاعتها جميع الخطأة والمرضى والحزانى، فهي ” ملجأ الخطأة “، “شفاء المرضى “، “معزيّة الحزانى”[43]. يوضح أن الكنيسة المُقدّسة لقبت مريم العذراء بكل تلك الألقاب بعد الحوادث التاريخيّة على مر العصور، والتي تمَّ من خلالها اللجوء إليها وطلب وشفاعتها[44]. وبالطبع ما حدث مع موارنة لبنان، وبشكل خاص خلال الحرب العالميّة الأولى وبعدها بسنوات، خير شاهد على ما أوردناه.  

_ العِبادات المريميّة التقويّة والشعبيّة: انطلاقًا من طفولته والسنوات التي أمضاها كطالب إكليريكيّ، وخبراته الكهنوتيّة والأسقفيّة مع مريم؛ يُشجع في منشوره المريميّ الأول شعبه المارونيّ على الانتظام بأخويات العذراء والاشتراك بورديتها، وثوبِها (ثوب سيدة الكرمل) والاحتفال بشهرها المبارك (شهر أيار)، وبشهر تشرين الأول، والذي خصصه البابا لاون الثالث عشر لعبادة العذراء سيّدة الورديّة[45]. والإنضواء إلى الأخويات العديدة التي أُنشئت في بيعة الله تمجيدًا لها، هو نوع من العبادة الخارجيّة، يَنُمُّ أو يُعبّر عن عبادة داخلية صادقة تنبع من القلب[46]. هذا النوع من ” العبادة الخارجية “، بخاصّة بعد الحرب العالمية الأولى، هي تعويض للموارنة الفقراء والمغلوب على أمرهم عن تقديم الهدايا للكنائس والمعابد المريميّة أو النذور الفاخرة[47]. وبالنَفَسْ المريميّ عينه، والذي توجه به لشعبه المارونيّ، سَبَقَ وتوجهَ بِهِ إلى أهله. كان يطلب من والده الخوري وبإلحاح تذكير والدته أن تُضيء سِراج السيدة ليلة عيدها. في هذا الأمر دلالة على عادته بإضاءة سراج العذراء وتكريمها والصلاة لها مع والديّه أيام طفولته.

 ينبع تشجيعه على هذه “الممارسات المريمية ” من واقع تاريخي وروحي واجتماعي مُعيّن لموارنة لبنان. هم بغالبيتهم وفي مطلع القرن العشرين، وقبل إقرار دولة لبنان الكبير، من أبناء القريّة. العذراء حاضرة في كل قريّة لبنانيّة من خلال كنيسة أو مزار أو ديّر او مقام. وايضًا وجوده في روما للدراسة، وبعدها كأسقف مسؤول عن المدرسة المارونيّة، وقربه وعلاقته الوطيدة مع البابا لاون الثالث، يُفسّر تشجيعه لتلك الممارسات. يُضاف إلى ذلك طاعته في العبادة والعقيدة كبطريرك مارونيّ للكرسيّ الرسوليّ، وبالتالي واجب على الشعب المارونيّ إطاعة ” روما ” على مِثال رأسها.

_ الإقتداء بفضائل العذراء مريّم السّامية: يدعو البطريرك شعبه إلى الاقتداء بفضائل العذراء السامية والتشبه بها، وهو نوع من العبادة المريمية. أتت تلك الدعوة بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى، ومع إعلان دولة لبنان الكبير ودخول البلاد والموارنة تحت حكم جديد وسلطة جديدة ونمط عيش جديد. من هذا الواقع التاريخي وقف الحويّك وقفة الراعي الصالح والقائد، وتَوَجَهَ لشعبه بكلمات ومناشير التشجيع وتقويّة الهِمَمْ. ومن بين أهم فضائل أُم الله، والتي يدعو شعبه إلى التحلي بها: ” صبرها العجيب وطهارتَها المقرونة بالحشمة والتواضع “[48].

_ تكريم مريم العذراء: من خلال المنشور المريميّ الثاني يسبر الحويّك أعماق العبادة المريميّة وجوهرها. هو يُميّز نوعين من العبادة: “عبادة السجود”، ويُقدمها المخلوق للخالق (الله) وحدَهُ، اعترافًا بتمامِ تعلّقهِ بهِ مِنْ حيث هو عِلّةُ وجودِه وغايتُه القصوى؛ و “العبادة التكريمية “، ويُقدمها البشر الأحياء لأصفياء الله القدّيسين بسبب تقرّبِهم إليه تعالى[49]. وبِمَا أنَّ العذراء امتازت بسُمُوِ شرفها، مُتفردةً بفضائل عدّة، إضافةً إلى تقربها إلى الله أكثر من جميع الملائكة والقديسين؛ خصّتها الكنيسة المقدّسة بِعبادةٍ تكريميّةٍ فائقة لسموِّ منزلتها عند الله وبلوغها أقصى درجات الكمال التي يمكن للخليقة الوصول إليها[50].

        الكنيسة هي التي تُنظّم ” العبادة المريميّة التكريميّة “، محققةً أماني أبنائها من خلال تشييدها كنائس على اسم مريم، تُعرَضُ فيها صورها وايقوناتها وتماثيلها، لإجلال المؤمنين وإكرامهم لها[51]. فالتكريمُ الفائق والمنقطع النظير لمريم هو ضربٌ من ضروب العبادة، وأيضًا تحقيق لرغبة السيّد المسيح بتكريم أمه[52].

_ الأصول الكتابيّة للعبادة المريميّة: هنا يتجلّى جانب هامّ من جوانب اللاهوت المريمي، وتحديدًا في المنشور المريميّ الثاني. يضع غبطته في الواجهة مشهد البشارة، وإرسال الله لملاكه (جبرائيل) إلى العذراء. يُعيدُ أصول تكريم وعبادة مريم إلى ” ما وراء العهد الجديد، إلى العهد الذي فيه يُشيرُ الكتاب إلى أنّها تسحقُ رأسَ الحيّة وهي عذراء ستلدُ عمّنوئيل “[53]. وأيضًا ذكرها في العهد الجديد يَرِدُ وبشكل كبير، وفي مواقع كثيرة، بخاصّة عند لوقا الإنجيليّ. يبدو أنَّ الحويّك يريد من خلال الربط بين اللاهوت المريميّ واللاهوت الكتابيّ، الردّ أو التوضيح لمن يزعمون أنَّ عبادة مريم العذرء لم تظهر في الكنيسة إلاّ في أواخر الجيل الرّابع للنصرانيّة[54].

وفي الختام، تبقى مقالتنا محاولة متواضعة وبسيطة لإظهار في الروحانية المريمية لدى البطريرك الحويّك، والذي طبعت شخصيته ليس فقط الكنيسة المارونية بل لبنان وشعبه أجمع. ونُقدّم لقراء المنارة الأعزاء الصلاة الجميلة والرائعة، والتي كتبها البطريرك الياس الحويّك لسيدة لبنان، وجاءت هدية لشعبه الماروني، ومكملةً لبناء مزار سيدة لبنان في حريصا، وأيضًا عرفان جميل منه لمريم العذراء. 

صلاة لسيّدة لبنان

يا مريم سلطانة الجبالَ والبحار، ومليكةَ لبناننا العزيز الذي

أوتيتِ مجدَه وشئتِ أنْ يكونَ لكِ رمزًا. يا عذراءُ ضارعَتْ

نقاوتُها ثلجَ لبنان، وفاحَ عرفُ طُهرِها كعرفِ زهورِ لبنان،

وتسامَتْ مرتفعة كالأرزِ في لبنان. نسألُكِ، يا من انعطفتِ

حنوًّا إلينا، فاتّخذتِ زنبقَ حقولِنا إكليلاً لرأسِكِ، وقمّةَ جبالِنا

موطئًا لقدميكِ، أنْ ترمقي بنظركِ الوالديّ مملكتَكِ الممتدة

حواليكِ وتبسطي يديكِ الطّاهرتَين وتباركي هذه الناحية التي

امتازَتْ منذ الأجيالِ الأولى بإكرامِكِ والدّفاع عنكِ. تعطّفي

أيّتها الأمُّ الحنون واحفظي الوئامَ والسلام في هذه البلاد،

وعزّزي في قلوبِ بنيها إيمانَ الأجداد. إحرسيهم من

الضلالِ والنّفاق كما فعلتِ إلى الآن، ولا تسمحي بأنْ يقفدَ

لبناننا مصدرَ قوّتِه ومنشأَ جمالِه، أيّ حبَّه إيّاك حبًّا صادقًاز

وأخيرًا، نتوسّلُ إليكِ أيّتها الملكة القادرة بأنْ تمنّي على كلِّ

الشرقِ المسيحيِّ المترامي على قدميكِ والمتّفق على إكرامِكِ

ومحبّتكِ أنْ يتّحِدَ بالإيمان والخضوع البنويّ لكرسي بطرس،

لكيما ندعوكِ بملء المسرّة سلطانةَ لبنان وسائر المشرق.

يا أرزة لبنان تضرّعي لأجلنا[55]

لائحة بالمصادر والمراجع:

_   إبراهيم حرفوش، دَلائل العناية الصمدانية، جونيه، منشورات الرسل، 2002، طبعة جديدة. 

_ أنور صابر، العذراء مريم في لبنان، الجزء الخامس، لبنان، منشورات جامعة سيدة اللويزة، 2005، الطبعة الأولى.

_ بطرس حبيقة، بعض الآثار الخطيّة الكتابيّة في أوراق غبطته، الجزء الرابع، بيروت،  المطبعة الكاثوليكية، 1929.

_ راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، مريم العذراء، سلسلة ” تراثنا الروحي “، عبرين، منشورات جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، 2014.

_ صوت المؤسس، جونيه، مطابع الكريّم الحديثة، 1971.

_  ماري روجه الزغبي، ندوات لمناسبة المئوية الأولى لتأسيس جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات، بيروت، مطبعة الحريّة، 1996.


[1]  راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، مريم العذراء، سلسلة ” تراثنا الروحي “، عبرين، منشورات جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، 2014، ص: 65-67.

[2]  إبراهيم حرفوش، دَلائل العناية الصمدانية، جونيه، منشورات الرسل، 2002، ص: 18. طبعة جديدة. 

[3]  ماري روجه الزغبي، ندوات لمناسبة المئوية الأولى لتأسيس جمعية راهبات العائلة المقدسة المارونيات، بيروت، مطبعة الحريّة، 1996، ص:11.

[4]  راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، المرجع السابق، ص: 65.

[5]  راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، المرجع نفسه، ص: 67.

[6]   المرجع نفسه، ص: 65.

[7]  المرجع السابق، ص: 5.

[8]   المرجع نفسه، ص: 28.

[9]    المرجع نفسه.

[10]  للمزيد من الإطلاّع حول هذا الموضوع، يمكن مراجعة: بطرس حبيقة، بعض الآثار الخطيّة الكتابيّة في أوراق غبطته، الجزء الرابع، بيروت،  المطبعة الكاثوليكية، 1929، ص: 38 -39.

[11]  بطرس حبيقة، المرجع نفسه.

[12]  عن تلك المرحلة من حياته، وأيضًا عن طفولته وحياته الكهنوتيّة والأسقفية، يُمكن مطالعة: إبراهيم حرفوش، دَلائل العناية الصمدانية، جونيه، منشورات الرسل، 2002. طبعة جديدة. 

[13]  راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، المرجع السابق، ص: 13.

[14]  لمن يريد الإطلاّع على المزيد بهذا الشأن، مراجعة: راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، مريم العذراء، سلسلة ” تراثنا الروحي “، عبرين، منشورات جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، 2014، ص: 22-24.

[15] راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، المرجع نفسه، ص: 37.

[16]   المرجع نفسه، ص: 37-38.

[17] المرجع السابق، ص: 38-39.

[18]   المرجع نفسه، ص: 63.

[19] أنور صابر، العذراء مريم في لبنان، الجزء الخامس، لبنان، منشورات جامعة سيدة اللويزة،الطبعة الأولى،  2005، ص: 320.

[20] المرجع نفسه.

[21] المرجع السابق نفسه، ص: 65.

[22] المرجع السابق نفسه، ص: 42.

[23]  المرجع نفسه.

[24]  راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات، المرجع نفسه، ص: 65.

[25] المرجع السابق، ص: 13.

[26]  المرجع نفسه، ص: 66.

[27]  المرجع السابق نفسه.

[28] المرجع نفسه.

[29]  صوت المؤسس، جونيه، مطابع الكريّم الحديثة، 1971، ص: 49.

[30]  المرجع نفسه، ص: 91.

[31]  صوت المؤسس، المرجع السابق، ص: 91.

[32]  المرجع السابق، ص: 44-45.

[33]  المرجع نفسه، ص: 45.

[34]  المرجع نفسه. 

[35]  المرجع نفسه، ص: 57.

[36]  المرجع نفسه، ص: 58.

[37]  المرجع نفسه، ص: 60.

[38]  المرجع نفسه، ص: 67.

[39] المرجع نفسه، ص: 29.

[40]  المرجع نفسه، ص: 11-12.

[41]   المرجع نفسه، ص: 14.

[42] المرجع نفسه، ص: 46.

[43] المرجع نفسه، ص: 47.

[44]  المرجع نفسه، ص: 47.

[45]  المرجع نفسه، ص: 16-17.

[46]  المرجع نفسه، ص: 51.

[47]  المرجع نفسه.

[48] المرجع نفسه، ص: 55.

[49]  المرجع نفسه، ص: 30.

[50]  المرجع نفسه.

[51]  المرجع نفسه، ص: 32.

[52]  المرجع نفسه.

[53]  المرجع نفسه، ص: 34.

[54]  المرجع نفسه، ص: 34.

[55] المرجع نفسه، ص: 73.

Scroll to Top