هيئة التحرير
“كم من اضطهادات عانيت وأنقذني الرب منها جميعًا” (طم11:3)؛ لسان حال بولس هو لسان حال كل مرسل انطلق إلى المجهول لا يحمل معه ولا يستند إلاّ على كلمة الله وعونه. لقد نبّه الرب يسوع تلاميذه الاثني عشر لما أرسلهم نجو أبناء بيت إسرائيل المشتتين الضالين، ينتقلوا من بيت إلى بيت وألاّ يتوقفوا عن الترحال، لتبقى كلمة الله والبشارة قائمة لا يعطّلها حاجز ولا يمنعها عثار. فمهما اشتدت العوائق من داخل كانت أم من خارج، كان الرب ينقذ المواقف لكي تنفذ كلمة القلوب حيث موقعها الصحيح لتفعل وتغيّر وتصيب الهدف الذين من أجله انطلقت؛ هذا ما أكد عليه كلام الرب نفسه على لسان اشعيا النبي الذي قال: “لأنه كما ينزل المطر والثلج من السماء ولا يرجع إلى هناك دون أن يروي الأرض ويجعلها تنتج وتنبت لتؤتي الزّارع زرعًا والآكل طعامًا فكذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي: لا ترجع إليَّ فارغة بل تٌتِم ما شئت وتنجح فيما أرسلتها له” (أش 10:55-11).
“التاريخ يعيد نفسه”، مقولة حكميّة نستخلصها من وقائع ملموسة، تؤدي معناها حتى في أيامنا. يسرّ هيئة تحرير مجلة المنارة، ولمناسبة يوبيل المئة والخمسين لتأسيس جمعية المرسلين أن تنقل إلى قرائها أحداث انتشار المرسلين الأوائل ما وراء البحار. فتنشر بالتفصيل ما كتبه هؤلاء من معاناة في سبيل “الكرازة بالانجيل” في بلدان الانتشار.
إن ما يجعل التاريخ قيمًا هو ما ثبت فيه وليس ما عبر. فالذي يثبت هو العمل، والذي يعبر هو الحدث ليدخل في طيّات الزمن تاركًا وراءه المعاني والمآثر والعِبر. ومن يعبر أيضًا هو الانسان صانع الاحداث، إذ بعمله واجتهاده يكتب تاريخًا من الأمجاد فيعبر بدوره إلى حياة البقاء وتبقى ذكراه تحكي أمجادًا من صنع الله على يده.
تزخر كتب “المجاريات” وتعمر صفحات “السجلات” في جمعية المرسلين اللبنانيين بالأخبار عن ترحال المرسلين الذين لبّوا كالرسل الاثني عشر طلب يسوع أن “اذهبوا إلى الخراف الضالة من بيت إسرائيل، وأعلنوا في الطريق أن قد اقترب ملكوت السماوات” (متى 6:10-7).
لقد كان الطريق شاقًا تحفه المخاطر والصعاب، إلاّ أن البشرى كانت شيّقه تملأها الحميّة والنجاحات؛ ومع بولس الرسول، يؤكد المرسلون معلنين افتخارهم بثمار عملهم وثباتهم بنعمة الله تعالى، فيضمون أصواتهم إلى صوته بالقول: “جاهدت جهادًا حسنًا وأتممت شوطي وحافظت على الايمان، وقد أُعِدَّ لي إكليل البرّ الذي يجزيني به الرب الديّان العادل في ذلك اليوم” (2 طم 7:4).
الرسالة اللبنانية في الأرجنتين
إنها الخطوة الأولى في الرسالة نحو الانتشار، من بلاد الأرز إلى البلاد الفضيّة؛ وفي القول المآثور “ليس كل ما يلمع ذهبًا” خير تعبير لخبرة المرسلين الأولين الذين دوّنوا مذكراتهم، ودوّن إخوتهم مآثرهم في سجلات الجمعية.
نورد هنا بكل أمانة أخبار وتاريخ الرسالة الأولى خارج لبنان[1].
انتداب الأبوين يوحنا غصن ومخائيل حجّار لتأسيس رسالة لجمعيتنا في الأرجنتين -سفرهما من بيروت ثم من بوردو – تعرفهما بالأخت ماغريتا ماريو.
“بناء على أمر البطريرك الياس بطرس الحويك قرَّر مجلس الجمعية العام برئاسة الأب يوسف مبارك الرئيس العام تأسيس رسالة لجمعيتنا في بونيوس أيرس. فتعين لهذا الغرض الأبوان يوحنا غصن ومخائيل حجّار اللذان ركبا البحر من بيروت يوم اثنين العنصرة في 27 أيار من السنة 1901 مارين في مرسيليا وباريس حيث نالا من الوزارة الخارجية الإفرنسية بواسطة سعي الوكيل البطريركي في باريس الخوري طوبيا يونس تخفيض للأبوين ثلاثين بالمائة من أكلاف السفر. ومن باريس توجها إلى بوردو فأحسن رئيس المدرسة الإكليريكية استقبالهما في تلك المدينة التي ركبها البحر من مينأها إلى بوانس أيرس. ومن ضروب عناية الله بهما وبغايتهما من السفر أنهما تعرفا على ظهر الباخرة إلى راهبة عازرية هي الأخت مارغريتا ماريو الرئيسة الإقليمية لرهبنتها في الأرجنتين على أثر جدال ديني وقع بين الأب حجّار واحد الشبان المارقين عن الدين كانت نتيجة انتصار الأب حجّار في قضيته. فأحدث ذلك بجدال تغييرًا في الراهبة ورفيقاتها نحو الأبوين فألفتهما بعد أن كنَّ يتنحين عنهما في ابتداء السفر لظنهما بهما أنهما هرطوقيَان. ومن ذلك الحين أصبحت الراهبة مرغريتا ملاكًا حارسًا للأبوين عن بمشوراتها وإن بمساعدتها الفعالة في قيام عمل تأسيس الرسالة في هذه الديار”.
وصول الأبوين غصن وحجّار إلى بونيوس أيرس – تباعد الجالية عنهما – عناية الأخت مرغاريتا ورئيس الأساقفة والسفير الرسولي بهما – فتحهما بيتًا ومعبدًا.
“وصل الأبوان غصن وحجّار إلى بونيوس أيرس عن طريق “لابلاتا” السبت 5 تموز سنة 1901. استقبلهما على محطة القطار سليم القزّي، زين زين، مارون عزيز. تناول طعام الغداء ذاك اليوم عند سليم القزي. بعده توجها إلى دار الأساقفة نالا أولاً الإذن بإقامة القداس وفي مساء اليوم عينه وصلت أوراقهما من رومية فنالا الإذن بتوزيع الأسرار والقيام بالحفلات الدينية. فأقاما القداس لأول مرّة في كنيسة كتالينا وكان لزين زين في خدمتهما سعي مشكور. وبما أن أبناء الجالية استقبلوهما بوجه بارد ناشف نزلا أولاً في الفندق ثم استأجرا غرفة وأنفقا كل ما في يدهما من الدراهم على فرشها الضروري جدًا. وبإشارة من رئيس الأساقفة وبمناسبة اليوبيل الباباوي باشرا برياضة روحية لأبناء الجالية في كنيسة رهبان الفادي. فزارا كل أفراد الجالية دون استثناء فحضر الرياضة جمّ غفير. استغنما الفرصة فكلَّماهم بقضية استئجار محل لإقامة معبد يقضون فيه فروض الديانة، فأسمعوهما كلامًا ناشفًا وتناقضت آراؤهم. وحدث مثل ذلك من أبناء الجالية أمام النائب الأسقفي الأب ديران عندما جمعهم بعد حين في دار الأسقفية وكلمهم بهذا الشأن. وإذ قطع الأبوان أملهما من مناصرة أبناء الجالية لمشروعهما أخذا يطوفان المدينة إلى اديار الرهبان والراهبات والكنائس يطلبان الحسنات وحسنة القداسات مقاسيين من الأتعاب ما تدمع له العين. فلجهلهما الطرقات والمركبات العمومية التي توصل إلى محل ما يقصدان كانا يقضيان نهارهما مشيًا حتى تتفزر أرجلهما أحيانًا كثيرة. كما كانا يباتان دون عشاء مكتفين بما كانا تناولاه من القوت اليسير في النهار. زارا لأول مرة ملاكهما الحارس الأخت مرغريتا السابق ذكرها وقصّا عليها قصتهما…ألحَّت عليهما بفتح معبد ومدرسة ووعدتهما بالمساعدة وقدمت لهما ذاك الوقت حسنة قداسات وبياض وفرشات وفوط مائدة وكمية من البن والسكر، وبمثل ذلك ألحَّ رئيس الأساقفة ونائبه والسفير الرسولي الذي أفهم الأبوين سعيه لدى بعض السيدات فوعدن بتقدمة خمسين ريالاً شهريًا إذا فتح الأبوان معبدًا فتشجعا واستأجرا بيتًا في شارع إسميرالدا رقم 1034 مقابل 170 ريالاً شهريًا نقلوا إليه في 1 آب. قدّم لهما نائب الأسقف مذبحًا قديمًا والأخت مرغاريتا قدّمت كل لوازم المعبد حتى إناء الضوء أمام القربان”.
الأبوان غصن وحجّار والخوري بولس الزغبي. السعي لتأليف كوميسيون من أبناء الجالية لبناء معبد.
“عند وصول الأبوين غصن وحجّار إلى بونيوس أيرس كان الخوري بولس الزغبي الذي كان أرسله غبطة البطريرك يوحنا الحاج لخدمة الجالية في الأرجنتين متجوّلاً في مقاطعة روساريو فكتبا يلحَّان عليه ليحضر إليهما ويكون معهما يدًا واحدة في العمل. فجالت مصالح شخصية منه دون مشاطرتهما العمل. إنما أخيرًا لكثرة الإلحاح وكلام الناس رضي أن يسكن معهما إنما كان يأكل في الخارج. وبإشارة من رئيس الاساقفة السيد أنطونيو اسبينوزا ونائبه الأب ديران جمع الأبوان أبناء الجالية من جديد للمخابرة معهم بشأن بناء معبد وحضر الاجتماع الأب ديران نيابة عن رئيس الأساقفة. تخلف عن الحضور مخائيل السمرا رئيس الكوميسيون الذي كان تألف قبل مجيء الأبوين لأجل السعي لبناء كنيسة وكذا الياس لحود المتيني كاتم أسرار ذاك الكوميسيون وتواريا عن وجه الأب غصن والخوري الزغبي عندما ذهبا يطلبانهما. فاستاء الأب ديران وأمر بانتخاب كوميسيون جديد فانتخب منصور الندَّاف رئيسًا وسليم سعادة أمين صندوق. رفض الكوميسيون القديم أن يسلم الدراهم المجموعة سابقًا. اجتمع الكوميسيون الجديد لأول مرّة في بيت الرسالة وتداول الأعضاء في تقرير اسعاف مالي شهريًا لقيام العمل ولبناء معبد فقام من عاكس هذا الاقتراح واشد من عاكس من الأعضاء جرجس بطرس المتيني فتفرقت الكلمة وانحلّ الكوميسيون. كان مع منصور الندَّاف والياس لحود كمية من الدراهم جمعت من لتخليص رجل من الباروك حُكم عليه بالسجن لقتله رجلاً درزيًا، فدفعت هذه الكمية للخوري الزغبي ليدفعها للأبوين لصنع مقاعد للمعبد. وبعد أن بوشر بعمل المقاعد عادوا واسترجعوا الدراهم، وانفصل الزغبي عن الأبوين وسافر إلى البرور بعد ان كان أقام عندهما شهرًا. وهما تركا المخابرة مع أبناء الجالية بهذه الأمور”.
الأب غصن في توكومان وسنتياغو دِل استيرو.
“في أواسط كانون الثاني سنة 1902 توجّه الأب غصن إلى التوكومان ونزل ضيفًا على الآباء الفرنسيسكان فأحسن أبناء الجالية استقباله. واستأجروا له غرفة ليكون قريبًا منهم. صنع لهم رياضة روحية كانت مثمرة جدًا. ألحّوا عليه في البقاء عندهم وبأن يسعى لهم ببناء كنيسة، فخابر بالأمر نائب الأسقف هناك لتغيب المطران عن الكرسي فوعده بكل مساعدة وبأنه يصحبه بكاهن أرجنتيني يعينه على جميع الإسعافات لبناء كنيسة. إنما اختلف أبناء الجالية على الكاهن الذي يعتني لخدمة الكنيسة بحيث كان كل فريق يطلب أن يكون من بلده وتفرقت هكذا كلمتهم وانفرط عقدهم. فغادرهم الأب غصن إلى سانتياغو دِل استيرو ونزل عند الآباء الدومنيكان إنما ألحّ عليه رشيد زين بأن ينتقل إلى بيته فلبَّى. لم يتوقف بما كان قصده من فتح رياضة روحية هناك. فغادرهم وجاء إلى سانتافه فلم يأذن له مطرانها باستعمال الأسرار. فعاد إلى العاصمة الشاملة في 9 شباط عيد القديس مارون بعد أن أقام الذبيحة الإلهية في مدينة بارانا من مقاطعة “انتريريو”.
الأخت مرغاريتا وبعض السيدات الارجنتينيات يساعدن الرسالة بصورة مستديمة.
“لم يكن لذاك الوقت ما كان يحصله من الدراهم كافيًا لدفع أجار البيت ومصروفهما الضروري. ذهب الأب غصن إلى ملاكهما الحارس الأخت مرغاريتا وقصّ عليها نعمّ ما جرى لهما فابتسمت وقالت: “هاكم مرسلاً ليس عنده اتكال على العناية الإلهية!” وقامت لساعتها وأحضرت له خمسين ريالاً وقالت: “خذ هذه الآن وفي الشهر القادم يدبر الله”. واستمرت تدفع هذه القيمة شهريًا حتى سنة 1904 التي في بدئها خفضت القيمة إلى 30 ريالاً شهريًا بداعي تأخر أهل راهبة من راهبات المحبة في مادياتهم نظرًا للحرب الأهلية التي نشبت في مونتيفيديو وطنهم. والكمية كانت تدفع منهم عن يد ابنتهم الراهبة. ومكافأةً لهذا العمل الخيري عيّن الأبوان لأهل تلك الراهبة خمس قداسات في الشهر وقدّما لهم وجه طاولة شغل الزوق وصليبًا من القدس. ورغمًا من كل ذلك كان اليأس يتغلب على الأب غصن وحدثته نفسه بالرجوع إلى الوطن. والسفير الباباوي أشار عليهما به متكفلاً لهما بدفع كلفة السفر. عاكس الفكرة حجّار وساعده بتشجيعهم بعض الأصدقاء خصوصًا البادري عريضه ونعوم نعيم. فعُدل عن هذا القصد. وفي تلك الغضون قدّم السفير الرسولي للأبوين لائحة بأسماء بعض المحسنات الأرجنتينيات مع توصيات لهنَّ بهما. منهنَّ اثنتان دفعتا بعض الدراهم لمدة شهرين وانقطعتا. والثالثة وهي السيدة “دي بنديتي” واظبت على الدفع شهريًا وكانت من أكابر المحسنات للرسالة. والثالثة وهي السيدة “أنشورينا” رفضت الدفع ومقابلة الأب غصن والسبب أن كاهنًا اسمه الخوري يوحنا صعيد أتاها يطلب مساعدتها فدفعت له عشرين ريالاً لظنها بأنه هو الكاهن المقصود من السفير الرسولي. فلما جاءها بعد خمسة أيام الأب غصن وقدّم لها بطاقة السفير ظنت أن في الأمر تلاعبًا فرفضت مواجهته. وبعد خمسة أشهر مرَّت على الحادث اطلع الأب غصن على الجالية السبب من الخوري صعيد نفسه فأطلع السيدة المذكورة على ما كان فاقتنعت وابتدأت تدفع لهما من ذاك الحين عشرين ريالاً شهريًا”.
تأسيس المدرسة
“ابتدأ الأبوان غصن وحجّار بتحقيق فكرتهما بإنشاء مدرسة للرسالة في هذه البلاد بصورة هي في غاية البساطة إنما العناية الإلهية قد سبقت وأعدّت هذه الواسطة لتكون هذه المدرسة يومًا ما من أعظم مشاريع رسالتنا في هذه الديار. كان أحد افراد الجالية فارس رعد التنوري قد وضع عنده شابًا هو يوسف الخوري البكاسيني يعلّم له الأولاد مبادئ القراءة ومعهم أولاد الياس العبسي وأولاد بعض الجيران. فعرض الأبوان على فارس رعد المذكور أن يرسل الأولاد إلى بيت الرسالة والمعلم المذكور يبقى على ما كان عليه والأب حجّار يعلمهم مبادئ الافرنسية والتعليم المسيحي دون أن يتقاضيا منه بدلاً لا عن البيت ولا عن التعليم. فرضي بفرح وأرسل الأولاد والمعلم إلى بيت الرسالة وبهذا ازداد عدد التلامذة عند الأبوين فعملا لهم طاولتين وبعض المقاعد. وحدث بعدئذٍ أن شابًا من قرية غوما بلاد البترون اسمه أديب بصبوص كان اكليريكيًا في باريس فخلع عنه الثوب الكنسي وجاء إلى الأرجنتين يرتزق. فهذا أغرى المعلم يوسف وأولاد التنوري والعبسي ليتركوا بيت المرسلين وهو ويوسف الخوري يستأجران بيتًا يفتحانه مدرسة على أسمهما وكاد يتم لهما ما ينويان لو لم يذهب الأب غصن إلى التنوري ويسأله عن السبب فوجده جاهلاً كل شيء ولم يرضى أن يخرج أولاده من بيت المرسلين. فندم يوسف الخوري على ما فعل ورجع يستغفر الأبوين فقبلاه على شرط أن يدفع أجرة المدرسة شهريًا فرضي واستمرت الأمور كما كانت إلى آخر شهر آذار سنة 1902”.
إقفال المدرسة موقتًا – الانتقال من شارع “اسميرالدا” إلى شارع سانتافه – مرض الأب حجار.
“نظرًا إلى ارتفاع أجار البيت وعجز الأبوين عن تغطية الأكلاف التزما في أوائل نيسان 1902 أن يتركا السكنى في شارع إسميرالدا ويستأجرا بيتًا صغيرًا بأجرة أخف من الأول في شارع سانتافه وأن يقفلا المدرسة. وقد وضعا عندهما عشيًا هو واكيم حنا الخوري من غسطا براتب عشرين ريالاً شهريًا ثم أوصلا الراتب إلى خمسة وعشرين ريالاً. وبسبب رطوبة هذا البيت ورداءة مناخه لم يلبثا فيه سوى ثلاثة أشهر مرض خلالها الأب حجّار مرضًا ثقيلاً كاد يذهب بحياته. لولا عناية الله وملاكهما الحارس الأخت مرغاريتا التي كان لها عليه غيرة الأم الحنون. فكلّفت طبيب ديرهنَّ أن يلازم معالجته حتى شفي. وكانت ترسل له الأطعمة المغذية. وفي تلك الأثناء زارتهما السيدة سافيدرا”.
- زيارة السيدة سافيدرا – الإنتقال من سانتافه إلى بيكويكيسيا – إعادة فتح المدرسة
“في أواخر حزيران 1902 زارت الأبوين السيدة سافيدرا وهي من أشرف الأسر الأرجنتينية فتأثرت جدًا لحالتهما وألحت عليهما بتغيير البيت بمبلغ تدفعه شهريًا بما أنها رئيسة إحدى الجمعيات الخيرية. بشرط أن يرجعا إلى فتح المدرسة. فسعيا إلى بيت في شارع ريكونكيستا براتب مئة وخمسين ريالاً في الشهر نقلا إليه في أول تموز 1902 وفتحا المدرسة من جديد ورجع المعلم يوسف الخوري يعلم عندنا براتب خمسة وعشرين ريالاً في الشهر مع مؤونته”.
- تعرّف الأبوين على السيدة كليمنسيادي بيرس وعلى السيد غالياردو
“من الأيادي البيضاء التي للأخت مرغاريتا على رسالتنا في الأرجنتين أنها في أحد أيام حزيران سنة 1902 أثناء مرض الأب حجّار سلمت الأب غصن كتاب توصية لإحدى تلميذاتها القديمات هي السيدة كليمنسيادي بيرس وهي من المشهورات بالغيرة والفضل والنفوذ عند السيدات الشريفات رفيقاتها محبات عمل الخير. ومما قالته الأخت مرغاريتا في الكتاب المذكور: “لا تواجهيني قبل ان تسعفي هذين الأبوين”. زارت هذه السيدة الأبوين في شارع ريكونكيستا بعد استلامها الكتاب بمدة وكان في صحبتها رجل شريف هو السيد غالياردو فقالت لها: “قد سعيت جهدي كل هذه المدة لأتمم وصية الأخت مرغاريتا فاتفقت مع بعض صديقاتي أن نقيم حفلة أدبية في أحد المراسح وصديقي السيد غالياردو رضي أن يلقي في هذه الحفلة محاضرة علمية عن بلاد الرسالات وريع الحفلة يخصص لكم”. وقد تم ذلك في اليوم التالي لزيارة كليمنسيا التي سلّمت الأبوين ريع الحفلة وهو 500 ريال. فإقرارًا بفضل هذه السيدة وفضل غالياردو قدّم الأب غصن إلى الأولى رسمها محاكًا على قماش مقصب شغل الزوق أرسل فصنعه خصيصًا عن يد الخوري يوسف صفير. وقدّم للثاني وجه طاولة مقصب من معامل الزوق أيضًا. ومن ذاك الحين توطدت الصداقة بين المذكورين والأبوين”.
- الحفلة الوطنية الأولى التي تقيمها مدرستنا – تشكيل كوميسيون من سيدات الأسر الأرجنتينية لمناصرة وحماية الرسالة
“من ضروب العناية الله في رسالتنا أن شابًا اسبانيًا اسمه يوحنا أحب أن يساعد أبوينا في عمل الخير نظرًا لما كان يطالعه عنهما وعن المدرسة في الجرائد المحلية. فقدّم ذاته مدّرسًا مجانًا للغة الإسبانية في مدرستنا. لكنه لم يطل الزمان حتى غادرنا انما أثناء وجوده في المدرسة وقع عيد استقلال الأرجنتين أعدّ التلامذة إلى حفلة وطنية حسب عوائد البلاد حضرتها السيدة كليمنسيا ورفيقاتها فسررن جدًا من نجاح التلامذة. وبعد العيد بيومين أي 11 تموز 1902 أطلعت السيدة كليمنسيا الأبوين على استعدادها لأن تؤلف كوميسيون من السيدات المحسنات يعنين بمساعدتها بصورة مستمرة بعملها الخيري وسلمتهما عريضة كانت أعدتها عن لسانها لترفع إلى رئيس الأساقفة تطلب فيها منه أن يساعد ويثبت الكوميسيون المنوي تأليفه. وبعد بضعة أيام من تقديم العريضة دعا سيادته الأبوين والسيدات إلى دار الأسقفية وترأس الجلسة بنفسه وشكل الكوميسيون على الصورة الآتية بمرسوم خاص:
نحن الدكتور ماريو أنطونيو اسبينوزا بنعمة الله وسلطان الكرسي الرسولي المقدس رئيس أساقفة كنيسة الثالوث الأقدس في بونيوس أيرس لما رأينا الصعوبات التي تحدق بالآباء الموارنة المحترمين المقيمين في هذه العاصمة لأجل ممارسة أعمال الرسالة المحبوبة بين أبناء وطنهم العديديين سمينا وعرفنا باسطرنا هذه الكوميسيون الآتي ليكون محاميًا للرسالة المارونية واكلينه إلى تقوى وحسن استعداد السيدات المحترمات اللواتي الفنه: الرئيسة كليمنسيا دي بيرس، نائبة الرئيسة السيدة كاسبانا مالافار، كاتبة الأسرار السيدة ايزابيل دي بيرايرا. الخازنة السيدة ايزابيل دي لاغوننياتشي. صاحبات الأصوات السيدة ادال دياز دي لاغوز، ماريا دولورس دي كورينتس، ادالينا دي غارسيا، …. المرشد الأب يوحنا غصن رئيس الآباء الموارنة المرشد الروحي الأب الدكتور مخائيل دي اندرايا. أعطي في بيونوس أيرس في 24 آب 1902.
ماريانو أنطونيو
رئيس أساقفة بونيوس أيرس”
- الكوميسيون يتابع اهتمامه وعنايته بالرسالة – سكب تمثال للقديس مارون
“لم يحدث هذا التغير المنوه إليه فتورًا في نهضة الكوميسيون بل بقي سائرًا في غايته على قدم وساق وبقيت كليمنسيا عضوًا عاملاً فيه. واندفعت غيرةً إحدى السيدات ادالينا دي غرسيان فأرسلت إلى أوروبا تسكب تمثالاً للقديس مارون. وأرسل الكوميسيون فضرب أيقونات على شكل التمثال وعند الإنجاز عيّن الكوميسيون موعدًا لتبريك التمثال ودعا رئيس الأساقفة ونخبة من أشراف الأرجنتين وكان العراب السيد غالياردو والعرابة السيدة راموس أوتيرو وخطيب الحفلة الأب لافيس. وتوزعت أيقونات القديس مارون على الحاضرين فعلقها على صدورهم جمهور من سادة وسيدات الأسر الأرجنتينية بكل عبادة نظرًا لما سمعوا عن النعم التي اجراها الله بشفاعة القديس مارون مع كثيرين منهم”.
- شراء دار الرسالة الحالي في شارع باراغوي رقم 834.
“أثناء تغيب الأب غصن في لبنان كان السيد غالياردو تقاول مع أحد الملاكين على ابتياع بيت في شارع باراغوي رقم 834 بثمن سبعين ألف ريال. إنما بتأخر وصول الأب غصن كانت أثمان الأملاك تصاعدت. فارتفع ثمن البيت إلى خمسة وسبعين ألف وثماني مئة ريال, فنظرًا لاتساع البيت ونقطة مركزه عقدت النية على شرائه. فتخابر الأب غصن مع البنك على أن يرهن له البيت مقابل 37900 سبعة وثلاثين ألفًا وتسعماية ريال. يعيدها إليه مع فائدتها تسع بالمئة أقساطًا شهرية من 451 أربعمئة واحد وخمسون ريالاً في الشهر على مدار خمس عشرة سنة. فتم الاتفاق. وأما ما تبقى من كمال ثمن البيت فقد جمع من الدراهم التي أحضرها معه الأب غصن وهي ألفا ليرة عثمانية ذهبًا. فبادلت 22 ألف ريال أرجنتيني بسعر 11 ريالاً لليرة. ودفع الكوميسيون 3 آلاف ريال. والسيدة راموس أوتيرو أقرضت الآباء 3 آلاف ريال دون فائدة. والأسقفية أعطتهم 1713 ريالاً كان جمعها الخوري مخائيل البيطار والخوري بولس كساب لأجل بناء كنيسة في بيونوس أيرس. واستقرض الأبوان أيضًا 81870 ريالاً. فتم شراء البيت في 29 آب 1905. وتسجل باسم الآباء الثلاثة: غصن، حجّار، شمعون”.
4-تعيّين الأب حجّار مديرًا للمدرسة – ثقة الحكومة بها – إسعاف مجلس الشيوخ لها
“منذ دخول الرسالة إلى بونيوس أيرس ما برح الأب حجار مثال الجهاد والتضحية والموت كل يوم لأجل نجاح وازدهار عملها. ففي أول آذار لسنة 1906 فتح الآباء المدرسة في البيت الجديد فبلغ عدد الطلبة ماية وستين تلميذًا بين أرجنتنيين وأبناء الجالية. فتعيّن الأب مخايل حجّار مديرًا رسميًا للمدرسة. فوضع لها نظامًا للدروس العربية والفرنسية والإسبانية وبهذه الأخيرة كانت تلقى كل فروع العلوم والحسابية والرياضية. وجعل في هذا النظام أهمية كبرى للتعليم الديني وللتهذيب الاجتماعي ومحبة الوطن الأرجنتيني والعثماني بحيث كان يوضع نصب عيون التلامذة الراية العثمانية إلى جانب الأرجنتينية. وعوَّدهم أن ينشدوا اللحن العثماني كما ينشدون اللحن الأرجنتيني. وكان يقبل في المدرسة تلامذة داخليين وخارجيين براتب شهري خمسة وأربعون ريالاً عن كل تلميذ داخلي، وثمانية عن الخارجي. وإذا رفض هذا تعلم الإفرنسية فيدفع خمسة ريالات فقط. وكان عدد الأساتذة يزداد بازدياد عدد التلامذة. ونظرًا إلى ضعف الثقة عند حكومة البلاد وأهلها في كل ما له صبغة تركية كان المجلس العلمي يرسل إلى المدرسة تكرارًا مفتشات يدخلنها على حين غفلة. فكان يرى كل شيء سائرًا بحسب النظام فيعود شاكرًا منذهلاً. ومن ثم امتلكت إدارة المدرسة ثقة الحكومة حتى أصبحت هذه تعتبر شهادة المدرسة كشهادة احدى المدارس الحكومية الاستعدادية. وكان مجلس الشيوخ يدفع في الشهر مأيتي ريال مساعدة للمدرسة”.
“إلى الأجيال المستقبلية، إلى التاريخ والذكرى، إلى الذين يأتون بعدنا من أبناء جمعيتنا العزيزة، ندوِّن أعمال رسالتنا وما يتعلف بها في الجمهورية الفضية، ليبقى الذين تقدموا من أبناء الجمعية وتواروا وراء ستار الأبدية كما والمحسنون والمساعدون أحياء على هذه الأرض في حياة الذين يأتون من بعدهم الذين أعدتهم العناية الإلهية في مستقبل الأيام لإفناء حياتهم أو شطر منها في هذه البلاد على مثال أولئك في خدمة النفوس وخاصة أبناء وطننا الذين نزحوا عن أرض الأجداد المحبوبة وربوعها الجميلة إلى هذه البلاد الشاسعة وما يجاورها من البلدان الأميركية”.
الرسالة اللبنانية في جنوب افريقيا
هيئة التحرير
أما الرسالة الثانية التي نورد ذكر ولادتها فهي العمل في القارة السوداء حيث هاجر رعيل من اللبنانيين إليها إبان الحرب العالمية الأولى. يذكر الأب يوسف جوان[2] ما حصل له ويخبر كيف تطورت عملية دخوله إلى هذه البلاد مفصلاً الأحداث، شارحًا الأبعاد، مدققًا في بعض التفاصيل التي تدلّ على دقة العمل الرسولي وبالأخص في بدايته. يشبه تأسيس رسالة كل بداية حياة، تقتضي بالدرجة الأولى نعمة من الله، وبذلاً من الإنسان، حتى عندما تتضافر الجهود تحت هداية العناية الإلهية تولد الرسالة كما أرادها الله.
ننقل بأمانة ما كان قد تمّ تدوينه في سجل الجمعية حول الأحداث التي تروي ولادة الرسالة في جنوب افريقيا، فنرى الكاتب يسر الأمور أحيانًا، وينقل حرفيًا ما دوّن الأب جوان أحيانًا أخرى.
- تعيين الأب يوسف جوان زئرًا بطريركيًا للموارنة في أفريقيا وأوستراليا
“طلب السيد البطريرك مار الياس الحويك من الأب العام واحدًا من آباء الجمعية لإرساله إلى أفريقيا وأستراليا زائرًا بطريركيًا ليتفقد شؤون الموارنة الروحية. فبعد المداولة تعين الأب يوسف جوان لهذه المهمة[3]، فكتب السيد البطريرك إلى الكاردينال رئيس المجمع الشرقي يستأذنه في ذلك فوردت المأذونية لأستراليا فقط دون ذكر افريقيا، فاستعد الأب جوان للسفر. وأما قيمة المبلغ الذي أعطيَّ للأب جوان فيبلغ نحو الفين ليرة سورية منها ثمن ثياب وبعض لوازم له ومنها أكلاف السفر ومنها مائة ليرة إنكليزية يضطر إلى ان يكون حاملاً لها كل من أراد الدخول إلى أستراليا بحسب شريعة تلك البلاد وقد أشير على الأب المذكور أن يتوجه إلى رومية لأجل السعي للحصول على الإجازة بزيارة موارنة أفريقيا فسافر حضرته من بيروت في 18 من شهر أيلول فوصل إليها في 24 من الشهر المذكور. وبتاريخ 21 تشرين الأول كتب إلى الأب العام أنه تأخر في رومية بسبب انتظار رئيس المجمع وأعضائه للرجوع من مصايفهم إلى رومية. وأفاد أنه قابل الكردينال غاسباري وزير الدولة الباباوية ثم قابل رئيس المجمع الشرقي وغيره فأظهروا له كل عطف ومساعدة للجمعية وقد أعطاه رئيس المجمع الإجازة بالسفر إلى أفريقيا لزيارة الموارنة ووعده بتجديد الإذن له إذا طلب، لأن المأذونية التي كانت أعطيت له أولاً تمتد مدة سنتين فقط”.
2-استئناف الأب يوسف جوان سفره إلى أفريقيا
“في 21 من شهر أيلول (1927) ركب الأب يوسف جوان الباخرة من بيروت قاصدًا افريقيا الجنوبيّة لإنجاز مهمته الروحية وقد وصل إلى جوهنسبورغ في الترنسفال في أول تشرين الثاني.
سافر في 21 أيلول منها إلى افريقيا الجنوبية بطريق بور سعيد ووصل إلى جوهنسبورغ في الترنسفال في أول تشرين الثاني من السنة المذكورة. وهاك الآن بعض ما حدث له في سفره الأخير:
جاء في رسالته إلى الأب العام المؤرخة في 2 تشرين الثاني عن جوهنسبورغ ما يلي: إني أكتب إليكم هذا التحرير بسرعة واختصار رغمًا من التطويل الذي ترونه فهو جزء من ألف مما أريد وأقدر أن أكتبه، ثم يخبر عن عوائد عبيد مدينة بايرا التي بقي فيها سبعة أيام فيقول إن هؤلاء العبيد مشهورون بأمرين فاقوا بهما على جميع أهل جلدتهم وهما السحر والخبرة بالأدوية النباتية والسموم التي يستعملونها للفتك ببعضهم البعض…ومدينة بايرا هي مرفأ في بلاد الموزمبيك وهي تحت سيطرة البرتوغاليين. وقد حدث له في بايرا أنه بينما كان يلعب بالطابة على سطح الباخرة اصطدمت رجله بجسر حديدي فجُرحت جرحًا بليغًا…وبعد بايرا وصلوا إلى لورنسو مركز “وهي التي يدعوها الإنكليز دلاغوابايا فصعد مدير المرفأ البرتوغالي إلى المركب مع أحد البولسيين فقدّم الركاب الذين أنتهى سفرهم أوراقهم وكنت معهم وهاك الأمر الثاني.
– قال حضرته إنك لا تقدر ان تنزل إلى هنا.
– لماذا وجوازي مؤشر عليه من قنصلكم للنزول هنا وفي كل مكان يخصكم وقد أخذ عليه سبع ليرات أضعاف ما يأخذ باقي القناصل.
– إنها شريعة عندنا لا يدخل أحد البلاد من دون مأذونية سابقة لنا.
– أنا عابر طريق وسائح ولا تقدرون على منعي لأني مجتاز إلى الترنسفال.
– ان جوازك إلى هنا وورقة المركب تنتهي هنا وعليه لا تقدر أن تنزل دون أن تدفع 60 ليرة إنكليزية.
– ليس معي مال إنما بيدي تشاك اسلمه اليك لحين خروجي.
– لا أقبل بالتشيك أريد نقدًا.
-اسمح لي بالنزول لقبضه لأدفع لك.
– ذلك غير ممكن أعطِ التشاك لغيرك ليقبضه وتدفع المطلوب ثم تنزل.
– انا بحاجة إلى مشاهدة قنصلي.
– ادفع أولاً واعمل ما تريد.
– أريد أن أرى المدينة ثم أكمل سفري بالمركب إلى ديورين.
– هذا غير ممكن.
– أتظنوني ولدًا أم غبيًا أم أميًا أم جبان أنا نازل إلى البر شئت أم أبيت أعطيتني جوازي أو حفظته وأول بوليس يقترب مني يشعر بما لا يطيب له ولا يسركم ولا تعود مسألتي شخصية بل دولية.
وكان ركاب الإنكليز حاضرين يسمعون فعلت منهم هذه الكلمة ليحيَ العلم والشجاعة فقاطعهم قومندان المركب؛ دعوني مع الأب ومدير المرفأ وأرجوكم الصمت والخروج. أجابوه أن الأب ليس بحاجة إلينا بل نحن إليه ولن نقل كلمة بعد ولكن سوف نقول. خرجوا متأثرين. فأخذ ضابط المرفأ يلاطفني بالفرنساوية قائلاً: إن المسألة بسيطة وأنا أعلم القنصل الفرنساوي فيرسل لك واحدًا يقبض التشاك. قلت ليس القنصل عبدي ولا أجيركم بل ممثل حكومة يعمل بشرفها متى أنا نزلت إليه وأنا نازل فاعملوا ما تشاؤون. وتركت القاعة. فلاقاني الركاب يسألون كيف تمت المسألة. أجبتهم لا تتم إلاّ إذا أنا تممتها. ونزلت إلى غرفتي وأخذت قبعتي وعصاي ونزلت على مشهد الجميع من المركب إلى المدينة فلم يعارضني أحد وتوجهت إلى القنصل فلم أجده لأنه يوم أحد خرج مع امرأته الة التنزيهة فعدت إلى المطران فلم أجده لأنه بالزيارة الرعائية بل وجدت نائبه فأخبرته فقال غدًا ندبر المسألة فعندي زياح القربان وشهر الوردية. وذهبت إلى البنوكة فوجدتها مقفلة لأنه الأحد فشكرت الله على وجود القنصل لأني لا أثق بالقنصل نظرًا لخبرتي الماضية بقلة اكتراثهم بنا.
فعدت على المركب أقول أوصدت الأبواب كلها في وجهي ولا أدري إذا كان باب السجن لا يزال مفتوحًا. وعند وصولي إلى المركب وجدت وكيل الشركة الألمانية بانتظاري يطلبني قائلاً إني عرفت بما جرى لك ويمكنك إن تنزل إلى المدينة لكن يجب أن تبقى أغراضك هنا. فأجبته أني نزلت إلى المدينة بلا واسطة وسأنزل غدًا نهائيًا. وعندها وصل صديقي مدير بنك الكونفوبلج الذي كان نائمًا عند مواجهتي مدير المرفأ وعرف من الركاب ما جرى فلامني كثيرًا على خروجي بلا اذن بقوله أنت لا تعرف البرتوغاليين وطباعهم الشرسة فلماذا لم تقل لي فأعطيك المال حالاً. فشكرته على حديثه…ودفع اليَّ بعد شديد ممانعة مني 60 ليرة إنكليزية…فقبلتها. ومضيت تلك الليلة بألف هاجس كيف تنتهي المسألة ومن أين لي المال فالحكومة هنا تطلب 60 ليرة وحكومة الإنكليز تطلب مائة وكل ما معي 82 ومن أين أجرة القطار واللوكندة والحلوانة لخدم المركب. ولكن تجالدت أمام الإنكليز وضحكت كالأسد المجروح الراصد للأيام.
وعند صباح الاثنين بعد قداسي طلبوني إذا بنائب المطران في القاعة بانتظاري فزاد اعتباري في عيون الركاب لنزوله إليَّ إلى المركب….” ثم يذهب إلى دائرة المرفأ فيدفع لها المال ثم إلى دائرة المهاجرة الأفريقية وهي دائرة مثل قنصولاتو تسمح أو ترفض دخول بلاد أفريقيا الجنوبية، فهذه اشترطت عليه لدخول البلاد أن يخابر أحد المعارف في العاصمة وهي برانوريا لأن تعليمات قنصل الإنكليز على أوراقه لا تفيد شيئًا في هذه البلاد. ولمَّا لم يكن يعرف أحدًا في تلك العاصمة فضرب تلغرافًا إلى مطران جوهنسبورغ ليخابر هذا الحكومة تليفونيًا بشأنه…فأتاه الجواب في الغد وعمل له رئيس دائرة المهاجرة حالاً ورقة الدخول بعد دفع 25 ليرة إنكليزية تبقى بيدهم لحين تركي البلاد وأخسرها إذا أتيت فعلاً ضد الأمن العام؟؟؟؟؟!! فقلت الشكر لله على نعمه وليحي الانكليز وحكمهم.
وعدت إلى مدير المرفأ لأخذ الضمانة منه…فلم يدفعها لي إلاّ بعد تحرير ورقة بلغة البرتوغالية. وبعد أخذ ورد كلفت شابًا فأملاها عليَّ وعجب المدير من كتابتها دون غلط وقال هذا نادر عند الأجانب فهل ذهبت إلى البرتوغال. قلت هذه أول مرة تطأ رجلي أرضًا برتوغالية منذ أمس. قال يمكنك أن تبقى هنا ما زلت بهذه القدرة تتكلم بكل اللغات. أجبته أريد مالي والرحيل، أجاب أنه في البنك والبنك قد سكر أبوابه الآن فغدًا عد فخذ الحوالة على البنك. فقلت له أن البنك هو بالقرب من منزلي أعطني الحوالة الآن وغدًا أقبضها بدون ازعاجكم من جديد. فضحك وقال: لم يغلط من أرسلك. قلت غلط بواحدة وهو بالطريق عليكم. فأجابني فورًا بحدّة إني كنت سمعت عنك من مدير المرفأ وضابط المرفأ وهذا ملف أوراقك عندي لو لم أعرفك بهذه الصراحة لكنت مستعدًا أن أضيف عليك بحسب التقرير المدير المذكور فقد وفرّت على نفسك وعلينا بقدومك اليوم إلينا فعوض المضايقة تستأهل الإكرام. ونهض إلى غرفة المالية وسلمني حوالة على البنك بمالي فأخذتها وشكرت وخرجت أقول نجاني الله من البرتوغاليين لا يعرف لهم …من لحمه. لأن مدير البوليس قدم لي سيكارة مع تقرير مدير المرفأ بحقي!!! فعدت إلى اللوكندة أقاسي الألم الشديد من رجلي وعند كشفها وجدتها وارمة جدًا فاستدعى صاحب اللوكندة لي طبيبًا يخفف الورم على رجلي وعلى جيبتي.
تاني يوم قبضت المال. ولم أعد أقدر على السفر بسبب تضخم رجلي فبقيت إلى الجمعة بعد الظهر مستنظرًا القطار الذي هو كل يوم بعد يوم…، وهنا يصف مدينة لورنسومركز…
ويوم الجمعة أخذت القطار ولكن قبل تركي لورنسومركز أرسلت تلغرافًا إلى جوهنسبورغ إلى الخوري يوسف الأشقر أعلمه بقدومي. وعند الساعة التاسعة صباحًا وصلت إلى جوهنسبورغ فوجدت حضرته مع بعض أولاد الجالية بانتظاري على المحطة الكبرى، فركبنا بسياراتهم ووصلنا إلى المطران فنزل حالاً لاستقبالي في الصالون الكبير وأعدوا لي غرفة جميلة في الدير مركز المطران مع قاعة استقبال كبيرة أمامها أكبر من صالون ديرنا في جونيه وذلك مؤقتًا بينما أقدر على اصلاح الأمور بين الجالية وراعيها لأنهم لا يذهبون اليه ولا إلى الكنيسة المارونية أبدًا…ثم يظهر تخوفه من هذا الشكل إلى أن يقول: والموارنة في المدينة نحو 700 وفي الجوار 2500 نصفهم هالك…القنصل الفرنساوي دعاني إلى الغداء نهار غد في الكلوب ودعا الجالية الفرنساوية إكرامًا لي. ويوم الأحد يأتي إلى الكنيسة ببذته الرسمية ليسلّم رسميًا بعد حضوره القداس. ويقول إن الحزب المخالف للكاهن معظمه من أصل سبعل وقد دعوا كاهنًا سبعليًا اسمه الخوري مارون وعن قريب يصل إلى هناك لذلك تفاقم قلق الأب جوان من شأن الخلاف المستفحل والذي سيكون ذهاب الخوري الجديد…
محل جديد للجمعية في جوهنسبورغ من الترنسفال بسعي الأب جوان
“قد تعبت كثيرًا وكدت أيئس دون فض المشكل ولكن العناية الإلهية دبرت الظروف والأحوال بنوع آل إلى حل العقدة المتعسرة حلاً عاد إلى صالح جمعيتنا العزيزة[4].
سيدي ومولاي الأب العام السامي الاحترام
ألثم يديكم وأعرض ما لم أكتب لكم في البوسطة الماضية لسبب انحراف أمَّ بصحتي واليوم أنا بكمال الصحة وعدت إلى أشغالي وعليه أفيدكم تمامًا لمجريات الأمور عندنا:
أولاً: في 6 آذار عقدت جلسة رسمية من أولاد الكنيسة أي من أولئك الذين كانوا لا يزالون موازرين الخوري يوسف الأشقر وجلهم من قرطبا وبشري والحدث وبعض الأفراد من سواهم وهاكم ملخص وقائعها: وكان الحضور 23 نائبًا عن الجمهور فقرروا بالإجماع وجوب تسجيل بغير اسم الأب أشقر.
ثانيًا: سأل حضرته باسم من؟ فقالوا بالإجماع باسم جمعية المرسلين اللبنانيين. حتى إذا رحل جمهور اللبنانيين من هذه البلاد يصير آباء الكريم أحرارًا بكل ما للكنيسة وأخذه إلى لبنان أو إلى حيث يشاؤون.
ثالثًا: قرروا تأجيل الجلسة إلى الأحد 11 منه للنظر في ديون الكنيسة وحساباتها للنظر إذا كان لأحد قول فيها وعليها وطلبوا وكان مقدم الطلب الخوري الأشقر تعيين لجنة لذلك ويكون رأسها حضرة الزائر ووقع الكل امضاءاتهم على ما حرّر. وقد اكتفوا بي للاطلاع على الحسابات فأخذت مساعدًا لي شابًا غنيًا شهمًا كريمًا كتومًا نزلت في داره فوق الشهرين ونصف كأني في ديري بل أحسن وداره من أهم دور أولادنا هنا وهو الخواجا جبرائيل بطرس الحاج الخوري من قرطبا وحيد لأهله بعد فضلة عزرائيل وبعد شغل ثلاثة أيام جردت الحسابات كلها بمفراداتها وخلاصتها على نسق الكريم وجمعت خلاصتها ورصدتها بالتدقيق. ويوم الأحد الواقع في 11 آذار الساعة الثالثة بعد الظهر اجتمع أعضاء اللجنة فتولت مطالعاتي على الحسابات كلها مما للكنيسة ومما عليها ولم يعترض أحد عليها اعتراضًا رسميًا فكان ما على الكنيسة ثلاثة ألاف وثلاثمة ليرة إنكليزية. عندئذٍ نهض الأب الأشقر وطلب من الحضور رفع عبء وظيفة خدمتهم عنه وذلك حبًا بخير النفوس وراحة ضميره وحفاظًا لصحته. وترك مما يطلب له من الكنيسة مبلغ 650 ليرة إنكليزية. فصفق له الحضور وشكره الزائر على عمله الحميد وقبل استعفاءه رسميًا.
وأصدر المجتمعون بالاجماع قرارًا على تسليم الكنيسة إلى حضرة الزائر تسليمًا مطلقًا ومؤقتًا حسب طلبه وأمضى الحاضرون الجلسة بكل بنودها ونصوصها. وثاني يوم ذهبت إلى سيادة المطران وأعلمته بالأمر فشكر كثيرًا وأثنى على الأب أشقر وعلى الحاضرين الجلسة. وتمنى الوقف التأم بسرعة وكنت قررت دعوة عامة الشعب كله لأطلعه على كل ذلك وآمره بطلب كاهن. ولكن يوم الجمعة بينما كنت في بيت الخواجه بدوي غطاس من سبعل فاجأني عارض اضطرني إلى ملازمة الفراش بسرعة في بيت المذكور فدوت المدينة لمرضي وأخذ الناس كلهم حتى ألدَّ أخصامي الذين أخذت منهم الكنيسة القديمة عنوةً وكانوا يشتهون سفري قبل الأشقر بكثير وما كانوا تركوا كلمة أو تشنيعًا بحقي تراكضوا قبل سائر الناس عليَّ ولم يبق حي في جوهنسبورغ إلاَّ وأسرع سائلاً عني. وفي الليل سرجوا كلهم الشموع في بيوتهم وأقاموا الصلوات وقدموا النذور لأجل شفائي فكان ذلك عنايةً من الله لتقريب القلوب. وبعد يومين رخَّص الطبيب للبعض بمواجهتي فأخذ الزعماء يترددون عليّ وقد أقنعتهم بالعدول عن خطتهم الماضية ولزوم الاتفاق. وهم لمَّا رأوا الشعب بين يديَّ بعد أن عرفني ما أنا لا ما كانوا يصورون له اقتنعوا بكل ما طلبت وعدلوا عن بعض مغالاتهم.
وقد زارني سيادة المطران خمس مرات وكل مرة يمكث بقربي فوق الساعتين وزارني قنصل فرنسا ورئيس الرهبان المرسلين هنا ورئيسة الراهبات وعلمت المدينة كلها بالحادث فأخذ الأجانب كلهم يسألون أولادنا عن صحتي وجاء وفد من بريتوريا من أولادنا يوم الأحد جاء وفد آخر أكبر منه… ويوم الخميس الماضي الواقع في 22 آذار الساعة الثامنة ونصف (مساءً)، افتتحت جلسة عمومية ترأسها حضرة الزائر وحضرها سيادة المطران بناءً على طلب الزائر فافتتح الجلسة حضرة الزائر بخطاب وجهّهه إلى سيادة المطران بيّن فيه كل ما عمله في مدة خمسة أشهر لخير الجالية وراحة سيادته حتى وصل إلى الحلّ الذي عرضه في ذلك الاجتماع. ثم وجه كلامه إلى الجالية مبينًا أعماله. وتلا مكتوبًا من سيادة المطران إلى الجالية عن يد الزائر به يبين أعمال الزائر وضرورة الاتفاق ويثني على الأب الأشقر على عمله. ثم نهض سيادة المطران وخاطب الجمهور بكلام مثل الدرّر مبينًا فخر الموارنة وسبب مجدهم وتدينهم وتمسكهم بالدين واتحادهم الدائم على هذا الأمر رغمًا من الاضطهادات مدى الأجيال. وان هذه الصفة يجب ان تكون ملازمة لهم هنا ليبقى لهم هذا الفخر وقابل بينهم وبين الإرلنديين الذين أبوه منهم وأنه لذلك هو أخ للموارنة لا بالدين فقط بل بشبه الحالة التاريخية والدينية. ثم نهض الخواجه بطرس الشامي وهو عم الخوري الشامي الموجود عند البوليسيين وكلم الحضور بخطاب نفيس أظهر لهم وجوب الاتحاد ووضع الثقة بحضرة الزائر الذي هو موضوع ثقة أكبر مراكز الدنيا أعني بكركي وروميه ويكون عارًا علينا عدم ثقتنا به ونحن من عامة الناس في بلادنا بعد أن وضع به ثقته أعلم الناس وأشهر المراكز في بلادنا وفي أوروبا وهنأ وشكرني كثيرًا لعلمي الغزير واطلاعي النادر والشرف الذي صار للجالية بحضوري الذي عرّف الأجانب أن في بلادنا رجالاً يفوقون رجالهم كما شاهدوا بالزائر في كل محل حلّ به. وكان المطران مسرورًا جدًا بخطاب الشامي مصادقًا عليه بكل كلمة.
وبعدئذٍ دارت المناقشات وكانت المسألة الأولى استعفاء الأب الأشقر وعدم امكان تحديد مدة اقامته في هذه البلاد (لأن الزعماء كانوا طلبوا إليّ تسفيره بأول مناسبة حتى لا يبقى هنا أكثر من نصف سنة وكنت أقنعتهم بعد مجادلات عنيفة على حدة بعدم صوابية ذلك وقانونيته) فقُبلت هذه المسألة بالإجماع.
أما المسألة الثانية هي يجب ان يكون الكاهن الجديد كريميًا قانونيًا أم علمانيًا فأجاب الكل بصوت واحد قانونيًا كريميًا (بعد ان بينت لهم ما الفرق بين القانوني والعلماني وبينت لهم كهنة القانونيين وأصنافهم كلها) فأصرّ الكل من الحزبين نريده كريميًا.
فعرض الزائر المسألة الثالثة وهي هل الكريميون يكونون أحرارًا أم تحت أجرة فأجابوا بالإجماع أحرارًا وكل شيء يكون باسمهم (وكنت تعبت جدًا على حدة باقناع بعدم موافقة تسجيل الكنيسة باسم مأمونين كما كانت الكنيسة القديمة وكنت أقنعت المطران بعدم اعطائهم أقل أمل بذلك. وكان كما قلت لأن المطران كان دائمًا بين يدي بكل ما أقوله لا يعترض عليه ظنًا منه أنه غير قدير وخوفًا من رومية ولعلي أخذت وهرته). فأجاب الزائر ان الكريميين لا يدخلون تحت دين وإذا كانوا يأتون إلى هنا فحبًا بكم فقط لأنهم مطلوبون إلى محلات عديدة رفضوها لعدم مقدرتهم بالوقت وانما مصلحة نفوسكم الجأني إلى القبول وعلى رجاء الأب العام القبول… فأجابوا نؤلف لجنة يوم الأحد للاهتمام بأمر الدين وأوعزت إلى المطران أن يكلمهم عن الكنيسة القديمة ولزوم بيعها لإيفاء الدين دون النزول إلى المحاكم بعد أن
أخذتها منهم واستلمتها بالقوة فكانت المسألة الأخيرة فقرروا أنهم يصدرون قرارًا يوم الأحد بموجبه يعزلون الأمناء القدماء ويعينون مكانهم مع التفويض بالبيع والتصرف كيف شئت بلا ممانع فأعلنت اختتام الاجتماع العام وصفق الحضور تصفيقًا حارًا. فقمت بينهم وقلت لهم مهنئًا هل زالت الخلافات؟ أجابوا نعم. هل تذهبون يوم الأحد كلكم إلى الكنيسة التي لم تدخلوها من يوم…؟ فاجابوا أمرًا وطاعة صرت كاهننا وكلنا بأمرك ما تريده نعمله. فكان سرور المطران وسروري وسرور الحاضرين فوق الوصف. وثاني يوم أي الجمعة امتلأت الكنيسة والتختية والممشى من الشعب الذي ما كان يعرف الكنيسة الحالية أبدًا وكان ذلك مثل مباغتة لي لأني كنت عاهدتهم وعاهدوني على الحضور يوم الأحد، فسبحان الله! ويوم السبت صباحًا خاطبني على التلفون سعيد خليل البتديني وهو أخو رئيس الجمعية السورية وأهمّ الزعماء طالبًا إذا كانت الكنيسة بحاجة إلى زهور للزينة يوم الأحد فقلت نعم مع ألف شكر. وعند المساء حمل هو بنفسه الزهور وجاء بها إلى الكنيسة وزينها بها وكانت هذه الزهور وأخذت الجائزة في معرض الزهور في الأحد الماضي فعرف الحضور كلهم مصدرها لشهرتها في الجرائد. فشكرت الله كثيرًا. ويوم الأحد جرت ثلاثة قداسات الأول الأب الأشقر الثاني الخوري مارون سبعل والأخير قداسي الذي حضره جمهور غفير جدًا حتى لم يبق محل وكلهم من الذين ما دخلوا الكنيسة مطلقًا وفي مقدمة الكل الزعماء وعيالهم فدام من الساعة العاشرة إلى الظهر وقد رتله بنات الأخوية مع ثلاث من الرجال الجميلي الصوت ففرح قلب الذين ما سمعوا أنغامًا منذ تركوا البلاد وكل الأنغام على الأرغن. وعند المساء حضر الجمهور كله إلى الزياح فوعظت أيضًا والكل مسرورون. ويوم الأحد الساعة الثالثة بعد الظهر اجتمع جمهور في الكنيسة للمداولة بأمر الدين وعقد لجنة لتتكفل به فكانت تقريراتهم هذه:
أولاً تمليك الكريم تمليكًا مطلقًا بموازاة سائر أديار الجمعية في كل البلاد ما زالت الجالية موجودة في أفريقيا الجنوبية وإذا انقرضت الجالية من هذه البلاد يصير الكريميون أحرارًا بكل شيء. وأما مسألة الإدارة أي إدارة الكنيسة والمدرسة وما شابه، فالكريميون أحرار ولا دخل للجالية بشيء إلاّ بالإسعاف اللازم، والمدرسة تكون تجارية ريعها للكريم وقد قرروا تأليف لجنة لإسعاف الكنيسة والوقف تعنى بجمع المال تبرعًا واشتراكًا وتأسيس لها فروعًا ولهذه اللجنة حق المشورة عند التفريغ أو بيع لكل ما زادت قيمته عن الألف ليرة وعند المشورة بفضل جانب الكهنة إذا دام الخلاف ثلاث مرات أي ثلاث مشورات. وقرروا تأليف اللجنة بعد اطلاع الجمهور على شروطها وعلى مقدرة كل انسان على الدفع والاشتراك. وأخيرًا أمضوا قرارًا قدمه الأب جوان بعزل المأمونين القدماء وتعيينه مكانهم وتفويضه مطلقًا بالبيع أي بيع الوقف القديم وزيلوا كل ذلك بكل امضاءاتهم. فصرت الآن حرًّا بكل شيء والشعب متهلل فرحًا.
والآن أكرّر الرجاء إرسال كاهن حالاً إليَّ بأول شهر من وصول مكتوبي…والكنيسة الحالية توازي قيمتها الخمسة الآف ليرة. والوقف القديم يوازي نحو ثمانماية ليرة إنكليزية والدين الذي عليها ألفان وخمسمائة ليرة لا تمضي مدة ثلاثة أشهر ويبقى نصفه ولي الأمل أنه بعد شهر أن أفيدكم أن نصف الدين زال لأن الناس باستعداد إلى إسعاف حالاً. ويوم الخميس نبتدئ التبرعات فلا تخيبوا طلبي ولا لزوم لرومية بإذن لأن المطران عارف وقابل ومتهلل بنا ولا يريد سوانا وأنا سأكتب إلى رومية نهار غد وأبشرها بحل العقدة. هذا ما كتبته لكم ويمكنكم اطلاع الجمهور عليه. أما أسرار المسألة فاتركها إلى وقتها. بشروا غبطته بالنجاح وقولوا له أن الإسم الماروني سيعود إلى أعلى مركز ممكن هنا بعد أن كان أحط من الهنود والعبيد فالشكر لله الشكر لله الشكر لله…
ولدكم الأب يوسف جوان
سوق خيرية لمساعدة المحل الجديد للجمعية في جوهنسبورغ
كتب الأب يوسف جوان إلى الأب العام يطلعه على إعلامه بإقامة سوق خيرية في جوهنسبورغ لأجل وفاء ما على الكنيسة هناك من ديون وإنه استأذن بذلك حاكم البلد فأذن له ووعده بأن يفتح هو بنفسه السوق المذكورة. ويطلب أن يُرسل له بعض المنسوجات اللبنانية لأجل الغرض المذكور. فأمر الأب العام وابتيع له من شغل الزوق من المنسوجات ما تعادل قيمته 275 ليرة سورية ورقًا، وأرسلت له في 20 آب 1928.
تعيين الأب بطرس العام لدير الرسالة الجديد في جوهنسبورغ
“ان الأب يوسف جوان طلب بإلحاح من الأب العام إرسال كاهن لاستلام الكنيسة المارونية المسجلة باسم الجمعية وقع اختيار الأب العام على الأب بطرس العلم وأرسل يستأذن السيد البطريرك بعريضة رفعها إليه بخصوص اختيار وارسال الأب المذكور. فغبطته صادق على اختيار الأب العلم ورفع إلى يد الأب المذكور الأوراق اللازمة لسفره مع كتابة توصية في شأنه إلى الموارنة في جوهنسبورغ وهذا نصها:
بطريركية الموارنة الانطاكية
حضرة أولادنا الموارنة المقيمين في جوهنسبورغ ونواحيها المحترمين
بعد اهداء البركة الرسولية إلى حضرتكم. ان ما لكم عندنا من شديد المحبة يحملنا على الافتكار بكم في مطارح غرسكم. ويدفعنا الاهتمام بما يعود عليكم بالخير في هجرتكم ويحفظ فيكم روح التدين الذي عرفتم به منذ نشأة الطائفة العزيزة ولهذا قد أوفد إليكم منذ مدة زائرًا بطريركيًا بشخص حضرة ولدنا الخوري يوسف جوان المرسل اللبناني ليحمل إليكم سلامنا ومحبتنا وينقل لنا حالكم كما هي ….مستخدمين ما أولاناه الله تعالى من السلطان البطريركي بإصلاح المعتل وتقويم المعوج وتسيير الأمور عندكم على حال تسنى لكم معها أن تمجدوا الله تعالى وتخلصوا نفوسكم وترفعوا اسم الطائفة العزيزة عاليًا ومن ثم قد أزف لنا ما أجراه بأمرنا حضرة ولدنا الخوري يوسف جوان الزائر البطريركي وقد صادقنا عليه وأثبتناه بسلطاننا وفي سبيل تنفيذه ها إننا موفدون إليكم حضرة ولدنا الخوري بطرس العلم المرسل اللبناني وقد وقع اختيارنا عليه لما نعهد فيه من الصفات التي تؤهله إلى استلام هذه المهمة الروحية خدمة نفوسكم الثمينة فهو كما ستعرفونه بالاختبار كاهن ورع عالم حكيم رصين غيور على مجد الله وخلاص النفوس. فنأمركم بأن تقبلوه بما يليق برسل المسيح من الإكرام والاعتبار معتبرين في شخصه شخص يسوع المسيح الذي قال: ومن سمع منكم فقد سمع مني ومن احتقركم احتقرني. واننا نسأل الله تعالى ان يجعل هذا التدبير الذي اتخذناه في جنبكم عائدًا لفائدة نفوسكم ولاعلاء شأن الطائفة المارونية العزيزة وعلى هذا الرجاء نمنحكم جميعًا من صميم الفؤاد البركة الرسولية.
21 أيلول 1928.
الحقير الياس بطرس البطريرك الانطاكي.
نتيجة السوق الخيرية
“في 18 تشرين الثاني (1928) وصل إلى الأب العام من الأب يوسف جوان عن جوهنسبورغ مؤرخ في 17 تشرين الأول فيه يخبره عن نتيجة السوق الخيرية التي أقامها هناك لأجل وفاء ديون الكنيسة:
السوق الخيرية التي جرت ليلة الجمعة ويوم السبت في قاعة البلدية الكبرى وإني أبشركم بأني نجحت نجاحًا لم يسبق له مثيل ولم يكن بانتظار أحد حتى ولا بانتظاري أنا نظرًا لقصر المدة التي أعددنا بها ما يلزم لسوق كبرى في أكبر محل عمومي في جنوبي افريقيا. فدار البلدية المسماة الطون هول طولها 130 قدمًا وعرضها 80 قدمًا ما عدا البلكونات والسوقين المجانبين فقد زيناها أجمل زينة ورفعنا العلم اللبناني في وسطها محاطًا بالزهور الاصطناعية على علو ثلاثين مترًا وهذه أول مرة رفع فيها العلم اللبناني في دار الحكومة في هذه البلاد. وزينا سقف الدار وجدرانها والبلكونات على جوانبها بأفخر الزين وعمرنا في صحن الدار 17 دكانًا حوت أنواع البضائع كلها وسقفت الدكاكين بالورق أجمل سقف وأحيط بطاولاتها القماش المزخرف فصرت تراها كأنها عرائش وكل هذا العمل انتهى بعشرين ساعة. لأن الدار كانت مأخوذة باليوم السابق لنا لاحتفال كبير لم نتسلمها إلاّ الخميس الساعة الثانية عشرة ليلاً وافتتاح السوق كان معينًا الساعة الثامنة مساء الجمعة. ففي الوقت المعين وصل حاكم المدينة وقرينته فاستقبلتهما وسرت بهما إلى بلكون الحاكم في صدر الدار وحضر مع الحاكم قنصلا فرنسا وقمندان الجندرمة والبوليس وكولونيل دائرة التحري وقنصل بلجيكا وقنصل الولايات المتحدة وكثيرون من أعيان البلد وكل اللبنانيين مع عدد لا يحصى من الأجانب فوقفت ورحبت بالحاكم وبينت من هم اللبنانيون والموارنة وما هي غاية السوق. فوقف وتلا خطابًا ثم دعوته إلى إعلان فتح السوق فاعلنه وابتدأ المهرجان كل ذلك الليل حتى الساعة الثانية عشرة وكان كل شيء يضبط ونظام وأدب لم يرَ مثله وكان سيداتنا اللبنانيات لابسات الأزياء اللبنانية المختلفة من الطنطور 12 سيدة ومن القنابيز والجهاديات 6 ومن الصداري المقصبة 30 وقس عليهن كل أزياءنا القديمة الجميلة وشابان لبسا الثياب السورية الشروال الجوخ وصدرته وإذا أردت ان أصف لكم المشهد يطول الشرح وكان فوق الثمانين بنتًا وسيدة منشغلات بالبيع بالدكاكين تحت اشراف عمدة الرجال رئيسها الشاب اسمه حنا الياس معوض من سبعل وكاتم اسرارها توفيق البدوي غطاس من سبعل وأمين الصندوق وهي أهم وظيفة بعد الرئاسة جبرايل الحاج الخوري من قرطبا. وكان عمدة أخرى من الرجال تراقب عن البيع في الدكاكين وتجري تثمين البضائع عند الريب وقد بقي المشهد ليلتين ويوم السبت جمعنا فيه ثمانمائة ليرة صافية وصرفنا نحو المائتين ليرة على المدعوين ولا يزال عندنا سيارة بمائتين ليرة فيكون مجموع السوق الخيرية فوق الأف ليرة وهذا كافٍ لوفاء الدين لآخر فلس مع المصارفات التي فوق الدين وهي نحو أربعمائة ليرة فيكون ما جمعته حتى الآن 3200 ليرة إنكليزية وليس المبلغ من الكاثوليك لأنهم قلائل بل من اليهود وسواهم من عاد من دين على الكنيسة ودارها وناهيك بالاسم العظيم الذي ناله اللبنانيون بهذا العمل الكبير فقد تغير تصور الناس بهم وتحول اسمهم من سوريين إلى لبنانيين لأول مرة بوجودي هنا. هذا من القبيل المفرح لو سمعتم أولادنا هنا يتكلمون لرأيتم كأنهم في حلم ويودون أن يعود البازار كل يوم…”
هذا شيء من كم يسرد أخبار العمل الرسولي والجهاد المقتضى لنجاحه والمخاطر المحيقة به. إن جلّ الغرض من الرسالة تأمين الحاجيات لها حتى تصيب هدفها في خدمة النفوس. هذه كانت مساعي المرسلين اللبنانيين يبدأونها بمعاناة ويختمونها بالتأليف. حتى تبقى “الكرازة بالانجيل” أولى غايتهم، سارية في الدروب، مالئة القلوب، حاثّة الناس للقاء والصلاة والتعاون والمشاركة، مجدًا لله وتخليدًا للكلمة.
[1] “سجل الرسالة اللبنانية المارونية في الأرجنتين“، أرشيف جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة.
[2] في 15 حزيران 1892 أبصر دياب حنا الخوري النور في زان – البترون. دخل جمعية المرسلين اللبنايين الموارنة في 17 تشرين الأول 1907، وفي 8 أيار 1908 عيد مار يوحنا الحبيب دخل الإبتداء. أبرز نذوره المؤقتة في 2 شباط 1909، وفي الرابع والعشرين من تشرين الأول من العام 1910 سفر إلى رومية لمتابعة دروسه في مدرسة البروبغندا. نذر نذوره المؤبدة في العشرين من نيسان سنة 1913. بعد أن سيم كاهنًا وأقام فترة من الزمن في بوانس أيرس عاد إلى لبنان في العاشر من أيار سنة 1919. طرد من الجمعية في 3 كانون الثاني 1930.
[3] ليس هناك تاريخ دقيق لموافقة الأب العام ومجلس شوراه على تعين الأب يوسف جوان زائرًا بطريركيا لموارنة اوستراليا وأفريقيا إنما من المؤكد أن هذه الموافقة تمت أواخر سنة 1926 وتحديدًا بين تشرين الأول وتشرين الثاني.
[4] رسالة من الأب يوسف جوان للأب العام بتاريخ 8 آذار 1927 أرشيف جمعية المرسلين اللبنانيين الموارنة.