Almanara Magazine

الشهادة والاستشهاد في التعليم الكنسيّ

المطران ميشال عون

المقدّمة

إنّ المسيحَ هو شهيدُ الله بأسمى مستوى، وبالتالي هو نموذج الشهيد. فقد قَبِلَ يسوعُ الموتَ برضاه، تعبيرًا عن استسلامه الكامل لإرادة الآب الخلاصيّة. ويُبرز الانجيليّ لوقا، في آلام يسوع، السِمات التي سوف تُعَرِّف الشهيد: تشديد العزيمة بالنعمة الإلهيّة ساعة الضيق (22: 43)، الصمت والصبر أمام الاتّهامات والإهانات (23: 9)، البراءة التي يقرّ بها الحكّام (23: 4-22)، التغاضي عن آلامه الخاصة (23: 28)، ومسامحته لصالبيه (23: 34).

بعد العنصرة وجدت الكنيسة نفسها مدعوّة لأن تقدّم لله شهادة الدمّ من أجل خلاص البشر. ومن قبل، كان للجماعة اليهوديّة أيضًا شهداؤها وبخاصة في عهد المكابيين (2مك 6 – 7). لكنّ الاستشهاد في الكنيسة المسيحيّة يتّخذ معنىً جديدًا، يكشف عنه يسوع نفسه: إنّه الاقتداء التام به، والاشتراك الكامل في شهادته وعمله الخلاصيّ، “ما من عبد أعظم من سيّده، فإذا اضطهدوني فسيضطهدونكم أيضًا” (يو 15: 20). هكذا كان استشهاد اسطفانوس دافعًا لأوّل انتشار للكنيسة خارج أورشليم (أع 8: 1-3)، وهكذا كان قتْلُ هيرودس ليعقوب أخي يوحنّا بحدّ السيف (أع 12: 2) محاولةً منه لإسكات صوت الحق، وهكذا سيحاول أن يفعل الأباطرة الرومان وجميعُ المضطهِدين للمسيحيين على مدار الأجيال.

سنتناول في موضوعنا هذا مفهومَ الشهادة والاستشهاد في التعليم الكنسيّ من خلال حقبتَين تاريخيّتَين: الكنيسة الأولى وعالم اليوم. سنُظهر في المرحلة الأولى كيفيّة التحضير للاستشهاد قديمًا وكيف كان تكريم الشهداء فاتحةً لتكريم القديسين في ما بعد، وسنُعطي في المرحلة الثانية المفهوم اللاهوتيّ والروحيّ للشهادة والاستشهاد في التعليم الكنسيّ اليوم مُحدّدين المقاييس التي تُعتَمد في دعاوى القديسين للتعريف بشهيد الإيمان.

1- شهداء الكنيسة الأولى

قُبيل صعوده، أخبر يسوع تلاميذَه أنّهم سيصيرون شهودًا (في اليونانيّة marturos) له من أورشليم حتى أقاصي الأرض (أع 1: 8). الكلمة marturos تعني الشاهد والشهيد. وقد حفظت الكنيسةُ كلمةَ شهيد للذي وصلت شهادتُه وأمانتُه لإيمانه حتّى الموت. ما هي حقبات الاضطهاد الأساسيّة الأولى، وكيف كان يتمّ التحضير للاستشهاد؟ وكيف تمّ الانتقال من تكريم الشهداء إلى تكريم كافّة القديسين الشهود الأبطال في الإيمان المسيحيّ؟

1. 1 – اضطهاد المسيحيّين في القرون الثلاثة الأولى

دام اضطهاد المسيحيّين حوالي قرنين ونصف (بين سنة 64 و313)، ولكنّه لم يكن بطريقة مستمرّة وقد مرّت فترات سلام. فالاضطهادات الأولى في القرنين الأوّلَين كانت نتيجة تحرّكات شعبية تسبقُ مبادرات الأباطرة: كانت السلطة الرومانيّة تتبع الرأي العام. كما أنّ الاضطهادات لم تكن تشمل كافّة المقاطعات الرومانيّة؛ فقط في حقبة مُلك داقيوس (250-251) وديوكلسيانوس (303-305) كانت الاضطهادات عامّة، في كلّ بقاع الأرض، والأكثر شراسة، إذ فُرض على جميع المواطنين المشاركة في تقديم الذبائح للآلهة بغية العودة إلى النظام وتوحيد الجميع حول الديانة الرسميّة. فمَن رفض عوقب بعنف، وقد سقط الكثير من المسيحيين (دُعوا بالساقطين lapsi) بدافع الخوف ونكروا إيمانهم.

تراوحت الاتّهامات بين افتراءات شعبيّة واعتراضات معلّلة فلسفيًّا وسياسيًّا[1]. فالافتراءات الشعبيّة تمحورت حول أنّ المسيحيّين ملحدون، يمارسون الزنى في اجتماعاتهم الليليّة، وهم أكلة لحوم بشر من خلال احتفالهم بذبائح طقسيّة. وقد بيّنت اعتراضات الحكماء والسياسيّين أنّهم أيضًا لا يعرفون المسيحيين حقّ المعرفة، فحاولوا تقصّي الحقائق على طريقتهم، وكتبوا ردودًا صارمة بحقّهم، خاصةً من قبل قَلسُوس (القرن الثاني) وبرفيروس (القرن الثالث)، فجوبهوا بكتابات المسيحيين “المدافعين” الذين صاغوا أولى تعابير اللاهوت المسيحيّ. تمحورت الهجومات حول ثلاث نواحٍ: إنّ المسيحييّن جهّالٌ، من الطبقات الاجتماعيّة الدنيا؛ والعقيدة المسيحيّة تناقض العقل، فالمسيح ليس سوى إنسان مسكين لم يحصل على ميتة رجل حكيم كسقراط مثلاً؛ وأيضًا، إنّ المسيحيّين مواطنون أشرار ومُلحدون، إذ لا يشاركون في عبادة الامبراطور ولا يهتمّون بأمور السياسة وبأمن الامبراطوريّة.

وإن أردنا وصفَ القرون الثلاثة الأولى بإيجاز لوجدنا أنّ فيها 10 فترات اضطهاد على الشكل الآتي[2]:

1- بين سنة 64 و68، أيام الامبراطور نيرون، مكان الاضطهاد: روما، أهمّ الشهداء: بطرس وبولس

2- بين سنة 94 و96، أيام الامبراطور دوميسيانوس، أمكنة الاضطهاد: روما، آسيا الصغرى وفلسطين، أهمّ الشهداء: من شرفاء روما فلافيوس ابن عم الامبراطور، ويوحنّا الإنجيليّ.

3- بين سنة 98 و117، أيام الامبراطور طرايانوس، أمكنة الاضطهاد: روما، آسيا الصغرى وفلسطين، أهمّ الشهداء: اغناطيوس الانطاكيّ.

4- بين سنة 177 و180، أيام الامبراطور مرقس أوريليوس، أمكنة الاضطهاد: روما، آسيا الصغرى، شمال افريقيا وفرنسا، أهمّ الشهداء: بوتينوس أسقف ليون، بلاندينة، وشهداء مدينة ليون.

5- بين سنة 202 و211، أيام الامبراطور سبتيموس ساويرس، أمكنة الاضطهاد: روما، شمال أفريقيا ومصر، أهمّ الشهداء: فِليشيتا وبِرْبِتوا في قرطاجة.

6- بين سنة 235 و238، أيام الامبراطور مكسيموس الطراسي، أمكنة الاضطهاد: روما، شمال أفريقيا وكبادوقية، أهمّ الشهداء: البابا بونتويس، وهيبوليتوس.

7- بين سنة 250 و251، أيام الامبراطور داقيوس، اضطهاد في كافة أنحاء الامبراطوريّة، أهمّ الشهداء: البابا فابيانوس.

8- بين سنة 252 و253، أيام الامبراطور غالوس، أمكنة الاضطهاد: روما ومصر، أهمّ الشهداء: البابا كُرنيليوس.

9- بين سنة 257 و258، أيام الامبراطور فالِريانوس، اضطهاد في كافة أنحاء الامبراطوريّة، أهمّ الشهداء: البابا خسوسطوس الثاني، والقديسَين قبريانوس ولورنسيُوس.

10- بين سنة 303 و305، أيام الامبراطور ديوكلسيانوس، اضطهاد في كافة أنحاء الامبراطوريّة، أهمّ الشهداء: سيباستيانوس وفيكتور.

1. 2 – كيفيّة التحضير للاستشهاد

في منتصف القرن الثاني، نشأت الروايات التي تتحدّث عن الشهداء وسط الاضطهادات في ثلاثة أنواع أدبيّة هي[3]: إجراءات المرافعات (Actes)، أخبار الشهداء (Martyria)، وكتب السِيَر (Légendes). بعد أن تعرض هذه الروايات تاريخ محاكمة المسيحيّ، اسم القاضي والتُّهَم الموجّهة إليه، يُعطى الـمُتَّهَم إمكانية المدافعة. من ثمّ يحاول القاضي إقناعه بالعدول عن قناعته من خلال الترهيب والترغيب ويطلب إليه تقديم ذبيحة للآلهة. فإذ لم يُفلح في إقناعه، بسبب الاعلان الصريح والواضح للمتَّهَم “أنا مسيحي” (Christianus/a sum)، يأتي الحُكم عليه بالتعذيب والموت.

في الأيام السابقة لاستشهاده، كان يُنصَح المسيحيّ بإقامة الأصوام والإماتات[4]. كان يقرأ (أو يُصغي إلى أحد الوعّاظ) مقاطع من الكتاب المقدّس، من سفر دانيال النبيّ أو من كلمات السيّد المسيح “لا تخافوا الذين يقتلون الجسد… لستم أنتم المتكلّمين بل روح أبيكم المتكلّم فيكم”. ومن الوسائل الأخرى في التحضير للاستشهاد[5]، كان التسلّح بالأسرار الإلهيّة لا سيّما العماد والقربان. أضف إلى ذلك كتابات الآباء القدّيسين وعظاتهم التي كانت تَعِدُ الشهيدَ بمكافآت أبديّة كاستقبال الملائكة له، بحفاوة وإمكانيّة اقترابه المميَّز من عرش الحمل، والفرح العارم الذي ينتظره.

1. 3 – تكريم الشهداء فاتحة تكريم القدّيسين

في أواسط القرن الثاني، بدأ المسيحيّون يأخذون عادة التجمّع قرب مقابر الشهداء أو في أمكنة عذاباتهم، لا سيّما في يوم تذكار موتهم، الذي ما لبث أن تحوّل سريعًا إلى يومٍ احتفاليّ لولادتهم في السماء. وكما كان يتجمّع الرومان عند مقابر موتاهم ويتناولون الطعام، تحوّل هذا اللقاء مع المسيحيّين إلى وليمة إفخارستيا[6] رافعين المجد إلى المسيح الذي وحّد دماء الشهداء بذبيحة تضحيته على الصليب.

وهكذا أصبح الاعتقاد أنّ الشهيدَ بطلٌ يجب الاقتداء به، وهو شفيعٌ قدير لدى الله. لقد شجّع الأساقفة على تكريم الشهداء في أبرشيّاتهم، من خلال تدوين حياتهم، والاستقصاء عن أقوالهم التي اعتُبرت نبويّة تتخطّى الزمن. وتحوّلَ سريعًا هذا التكريم للشهداء إلى تكريمٍ لذخائرهم، فبدأ الناس يتبرّكون من عظامهم وثيابهم. في القرن الرابع، شُيِّدَت الكنائس لتحتوي رفاتهم. وأثناء الأوبئة والحروب والأخطار كان يُقام تطوافٌ في الذخائر لإيقاف الشرّ.

تدريجيًّا، بدأ ينتشر تكريم الشهداء خارج الرقعة الجغرافيّة الخاصة. ووُضع لكلّ واحدٍ يومٌ تذكاريّ يُحتفَل به في كلّ الكنيسة. وقد عُهِدت ساحات وقُرى ومدن لشفاعتهم. وكان للرسل الذين استشهدوا أوّلاً المكانة الرفيعة كرفاق للمسيح وأعمدة الكنيسة. من الرسل والشهداء، انتشر سريعًا تكريم الأساقفة المؤسِّسين للكنائس المحلّية وتكريم المبشّرين، وآباء الإيمان، ومؤسسي الحياة المشتركة، والنسّاك والزهّاد والعذارى، خاصةً بعد إيقاف اضطهاد المسيحيين وإعطائهم الحرّية[7]. أمّا العذراء مريم، فقد بدأ تكريمها في القرن الرابع، وقد رُبط أولاً بالأحداث الخلاصيّة لحياة المسيح كالبشارة والولادة، وتدريجيًا أضيفت أعياد خاصة بها كالانتقال والحبل بها بلا دنس.

وهكذا، بقيَ تكريم القديسين، ولفترة طويلة، امتدادًا لتكريم الشهداء؛ وقد ميّزت الكنيسة[8] بين الشهادة الحمراء من خلال إراقة الدماء، والشهادة الخضراء من خلال التوبة، والشهادة البيضاء من خلال التكرّس البتوليّ والأعمال الصالحة.

2- شهود المسيح وشهداؤه في عالم اليوم

هل توقّفّت إراقة دم الشهداء بواسطة مرسوم ميلانو سنة 313 الذي أعطى الحرّية للمسيحيين؟ كلاّ! إنّ تاريخ استشهاد المسيحيّين لم يتوقّف حتّى اليوم. نمرّ بفترات حرّية وسلام، وبفترات أخرى عصيبة. لقد خلّفت الفتوحات الاسلاميّة كثيرًا من الشهداء، وكان الانفتاح الرسوليّ نحو البلدان الجديدة بعد القرن الخامس عشر مشهورًا بشهدائه، وكم من صفحات قد تُكتَب لاحقًا في موضوع تاريخ اضطهاد المسيحيّين، منتقدةً النظام النازي والاشتراكيّ وغيره، في أوروبا، وأفريقيا وأميركيا اللاتينيّة؟ وقد عبّر قداسة البابا فرنسيس عن هذا الأمر قائلا: “ليس اضطهادُ المسيحيّين حدثًا ماضيًا من القرون الأولى فقط، إنّما نجدُ اليومَ شهداءَ كما في بدايات الكنيسة الأولى. إنّ صليب المسيح موجودٌ دائمًا على طريق المسيحيّين: لنفكّر في الأخوة والأخوات الذين لا يستطيعون اليوم أن يقتنوا إنجيلاً أو أن يذهبوا إلى القدّاس”[9].

ما المفهوم اللاهوتيّ والروحيّ الذي تعطيه الكنيسة اليوم حول الشهادة والاستشهاد؟ ومن خلال إجراءات دعاوى القديسين، ما المقاييس التي تعتمدها الكنيسة في التعريف عن الاستشهاد؟ هذا ما سنحاول في ما يلي الإجابة عنه.

2. 1 – المفهوم اللاهوتيّ والروحيّ للشهادة والاستشهاد في التعليم الكنسيّ

توحي كلمة “شهيد” بإنسان يموت في عذابات مُبرّحة. وكنّا قد ذكرنا أعلاه أنّ هذه الكلمة اليونانيّة تعني أيضًا “الشاهد” (أع 1: 8). فالشهيد يشهد لإيمانه بيسوع ربًّا واحدًا لا ربَّ سواه، ولا حتى الملوك والسلاطين، كما فعل الامبراطور دوميسيانوس (81-96) إذ فرض على الناس أن يدعوه “ربّنا وإلهنا”[10]. فالمسيحيّ لا يسعى وراء الاستشهاد وبإمكانه التهرّب من الاضطهاد، لكن، إن أُلقي القبض عليه، يجب أن يشهد حتّى النهاية ليسوع، متّبعًا إيّاه على طريق الآلام والموت.

ويقول كتاب التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة: “الاستشهادُ هو الشهادةُ الأسمى لحقيقة الإيمان؛ إنّه الشهادةُ التي تصل حتى الموت. الشهيد يؤدّي شهادةً للمسيح الذي مات وقام، والذي هو متّحدٌ به بالمحبّة. إنّه يؤدّي شهادةً لحقيقة الإيمان والعقيدة المسيحيّة. وهو يحتمل الموت بفعل قوّة، كما يقول القديس اغناطيوس الانطاكيّ (إلى الرومانيّين 4: 1) دعوني أصير طعامًا للوحوش، فبها سأُعطى البلوغ إلى الله” (عدد 2473). وتحثّ الكنيسة أبناءها “على السلوك كشهودٍ للإنجيل وللالتزامات التي تنتج عن ذلك، وعلى نقل الإيمان بالأقوال والأفعال” (عدد 2472). وفي شرحها لسرّ التثبيت المقدّس، تعلّم الكنيسة ما يلي: “التثبيت يكمّل نعمة المعموديّة. إنّه السرّ الذي يهب الروح القدس ليرسّخنا ترسيخًا أعمق في البنوّة الإلهيّة، ويدمجنا بوجه أثبت في جسد المسيح، ويُمتّن ارتباطنا بالكنيسة، ويُشركنا أكثر في رسالتها، ويساعدنا في أداء شهادة الإيمان المسيحيّ قولاً وعملاً” (عدد 1316). ويحدّد مجمع فلورنسا، سنة 1439، في القرار لأجل الأرمن، بما يخصّ سرّ التثبيت ما يلي: “إنّ مفعول سرّ التثبيت هو أنّه يمنح الروح القدس، كما في يوم العنصرة، لكي يقوّي المسيحيّ فيستطيع أن يُعلن بجرأة اسم المسيح. فالمثبَّت يُمسح بالزيت على جبهته، مكان إحساس الخجل، لكي لا يخجل من إعلان اسم المسيح وصليبه، الذي هو، حسب الرسول، عثار لليهود وحماقة للوثنيّين”[11].

ويتحدّث المجمع الفاتيكاني الثاني مرّتين عن الاستشهاد. فيعلّم الدستور العقائديّ في الكنيسة، نور الأمم، قائلاً: “إلى شهادة الحب السامية، التي تؤدّى أمام الكلّ، لا سيّما أمام المضطهِدين، قد دُعي بعضٌ من المسيحيين وذلك من الساعة الأولى، والبعض الآخر سيُدعون دومًا إليها. لهذا، فالاستشهاد الذي فيه يصبح التلميذ شبيهًا بمعلّمه الذي قبِل الموت بكلّ حرّية لأجل خلاص العالم، والذي يصبح شبيهًا به في إهراق دمه، تَعتبره الكنيسة عطية سامية، وامتحان المحبّة المطلق” (عدد 42). وهكذا أيضًا صرّحَ البيان في الحريّة الدينيّة، الكرامة الانسانيّة، قائلاً: “لقد اجتهد الرسلُ دومًا في أن يكونوا، على غرار المسيح، شهودًا لحقيقة الله ممتلئين جرأة على التبشير بكلام الله… لم يخافوا من مقاومة السلطات العامة التي كانت تقاوم مشيئة الله المقدّسة لأنّ الله أحقّ من الناس بالطاعة (أع 5: 29)؛ وهذه هي السبيل التي نهجها، في كلّ زمان ومكان، شهداء ومؤمنون لا يُحصى عددهم” (عدد 11).

في الخلاصة، إنّ المفهوم اللاهوتيّ للاستشهاد في التعليم الكنسيّ يتعلّق بمجاهرة الإيمان بالمسيح، دون سواه[12]، ويُعتبَر سرّ التثبيت سرّ الشهادة بامتياز إذ من خلاله نمتلئ من الروح القدس، فنُصبح، على غرار الرسل يوم العنصرة، أقوياء في تأدية الشهادة للمسيح.

2. 2 – إجراءات دعاوى القدّيسين

في القرون الأولى، كان لجميع الأساقفة الحقُّ في إعلان مَن ينصّبه الإيمان الشعبيّ قدّيسًا. في القرن الثاني عشر، قلّص البابا إسكندر الثالث هذا الحقّ للحبر الأعظم وحده. في القرن الثالث عشر، حدّد البابا إينوشنسوس الثالث قوانين تحديد القديس. نشر البابا أوربانوس الثامن قوانين التقديس سنة 1634 بغية خلق ضوابط ومعايير واضحة. وبعد عدّة إصلاحات على مرّ التاريخ أجراها مجمع الطقوس في روما، دخلت هذه القوانين في كتاب مجموعة قوانين الكنيسة اللاتينية الصادر سنة 1917. سنة 1965، أسّس البابا بولس السادس مجمع دعاوى القدّيسين وعهد إليه البتّ في هذه المسائل. ومع البابا يوحنا بولس الثاني، حُذفت قوانين التقديس من كتاب القانون اللاتيني، وبُسِّطت الاجراءات وذلك عبر الوثيقة الرسوليّة “Divinus perfectionis Magister” الصادرة في 25 كانون الثاني سنة 1983.

يمكننا اليوم تلخيص مشاريع دعاوى القديسين في خمس مراحل، عِلمًا أنّه في بعض الأحيان تُعطى استثناءات خاصة حصريًّا من قبل قداسة البابا[13]:

1) فترة زمنيّة أولى: بعد أن يموت المسيحيّ في رائحة القداسة يجب أن يُنتظر خمس سنوات قبل البدء بالدعوى.

2) بعد مرور الزمن القانونيّ، يمكن للأسقف المحلّي فتح دعوى القديس من خلال ما يُسمّى “التحقيق أو الاستقصاء الأبرشيّ”[14]. فيوكّل مسؤولاً عن هذا الأمر يبحث عن كافة تفاصيل حياته ومآثره وكتاباته وفضائله. عندما تُختتم هذه الدعوى في الأبرشيّة، يُصبح المسيحي “خادمًا لله”؛ تُنقل عندها الدعوى من الأبرشيّة إلى مجمع دعاوى القدّيسين في روما.

3) في المجمع الرومانيّ عدّة كرادلة وأساقفة وقانونيّين وخبراء. من بينهم “محامي الإيمان” وممازحةً يُدعى “محامي الشيطان”. دور هذا الأخير الدفاع عن الإيمان وانتقاد كافّة الأدلّة والوثائق التي تبيّن فضائل “خادم الله”. وفي نهاية الدعوى يُصار إلى تصويتٍ. عند الموافقة، تُحال الدعوى إلى قداسة البابا الذي، إن قَبِل بالأمر، يُعلِن “بطولة الفضائل” ويَرفع خادمَ الله إلى درجة “المكرَّم”.

4) على المسؤول عن دعوى القديس البحث عن عجيبة حصلت بعد الموت، وغالبًا ما تكون شفاءً يعجز الطب عن شرحها. عندما يوثَّق هذا الشفاء العجائبيّ يُقدَّم إلى المجمع في روما الذي بدوره ينظر في صحّته من خلال تقارير الخبراء الذين يستشيرهم. في حال الإيجاب، تُحال الدعوى إلى قداسة البابا الذي، إن قَبِل بالأمر، يُعلِن المكرّم “طوباويًّا” محدّدًا تاريخ رفعه على المذابح ويوم تكريمِه الذي يكون غالبًا يوم مماته أي يوم ولادته في السماء.

5) الفرق بين الطوباوي والقديس هو أنّ الطوباوي، السعيد في السماء، محصورٌ تكريمه في بعض المناطق المحدّدة، أمّا القديس فتكريمه شاملٌ وعام في الكنيسة الجامعة. ولكي يصبح الطوباويّ قدّيسًا، تُطلَب عجيبة أخرى، يجري مسارها تمامًا كما حصل قبل التطويب.

2. 3 – المقاييس التي تعتمدها الكنيسة في التعريف بالاستشهاد

إنّ الشهيد المسيحيّ لكي يصبح طوباويًا لا تُلزمه عجيبة بعد مماته[15] إذ إنّ الاستشهاد من أجل الإيمان هو برهانٌ على مساعدةٍ خاصة أتته من الله. لكن تُطلب المراحل الثلاث الأولى كاملةً أي الفترة الزمنيّة التي هي خمس سنوات، التحقيق أو الاستقصاء الأبرشيّ، وقبول الدعوى من قِبل مجمع دعاوى القديسين وقداسة البابا في روما.

يمكن لقداسة البابا بسلطته الرسوليّة أن يقوم بإعفاءات خاصة. فقد عفى البابا بندكتوس[16] من الفترة الزمنيّة، خمس سنوات، كلّ من الأم تريزا ده كالكوتا والبابا يوحنا بولس الثاني؛ كذلك فعل البابا فرنسيس مع الخوري الفرنسي جاك هامل. كما أنّ البابا فرنسيس أعلن قداسة الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرين دون اللجوء إلى طلب عجيبة ثانية.

من أهمّ المقاييس التي تعتمدها الكنيس في التعريف بالشهيد هي عطيّة الذات من أجل المسيح والآخرين، وذلك ظاهرٌ في الإرادة الرسوليّة الأخيرة للبابا فرنسيس والتي هي بعنوان “Maiorem hac Dilectionem” حول بذل الحياة، الصادرة بتاريخ 11 تموز 2017. تزيد هذه الوثيقة على مقاييس القداسة المعروفة، والتي هي شهرة القداسة وبطولة إراقة الدم، فضيلة “إعطاء الحياة” وذلك عبر التخلّي عن الذات وإعطاء الحياة كليًّا في أعمال الرحمة والإيمان، وبطريقة بطوليّة. لكنّ هذه الوثيقة تزيد وتقول أنّ العجيبة ضرورية لإعلان التطويب (عدد 2). ومن المعلوم أيضًا أنّ الكنيسة تولي أهميّة خاصة لشهرة الاستشهاد التي هي الرأي السائد عند المؤمنين بأنّ خادم الله المنوي إعلان قداسته قد مات من أجل إيمانه أو من أجل فضيلةٍ مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالإيمان[17].

الخلاصة

في تناولنا موضوع الشهادة والاستشهاد في تعليم الكنيسة بين القرون الأولى وعالم اليوم، يستوقفنا سؤال: لماذا يقبل الشهيد بالموت، وما هي هذه القوّة التي تحدّى من خلالها المسيحيّون العالم على مرّ التاريخ؟ إنّها قوّة اختبار حبّ المسيح القائم! تشهدُ أيامُنا هذه، كما في القرون الأولى، تجدّد خبرة القيامة عند أناسٍ قبلوا بالمسيح كسيّد وملك وحيد على حياتهم؛ دون هذه الخبرة، لا يمكن للشهادة أن تدوم ولا للاستشهاد أن يصير. تعطي هذه الخبرة سلامًا في القلب، وسط نار المحَن. فالكنيسة ستظلّ تعيش خبرة الشهادة والاستشهاد على مدى الأجيال، ملتزمةً بمسار معلّمها الإلهيّ الذي مات ظُلمًا على الصليب، وبموته وطئ الموت وأعطى الحياة. إنّ دماء الشهداء هي دائمًا بذار القدّيسين، وشعار المؤمن الحقيقيّ يردّد عبر الأجيال كلام الرسول بولس: “مَن يفصلني عن محبّة المسيح؟ أشدّة أم ضيقٌ أم اضطهاد أم جوع أم عُري أم خطر أم سيف؟ … إنّنا من أجلكَ نعاني الموت طوال النهار… وإنّي لواثقٌ بأنّه لا موت ولا حياة ولا ملائكة ولا أصحاب رئاسة… بوسعها أن تفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع ربّنا” (روم 8: 35-39).


[1]  راجع: جان كُمبي، دليل القراءة إلى تاريخ الكنيسة، بيروت 1986، 47-55.

[2]  راجع: M. MOURRE, Dictionnaire encyclopédique d’histoire, n-r, Paris 1978, 4271-4272 .

[3]  نذكر منها Acta Iustini و Martyrium Policarpi. راجع: H.R. DROBNER, Les Pères de l’Eglise. Sept siècles de littérature chrétienne, Paris 1999, 96-106 ; G. PETERS, Lire les Pères de l’Eglise. Cours de Patrologie, Paris 1981, 108 .

[4]  “يُقال في الشهداء إنّهم، حين كان يبلُغُهم خبرُ اليوم الذي سينالون فيه إكليلهم، لا يذوقون شيئًا بتّةً في الليلة السابقة، ولا يتناولون طعامًا، ولكنّهم ينتصبون من المساء إلى الفجر في الصلاة، متيقّظين في شكرٍ وحمد، بتراتيل وتماجيد وتسابيح وألحانٍ روحيّة شجيّة، مسرورين، مُنتعشين، مُتَرَقّبين تلك اللحظة، كما يشتاق الناس إلى دخول بيت العرس. يتوقون، وهم صائمون، إلى ضربة السيف يُكلّلهم بإكليل الشهادة”، من أقوال مار إسحق السرياني (700 +) في الصوم المقدّس؛ راجع جامعة الروح القدس، زمن الصوم المقدّس، الكسليك 1979، 640.

[5]  راجع: H. LECLERCQ, ed., Les Martyrs. Tome 1. Les temps Néroniens et le deuxième siècle, Chapitre IV, paragraphes 61-65, consulté le 23.11.2017 sur le site www.abbaye-saint-benoit.ch.

[6]  راجع A. LOUTH, « Martyre » dans J.Y. LCAOSTE, Dictionnaire critique de théologie, Paris 1998, 711-713.

[7]  راجع V. SAXER, « Le culte des martyrs, des saints et des reliques » dans A. DI BERNARDINO, Dictionnaire Encyclopédique du Christianisme Ancien, J-Z, volume 2, Paris 1990, 1572-1575 .

[8]  راجع M. DUBOST, Théo. Nouvelle encyclopédie catholique, Paris 1989, 29.

[9]  البابا فرنسيس، عظة في كنيسة القديسة مرتا، 4 آذار 2014.

[10]  راجع جان كمبي، دليلٌ إلى قراءة تاريخ الكنيسة، بيروت 1994، 56-57.

[11]  راجع DENZINGER-HÜNERMANN, Compêndio dos símbolos, definições e declarações de fé e moral, São Paulo 2007, §1319.

[12]  إنّ الشهيد في المسيحيّة ليس الذي يموت من أجل سياسة الدولة أو الإيديولوجيّة الاجتماعيّة إنّما هو مَن يشهد للمسيح فقط حتى الرمق الأخير من حياته.

[13]  راجع A.S. BOURDIN, « Béatification de Jean-Paul II. Les procédures canoniques 2005-2011 » dans www.zenit.org publié à Rome, le mercredi 30 mars 2011, et consulté le 24.10.2017.

[14]  لم نُشر هنا إلى بعض التفاصيل الأخرى في مجرى الدعوى كواجب استشارة الأسقف المحلّي لأساقفة آخرين، وأخذ موافقة الكرسيّ الرسوليّ للقيام بالاستقصاء: تفاصيل أخرى حول نُظُم التحقيق الأبرشيّ نجدها في وثيقة “أمّ القديسين، Sanctorum Mater” الصادرة عن مجمع دعاوى القديسين في 17 أيار 2007.

[15]  راجع A. MEYER, « Le procès en béatification de Jacques Hamel, prêtre et martyr, est officiellement ouvert » dans www.fr.aleteia.org publié le 13 avril 2017, et consulté le 24.10.2017 .

[16]  المعروف أنّه في عهد البابا بندكتوس السادس عشر تمّ رفع على المذابح 869 طوباويًّا و44 قديسًا، وفي عهد البابا يوحنا بولس الثاني 1338 طوباويًّا و482 قديسًا. أمّا البابا فرنسيس فقد قدّس في احتفالٍ واحد 800 شهيد من جنوب إيطاليا، من Otrante، ماتوا لأنّهم رفضوا إعلان الشهادة الإسلاميّة في 13/8/1480، وكانوا قد طُوِّبوا بتاريخ 6/7/1980.

[17]  راجع البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي، رسالة سنة الشهادة والشهداء، بكركي 2017، عدد 12.

Scroll to Top